|
|||||
|
التاريخ بعيون الحاضر يسود اعتقادٌ أن نهضة العلم في عالمنا العربي لا صلة لها بالتراث العلمي العربي. ويكفي لبناءِ قاعدةٍ علميةٍ استيرادُ آخرِ ما توصلَ إليه الغربُ والتوسعُ في إنشاءِ الجامعاتِ والمعاملِ ووزارات البحث العلمي!.. يسوق أصحاب هذا الاعتقاد - وهم كثر - مسوغاتٍ عدةً منها أن العلم الحديث قد تجاوز بنظرياته ومناهجه ما كان سائداً إبّان ازدهار العلم العربي, ومنها أن دولاً مثل اليابان قد أخذت بأسباب العلم الحديث من دون استناد إلى تراث سابق فخطت خطوات واسعة جعلتها في طليعة الدول المتقدمة, ومنها أيضاً أن العلم الحديث عالمي الهوية يتجاوز التباين والخصوصيات الثقافية.. هذا إلى جانب مسوغات أخرى عدة يتبين من خلالها الخلط بين العلم والتكنولوجيا والخلط بين استهلاك العلم وتطبيق نتائجه من ناحية وبين الثقافةِ المنتِجَةِ للعلم من ناحية أخرى. خلاصةُ مثلِ هذا التفكير أن دراسةَ التراثِ العلمي العربي ترفٌ لا يَليقُ برجال العلم ولا بواضعي سياساتِ العلمِ والتعليمِ في بلادنا!!. من أجل ذلك انزوى التراثُ العلميُّ في ركنٍ متواضعٍ يذكره أحياناً قليلةً بعضُ المتخصصين في التاريخ وأحياناً كثيرة المهتمون بالمخطوطات. لكن لماذا لا نرى أي تقدمٍ يُذكر في شأن نهضةِ العلمِ في بلادنا على الرغم من الإنفاق المتزايدِ، وتكاثُرِ أعدادِ حَمَلةِ الشهادات في مختلف التخصصات من الداخل والخارج؟ بل على العكس نشهد تزايدَ التبعيةِ في مجال البحث العلمي وغيابَ الفكرِ العلمي والثقافي في مجتمعاتنا. يشغل هذا التساؤل الكثيرين. وهناك الكثير من محاولات الإجابة عليه, التي تتفق -على اختلافها- على أن مسألة نهضة العلم أمرٌ شائكٌ ومتعدد الأوجه وكثيرُ التعقيد. إلا أن العامل الحاسم فيها هو أن العلم قبل أن يكون معلوماتٍ تُلقَّنُ وتجاربَ تُجرى ونتائجَ تُطبّق فهو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تولِّدها تفاعلاتُ الاجتماعِ ومقتضياتُ العمرانِ, ونتاجٌ ثقافيٌ تفرزه منظوماتُ المعرفةِ والقيم. بمعنى أنه لا يتأتى لنهضة العلم أن تنطلق في مجتمع من دون جذور ثقافية ضاربة في تاريخه مهما بُذل من جهد. من هذا المنظور يمثل التراث العلمي العربي مفتاحاً لنهضة العلم بصفته حالةً معمليةً نادرةً وثريةً تتيح للمهتمين الاطلاع على كيفية تَشَكُّلِ العلمِ في إطارِ الثقافة العربية الإسلامية وماهية العوائق والعقبات التي تعترض ذلك التشكيل. وقد يجادل البعض بأن نتائج مثل هذه الدراسة لن تكون ذات جدوى تُذكر في وقتنا هذا نظراً لتبدُّل الظروف والملابسات ولتغير طبيعة العلم نفسه. هذا صحيح, لكن يجب ألا نغفل أن هناك ثوابتَ لا يمكن التقليل من شأنها مثل استمرار الإسلام بصفته المكون الثقافي الأكبر, ومثل اللغة العربية التي هي أداة الفكر والتعبير والاتصال... هذه الثوابت وغيرها تسمح إلى حد ما, بأن يكون للنظر في التراث العلمي بعض فائدة لنا الآن. وليس من قبيل المصادفة أن تتخذ الحضارة الغربية في عصر الأنوار من فكرة التقدم وقوداً لمسيرتها نحو مستقبل كان أهلها يرونه بالضرورة أفضل من الماضي والحاضر معاً. ومع ذلك عمد منظرو تلك الحضارة إلى اتخاذ الحضارة الإغريقية نقطة انطلاق وسعوا إلى التأكيد على وشائج الاتصال وعوامل الاستمرار بين الحضارتين على الرغم من بعد الشُّقة بينهما زمنياً وثقافياً. وفي حالنا تشكِّلُ روح التراث العلمي مشروعاً لمنظومة معرفية لا تقبل التماهي ولا التصالح مع انحرافات الفكر السائدة لما تتصف به من حيوية و"حداثة" تصلح أساساً لنهضة العلم. وذلك شريطة الوعي النقدي بمواطن الضعف وبعوامل الانقطاع في ذلك التراث. ومن أمثلة الصفات الحيوية و"الحديثة" في التراث العلمي العقلانية التي لا تقبل غير حكم العقل في ما يتعلق بالعلوم العقلية, ولا تسمح بالخلط بين مجال الأديان ومقتضيات البرهان والاعتبار. ولعل من المدهش لقارئ معاصر للتراث العلمي أن لا يجد فيه تداخلات بين مستويات الخطاب المختلفة على عكس ما نجده في كتابات الكثير من المعاصرين من خلط بين الغيبي والعقلي. لكن قبل الخوض في ملابسات انحطاط العلم العربي لنبدأ بدراسة نقدية تبرز مواطن ضعفه وعوامل الانقطاع فيه. يستلزم ذلك دراسة اجتماعية معمقة للتراث العلمي. لم تكن هنالك مؤسسات تعليمية منتظمة يتلقّى فيها طالب العلوم الطبيعية العلم على غرار مدارس العلوم الدينية. كان على طالب العلم التنقل للاتصال برجال العلم والأخذ عنهم. أي أن العلوم الطبيعية لم تتمكن من النفاذ إلى مؤسسات التعليم ما دعا بعض المؤرخين إلى القول بأن العلوم الطبيعية كانت ظاهرة هامشية في الحياة العقلية للمجتمع. والملاحظ أن المؤسسات ذات الصبغة العلمية مثل دور الحكمة والمراصد الفلكية لم تتصف بطابع الديمومة والاستمرار وسرعان ما توقفت واختفت بزوال الحاكم الذي كان يدعمها. هذا على خلاف المؤسسات التي ارتبطت في تمويلها بأوقاف أتاحت لها الصمود لفترات طويلة. يعكس الإخفاق في قيام مؤسسات دائمة أو على الأقل في النفاذ إلى مؤسسات قائمة أمراً في غاية الأهمية, وهو وجود خلل ما أو قصور في علاقة العلم بالمجتمع أو ما نسميه اليوم اجتماعية العلم. أما أهم عوامل الانقطاع فهو العجز عن التأصيل للعلم في الثقافة الإسلامية!. فقد ظلّت رموز تلك الثقافة في تردد واضح إزاء العلوم الطبيعية, فهي تارة تطلق عليها علوم الأوائل وتارة أخرى العلوم الدخيلة وتارة ثالثة يقصرون احتفاء الإسلام بالعلم على العلوم الدينية دون العقلية. وسيظل الإخفاق في التأصيل للعلم في الثقافة الإسلامية, الذي شكل أهم عوامل الانقطاع في التراث العلمي في الماضي, أحد أكبر عوائق نهضة العلم في الحاضر. وبغضِّ النظر عن التشويش الذي غلب على خطاب الثقافة العربية الإسلامية حول العلوم تبقى إمكانات التأصيل متاحة بدليل ازدهار العلم في وقت مبكر من تاريخ الإسلام.
|
||||