ازدواجية المعايير الأمريكية تجاه القضايا النووية

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن الرأي السائد في المنطقة عن السياسة الأمريكية تجاه القضايا النووية المثارة في الشرق الأوسط هي أنها - حسب التعبير السائد- مزدوجة المعايير، فهي تتقبل وجود سلاح نووي لدى إسرائيل، بينما تعمل على منع الدول العربية من الاقتراب من المساحة النووية.

وعلى الرغم من أن تلك الفكرة صحيحة في كثير من جوانبها، إلا أنها لا تعبر في الواقع سوى عن مجرد انطباع عام بسيط، يمثل موقفاً سياسياً أكثر منه تحليلاً علمياً، فالسياسة الأمريكية أعقد بكثير مما تبدو عليه، إذ أن لواشنطن محددات مركبة تحكم تعاملها مع كل مشكلة نووية، وتفرز على ما يبدو سياسة خاصة لكل منها، تبعاً لمعايير ترتبط بطبيعة كل حالة على حدة، فلا توجد سياسة أمريكية عامة، وإنما سياسات خاصة تجاه القضايا النووية في الشرق الأوسط.

البداية هنا هي أن العامل الأمريكي قد أصبح، منذ بداية التسعينيات على الأقل، يمثل المحدد الأكثر تأثيراً لعمليات الانتشار أو عدم الانتشار النووي في المنطقة. فقد كان الدور الأمريكي واضحاً في الدفع باتجاه تشكيل إطار المفاوضات متعددة الأطراف حول ضبط التسلح والأمن الإقليمي في ظل ما يسمى بعملية التسوية السلمية للصراع مع العدو الإسرائيلي، وكانت بصمات واشنطن واضحة في كل التطورات المتعلقة بإدارة تفاعلات أطراف المنطقة مع النظام الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية المستند على معاهدة منع الانتشار  والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعكس ما كان الحال عليه خلال العقود السابقة حين كان النظام الدولي والتوجهات الإقليمية يتسمان بطابع مستقل نسبياً عن السياسة الأمريكية.

إن السياسة الأمريكية تجاه القضايا النووية تطرح سؤالاً رئيسياً حول: كيفية تعامل الولايات المتحدة مع القضايا النووية في الشرق الأوسط؟، وتحديداً فيما يتعلق بعملية صنع السياسات المتعلقة بالنشاطات النووية في المنطقة، سواء على مستوى التقديرات الفنية، أو التوجهات السياسية، أو التحركات الفعلية.

صناعة السياسة الأمريكية

إن السؤال الرئيسي الذي نحاول الإجابة، في هذا المجال، أن تقوم ببناء إطار تحليلي يساعد في الإجابة عنه هو: كيف تدرك الولايات المتحدة مشكلات الشرق الأوسط على المستوى النووي، سواء كانت تتعلق بالانتشار أو عدم الانتشار، وهو الإدراك الذي تتحدد بناء عليه السياسة المتبعة. وتتمثل المشكلة هنا في كيفية بناء نموذج يوضح ملامح عملية صنع السياسة في واشنطن، فيما يتعلق باللاعبين الرئيسيين في مجال الانتشار النووي، والتفاعلات القائمة بينهم، والمحددات الحاكمة لتلك السياسة، والتي تفرز في النهاية ما تتم متابعته من عمليات على ساحة الإقليم في المجال النووي.

هناك أربعة لاعبين رئيسيين مشتبكين في تلك العملية، هم الإدارة الأمريكية، يتضمن ذلك البيت الأبيض بمجالسه المختلفة وكبار المسئولين والمتخصصين والخبراء في الوزارات (الإدارات) ذات العلاقة كالخارجية والدفاع والطاقة والأمن الداخلي، ثم ما يسمى جماعة الاستخبارات، التي تضم وكالة الاستخبارات المركزية، وحوالي 14 جهاز استخبارات أخرى تعمل في إطار هيئة التقديرات الاستخباراتية القومية، يضاف لذلك الكونجرس الأمريكي بمجلسيه (الشيوخ والنواب) ولجانه الداخلية المتعددة كالعلاقات الخارجية والاستخبارات، ثم اللاعب الرابع وهو مراكز الدراسات (التفكير) المستقلة، وغير الحكومية التي تمتلك برامج قوية لمتابعة وتقييم حالة الانتشار النووي وتصدر توصيات بشأن التعامل معها.

وتتسم أدوار اللاعبين السابقين في عملية صنع القرار النووي بالوضوح النسبي، فأجهزة الاستخبارات هي المسئولة عن تقييم النوايا النووية لأية دولة من خلال رصد وجمع البيانات الفنية المتعلقة بالنشاطات النووية للدولة المعنية، مع تصنيفها وتحليلها. ويتم تقديم تلك التقديرات الاستخباراتية بعد ذلك للإدارة والكونجرس بعد مناقشتها في إطار هيئة الاستخبارات القومية (NIE). وتتولى الإدارة استناداً إلى ذلك (أو يفترض ذلك) تشكيل السياسة الرسمية تجاه الدولة موضع الاهتمام، في إطار التوجهات العامة الحاكمة للسياسة الأمريكية في مرحلة ما.

أما بالنسبة للاعبَيْن الآخرين، فإن دورهما يرتبط بما يلي:

1- تقوم مراكز الأبحاث عادة بتحليل التقديرات الاستخباراتية، مع مطابقة مدى تعبير السياسة الرسمية عنها، فهى في معظمها ليست مشاركة مباشرة في عملية صنع سياسة الإدارة، إلا أنها تقوم بالتأثير عليها بشدة عبر النشر والتعليقات والتقديرات والاتصالات المستمرة مع الإدارة وجماعة الاستخبارات، في إطار إبداء الرأي وطرح الخيارات.

2- يمارس الكونجرس على هذا المستوى دوراً استشارياً في كل مراحل عملية صنع القرار، فلديه لجان الاستخبارات الداخلية، وعادة ما تكون لديه تقديراته الخاصة لما تقدمه الأجهزة استناداً على إفادات وشهادات وجلسات استماع لمسئولين في الحكومة أو خبراء في مراكز الدراسات، وأحياناً شخصيات من المناطق أو الدول المعنية.

لكن مشكلة دور الكونجرس في هذا المجال، هي أنه على الرغم من أن لديه أدوات قوية للنظر في سياسة معينة، بدعمها أو عرقلتها، من خلال التمويل، وأحياناً خلقها باعتباره ساحة لجماعات المصالح (اللوبيات)، إلا أن الإدارة عادة ما لا تكون في حاجة لموافقة (أو تصديق) الكونجرس في إطار عملية صنع سياسة معينة، لذا يظل دوره غير مباشر في عملية صنع سياسة منع الانتشار في المراحل الأولى لتشكيلها وإدارتها، على الرغم من أنه قد يكون مؤثراً في المراحل التالية، خاصة عندما تتحول القضايا إلى مشكلات أو المشكلات إلى أزمات.

ولا تتوقف المسألة هنا على أدوار اللاعبين الأساسيين المشار إليهم، ولكن على نمط أو ديناميكية التفاعل بينهم تجاه القضايا التقليدية أو المشكلات الجارية في منطقة كالشرق الأوسط، استناداً إلى ما يمكن تسميته الافتراضات أو المقولات المسيطرة داخل جماعة منع الانتشار الأمريكية العاملة داخل تلك المؤسسات، والتي تؤثر على مخرجات السياسة الأمريكية بشأن التطورات القائمة أو المحتملة بالنسبة لدول المنطقة، لذا فإن هناك مجموعة من التساؤلات بشأن كل حالة شرق أوسطية بالمفهوم الواسع، فالإجابة عن هذه التساؤلات قد تختلف من حالة إلى أخرى.

وتتمثل أهم تلك الأسئلة فيما يلي:

أ‌- هل يوجد اعتقاد داخل جماعة الانتشار النووي الأمريكية، بأن من السهل امتلاك أسلحة نووية، وهل يمكن بالفعل بناء برنامج عسكري نووي متكامل اعتماداً على السوق السوداء، أو عبر التعاون مع دولة نووية أخرى؟

ب‌- ما هي العلاقة بين القدرات النووية والنوايا النووية، وكيف يتم تحليل مستوياتها المختلفة، وهل لا يزال من الممكن بناء برنامج عسكري نووي سرى قادر على إنتاج قنبلة في الوقت الراهن؟

ت‌- ما هي العلاقة بين امتلاك القدرات النووية المدنية وامتلاك القدرات النووية العسكرية، وهل يعتقد صانعو السياسة وخبراء منع الانتشار الأمريكيون أن من السهل أو الممكن تحويل القدرات النووية السلمية إلى نشاطات نووية عسكريا؟

إن محاولة الوصول إلى إجابات محددة لتلك الأسئلة في إطار عملية صنع السياسة النووية داخل الولايات المتحدة، يمكن أن يساهم في فهم الكيفية التي يتم بها تحليل وتقدير المعلومات المتعلقة بالنشاطات النووية لدول المنطقة في واشنطن، وكيف تختلف أحيانا تقديرات الخبراء في المجال النووي عن السياسيين داخل الإدارات، وإلى أي مدى تؤثر تقديرات المجموعتين، أو أي منهما في سياسة الولايات المتحدة، علماً بأنه في ظل الآليات المعقدة لعملية الانتشار النووي خلال السنوات الأخيرة لا توجد إجابات نظرية حاسمة يمكن أن تكون ملزمة فنياً لتلك الأطراف، على نحو يترك مساحة واسعة للتقديرات غير المحددة أو المتباينة أو للتأثيرات السياسية.

تقدير الحالة الإيرانية

شهدت منطقة الشرق الأوسط الكبير حالة انفجار غير مسبوقة لعدة مشكلات نووية خلال السنوات الأخيرة، بحيث بدا للولايات المتحدة وكأن قطار الانتشار النووي سوف يخرج من القضبان، لذا أصبحت مشكلة الانتشار النووي تحتل أولوية قصوى في السياسة الأمريكية، لاسيما تجاه أقاليم شرق آسيا والشرق الأوسط. ووضحت في هذا الإطار ملامح شديدة التحديد لسياسة منع انتشار نووي أمريكية أخطبوطية الشكل، تمتد أذرعها في أكثر من دولة، وتعمل في كل حالة بمنطق مختلف، مما أثار عدة إشكاليات تختلف أيضاً من حالة إلى أخرى.

إن إيران قد اعتبرت بالنسبة للولايات المتحدة واحدة من حالتين تمثلان مصدر التهديد الأكثر خطورة لأجندة منع الانتشار النووي الأمريكية منذ منتصف عام 2003 على الأقل، والحالة الثانية هنا هي كوريا الشمالية. ويتمثل العامل الرئيسي المؤثر على السياسة الأمريكية تجاه إيران في مدركات التهديد. فالتيار الرئيسي في واشنطن لديه قناعة بأن هناك احتمالات قوية لامتلاك إيران أسلحة نووية، وأن تلك المسألة تمثل في ظل وجود ما يعتبر نظاما مارقا مصدر تهديد ملحا للأمن القومي الأمريكي.

وبعكس أي حالة أخرى، فإن المنظور الأمريكي لإيران يقوم, طبعاً حسب المزاعم الأمريكية, على معلومات ذات مصداقية عالية وحجج قوية من وجهة النظر الأمريكية، فامتلاك إيران للقنبلة سوف يؤدى إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، وقد يطلق موجة من الانتشار النووي في الشرق الأوسط، فمثل هذا السلاح سوف يمكن طهران من تهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لاسيما في ظل استمرار تطور برنامجها الصاروخي، كما سيؤدى إلى توجيه ضربة جديدة لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وهناك احتمالات لقيام إيران - تبعاً لسيناريو أسوأ حالة - بإمداد عناصر معادية لواشنطن بأسلحة نووية، وهو ما يجعل الصورة أكثر حدة مما هي عليه في الواقع.

المهم في الأمر، فإن تحليل النوايا يمثل الميكانيزم السياسي الأكثر أهمية والذي يسيطر في تلك الحالة، فالتقديرات الرسمية للحكومة الأمريكية تتركز في أن إيران تهدف إلى امتلاك دورة وقود نووي متكاملة، وأن ذلك سوف يمكنها من حيازة قدرات نووية متطورة. وتبعاً لعبارة جون بولتون وكيل وزارة الخارجية الأسبق لشئون ضبط التسلح والأمن الدولي، فإن نمط الأكاذيب والتقارير غير المكتملة التي يتسم بها تعامل إيران مع الوكالة الدولية، يمثلان مؤشرات لا يرقى إليها الشك أو الخطأ بشأن نواياها النووية وإن كانت بعض التقديرات تشير إلى أن إيران تمكنت من الحصول على مواد ومعدات نووية من الخارج بتكلفة محدودة، وأنها قد تعتمد عليها في تطوير خيارها النووي أكثر من دورة وقودها الذاتية، وهو ما ضاعف الشكوك الأمريكية في نوايا إيران النووية.

ويمثل عدم التمييز بين القدرات النووية المدنية والبرامج النووية العسكرية عاملاً مهما كذلك في تقديرات الاستخبارات بشأن إيران، فالولايات المتحدة لا تميز في حالة إيران بين امتلاك أسلحة نووية وإقامة برنامج مدني يتمتع ببعض الملامح المزدوجة التي تتيح إمكانية للتحول في اتجاهات عسكرية، ويجد ذلك تفسيره ببساطة في أن مدركات التهديد الأمريكية بشأن إيران، إضافة إلى شكل العلاقات الصراعية القائمة بين الطرفين، يتسمان بمستوى من الحدة لا يتيح اتجاهات أخرى للتفكير في واشنطن، لكن الأهم هو أنهما يفرزان توجهاً محدداً، هو أن الولايات المتحدة لا يجب بأي حال أن تسمح لإيران بتطوير القدرات النووية.

لكن التقديرات الأمريكية لما يسمى "الخطر الإيراني" ترتبط ببعض التفصيلات داخل دوائر الإدارة وأجهزة الاستخبارات ولجان الكونجرس ومراكز الدراسات، فهناك سؤالان يسيطران على الاهتمام الأمريكي، هما:

أ‌- ما هو مستوى تطور القدرات النووية الإيرانية، وإلى أي مدى تمكنها بنيتها التحتية الحالية من مرافق ومعدات ومواد من الحصول على مكونات السلاح النووي؟ وتتمثل أهمية إجابة هذا السؤال في أن بحث اتجاهات التحليل الرئيسية وأساليب التقديرات المتبعة بهذا الخصوص، قد يساهم في تحديد طبيعة الخيار الذي ستتبعه واشنطن في التعامل مع الحالة الإيرانية، فإما أن يتكرر نموذج الحوار النووي الذي تم اعتماده مع كوريا الشمالية، أو قد تتجه الإدارة الأمريكية أكثر نحو اتباع أساليب إكراهية.

ب‌- كيف يمكن حل تلك المعضلة؟ بالنسبة لهذا السؤال، فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعتبر إيران دولة عدوة، لكن بعكس حالة العراق لا يبدو أن المشكلة الإيرانية يمكن حلها عسكرياً، ويبدو كذلك أن واشنطن راغبة في العمل مع الجماعة الدولية للتعامل مع تلك المشكلة. لكن هناك أيضاً جدال داخلي حول مدى واسع من الخيارات التي تتراوح بين فرض عقوبات ضد إيران أو بدء حوار مع الإيرانيين.

وتشير متابعة الجدل الدائر حول إيران في الولايات المتحدة، خاصة داخل مراكز الدراسات ولجان الكونجرس، إلى أن جماعة عدم الانتشار قد قامت بتطبيق كافة الميكانيزمات التقليدية في تصوراتها للتعامل مع حالة إيران، ووصل الأمر أحياناً إلى تحليلات معقدة تتبنى استراتيجيات ثنائية مركبة توازن بين الردع من الناحية والدبلوماسية من ناحية أخرى مع استمرار الضغوط متعددة الأطراف، كما أن بعضها يوصى بالتوصل إلى صفقة كبرى يتم في إطارها ربط إنهاء النشاطات النووية الإيرانية بتطبيع العلاقات الأمريكية الإيرانية.

وتتمثل أسس كل ذلك في وجود اتجاه داخل الولايات المتحدة يذهب إلى أنه ليس من المتصور أن تقوم إيران بالتخلي عن كل طموحاتها النووية، إذ أنها قد استثمرت فيها حجماً أكبر مما هو معتاد - قياساً على البرامج النووية المعروفة - من الأموال، وأصبحت المسألة تمثل بالنسبة لها قضية كبرياء قومي. ويتمثل الحل الوسط الذي يجرى النقاش حوله كملاذ أخير في أن يتم السماح لإيران بالاحتفاظ ببرنامج نووي سلمى لأغراض الطاقة تحت ضمانات قوية، مع تخليها بشكل كامل عن برنامج تخصيب اليورانيوم أو أية تسهيلات لفصل البلوتونيوم، فلا يزال المنظور النهائي للولايات المتحدة بشأن النشاطات النووية الإيرانية تحت التشكيل.

استثناء الحالة الإسرائيلية

تقوم السياسة الأمريكية الرسمية على عدم التأكد مما إذا كانت إسرائيل تمتلك أسلحة نووية أم لا، وعدم الخوض بمبادرة منها في تلك المسألة، مع عدم ممارسة أية ضغوط معلنة في اتجاه أية صيغة من ضبط تسلحها النووي، إلا أنه أصبح شائعاً أن هناك تفاهماً غير معلن بين الطرفين يسمح باستمرار امتلاك إسرائيل للأسلحة النووية، وقد شكل ذلك المصدر الرئيسي لانتقاد السياسة الأمريكية في المنطقة على أساس ازدواجية المعايير.

إن إسرائيل لا تعد ضمن الحالات النووية الساخنة بالمعايير الأمريكية، فهي لا تمثل مشكلة تفرز ضغوطاً في اتجاه الاهتمام بها بشكل ملح، سواء بالنسبة لاتجاهات التهديد المرتبطة بها، أو التفاعلات الدائرة حولها. وفى الواقع، لم تتطور التوجهات الأمريكية الأساسية بشأنها عبر عدة عقود ماضية في اتجاهات جوهرية.

وعادة ما يبدو من تحليل السياسة الأمريكية أنه لا يوجد جديد على تلك الجبهة، باستثناء ذلك الصداع الذي تسببه تلك المشكلة لبعض لاعبي عدم الانتشار الرئيسيين بواشنطن سواء في المنظمات الدولية، أو الندوات المشتركة أو لقاءات المسار الثاني ووسائل الإعلام، وأحياناً عند زيارة بعض المسئولين للمنطقة أو صياغة تقارير حالة الانتشار النووي الصادرة عن المؤسسات الرسمية، بفعل كونها مشكلة ساخنة طويلة المدى في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى تحولها إلى قضية حرجة من قضايا جدول أعمال سياسة منع الانتشار الأمريكية.

تعتبر إسرائيل من المنظور الأمريكي هي الاستثناء النووي في منطقة الشرق الأوسط، فعلى الرغم مما أصبح معروفاً من أنها ربما تمتلك في الوقت الراهن ما لا يقل عن 200 رأس نووي، لا توجد أي إشارة أو أي تحرك في اتجاه يشير إلى أن واشنطن ربما تكون بصدد إعادة تقييم تلك المشكلة. وهذا القبول الأمريكي لبرنامج التسلح النووي الإسرائيلي هو الذي خلق في الأساس ما يسمى سياسة المعايير المزدوجة التي تمارسها الولايات المتحدة على المستوى النووي من وجهة نظر دول الشرق الأوسط.

ولا توجد صعوبة في تحليل أسس المنظور الأمريكي تجاه تلك المشكلة، فالعامل الرئيسي الذي يؤثر على التوجهات الأمريكية بهذا الشأن، والذي التزمت به كل الإدارات الأمريكية هو العلاقة الإستراتيجية الخاصة بين الدولتين. فإسرائيل تعتبر من وجهة النظر الأمريكية حليفاً ثابتاً يعتمد عليه في إقليم صاخب غير مستقر، يشهد عداء متنامياً للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. يضاف لذلك أن التقاليد المؤسساتية المشتركة (الديمقراطية) والقيم الثقافية المشتركة تعمقان تلك العلاقة وتدعمان باستمرار تلك الفكرة السائدة في الولايات المتحدة بأن إسرائيل تمثل دولة نووية مسئولة.

لكن الأهم أن الولايات المتحدة تتفهم - من وجهة نظر معظم اللاعبين الرئيسيين - حاجة إسرائيل لامتلاك الأسلحة النووية بهدف تدعيم أمنها القومي، كما أنها تتبنى وجهات النظر الإسرائيلية بشأن الشروط المسبقة أو المتطلبات الضرورية التي يجب أن تتوافر لكي يتم الحديث عن إزالة تلك الأسلحة. وثمة نقطة مهمة إضافية هي أن برنامج إسرائيل النووي لا يهدد أمن الولايات المتحدة، أو أية مصالح حيوية لها في الشرق الأوسط.

وبالطبع، يصعب افتراض أنه لا توجد تقديرات استخباراتية أمريكية بشأن وجود وخصائص أسلحة إسرائيل النووية، لكن ما يحدث هو أن قوى مختلفة داخل الولايات المتحدة قد خلقت مناخاً سياسياً يحول دون ظهور أية خطوة تبدو وكأنها يمكن أن تؤدى إلى المساس بحالة التأييد العام القائمة لإسرائيل. كما أن اللوبي القوى لليهود الأمريكيين في العاصمة جعل من الصعب بالنسبة للمسئولين الرسميين أن يتبنوا مواقف تبدو وكأنها تضر بأمن أو مصالح إسرائيل. يضاف لذلك أن منشورات معظم مراكز الدراسات الأمريكية تتعامل مع إسرائيل كقوة نووية إقليمية، بخلاف ما هو مطروح رسمياً، إلا أن هناك توافقاً على أنها يجب أن تستمر في الاحتفاظ بتلك الأسلحة، طالما أنها ترى ذلك، وإلى أن تقرر العكس.

لكن الالتزام الأمريكي بتلك التوجهات إزاء وضع إسرائيل النووي ليس بدون محددات، فتبعاً لمصادر عديدة، يستند ذلك الالتزام على تفاهم مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة تم التوصل إليه عام 1969، يقضى بأن الولايات المتحدة لن تكشف عما لدى إسرائيل من أسلحة نووية، ولن تمارس أية ضغوط عليها بهذا الخصوص مقابل عدم قيام إسرائيل بالإعلان عن امتلاك تلك الأسلحة، أو تهديدها للدول الأخرى بها. ومع ذلك، ثمة تحليلات تطرح سؤالاً حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تمتلك القدرة فعلياً على الضغط على إسرائيل للتفاوض حول ضبط التسلح في الشرق الأوسط إذا أرادت ذلك. وتشير معظم الإجابات إلى أن إسرائيل لن تقبل معاهدات لضبط التسلح لو لم يكن ذلك حتميا، فإسرائيل - مثل الهند وباكستان- هي قوة نووية عملياً، ولا يمكن أن تحل المشكلات المتعلقة بها باستخدام القوة أو أساليب الإكراه.

وهكذا: فإن كل حالة ذات علاقة بالوضع النووي في الشرق الأوسط توضح أن العامل الأمريكي كان العامل المسيطر الذي يؤثر على التطورات النووية في المنطقة منذ بداية التسعينيات على الأقل، باستثناء فترات محدودة تمكنت فيها بعض دول المنطقة من الإفلات من الرقابة الأمريكية اللصيقة، وبناء برامج نووية سرية. فبصرف النظر عما إذا كانت مثل هذه الحالات تمثل مشكلة انتشار نووي أو قضية عدم انتشار نووي، وبغض النظر عما إذا كانت النشاطات النووية ترتبط باستخدامات سلمية للطاقة النووية أو محاولات عسكرية لامتلاك الأسلحة النووية، فإنها تأثرت بقوة بالسياسة الأمريكية بصورة أو بأخرى، وبدورها تأثرت السياسة الأمريكية في تعاملها مع تلك الحالات. بمدركات التهديد والتوجهات السياسية المتصلة بعلاقاتها الشرق أوسطية. فالمحصلة النهائية هي: أن الأوضاع النووية الراهنة في المنطقة تمثل نتيجة لظروف إقليمية ومواقف أمريكية، وقد اختلفت قواعد اللعبة المحيطة بكل حالة وفقاً لمحددات خاصة بها.

في كل حالة، فإن المدركات الإستراتيجية والتوجهات السياسية قد شكلتا محركاً مارس تأثيراته على المنظور الأمريكي لمنع الانتشار في إطار تعقيدات شبكة صنع القرار السياسي بالولايات المتحدة. فالمدركات الإستراتيجية كانت تمثل خلفية الصورة بالنسبة لكل حالة، لارتباطها بنمط العلاقات القائم بين الولايات المتحدة وكل طرف، ومستوى التهديد الذي تفرزه كل حالة من وجهة النظر الأمريكية. أما التوجهات السياسية داخل واشنطن، فإنها أدت أحياناً إلى تعديل اتجاه عملية صنع القرار داخل الشبكة من خلال تغيير المدركات السائدة، أو تجاوز تغيير المدركات إلى تغيير السياسات، مع ملاحظة وجود حدود على قدرة الإدارة على القيام بذلك في معظم الأحوال.

باحث في القضايا الإقليمية(*)

اعلى الصفحة