المخاوف الإسرائيلية من محكمة الجنايات الدولية

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

رد الفعل الإسرائيلي على الطلب الفلسطيني بالانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية كان عنيفا، وهدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإجراءات انتقامية عديدة. لماذا؟! لأنه في حين تستطيع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة فقط الانضمام للمحكمة، إلا أن من الممكن للمدعي العام الدولي للمحكمة اعتبار فلسطين دولة بعد توقيعها الميثاق، وبما يتيح لها التقدم بطلبات لمحاكمة شخصيات سياسية وعسكرية إسرائيلية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، في غزة مثلاً وغيرها.

وعلى الرغم من العقبات الكثيرة أمام تحقق مثل هذا السيناريو، إلا أن مجرد وجود فرصة لتحقيقه، يثير قلقاً واضحاً لدى إسرائيل.

واشنطن, من جانبها, هددت الجانب الفلسطيني بإعادة النظر في العلاقة معه، لأنه يقوم بإجراء أحادي الجانب بدل الالتزام بالمفاوضات، كان متوقعا، وإن فاحت منه رائحة الازدواجية. أليس بناء المستوطنات، غير القانونية بحسب القانون الدولي ورأي محكمة العدل الدولية، هو إجراءاً أحادياً أيضاً، غير ملتزم بالمفاوضات؟ لم تهدد الولايات المتحدة بإعادة النظر في علاقتها مع إسرائيل بسبب سياستها الاستيطانية الاستعمارية اللاأخلاقية؟ نعرف الجواب طبعا. لكن، لم يعد من المنطقي إلزام الفلسطينيين بمفاوضات لم تؤد، بعد أكثر من عشرين عاما، إلى إنهاء الاحتلال، بينما وأدت السياسة الاستيطانية الإسرائيلية الأمل بدولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

توطئة تاريخية قانونية

لا يخفى على أحد أن القضية الفلسطينية تفتقد إلى تطبيق القانون الدولي لعدم وجود الإرادة السياسية لدى الدول الكبرى ولان مصالح هذه الدول لا تقتضي منها العمل بجدية على إنصاف الشعب الفلسطيني من خلال تمكينه من ممارسة حقه في تقرير المصير وصولاً إلى الانعتاق من الاحتلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. وطوال فترة طويلة كان يفتقر القانون الدولي عموماً إلى آليات التطبيق وما زال يعاني من انتقائية التطبيق أو ما يعرف بازدواجية المعايير. وقد شهد عقد التسعينات من القرن الماضي تطورات بارزة على صعيد بلورة وترسيم آليات لتطبيق القانون الدولي خصوصاً فيما يتعلق بملاحقة ومحاكمة مقترفي الجرائم الخطيرة والمسؤولين عنها.

وفي هذا الخصوص، أنشئت المحكمة الجنائية الدولية من أجل يوغسلافيا السابقة ومقرها في لاهاي (هولندا) في شباط 1993، بموجب قرار مجلس الأمن 827، وتقتصر ولايتها القضائية على الأعمال المرتكبة في يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991، وتلاها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية من أجل رواندا، ومقرها أروشا في تنزانيا في تشرين الثاني 1994، وتقتصر ولايتها القضائية على الأعمال التي ارتكبت في رواندا في العام 1949. وقد نجحت هاتان المحكمتان في محاكمة بعض المجرمين منهم سلوبودان ميلوسوفيتش، ورادوفان كاراديتش. وقد ترافق هذا مع قيام بعض الدول الأوروبية باعتماد مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي تنفيذا لالتزاماتها القانونية الواردة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، بحيث أصبح متاحاً أمام ضحايا الجرائم الخطيرة أو من يمثلهم رفع قضايا أمام محاكم هذه الدول بغض النظر عن جنسية الضحية أو الجاني أو مكان وقوع الجريمة.

 وفي الحقيقية أن جهود المجتمع الدولي لإقرار مبدأ الولاية القضائية لمحاكمة مرتكبي الجرائم الجسيمة تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى عندما نصت معاهدة فرساي 1917 على محاكمة إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني وعلى إلزام الحكومة الألمانية بتقديم الأشخاص المتهمين باقتراف جرائم ضد قوانين وأعراف الحرب أمام المحاكم العسكرية لدول الحلفاء المنتصرة في الحرب. لكن هروب غليوم الثاني إلى هولندا ورفضها تسليمه حال دون محاكمته، واقتصر الأمر على محاكمة بعض العسكريين أمام المحاكم الوطنية . كذلك حاولت ، ودون نجاح، عصبة الأمم في عام 1920 عبر تشكيل لجنة قانونية لإعداد مشروع لإقامة محكمة دائمة للعدل الدولية وفي عقد مؤتمر دولي في جنيف عام 1937 وما شهده من إبرام اتفاقية لإنشاء محكمة جنائية دولية، لكن معارضة بريطانيا وروسيا حالت دون ذلك. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية قامت دول الحلفاء بتأسيس محكمة نورمبرغ في 8 آب 1945 لمحاكمة المسؤولين الألمان، وتأسيس محكمة طوكيو في 9 كانون الثاني 1948 لمحكمة المسؤولين اليابانيين. لكن هذه المحاكمات كانت في الواقع سياسية للاقتصاص من المهزومين وفرض الشروط عليهم، علاوة عن كونها عدالة مجزوءة لأنها لم تحاكم المنتصر الذي اقترف جرائم حرب وبشكل خاص من استخدم السلاح النووي لأول مرة في التاريخ ضد المدنيين في هيروشيما وناكازاكي باليابان تاركاً مئات آلاف الضحايا ومعاناة إنسانية حتى يومنا هذا.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه فيما يتعلق باغتيال الرئيس رفيق الحريري تم إنشاء محكمة خاصة بلبنان في العام 2007 تستند إلى القانون اللبناني وهي ذات طابع دولي تختص بالجريمة الإرهابية التي تدخل ضمن الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة على اعتبار أنها تهدد الأمن والسلم الدوليين. وعليه، تعامل مجلس الأمن مع جريمة الاغتيال كجريمة إرهابية لا تدخل ضمن اختصاص الحكمة الجنائية الدولية التي تختص بالنظر في جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

 من هنا تأسست المحكمة بالاستناد إلى اتفاقية روما لعام 1998، وذلك نسبة إلى مكان انعقاد المؤتمر الدبلوماسي الذي اعتمد النظام الأساسي للمحكمة. وقد دخل هذا النظام حيز النفاذ في 1 تموز 2002 بعد مصادقة 60 دولة عليه. وعلى خلاف المحاكم الدولية المؤقتة أو الخاصة كما هو الحال في يوغسلافيا سابقاً أو رواندا أو تلك المشكَّلة بالاستناد إلى القانون الجنائي الدولي كما هو الحال في لبنان أو سيراليون أو تيمور الشرقية، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة قضائية دولية دائمة، تحظى بولاية عالمية لمحاكمة مقترفي الجرائم الخطيرة المتمثلة في جرائم الحرب وضد الإنسانية والإبادة والعدوان. أما الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة:

1- جريمة الإبادة الجماعية: وهي أي فعل يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً, مثل: قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، إخضاعها عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها كلياً أو جزئياً، فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب، ونقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.

2- الجرائم ضد الإنسانية: أي فعل من الأفعال التالية يرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم: القتل العمد، الإبادة، الاسترقاق، إبعاد السكان أو النقل القسري لهم، التعذيب، السجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، الاختفاء القسري، جريمة الفصل العنصري، واضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية، أو متعلقة بنوع الجنس.

3- جرائم الحرب: وهي الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والانتهاكات الخطيرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية سواء في المنازعات المسلحة الدولية أو غير الدولية أي الحروب الأهلية.

4- جريمة العدوان: لا تمارس المحكمة اختصاصها حالياً على هذه الجريمة لأن أركانها لا تزال قيد النقاش أي بانتظار التوصل إلى تعريف متفق عليه لهذه الجريمة.

الاستفادة من المحكمة فلسطينياً

في ضوء تعريف الجرائم الخطيرة التي تدخل في اختصاص محكمة الجنايات الدولية، يتضح أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قد ارتكبت في هجومها الأخير على قطاع غزة وما سبقه من عمليات عسكرية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد سبق لتقرير غولدستون في العام 2009 أن أشار للأفعال التي تشكل هذه الجرائم. ومن أبرز الأفعال الإسرائيلية التي تدخل في اختصاص المحكمة ما يلي: استهداف المدنيين غير المشاركين في القتال، الهجوم على الأهداف المدنية المخصصة للإيواء كالمدارس ولتقديم الخدمات الطبية كالمستشفيات ومركبات الإسعاف والأحياء والمباني السكنية التي تعرضت لتدمير منهجي واسع النطاق، تدمير البنية التحتية والمواد التي لا غنى عنها لبقاء الناس، منع عمليات إخلاء المصابين وتقديم العون للمنكوبين، الاستخدام المفرط للقوة واستخدام أسلحة تحدث آلاماً لا ضرورة لها، بالإضافة إلى كل ذلك الاستيطان الذي لا يتوقف على مدار الساعة ويعتبر جريمة حرب. أما ممارسة المحكمة اختصاصها في الوضع الفلسطيني فتكون من خلال:

1- الإحالة من قبل مجلس الأمن، عملاً بأحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إلى المدعي العام للمحكمة، كما حصل في موضوع دارفور في السودان. وهذا غير وارد في الحالة الفلسطينية في ضوء التجربة مع مجلس الأمن التي لا تتوفر لديه هكذا نية أو رغبة.

2- أن يباشر المدعي العام التحقيق من تلقاء ذاته في أي من الجرائم المقترفة. تظهر التجربة كذلك انه لا يوجد نية بذلك، وكان بالإمكان أن يمارس هذه الصلاحية في العام 2009 في ضوء النتائج التي توصلت إليها آنذاك لجنة التحقيق المشكلة من قبل مجلس حقوق الإنسان، وهو ما يعرف بتقرير غولدستون.

3- انضمام فلسطين إلى ميثاق روما أو تقديم إعلانٍ يودع لدى مسجل المحكمة تقبل فيه اختصاص المحكمة. وأصبحت هذه الإمكانية متاحة منذ اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو في 29 تشرين ثاني 2012. علماً أنه يتوفر لدى فلسطين أحد الشرطين السابقين لممارسة الاختصاص وهو وقوع الجريمة في إقليمها. من المفيد الإشارة إلى أن فلسطين ومن خلال وزير العدل الأسبق قدمت في العام 2009 إعلاناً تقبل فيه ممارسة المحكمة اختصاصها، لكن المدعي العام السيد أوكامبا، المعروف بانحيازه لإسرائيل، رفض الطلب على أساس أن الوضع الذي منحته الأمم المتحدة لفلسطين هو دولة مراقب لا دولة غير عضو، على الرغم من قبول فلسطين بصفتها دولة كاملة العضوية في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في 31 تشرين أول 2011. بالمقابل، فإن الأمين العام للأمم المتحدة قبل في تموز 2008 انضمام جزر كوك التي هي ليست دولة غير عضو وإنما كيان له صفة حكم ذاتي مع نيوزيلندا منذ عام 1965، علماً أن عدد سكان جزر كوك 25 ألف نسمة تقريباً ومساحتها 265 كم مربعاً.

لا يمكن للمحكمة أن تمارس اختصاصها على أية جريمة ارتكبت في فلسطين قبل 1 تموز 2002 وهو تاريخ بدء نفاذ نظامها الأساسي. وبهذا الخصوص تجدر الإشارة إلى أنه إذا كانت هناك رغبة فلسطينية في أن تمارس المحكمة الجنائية اختصاصاً مستقبلياً، فإنه يترتب عليها الانضمام إلى ميثاق روما ليبدأ الاختصاص بعد ستين يوماً من قبول الانضمام. وفي هذه الحالة لن يشمل اختصاص المحكمة الجرائم التي وقعت سابقاً بما في ذلك في العملية العسكرية الأخيرة على قطاع غزة، وهذا ضروري لتجنب المخاوف المتعلقة بإمكانية المساءلة على أفعال ارتكبت من قبل فلسطينيين. أما إذا كانت الرغبة شمول هذه الجرائم والعودة إلى تموز 2002 فإنه ينبغي تقديم إعلان بقبول الاختصاص خلال تلك إلى حين استكمال كافة إجراءات ومتطلبات الانضمام إلى الميثاق.

ويترتب على انضمام فلسطين إلى ميثاق روما، شأنها شأن أية دولة أخرى، مجموعة من التدابير والالتزامات. ولكن لا بد من الأخذ بالحسبان أهمها:

1- إن فلسطين دولة تحت الاحتلال وان إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال، يقع على عاتقها مجموعة من المسؤوليات والالتزامات طبقا لقواعد القانون الدولي الإنساني وبشكل خاص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين وقت الحرب. فهي المسؤول الأول عن الأمن في الأرض الفلسطينية المحتلة وعن نواحي الحياة الأساسية للفلسطينيين. وعليه، فان المسؤولية القانونية لدولة فلسطين عما يجري في إقليمها هي بالضرورة مسؤولية محدودة، ينبغي أن تتناسب والصلاحيات المنوطة بها. السلطة الفلسطينية لا تتمتع بسلطات سيادية وليس لديها اليد العليا فيما يجري.

2- ملاءمة القانون الفلسطيني مع القانون الدولي والنظام الأساسي للمحكمة، من خلال مثلا تعديل قانون العقوبات ليشتمل على الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمعاقبة عليها أو تضمين القانون الأساسي الفلسطيني نصوصاً بهذا الشأن.

3- التعاون مع المحكمة فيما تجريه في إطار اختصاصها من تحقيقات في الجرائم والمقاضاة عليها. يتحدث النظام الأساسي هنا عن الدولة العضو في ميثاق روما. السؤال المطروح: هل ينطبق هذا التعاون على دولة غير عضو لكنها قدمت إعلاناً بقبول اختصاص المحكمة؟ قد يرى البعض أن الالتزام بالتعاون مع المحكمة يشملها على اعتبار أنها من الناحية الفعلية بمقام العضو. وقد يرى آخرون انه لا يشملها انطلاقا من النص الحرفي للنظام الأساسي الذي تخاطب المادة 86 منه الدولة الطرف.

أما حول إمكانية مقاضاة فلسطينيين فمن المستبعد أن يتم مقاضاتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية للأسباب التالية:

1- عدم انضمام إسرائيل إلى ميثاق روما أو تقديمها إعلاناً تقبل فيه اختصاص المحكمة، وهو أمر مستبعد لأنه يلزمها الانصياع للنظام الأساسي وبشكل خاص ما يتعلق بوقف كافة النشاطات الاستيطانية وإزالة المستوطنات وتعويض المتضررين من إقامتها، ولأن إسرائيل من وجهة نظر المجتمع الدولي دولة احتلال هي المسؤولة عن الأمن والنظام العام وملاحقة مرتكبي المخالفات الجسيمة أو المشتبه بهم، وهي تقوم بذلك حسب رؤيتها ومقاييسها الخاصة وعلى نحو أكثر قسوة من أي قضاء، من اعتقال ومحاكمة آلاف الفلسطينيين وصولا إلى التصفية الجسدية لمئات السياسيين والمقاومين الفلسطينيين.

2- من المستبعد كذلك أن يبادر مجلس الأمن الدولي أو المدعي العام للمحكمة بتحريك هذا الموضوع ضد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، في الوقت الذي امتنع كلاهما عن القيام بذلك ضد إسرائيل الدولة المعتدية والقائمة بالاحتلال على الرغم من مواظبتها على ارتكاب جرائم خطيرة حسب لجان وهيئات ومنظمات دولية حيادية.

3- أية اتهامات توجه ضد أي فلسطيني بشأن ارتكاب مخالفات معينة، فان تلك المخالفات تكون تمت في سياق التصرف المعقول للدفاع عن النفس أو عن آخرين أو عن ممتلكات لا غنى عنها لبقاء الناس، وذلك عملاً بأحكام المادة 31 الفقرة(ج) بشأن امتناع المسؤولية الجنائية.

المخاوف الإسرائيلية

أصيبت القيادة السياسية في الكيان الصهيوني بحالة من الخوف والترقب، بعد قرار الادعاء العام في محكمة الجنايات الدولية فتح تحقيقات أولية في جرائم حرب ارتكبت في فلسطين منذ صيف 2014.

إذ دعا وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان إلى حل السلطة الفلسطينية وإيجاد بديل لها ووقف تمويل محكمة الجنايات الدولية، فيما وصفت تسيبى ليفنى قرار الادعاء العام بالقرار السيئ الذي يضر بأمن إسرائيل.

وفى السياق نفسه، ذكر موقع والا الإخباري أن المدعى العسكري العام الجنرال داني عفروني يتعرض لضغوط من جانب كبار السياسيين وقادة الجيش وأصحاب المصالح بهدف وقف التحقيقات الداخلية التي يجريها الادعاء العسكري حول الجرائم التي ارتكبها الجيش في غزة.

وبانضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية وتوقيع 22 اتفاقية دولية يكون الصراع مع العدو الصهيوني قد اتخذ بُعداً جديداً على المستوى الدبلوماسي والدولي والقانوني والقضائي، وهو ميدان لم يستثمر جيداً من قبل وبعد قيام "إسرائيل" في العام 1948، ولعلّ ذلك أول ما يخشاه المرتكب.

مع هذه الخطوة تكون فلسطين قد اختارت أحد أقوى الأسلحة الدبلوماسية والقانونية، لكنه "سلاح ذو حدّين" كما يقال إلاّ إذا أُحسن استخدامه بصورة فعّالة ومؤثرة، فـ"إسرائيل" على الرغم من انسحابها من نظام روما الأساسي الذي أسس للمحكمة الجنائية الدولية بعد دخوله حيّز التنفيذ العام 2002، هدّدت باستخدام أسلحة مماثلة، وكلّفت مجموعة محامين دوليين متخصصين لدرء الخطر عنها، بل لاتهام السلطة الوطنية الفلسطينية بالإرهاب ومطالبتها بالتعويض المادي والمعنوي، وهو ما أقدمت عليه حين طالبتها بدفع مبلغ 3 مليارات دولار بناءً على قرار محكمة أميركي، بسبب أعمال وصفتها بالإرهاب للفترة بين 2002-2004.

وحتى لو افترضنا إن ذلك يستهدف إثارة زوبعة إعلامية أو قد يكون جزءاً من خطة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لكسب المعركة الانتخابية، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن رد فعل حقيقي إزاء الخطوة الفلسطينية بمقاضاة المرتكبين الإسرائيليين، وهو ما دعا نتنياهو إلى شن هجوم ضد المحكمة الجنائية الدولية متهماً إيّاها بالنفاق مؤكداً عدم امتثال جنود "إسرائيل" لقرارات المحكمة، والأكثر من ذلك اتهم المحكمة بتشجيع الإرهاب الدولي لقرارها بقبول انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة.

لقد حاولت "إسرائيل" وحليفتها الكبرى الولايات المتحدة وضع العصي في عجلة فلسطين لمنعها من السير في هذا الطريق لأنها تدرك مدى خطورته عليها، وقد اتصل نتنياهو بوزير الخارجية الأمريكي جون كيري طالباً منه إحباط قرار المحكمة بالتحقيق بالاتهامات الموجهة إليها، إضافة إلى إلغاء حصتها في تمويل المحكمة، كما توجّه بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى العمل من أجل وقف المعونات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، وكانت "إسرائيل" قد اعترضت على كون فلسطين دولة، وإذا كانت كذلك، فغزة ليست جزءاً منها، لأنها تقع تحت سيطرة الإرهابيين، حسب تبريراتها.

وفي الوقت نفسه لوّحت قوى عديدة، بأن جلب "إسرائيل" إلى القضاء الدولي سيجلب معه حركة حماس أيضاً، بشأن ما قيل عن انتهاكات لقوانين الحرب، ولاسيّما التعرّض للسكان المدنيين، إضافة إلى قواعد القانونين الدولي والإنساني واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وهما اللذان انبثقا عن المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في جنيف للفترة بين العام 1974-1977، والذي تمخّض عن توقيع بروتوكولين الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير الدولية.

جدير بالذكر الإشارة إلى أن السلطة الوطنية الفلسطينية كانت قد طلبت من المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 إجراء تحقيق بشأن "جرائم الحرب" عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة (أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009) وهو المعروف بعملية "الرصاص المصبوب"، ولكن المدعي العام في المحكمة في حينها لويس مورينو أوكامبو وبعد ثلاث سنوات قضاها في النظر بمعطيات الدعوى الفلسطينية، أعلن في العام 2012 أنه لا يمكن للمحكمة النظر في قضية من هذا النوع ما لم تقدّمها "دولة معترف بها"، وذلك قبل أن تصوّت الأمم المتحدة لصالح الاعتراف بفلسطين كدولة مراقب في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012.

قد يكون تأخّر السلطة الفلسطينية للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية له ما يبرّره، وذلك لحين توفر إجماع فلسطيني، ولهذا فإن قيادة الرئيس محمود عباس "أبو مازن" سعت للحصول على تواقيع جميع المنظمات والفصائل الفلسطينية المقاومة، بما فيها حماس والجهاد، وثانياً إن القيادة الفلسطينية بعد أن يئست من احتمال إيجاد حل أو حتى أفق لحل قريب، لجأت إلى هذا الخيار، خصوصاً وإن المفاوضات التي استمرت لأكثر من عقد ونصف من الزمان وصلت إلى طريق مسدود، إذْ كان يفترض انتهاء مرحلة الاتفاق النهائي في العام 1999 حسب اتفاق أوسلو العام 1993 وحلّ قضايا الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين ومشاكل المياه والحدود وغير ذلك.

لكن ذلك لم يتحقّق الأمر الذي قاد إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، بعد أن كانت الانتفاضة الأولى قد بدأت في أواخر العام 1987، وامتدّت لعدّة سنوات ما قبل مفاوضات مدريد - أوسلو. وفي الفترة من العام 1999 ولغاية العام 2015 توالى على البيت الأبيض عدّة رؤساء وعدوا بحلّ الدولتين (كلينتون في العام 1996) وجورج دبليو بوش في أواخر ولايته الثانية (العام 2006) وما بعدها، وأوباما الذي بدأ ولايته بخيار حل الدولتين 2009-2013، لكن "إسرائيل" على الرغم من ذلك ازدادت تعنّتاً وعسفاً مرتكبة مجازر جديدة بحق الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية، مثلما قامت بعدوان ضد جنوب لبنان (عدوان تموز/ يوليو2006) وثلاثة عدوانات على غزّة في 2008-2009 (عملية الرصاص المصبوب) وفي العام 2012 (عملية عمود السحاب) وفي العام 2014 (عملية الجرف الصامد) وهي مستمرة في بناء المستوطنات، وكذلك في عملية تهويد القدس والاعتداء على المقدسات والآثار الفلسطينية.

لقد جاءت الخطوة الفلسطينية إثر رفض مجلس الأمن الدولي مشروع القرار الفلسطيني - العربي، علماً بأن هذا المشروع لا يستجيب لمعيار الحد الأدنى، ومع ذلك فإن مجلس الأمن رفضه مثلما رفضته "إسرائيل" وقد نصّ هذا المشروع على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فترة لا تزيد عن ثلاث سنوات، وستنتهي بنهاية العام 2017، كما دعا إلى اتفاق شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غضون عام.

إن خلفية القرار الفلسطيني تستند إلى ارتفاع وتيرة المطالبة الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب، خصوصاً وأن هناك بعض المنظمات الدولية قامت بتوثيق هذه الجرائم، كما نقلتها أيضاً الشاشات الزرقاء مباشرة يوماً بيوم وساعة بساعة، ولكن "إسرائيل" رفضت إجراء تحقيقات دولية مستقلة وإن وافقت على إجراء بعض التحقيقات الميدانية، لكنها سرعان ما أوقفتها، بل إنها رفضت التعاون مع المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، ونتذكر كيف قامت باحتجاز ريتشارد فولك لمدة 30 ساعة في مطار اللد (مطار بن غوريون)، كما مُنع من أداء مهمته في التحقيق، وهي بذلك لا ترفض الاعتراف بارتكاباتها ضد الشعب العربي الفلسطيني فحسب، بل إنها تزدري الأمم المتحدة وتتنكّر لقواعد القانون الدولي الإنساني، وهو ما يلقي مسؤوليات جديدة على المجتمع الدولي، الذي من واجبه ملاحقة المرتكبين كي لا يفلتوا من العقاب باستخدام جميع الوسائل الممكنة لإرغامهم على الامتثال للعدالة، طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

إن انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية يلقي مسؤوليات جديدة على عاتق (م.ت.ف) والسلطة الوطنية لمتابعة ملف ملاحقة المرتكبين وتقديم دعاوى ضدهم، سواء عبر نظام المحكمة أو عبر القضاء الوطني، كما حصل في بلجيكا سابقاً وفي إسبانيا ضد بن إليعازار (وزير الدفاع الأسبق) وفي بريطانيا حين تمّت ملاحقة تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الأسبق.

إن خشية "إسرائيل" من القضاء الدولي تتعلق أيضاً بعقيدتها السياسية التي تقوم على العنصرية، حيث دانت الأمم المتحدة قبل 40 عاماً الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وعلى الرغم من إلغاء القرار 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975 في 16 كانون الأول/ ديسمبر العام 1991، إلاّ إن ما تقوم به اليوم يزيد على كل ما قامت به خلال تاريخها، وقد ذهبت نحو 3000 منظمة حقوقية ومدنية في مؤتمر ديربن ضد العنصرية إلى دمغ سياستها بالعنصرية، وهذا بحد ذاته سببٌ كافٍ لرفضها الامتثال إلى القضاء الدولي ورفضها قبول فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية.

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) 

اعلى الصفحة