الذاكرة الفلسطينية بين محاولات السرقة وعمليات التزوير

السنة الرابعة عشر ـ العدد 162 ـ (شعبان - رمضان 1436 هـ) حزيران ـ 2015 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

"الكبار يموتون والصغار سرعان ما سينسون". هذا ما قاله وزير الخارجية الأمريكي جان فوستر دالاس عندما سُئل عن كيفية حل القضية الفلسطينية. ولكن هل هذا هو الذي حصل فعلاً؟. صحيح أن الكبار يموتون, وهذه سنة الحياة, ولكن الصغار لا ينسون بل إنهم أشد تمسكاً بذاكرة الآباء والأجداد.

ونسأل: كيف ستكون رواية الفلسطينيين عن تفاصيل ما حدث؟، وكيف سيتعاملون مع الذاكرة التي يحاول الأعداء سرقتها حيناً, وطمسها حيناً آخر؟.

إن هذا السؤال كان سابقاً لأوانه مع بدايات النكبة وإن الشعب الفلسطيني آنذاك مشغولاً بالعمل على مواجهة تداعيات النكبة وهو في موقف لا يحسد عليه، فإنه لم يخرج من تشعبات ذاكرة الموت والرماد، والمشاهد المتتالية لعصابات "الهاجانا هوشتيرنو الهاشومير" الوحشية وهي تدمر القرى وتبقر البطون.

ولم يتجاوز هذا الشعب ذكرى المجازر والمذابح الجماعية ومشاهد القتل المتلذذ بالنصوص المغرقة في الدموية والعنصرية، وصور قطعان المستوطنين القادمين من شتات الأرض وهم يهبطون أرض فلسطين ليستبيحوها بشراً وحجراً، ويأكلوا لحم أصحابها قِطَعاً قطعا.

وبعد مرور عقود طويلة على الذاكرة الأولى، وعلى الرغم من مضي سبعة وستين عاماً والمسيرة المتعرجة بآلاف الطرقات المعبدة بالدموع والآلام والدماء واللجوء القسري من الوطن إلى خيمة خارج الوطن، بعيداً عن الأرض والبيت، ومن الوطن إلى خيمة ومخيم داخل الوطن وجعلت منهم وهم أبناء فلسطين ـ الأصليون، لاجئين بلا وطن في نفس وطنهم فلسطين. بالرغم من ذلك كله فإن ذاكرة الفلسطيني بقيت حية وطازجة ونابضة بالتفاصيل.

ولعل التاريخ الفلسطيني لم يلتفت إلى توثيق هذه الآلام إلا في فترة متأخرة نسبياً، على الرغم من بعض الظهورات الروائية والقصصية التي تلامس بعض جوانب ما حدث، كون المشافهة في هذه الآلام كانت عظيمة لم يستطع العقل الالتفات إلى تدوينها لما فيها من دخول للواقع وبعناصر تفصيلية تعيد الإحساس بالألم المكثف وكأن ما حدث، حدث بالأمس. ولكن الأمر بات مختلفاً.

ذاكرة متعددة الروايات

إذا كانت الذاكرة الفلسطينية المتعددة الروايات والمتشعبة الأطراف تدق الأبواب المفتوحة، وكلها ذكريات شائكة ومعقدة ومتداخلة، فإن مجزرة كمجزرة (أبو شوشة) التي بقيت حبيسة في ضمير الزمن، إلى أن أتى من أزال التراب عنها وسلط الضوء على حقيقة ما جرى في تلك القرية الآمنة. تثير السؤال القلق الذي يلاحقنا: كم من مجزرة ابتعدت عن دائرة الضوء وطواها النسيان والإغفال، وغُيب ضحاياها في أعماق التراب، ينتظرون من يعيد قراءة الرواية وبعثها؟ فالمتابعة الدقيقة والمتأنية للتواريخ والوقائع تثبت أن كل نزوح فلسطيني من مدينة أو قرية أو أي مكان مأهول ارتبط بعمليات عسكرية يهودية صهيونية عمادها المجازر وبث الرعب والأعمال الوحشية التي يندى لها جبين الإنسانية.

وكم من الدلائل التي تشير إلى المحاولات الصهيونية المستميتة لإفراغ الأرض الفلسطينية كانت تحركها عمليات القتل الجماعي ضمن نسق عقدي عنصري يفوق الممارسة النازية والفاشية في عمليات التطهير العرقي.

وحقيقة فإن الموضوع المثال هو موضوع متسع للغاية، وأن المجال الذي يتيح الدراسات والأبحاث هو أيضاً مجال متسع.

وتكفي الإشارة إلى بعض الجهود البحثية التي ثابر عليها بعض الباحثين وأثمرت إحصاءً دقيقاً وتثبيتاً لعدد القرى التي أزيلت عن وجه الأرض وتم إعداد سجل موثق للنكبة العربية في فلسطين، بالكلمة والرقم والصوت والصورة والخارطة.

إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الباحث في الذاكرة الفلسطينية يواجه عدة تحديات مهمة وعوائق عدة، قد يتعلق بعضها في أساس الرؤية الثقافية للذاكرة الشفهية وموقعها ضمن النسيج الثقافي المتشابك، وإلى عوامل التوظيف لهذا النسق في سياقات المواجهة للكيان الصهيوني.

ذلك أن الثقافة لم تقارب هذا النسق وبشكل جدي وفاعل بوصفه يستبطن في ذاته أبعاداً متعددة ومتداخلة، على الرغم من أن هذه الذاكرة شكلت عاملاً محرضاً لولادة الثورة الفلسطينية المعاصرة.

هذا الأمر يحيلنا إلى الاعتراف بعدم وجود آليات واضحة، توثق وتحقق وتعيد تسليط الضوء على حقائق ما جرى في تلك الأيام، وضمن جهد مؤسساتي دقيق يعيد طرح ما حدث وتوظيفه في أوراق الصراع المصيرية من حيث الخروج من قضية الذاكرة من كونها قضية رواية ما حدث ماضياً، أو أداة لتأكيد الطبيعة الدموية للكيان الصهيوني، إلى كونها قضية الحاضر نفسه، في ذات الممارسات البربرية والهمجية الصهيونية، وارتكاب مجازر القتل الجماعي، والتأكيد في الخطاب الإعلامي ـ الثقافي على كونه ـ أي الحاضر ـ حركة استدامة تتفاعل في داخله كل منجزات العقلية الصهيونية المثقلة بالدماء والمجازر منذ الإنشاء الصهيوني، تفاعلاً تصاعدياً يؤكد على الطبيعة الاستثنائية لهذا الكيان والذي يشكل البقعة الأشد سواداً في العالم المعاصر، ولطخة عار في جبين الإنسانية جمعاء.

هذا المعنى الذي يحيلنا إلى ضرورة التمسك بالذاكرة الفلسطينية وتوجيهها نحو توظيف معاصر يمكننا من إعادة رواية الأمس واليوم وكل وقت عن ما حدث ويحدث وبالتالي فضح الدعاية الصهيونية المكثفة التي تسوق الكيان الصهيوني على أنه واحة سلام وديمقراطية وحرية وسط واحة حمراء من (الهمج والبرابرة).

هذا مع التشديد أن التوثيق يجب أن يأخذ منحىً عقلانياً ويخرج عن كونه مجرد أفعال حارة أو تجميع عشوائي للمعلومات وزجها بشعارات لا تخدم قضية الذاكرة.

إن قضية الذاكرة هي قضية ملهمة وتعتبر من العوامل المهمة في إذكاء الصراع بأبعاده العربية والإسلامية والإنسانية وإدامته مع الكيان الصهيوني.

وفي هذا السياق تبدو أهمية المثقف الوطني ودوره في الحفاظ على الذاكرة الوطنية وحفظها كوثيقة جماعية تروي حياة شعب بأكمله تعرض للمجازر والتهجير المبرمج، واعتبارها ذات جدوى وتدخل في المهمات الإستراتيجية للمواجهة.

كذلك الأمر تبرز أهمية دور المؤسسات الوطنية والتي تقوم بمبادرات خاصة، فردية وجماعية لرعاية المشاريع التي تهدف إلى توثيق هذه الذاكرة بوصفها مشاريع تسعى إلى استكشاف الآفاق الممكنة لآليات مخاطبة أخرى (ثقافية ـ إنسانية) تحاكي الضمير الحي للعالم الإنساني وتذهب إلى فضح الإنشاء الصهيوني للكيان القائم على المجازر والدماء.. وربط هذه المسألة بتاريخ فلسطين الحضاري الموغل في القدم ببعديه الإسلامي والعربي.

إن هذه القضية بالغة الدقة، شديدة الحساسية تقتضي تدوين وتقصي روايات الأشخاص المتتبعين عن كثب في كل قرية ومدينة، والمدونين بشكل دقيق لأحداث تلك الفترة.

إضافة إلى القيام بالبحوث الميدانية الجدية وإجراءات المقابلات اللازمة، مع إعداد استمارات لطرح أسئلة تستفز الذاكرة لجعلها تروي تفاصيل ما حدث. مع اعتماد الأساليب العملية لتحليل هذه الفترة الحيوية والتي امتدت برقعتها الزمنية حتى أيامنا هذه.

وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز ما بين النموذج التحليلي والنموذج المعرفي، حيث لا تحدد الاستخلاصات المرتجاة مسبقاً في ذهن الباحث، وتتم الدراسات في محاولات لتقديم إضافات وتقديم نماذج غير متداولة تكشف ما خفي من مجازر وممارسات صهيونية غير معلومة. إضافة إلى القيام بالبحث والاستقصاء وتثبيت الروايات المتفق عليها أو التي تحظى بإجماع متشعب. وتصنيف المراجع والدراسات العربية والإسلامية المتعلقة بالموضوع قيد البحث وعن طبيعة الدور الغربي بشكل عام والإنكليزي بشكل خاص. إضافة إلى محاولات جمع وتصنيف الدراسات والأبحاث العربية التي تناولت تلك الفترة وانعكاسات الحدث الفلسطيني عليها.

أهمية توثيق الذاكرة

تنبّه الفلسطينيون إلى ضرورة توثيق تاريخهم الشفهي لكتابة وثائق تاريخية تحفظ الذاكرة الفلسطينية أو ما تبقى منها فيما بدا انه سباق مع الزمن لجمع أكبر قدر من الشهادات الحية لجيل النكبة الفلسطينية. وقال نايف جراد الخبير الفلسطيني في جمع التاريخ الشفوي "علينا أن نستثمر الوقت لتدوين الروايات الشفوية عن المعاناة والتراث والفولكلور والحياة الاجتماعية. لا بد من الانتباه.. حتى هذه اللحظة لم نسجل كل شيء لم يعد هناك سوى 3% من الذين عاشوا النكبة".

وكان الفلسطينيون أحيوا قبل أيام الذكرى السابعة والستين للنكبة التي أدت إلى تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتدمير مئات التجمعات السكانية الفلسطينية لدى قيام إسرائيل عام 1948. وقال جراد "توجد اليوم موجة فلسطينية عارمة لجمع التاريخ الشفوي الفلسطيني يجب الاستفادة منها لكتابة رواية تاريخية للذاكرة الفلسطينية".

وأضاف قائلاً "لم نستطع حتى اللحظة أن نرد بشكل جيد على الرواية الصهيونية السائدة والتي هي أكبر أرشيف للتاريخ الشفوي الصهيوني والتي يجب علينا الاستفادة من التراجع الذي تشهده. فقد بدأ عدد من المؤرخين الإسرائيليين الجدد ينتقدون الرواية الإسرائيلية بعد فتح الأرشيف الصهيوني".

وتفتقر الأراضي الفلسطينية إلى متحف وطني للذاكرة الجماعية فيما تنتشر بعض المتاحف للتراث الشعبي إضافة إلى غياب مؤسسة وطنية تعنى بجمع التاريخ الشفوي.

وقال جراد "إننا بحاجة إلى متحف وطني للذاكرة الفلسطينية ولدينا الكثير من المواد لنضعها فيه مع ضرورة العمل على إعداد الباحثين في مجال التاريخ الشفوي للعمل ضمن منهج علمي واضح مع ضرورة إيجاد مؤسسة وطنية تتولى جمع الجهود المبذولة لتدوين التاريخ الشفوي". 

وأضاف "علينا كباحثين أن لا نخجل في الحديث عن كل شيء فالتاريخ الشفوي يشكل ثروة كبيرة لفلسطين وعلينا أن نستثمر الوقت قبل أن يمر ويمكن لنا أن نجعل العالم يتضامن مع روايتنا الإنسانية والتي تعبر عن معاناة شعب تعرض للمجازر والتشريد من أرضه ووطنه ولكسب الرأي العام إلى جانبنا".

وتشهد الأراضي الفلسطينية مؤتمرات علمية لتوثيق التاريخ الشفوي الفلسطيني منها مؤتمر (دور التاريخ الشفوي في الحفاظ على الهوية الفلسطينية) الذي نظمته جامعة القدس المفتوحة وجمعية الثقافة والفكر الحر في مدينة خان يونس في قطاع غزة والذي اختتم أعماله مؤخراً في رام الله بالضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.

وقال أمين أبو بكر أستاذ التاريخ في جامعة القدس المفتوحة لرويترز "قدم إلى المؤتمر ثلاثين بحثاً علمياً من باحثين فلسطينيين وأجانب كلها شهادات للتاريخ الشفوي الفلسطيني ومكنتنا التكنولوجيا من التغلب على الحصار عبر عقد الجلسة بين الضفة وغزة عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة".

وأضاف "الأبحاث المقدمة تتناول جميع جوانب الحياة الفلسطينية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي مصدر جديد لكتابة التاريخ وسط إلحاح شديد لمسابقة الزمن في وقت لا يتعدى نسبة من بقي موجود ممن عاصروا النكبة 3% ممن كانوا موجودين في تلك الفترة". 

ويرى أبو بكر أن الرواية الشفوية أقرب إلى الصدق والحقيقة من الرواية الرسمية التي تكون منحازة إلى وجهة نظر معينة سواء كانت فلسطينية أو غير فلسطينية. وقال "جميع الأبحاث التي قدمت إلى المؤتمر تم عرضها على لجان تحكيم لتقيمها وسيتم نشرها في كتاب واحد في وقت لاحق".

لقد كانت إحدى آثار ونتائج حرب عام 1948م، ما ارتكبته القوات الإسرائيلية من جرائم ومجازر وحشية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، والتي أدت إلى تشريد هذا الشعب وإجباره على الرحيل عن أرضه ووطنه، ومن ثم تدمير ثقافته وإرثه الحضاري، فقد كان الأثر السلبي الذي أحدثه الاحتلال على هذه الثقافة أشد تخريباً من تدمير القرى الفلسطينية ذاتها، ويمكن القول إنه قد دُّمِر أو فُقِد أو نُهِبَ معظم الإرث الثقافي والقانوني المكتوب للشعب الفلسطيني مثل أرشيف جيش الجهاد المقدس، سجلات وملفات الأملاك والأراضي، المكتبات العامـة والخاصـة، الصحافة المطبوعة وأرشيفها، سجلات المستشفيات والمدارس والمعاهد، بيانات وأرشيفات الأحزاب السياسية الفلسطينية, واللجان القومية، الأوراق الشخصية والمذكرات لكبار المثقفين والكتاب السياسيين، وغير ذلك من المخطوطات والوثائق والمستندات الهامة.

هكذا كانت المأساة... وكانت النكبة... وكان النزوح، رحل الناس وفي صدروهم وقلوبهم وعقولهم بقيت فلسطين بتاريخها وتراثها وجغرافيتها... أصبحت فلسطين منقوشة في ذاكرة الفلسطينيين، وبفضل الذاكرة، أصبح الفلسطينيون يذكرون ويتذكرون كل أشكال وأنماط ومظاهر حياتهم الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية في فلسطين، بل إنهم رسموا وسجلوا في صفحات هذه الذاكرة قصص البطولة والفداء وحكايات النزوح والتهجير والتشريد والمعاناة.

هذه هي الذاكرة الفلسطينية الحيَّة التي ما زالت تتحدى وتواجه كل المحاولات الصهيونية الهادفة إلى إرباكها وإضعافها والقضاء عليها من أجل تعزيز وترسيخ ونشر الرواية الصهيونية الكاذبة التي تدّعي بحق اليهود الديني والتاريخي في فلسطين. أفلا يحق لنا، والأمر كذلك، بل من واجبنا أن نهتم بهذه الذاكرة ونرعاها ونحافظ عليها ونحميها من كل صور وأشكال الطمس والتشويه والمصادرة؟!.. لقد سرق الصهاينة تراثنا وإرثنا الحضاري وشوهوا تاريخنا ونضالنا، وما زالوا يسعون بكل الطرق والوسائل من أجل كسر إرادتنا وإركاعنا، وتذويب هويتنا وشخصيتنا الوطنية، ومن ثم قبولنا بسياسة الأمر الواقع التي تفرضها علينا إسرائيل حسب أهوائها ومصالحها ومخططاتها العدوانية.

من هنا يبرز السؤال المهم، كيف يمكن لنا أن نعيد إحياء وتفعيل ما تحويه هذه الذاكرة الفلسطينية؟ كيف نوثق مكنوناتها وندرسها ونستفيد منها ونوظفها بالشكل الصحيح من أجل مواجهة كل الادعاءات الكاذبة التي تبثها وتصنعها الرواية الإسرائيلية المشبوهة؟.. كيف يمكن لنا أن نستغل هذه الذاكرة من أجل إعادة كتابة تاريخنا الفلسطيني الوطني وتجسيده وتأصيله وتنقيته من شوائب التزوير والتشويه التي تصنعها وتروجها وسائل الدعاية الصهيونية بدوائرها السياسية والعسكرية؟

إن الإجابة على تلك التساؤلات تكمن في توفير وتطبيق كل الطرق والوسائل والوسائط الفاعلة وأهمها منهج التاريخ الشفوي. وكما هو معروف فإن الرواية الشفوية تبقى البؤرة المركزية في دائرة التاريخ الشفوي الفلسطيني، إذ عليها يتوقف عوامل النجاح والفشل في تحقيق أهداف التاريخ الشفوي بكل مشاريعه ومواضيعه وجوانبه. وقد تبين من خلال الخبرة والتجربة والنماذج الواقعية المعتمدة على اللقاءات الميدانية مع العديد من الرواة الذين لا نسمع أصواتهم في المراجع التاريخية، تبينت القيمة العلمية والأهمية التاريخية للرواية الشفوية بوصفها مصدراً من مصادر المعرفة التاريخية وحفظ التراث العربي والإسلامي، فالرواية الشفوية تزوِّد الباحثين والمؤرخين بمصادر جديدة، فقد تنفي أو تؤكد ما هو مكتوب في الرواية الرسمية، وقد تضيف التفاصيل للأحداث المذكورة، وفي أحيان كثيرة قد تعطي تفسيراً واضحاً حول أحداث هامة، وقد تكشف عن حقائق وأسرار غامضة لم تذكرها المراجع الرسمية.

مأساة عظيمة بكل المقاييس

شكّل اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه ودياره مأساة عظيمة بكل المقاييس، امتدت تفاعلاتها إلى الاستهداف المباشر للذاكرة التاريخية الفلسطينية، ومحاولة انتزاع فلسطين وهويتها من الوعي الجمعي للأجيال التالية من شعبها، وتغييب إدراك فلسطين وقضيتها عن الوعي الإنساني. بيد أنّ مشروع النكبة لم يكتمل في معناه الأعمق، لأنّ الفلسطيني لم يتخل عن ذاكرته.

فتأسيساً على إنكار وجود الشعب الفلسطيني؛ أقدم المشروع الصهيوني بنظامه الاحتلالي وأدواته الثقافية والإعلامية، على استهداف الذاكرة الفلسطينية بضراوة، واندفع بزخم دعائي ومنظومة عملاقة، لتسويق الأساطير وترويج الادعاءات المنسوجة بعناية، بينما توجه بشكل حثيث إلى طمس الشخصية الفلسطينية وتزييف معالمها وملامحها ومواقعها، بعد اقتلاع الكيانية الفلسطينية من أرضها.

راهن مشروع الاحتلال على تآكل الذاكرة الفلسطينية وتلاشيها، بمفعول الاقتلاع والتهجير والانقطاع بين الأجيال. فجاءت الاستجابة الفلسطينية التلقائية بالتشبث بالهوية والخصوصية، التي اكتشفت ذاتها وعبّرت عن نفسها بوضوح، وبات صقل الهوية الفلسطينية مشروعاً بحد ذاته ضد الإلغاء والطمس.

نجح اتصال الذاكرة وتمريرها إلى الجيل الثاني بعد النكبة، الذي حمل لافتات العودة ورفض الخيارات البديلة عنه. واتجه الجيل الثالث من بعد إلى مأسسة مشروع الذاكرة والهوية، فعبر بها إلى القرن الحادي والعشرين، موظفاً الخيارات المستجدة في التعبير الثقافي والتواصل الإعلامي والتشبيك المدني لتطوير برنامج العودة الفلسطيني.

وإن صح القول بأنّ مشروع التوريث الفلسطيني قد نجح؛ فإنّ ما يعنيه هذا هو أنّ مشروع النكبة، بما تعنيه من الاقتلاع بمآلاته وأبعاده طويلة الأمد، قد أخفق عملياً.

لكنّ التحدي الذي واجهته الذاكرة الفلسطينية بعد النجاح في تمريرها نصف قرن بعد النكبة؛ هو الرضوخ لواقع الاحتلال المزمن وتحرير صكوك التخلي عن الأرض والديار والتنازل عن الحقوق الفلسطينية الجوهرية. وليس من المجازفة الاستنتاج بأنّ روح مشروع التسوية السياسية كان تخلي الشعب الفلسطيني عن ذاكرته، ولا ريب أنه كان اختباراً يضاهي في أبعاده وتداعياته مفعول النكبة ذاتها.

جدير بالملاحظة أنّ القادة الإسرائيليين جاؤوا إلى "أروقة السلام" بخطاب الهيمنة على تاريخ فلسطين وذاكرتها، بل حرصوا على استبعاد مفردة الشعب الفلسطيني من مقولاتهم ووثائقهم.

هذا ما فعله إسحاق شامير مثلاً؛ الذي ألقى في افتتاح مؤتمر مدريد للسلام (في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1991)، خطاباً بصفته رئيس الوزراء الإسرائيلي، أعاد فيه ترويج مزاعم الحق التاريخي في أرض فلسطين العربية، فقال مثلاً: "على مدى آلاف السنين قال شعبنا في كلّ فرصة على إثر شاعر المزامير: لن أنساك يا أورشليم، وعلى مدى آلاف السنين تمنّيناً بعضنا لبعض أن نكون في أورشليم".

وهو ما فعله خلفه إسحاق رابين، في احتفال توقيع إعلان المبادئ لاتفاقية غزة - أريحا (في 13 أيلول/ سبتمبر 1993) في باحة البيت الأبيض، مستأنفاً ترويج المزاعم ذاتها بالإشارة على مسامع العالم بأنه قادم من "أورشليم، العاصمة القديمة والأبدية للشعب اليهودي". واستمر النهج وصولاً إلى بنيامين نتنياهو وأركان حكومته الذين يهيمن على بعضهم الهوس بالشعارات الصهيونية التقليدية.

تهاونت الرسمية الفلسطينية مع هذا الخطاب الإسرائيلي، وقابلته بإشارات ترنو إلى بناء الثقة مع المحتل وبدا كأنها تسعى إلى استرضائه. تم مع الوقت تدبيج خطاب فلسطيني رسمي ينطوي على تهميش الذاكرة أو التنصل من استحقاقاتها، وتجاهل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أو الاستخفاف به، وإطلاق الإشارات المتواصلة بالاستعداد للتنازل عنه.

هرولت الرسمية الفلسطينية إلى التسوية دون استحضار الذاكرة، حتى بدا التملص من الرواية الواقعية عن فلسطين بأبعادها المعروفة ملمحاً لمدرسة "الواقعية السياسية". رأى بعضهم أنّ البحث عن خيارات سياسية يقتضي التنازل عن الذاكرة، فتم تزامناً مع زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى مناطق السلطة الفلسطينية سنة 1998، تعطيل وصف فلسطين ذاتها في الميثاق الوطني لمنظمة التحرير، الذي وقع التصويت على الإطاحة به بعد ثلاثين سنة من صدوره.

جرى إلغاء فقرات بكاملها من الميثاق، وحذف مقاطع من الفقرات الأولى الجوهرية المكرسة لوصف فلسطين في جغرافيتها وتاريخها ومآلاتها.

لكنّ فلسطين لم تحصل على شيء يذكر بعد هذه الهرولة الرسمية سوى التوسع الاحتلالي وهيمنة الاستيطان، وقضم القدس وتمزيق التواصل السكاني لأراضي الدولة المُختزلة التي لم تنهض بعد، مع إملاءات إسرائيلية لا تنتهي بمزيد من الاعترافات بالاحتلال وصفة دولته اليهودية.

ما لم تدركه الرسمية الفلسطينية في اندفاعها للاعتراف بدولة الاحتلال و"حقها في الوجود"، هو أنّ الخطاب منزوع الذاكرة، ليس مؤهّلاً لأن يفضي إلى حل عادل لقضية فلسطين، وأنّ إعادة الاعتبار للذاكرة الفلسطينية يبقى اشتراطاً لا غنى عنه لتسوية جادة للقضية. فلا مجال لتسوية دون حسم مسألة الأحقية التاريخية، ولا فرصة لها مع القفز المستمر فوق مسألة وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه الجوهرية وعلى رأسها حق العودة.

غني عن القول أنّ الذاكرة ليست الماضي، بل هي الوعي بالتاريخ والجذور والهوية، وإدراك الخصوصية، وهي أيضاً الوعي بالذات بما يتصل بالواقع وينفتح على المستقبل. والواقع أنّ الذاكرة تمثل مركز الثقل في قضية فلسطين، ويقابلها ذاكرة الاحتلال المصطنعة التي جرى تركيبها بعناية فائقة على أنقاض التاريخ الفلسطيني. وقد أفضى استبعاد ركيزة الذاكرة من الخطاب الفلسطيني إلى إضعاف جوهري للموقف الفلسطيني العام وانهيار سقوفه التي غدت واطئة للغاية.

كاد هذا النهج أن يتسبب، علاوة على ذلك كله، بتهديد التماسك العضوي للشعب الفلسطيني إن تم التسليم بانزواء الكيانية الفلسطينية منزوعة السيادة، في بؤرها المعزولة وراء جدران الاحتلال، حتى وإن تم إطلاق وصف دولة على هذه اللوحة الممزقة.

ليس مبالغة القول بأنّ مشروع التسوية السياسية كان نكبة ثانية بالنسبة للذاكرة الفلسطينية، لأنه راهن على الإذعان للمحتل وتحرير صكوك التخلي عن فلسطين التاريخية باعترافات متوالية. وفي أعقاب هذا التحدي أيضاً جاءت الاستجابة الشعبية الفلسطينية واضحة على هذا النهج، بإنعاش الذاكرة وتطوير خطاب العودة على صعد شتى، في تعارض واضح مع برنامج التسوية وأولوياتها.

مع استعلاء نهج التسوية المجحفة بحق فلسطين وذاكراتها، أدركت "الدياسبورا" الفلسطينية التي تم تجاهلها، دورها في إنعاش الوعي بفلسطين؛ بعمقها التاريخي وأبعادها الجغرافية التي كانت عليها. فلكل شعب الحق في ذاكرته، وقد تنبّه الفلسطينيون إلى محاولات استدراجهم للتجرد من ذاكرتهم والتنصل من هويتهم وتقمص رواية المحتل عنهم.

جاء الردّ على استهداف الذاكرة الفلسطينية في مرحلة التسوية؛ بجهود متعددة لإنعاشها واستمرار توريثها للأجيال الفلسطينية الجديدة، وهي مسؤولية اكتسبت وزناً إضافياً وحساسية فائقة بالنسبة لأبناء الشعب الفلسطيني في المنافي الأوروبية.

انتهت التسوية السياسية إلى محاصرة وعي الفلسطينيين ضمن حدود الجدار العنصري، لكنّ الأجيال الفلسطينية تواصل رفع المفتاح حتى من أقصى المنافي الأوروبية التي تعلو منها لافتات العودة، وتتحرك ضمنها برامج ومشروعات مختصة بهذا الحق الجوهري، بعد عقود سبعة من النكبة.

تتعرف الأجيال الفلسطينية الصاعدة في أوروبا على ذاكرتها، وتبحث عن دورها في مشروع العودة وإنهاء الاحتلال، ولا يجري ذلك بمعزل عن تفاعلات الشعب الفلسطيني في مواقع الانتشار كافة، بما فيها داخل الداخل المحتل سنة 1948. إنّ المغزى في ما جرى ويجري، هو أنّ التاريخ لم ينته في فلسطين.

وخلاصة القول إنه بدون توفر الرواية الشفوية فإنه لا يمكن الاستمرار في رسم وتخطيط وإعداد وتنفيذ هيكلية التاريخ الشفوي المطلوبة، ومن هنا يتضح مدى الترابط والعلاقة القوية ما بين هيكلية التاريخ الشفوي ومميزات الرواية الشفوية وعناصرها الأساسية، الأمر الذي يتطلب إبراز هذه العلاقة وتجسيدها وتقييمها من قبل المتخصصين والباحثين من أجل تعميق الوعي الجماهيري بماهية التاريخ الشفوي وإبراز أهميته وقيمته وأهدافه ومواضيعه إضافة إلى تحديد أهم مصاعب تطبيقاته وإيجاد الحلول المناسبة لها.

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) 

اعلى الصفحة