|
|||||||
|
ذكرنا في مقال سابق أنّ من أسوأ النتائج التي تمخّض عنها ما سمّي بالربيع العربي، هو تعقيد الشعوب العربيّة والإسلاميّة من كلّ ما هو فلسطيني، ويكفي في ذلك أن نلاحظ دول الطوق، أعني سوريا والأردن ومصر ولبنان، ليترجّح لدينا هذا الانطباع. وعندما يضعف حضور أيّ قضيّة في وجدان الشعوب فإنّها تفقد استعصاءها على ضغوط الواقع، ولاسيّما تلك التي تحرّكها الأجهزة الاستكباريّة على صهوة إعلامٍ متطوّر ومؤثّر ويضخّ بسرعة غير قابلة للضبط. سابقاً كانت فلسطين عصيّة على الإلغاء من وجدان الناس، وكانت الانتصارات التي تتحرّك في جسم الأمّة بمثابة الروح التي تحيي الأمل من جديد، ولم تكن لمناطقيّة تلك الانتصارات أو أيّ حالةٍ مذهبيّة أو دينيّة أيّ اعتبار في وجدان الأمّة. كانت فلسطين هي الدِّين والمذهب والقوميّة والتاريخ والجغرافيا، ولذلك وحّدت كلّ تلك الأطر حولها، وشكّلت حافزاً للوحدة الإسلاميّة والقوميّة والوطنيّة على امتداد العقود منذ إعلان الدولة الصهيونيّة الغاصبة وحتّى الأمس القريب. كانت انتصارات جيوش العرب ضدّ العدوّ انتصاراً لكلّ عربيّ ومسلم، كما كانت النكبة نكبتهم جميعاً، وكانت أيّ عمليّة في داخل فلسطين ضدّ العدوّ تستنفر مشاعر العزّة لدى العالم العربيّ والإسلامي برمّته، وكان الدعاء في أدبار الصلوات يرتفع بالحرّيّة للأسرى في سجون العدوّ من دون تفريقٍ بين من يؤمن بأحقّيّة عليٍّ بالخلافة أو أبي بكر! وكانت قلوبُ الجميع تتراقصُ فرحاً مع كلّ حجرٍ من أحجار الانتفاضة الأولى والثانية، والزغاريد تصدحُ مع كلّ انتصار لغزّة أو صمودٍ للضفّة، ومع كلّ عمليّةٍ فدائيّة في قرى فلسطين ومدنها الممتدّة على مساحتها، وكان كلُّ بيتٍ يهدمه الاحتلال في فلسطين يحاكي بيتًا تهدمه آلتها العسكريّة في لبنان في إيحاءٍ بأخوّة الجهاد، ولم يكن من يفكّر أنّ أهل هذا البيت شيعة، وأنّ أهل ذلك سنّة، أو يمسحون على أرجلهم أو يغسلونها في الوضوء! وعندما كان يندحر الاحتلال الصهيونيّ من جنوب لبنان، كانت راياتُ المقاومة الإسلاميّة في لبنان تُرفع في شوارع فلسطين، بل في كلّ مدينة عربيّة وإسلاميّة، وتكرّر المشهد في شكلٍ منقطع النظير في حرب تمّوز في عام 2006، حتّى خافت على عروشها أنظمة، وانطلقت أدوات كمّ الأفواه لتخرس ألسنة صدحت بالتكبير في حرم الجامعات، ولتقطع أيدي رفعت رموز المقاومة الفلسطينية واللبنانيّة معًا حتّى توحّدت ملامح النصر في وجوه قادتها، وباتوا مذهبًا واحدًا عنوانه العزّة والكرامة والمقاومة، تظلّلهم آيات سورة الإسراء في النصر المرتقبِ على عين الله. العلمُ الفلسطيني، هو علمٌ ثانٍ لكلّ دولةٍ، وألوانُه هي التي تعطي لألوان أيّ علمٍ رونقها وبريقها؛ لأنّ فيه من تاريخ الزيتون معنًى، ومن قافلة الشهادة روحاً، ومن إخلاص النيّة بياضاً، ومن سواد الليل انتظاراً لفجرٍ جديدٍ. كان كلُّ ذلك تراكماً لحركة صعودٍ في الأمّة، وترسيخًا لكلّ معاني وحدتها، وهذا ما كان يقضُّ مضجع كلّ المتضرّرين، من أصحاب العروش الفاقدة لشرعيّة شعوبها، والاستكبار العامل أبداً بذهنيّة الاستعمار. ولذلك، كان كلُّ صعود لعالمنا العربيّ والإسلامي،يفتح الباب أمام الفتنة لتطلّ برأسها، لكي تجتاح المشاعر والأحاسيس المكبوتة بسبب أنّنا لا نهوى كنس بيوت نفوسنا من غبار السنين، بل نمعن في العناية - إلى حدّ القداسة! - بكلّ ما هو مؤذٍ وضارٌّ وسامّ منها. ونحن شعوبُ العاطفة والانفعال، والمبالغات الشعريّة التي خيّلت كلّ معنًى بعيداً عن الواقع الذي لا يفهم إلّا لغة الوقائع والحقائق! هكذا، أفسحنا في المجالس لكلّ جالس، وقلنا لكلّ ضيفٍ من العابثين بأمننا ومقدّراتنا والمخرّبين لحاضرنا ومستقبلنا، ومن الراهنين لأوطاننا في أسواق التجارة العالميّة، ومن العاملين على تقطيع أوصالنا أجزاءً ومزقاً متفرّقة، قلنا له: "نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل"! نعم، الفتنة المذهبيّة، التي صنعتها وقائع معدّةُ السيناريوهات بكلّ دهاءٍ ومكرٍ، هي الداء القاتل للأمّة. داءٌ يفتك بعقلها ليستقيل من كلّ منطق، وبإنسانيّتها لتُشوَّه بكلّ ألوان الكراهية، وبأمنها ليشرّع أبوابه للفوضى، وبتاريخها لتُدمَّر كلّ معالمه التي يحسدنا عليها الكون كلّه، وبجمالات أراضينا ليحرقها البارود الأسود. ضرورة العدوّ الخارجي قد يعترض علينا أحدٌ ويقول: لماذا تلقون دائماً باللائمة على الخارج، وكأنّكم تعفون أنفسكم من المشكلة، وأجسادكم من الداء العضال! وهذا الاعتراض صحيحٌ بلا أيّ شبهة؛ لأنّ من يخلّ بواجباته الحضاريّة سوف تغزوه الحضارات الأخرى، ومن يشرّع أبوابه للسارقين لن يخلّفوا وراءهم سوى صدى الغرف المنهوبة، ومن يأوي إليه الخائنين لن يستيقظ في الصباح إلّا والخنجر نابتٌ في صدره!ولكنَّ حديثنا هذا ليس لأنّنا مستغرقون في ذهنيّة المؤامرة، ولكنّنا أيضًا لسنا ممّن يهوى دفن رأسه في الرمل لئلّا يخدش صورة المستعمر، ذي الثياب النظيفة، والياقات اللامعة، والأخلاق البيضاء! نتحدّث عن الخارج لندرك كامل المشكلة؛ لأنّ اجتزاء المشكلة سيؤدّي إلى اجتزاء الحلول بطبيعة الحالة؛ بل إلى عُقمها في كثير من الأحيان. ولذلك لا بدّ أن نشير دائماً إلى ذلك الاستكبار الخارجي الذي استقال من كلّ معنًى للإنسانيّة، فأصبح الناس أرقاماً في حسابات المصارف، وآبارًا للنفط أو للغاز في جوف الأرض أو في أعماق البحار... هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ ذلك يفيدنا في تعزيز فرص الوحدة؛ إذ سوف تمرّ أجيالٌ وأجيالٌ قبل أن نكنس كلّ غبار السنين، وعصبيّات الأعوام، وفي انتظار ذلك الوقت، لن ننظر إلى البقيّة منّا تُذبح تحت أيّ عنوانٍ أرادته قوى الأمر الواقع، ولذلك لا بدّ لنا من عدوّ خارجيّ نتّحد عليه. هذا هو ديدنُ كلّ الشعوب التي لا تقوى في المدى القريب على تعزيز عناصر وحدتها الداخلية، ولذلك عندما ابتعدت أوروبا عن المسيحيّة في حركة دولها، فقدت هذا العامل الموحّد، ولذلك احتاجت إلى عدوّ خارجي دائماً، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي كان العدوّ الجديد هو الإسلام، وقد أعلن حلف الناتو ذلك بكلّ وضوح، وكلُّ ما يجري في منطقتنا منذ ذلك الحين يمثّل تأكيدًا لهذه الوجهة الجديدة. ولذلك نقول: إذا كنّا نعاني من مشكلة على مستوى الوحدة على التوحيد والنبوّة والقرآن والسنّة – وهذه طامّة كبرى! – فلنتّحد على عدوّ خارجي لكي نتدرّب على الأقل كيف نفكّر أبعد من موقع أقدامنا! ليكن الاتحاد على عدوّ خارجي سبيلاً من سبل التدرّب على ذهنيّة الوحدة، وإعادة القراءة للذات؛ لنخلع لباس الغلو والمبالغات الجوفاء، التي تبني تكفير جماعاتٍ بأسرها على تفسير رواية، أو على تلاوة آية، وننزع عن أجسادنا جبّة النرجسيّة التي تتألّه من حيث لا تشعر حتّى تحتكر الحقّ لترمي مقابلها بالزندقة وتخلِّده في جهنّم... في إمكان كلّ مسائل علم الكلام والفقه، وكلّ قضايا الجرح والتعديل، أن تنتظر قرونًا لتُحلّ، وربّما ستبقى محلاً لاختلاف النظر، تبعاً لاختلاف وجهاته وتنوّع الثقافات، لكنَّ ما لا ينتظر هو الأرض التي تغتصب كلّ يومٍ، والسجون التي تُملأ بالمظلومين، والقبور التي تغلقُ على الأجساد المختلطة أشلاؤها ببعضها البعض، والتاريخ الذي يدمّر وثائق ومعالمَ تحت عناوين فقهيّة ليست من الفقه في شيءٍ، والثروات التي يتمّ امتصاصها تحت الأرض والبحار، والإنسانيّة التي يشوّه وجهها وبنيتها، والعقل الذي يتخلّف عن السير مع متغيّرات الزمن وتطوّر الحياة، والضمير الذي يموت على أبواب بنوك أمراء المال، والإرادة التي تسحق على أروقة الزعماء والملوك والرؤساء... لو نظرنا إلى أغلب خطابنا الجدل المذهبي، لوجدنا أنّه ماضويّ لا يعير الحاضر ولا ما تراكم عنده أيّ التفاتة. نكاد نخسر كلّ المستقبل ونحن نتقمّص شخصيّات الماضين، الذين كانوا مخلصين لمراحلهم التي عاشوا فيها، وبذلوا جهوداً مضنيّة في تلمّس الحقيقة كما رأوها، ولم يكن يدورُ في أذهانهم أنّه سيأتي من بعدهم من يوقف العلم على ما أنتجوه؛ لأنّهم يعرفون حقّ المعرفة أنّهم لم يبلغوا القمم العلميّة في نتاجهم إلّا عندما تجاوزوا المراحل التي سبقتهم بعد أن درسوها وهضموها وأعادوا إنتاج الحقيقة من خلال ما تكامل لديهم من بنى المعرفة، ومعطيات الزمان، ومتغيّرات الأحوال. ولذلك نعتقد أنّ ما يجري حالياً يفرض على الجميع إعادة النظر بمنهج إنتاج الذات، ومقاربة قضاياها التي ساهم في كثيرٍ منها الحالة التاريخيّة الضدّيّة، فضلًا عن المنهج في إدارة الحوار فيما بيننا حول كثير من القضايا الهامّة والإستراتيجية. أوراق القوّة نعم، لقد خشي الاستكبار الداخليّ والخارجي على نفسه عندما وجد الأمّة تتّحد على قضيّة مركزيّة، ولذلك كان السياق الطبيعي لضرب ذلك هو الفتنة المذهبيّة، وما حرب المائة عامّ بين السنّة والشيعة، التي بشّر بها منظّرو الشرّ في العالم، إلا النار التي يراد لها أن تحرق كلّ أوراق القوّة، في انتصارات لبنان وفلسطين وصمودهما في وجه كلّ الحروب الصهيونية والمؤامرات الدوليّة. هل يمكن أن تكون قبلتنا السياسيّة فلسطين بحقٍ، وفي الوقت نفسه تكون أولويّاتنا في كيفية تمزيق أوراق القوّة التي حصلنا عليها بالدماء الزاكية، وبقوافل الشهداء، وبشتّى أصناف الجهاد؟؟!... أليس الكثير من خطابنا الإسلامي يختزن أنّ المشكلة الكبرى في قضيّة تحرير فلسطين هي في مذهب المقاومة الفاعلة التي تمثّل اليوم رأس حربةٍ في الصراع؟ وأنّه لا يعقل في ذهنيّات الكثيرين العصبيّة أن تكون القيادة من هذا المذهب دون ذاك؟ وكيف يمكن أن تحرَّر فلسطين على أيدي "الرافضة" مثلاً؟ أو قد يرى بعضٌ آخر أنّها لا يمكن أن تتحرّك على أيدي "النواصب"؟ أليس هذا المعنى عبادة للأنا المذهبيّة على حساب القضيّة؟ أين نحن من سنن التاريخ التي جعلها الله وعاءً لإرادته في حركة التغيير، والتي تقوم على أساس قوله تعالى: ﴿وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم﴾(1)، فالغاية أنّ إرادة الله لا بدّ أن تتحقّق، فإن تقاعس قومٌ نهضَ بها آخرون، ولا ينبغي أن تكون المشكلة في الناهضين بأعباء المسؤوليّة.. المطلوب أن نصل إلى أن لا يشعر أيّ فريقٍ مذهبيّ أنّ لديه حرجاً في أن تكون قيادة العربة في تحقيق إرادة الله من المذهب الآخر، وبهذا يقاس عمق الإخلاص للقضيّة، وبُعد النظر في رؤية الأمة في صنع التاريخ. وإلا فإذا كنّا سنسقط كلّ الأوراق التي هي بين أيدينا، لقاء أوراق محفوظة في الأدراج المذهّبة للأمراء والرؤساء والملوك الذين لم نجرّب عليهم في كلّ تاريخ القضيّة سوى التسابق نحو التنازلات عن فلسطين، فماذا نتوقّع أن يبقى لنا؟!. وإذا كنّا جربّنا مواقف دولنا العربية والإسلاميّة وقرارات الجامعات والمنظّمات العربيّة، ما بين الفعل والادّعاء، فهل نُعذر إلى الله في نحارب الفاعل لأنّه ليس من مذهبنا! ونقبل بأن يستلم زمام قيادة الأمّة الذين يرفعون الشعارات خطاباتٍ تستهلك بعض مشاعر الحماس الآنيّ، ولا حظّ لهم من خطّة أو فعلٍ على أرض الواقع! كثير من الخطابات الرسميّة تجري على طريقة أنّك تحقّق النتائج عندما تختطب جيّداً، حتّى ولو كانت الأرض تحتضن كلّ هزائمك وسقوطك الحضاريّ!. إذا كنّا مخلصين لفلسطين، فعلينا أن نخلع عن قضيّتها أيّ صبغة مذهبيّة، وأن تعمل الحركات الإسلاميّة على الاستفادة من تنوّعاتها المذهبيّة في سبيل الضغط على كلّ الداعمين لخطّ الفتن المذهبيّة، أو تعريتهم أمام الملأ، ونحن – في الوقت نفسه – ندرك أنّ الخطّة الفتنويّة التي قادتها أجهزة مخابرات موصوفة، هي أن تضعف قدرة الحركات الإسلاميّة أنفسها على التأثير على الوجدان الشعبي العامّ للأمّة. أقلّ الواجب، أنّنا إذا كنّا لا نستطيع أن نتوحّد على ربّنا وقرآننا ونبيّنا وإسلامنا، فلماذا لا نجرّب أن نتّحد ضدّ عدوّ خارجيّ موصوفٍ في كتاب الله، وسنّة رسول الله؟! أم أنّنا نريد للحقّ أن يتّبع أهواءنا! فما وافق هوانا التزمناه، وما خالفه تأولّناه ونسمّي أنفسنا موحّدين!. هوامش: 1- سورة محمد: آية 38 |
||||||