تونس تدخل في عصر الجمهورية الثانية: الواقع والتحديات

السنة الرابعة عشر ـ العدد 159 ـ (جمادى الأولى 1436 هـ) آذار ـ 2015 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

على الرغم من أن تونس بعد أن استكملت بناء مؤسسات الدولة المستقرة، لاسيما بعد انتخاب البرلمان ورئاسة الدولة والمصادقة على الحكومة، وانطلاقها في بناء الجمهورية الثانية وتركيز الهياكل الدستورية بحاجة ماسة إلى رجل دولة قوي يقودها في هذه المرحلة الصعبة من تاريخها..

... فإن النخب التونسية ومعها معظم الأحزاب السياسية تقر بأن السيد الحبيب الصيد رئيس الحكومة الجديدة ليس هو الرجل القوي في زمن الوهن السياسي والارتباك الحزبي، بل إنه يعتبر رجل دولة خبير في إدارة الشأن العام، ومُطلع على الملفات الحساسة كالأمن والاقتصاد، ورجل هذه المرحلة التوافقية، ويقبل تطبيق  التعليمات من دون مجادلة، لأن الرجل القوي في تونس يظل الرئيس الباجي قائد السبسي الراغب في ترك بصمته التاريخية على أنه منقذ تونس في زمن استعادة هيبة الدولة.

الرابحون والخاسرون في الحكومة الجديدة

بعد مخاض عسير، مَنَحَ البرلمان التونسي يوم الخميس 5 شباط الجاري، ثقته لحكومة الحبيب الصيد التي شكلها يوم الاثنين 2 شباط 2015، بغالبية واسعة تجاوزت ثلثي النواب، حيث صوّت 166 نائباً بالموافقة في مقابل رفض 30 نائباً، وتحفّظ ثمانية نواب، فيما تغيّب عن الحضور 13 نائباً. وأدّى أعضاء الحكومة الجديدة القسم يوم الجمعة 6 شباط 2015، أمام رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، قبل أن يتنقّل رئيس الحكومة إلى قصر القصبة لتسلّم مهامه خلفاً لرئيس الحكومة المنتهية ولايته المهدي جمعة.

وتُعدّ هذه الغالبية التي حصلت عليها حكومة الصيد هذه الأعلى مقارنة مع الحكومات السابقة المعروضة على البرلمان منذ اندلاع "ثورة يناير" في العام 2011، حيث حصدت حكومة حمادي الجبالي الأولى 152 صوتاً، تلتها حكومة علي العريض 139 صوتاً، في حين حصلت حكومة الوفاق الوطني برئاسة مهدي جمعة على 149 صوتاً. وأكد رئيس الحكومة الحبيب الصيد أنه سيقوم بمراجعة كل القرارات التي اتخذتها الحكومات السّابقة بخصوص علاقات تونس الدبلوماسية، "وخاصة الملفات المستعجلة كالملف السوري، بالإضافة إلى تسليط الضوء أكثر على الملف الليبي واستعادة التونسيين المختطَفين هناك"، من بينهم الصحفيان سفيان الشورابي ونذير الكتاري. ولفت الصيد إلى أن "الملف الأمني هو من بين أكثر الملفات استعجالاً، وفي هذا الإطار ستُوليه الحكومة الأولوية القصوى عبر وضع إطار تشريعي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال".

ويعتبر السيد الحبيب الصيد الذي سيقود حكومته الجديدة من قصر القصبة، أحد الرؤساء الثلاث في عهد الجمهورية الثانية. ومن المعروف عن رئيس الحكومة الجديدة، أنه كان رئيس ديوان الرجل القوي في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ووزير الداخلية حينها عبد الله القلال، لكن هاهو يجد نفسه الآن مع بداية الجمهورية الثانية كواحد من بين الرؤساء الثلاثة الأقوياء، في دولة مازالت تبحث عن رجل قوي بالفعل، يقودها ويعيد لها تألقها وهيبتها.

وكان للقاء الذي جمع بين الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي في باريس يوم 13 أغسطس 2013، هو الذي رسم المشهد السياسي التونسي الراهن، وهو أيضا الذي أسس وشكل المرجعية الحقيقية للشراكة في الحكم بين النداء والنهضة، والباقي تفاصيل في السياسة. فتونس محكومة بقرار إقليمي ودولي- لاسيما أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد مشاركة النهضة في الحكومة -  إلى أن يتم إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في عهد الجمهورية الثانية. فالشيخ راشد الغنوشي كان يريد مشاركة حركة النهضة في الحكومة الجديدة، من أجل تخفيف الضغوطات عليه من داخل حركته، وفي سبيل بقائه على رأس الحركة في مؤتمرها القادم!!.

وفي المقابل فإن الباجي قائد السبسي مقتنع تمام الاقتناع بصعوبة و"عسر" المرحلة القادمة من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ومن "السذاجة" بالنسبة إليه أن يحمل حزبه "وزْر" تلك الأيام القادمة، ومن مصلحته أن يحمل معه تلك "الأوزار" طرف آخر له ثقله في الشارع حتى لا يُنعت حزب نداء تونس بالفشل، مثل سابقيه!! و يريد الباجي قائد السبسي تحقيق المصالحة الوطنية، باعتبارها مطلباً ملحا للدساترة و التجمعيين الذين ينتمون إلى النظام السابق، و الذين يشكلون العمود الفقري  لحزب"نداء تونس"، وأوصلوه إلى قبة البرلمان في الانتخابات التشريعية الأخيرة، و"أوصلوا" أيضاً قائد السبسي إلى "أمنية العمر" وهي كرسي الرئاسة بقرطاج. فالدستوريون والتجمعيون يريدون قانون "المصالحة الوطنية"الذي لن يمر إلا إذا كانت النهضة مشاركة في الحكم،  لكي يضعوا حدّاً للمضايقات والتتبعات والتجميد والتجويع والشيطنة التي تعرضوا لها منذ أربعة أعوام كاملة.

ويهيمن على تشكيل الحكومة الجديدة الائتلافية بقيادة الحبيب الصيد، والتي تضم 27 وزيراً و 14 كاتب دولة(وزير دولة) بينهم 8 نساء (3 وزيرات و 5 كاتبات دولة)،حزب "نداء تونس" الذي أسسه السيد الباجي قائد السبسي، الفائز في الانتخابات التشريعية (86 مقعداً)، إذ حظي بـ6 وزارات بينها الخارجية التي تم إسنادها إلى الطيب البكوش، الأمين العام للحزب. وتم إسناد وزارات الداخلية والعدل والدفاع إلى شخصيات مستقلة ظاهريا، وليس لها انتماءات سياسية معلنة. وحصلت حركة "النهضة" التي احتلت المرتبة الثانية في الانتخابات (69مقعداً) على وزارة التشغيل و3 كاتبات دولة (وزارات دولة). حيث أن المهم بالنسبة إليها ليس عدد الكراسي وعدد الوزارات التي حصلت عليهم، وإنما كسر هذا التقليد المسموم.. تقليد تحالف اليسار والدساترة على الإسلاميين، من أجل صناعة مشهد جديد.. مشهد لا يكون فيه الإسلاميون ضحية. وتعتبر حركة النهضة من أكبر الرابحين في تشكيل حكومة الحبيب الصيد، إذ استطاعت أن تفرض إرادتها، وحققت شروطها، وعادت بقوة إلى الحكومة الائتلافية مع أهم خصومها السياسيين، حتى و إن كانت مشاركتها في الحكومة "رمزية". فحركة النهضة لم تقبل بتلك المشاركة الرمزية إلا بعد أن اشترطت موافقتها على كل الوزراء، وتحييد ثلاث وزارات سيادية، هي: العدل والداخلية والدفاع.

وشارك في هذه الحكومة الجديدة أيضاً كل من "حزب الاتحاد الوطني الحر" (ليبرالي) الذي أسسه في 2011 رجل الأعمال الثري سليم الرياحي، والذي حصل على نحو 16 مقعداً في الانتخابات الأخيرة وحل ثالثاً. وعلى الرغم من محدودية تمثيل حزب "آفاق تونس" الليبرالي في البرلمان،الذي حل خامساً بنحو (8 مقاعد)، فهو يعتبر الحزب الثاني  في ترتيب الرابحين، إذ توصل بفضل حنكة قيادته المرتبطة بالمؤسسات الدولية المانحة، و التي تطرح تطبيق الليبرالية المتوحشة، أن يحصل على ثلاث وزارات مهمة، وهي التنمية و الاستثمار و التعاون الدولي(ياسين إبراهيم الأمين العام للحزب)، والمرأة والأسرة والطفولة، والاتصال والاقتصاد الرقمي. فيما لم يتمثل حزب "الجبهة الشعبية" اليساري (15 مقعداً) الذي حل رابعاً في الانتخابات التشريعية في الحكومة. وكانت "الجبهة الشعبية" أعلنت في وقت سابق، رفضها المشاركة في أي حكومة تكون حركة "النهضة" جزءاً منها.

أما الجبهة الشعبية فقد أعلنت مسبقاً وعلى لسان ناطقها الرسمي، أنها لا يمكن  أن تصوّت لحكومة فيها وزراء ممن عملوا في نظام بن علي الذي ثار ضده الشعب أو في ائتلاف الترويكا الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار. وفضلاً عن ذلك، لن تصوت "الجبهة الشعبية" لحكومة لا يحتوي برنامجها المباشر على الأقل على إجراءات ملموسة لفائدة الشعب في مجالات الأسعار والأجور والدخل والأمن وكذلك إجراءات للبحث عن الحقيقة في قضية الشهداء بمن فيهم شهداء الجبهة الشعبية الذين ستحيي في الأيام القليلة القادمة الذكرى الثانية لاغتيال أحدهم وهو الشهيد شكري بلعيد زعيم "حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد" وأحد أبرز قيادات الجبهة الشعبية.

الإرهاب والاقتصاد أكبر التحديات

يجمع المحللون الملمون بالشأن التونسي أن التركيبة الحالية للحكومة الجديدة لا تمثل الخيار الأمثل لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، ولاسيما في شقها المتعلق بمحاربة الإرهاب، فالذي تبوأ مركز القيادة في وزارة الداخلية، وهي وزارة سيادية بامتياز، وحسب آراء القوى السياسية الديمقراطية في البرلمان التونسي هو تجمعي من المنظومة القديمة، وكان من القضاة الحاضرين في الانقلاب على جمعية القضاة، كما تعرض للعقاب والطرد من المواطنين بعد الثورة، وتم تعيينه في منصبه والياً من قبل السيد الباجي قائد السبسي في حكومته الأولى وكان طيعاً للنهضة.وقد تذهب بعض التحاليل إلى الإقرار بوجود محاولة ولو جزئية لتحييد أهم وزارات السيادة،على الأقل بعض وزارات السيادة المحورية لدى حركة النهضة كالداخلية والعدل نظراً لعلاقتها بمسألة المحاسبة على أخطاء المرحلة الانتقالية، ولاسيما فيما يتعلق بالملفات الحارقة في صلب وزارة الداخلية: الإرهاب و تشجيع ما يسمى بـ"المجاهدين" للقتال في سورية، ومنها أيضاً العلاقة مع النقابات الأمنية وموضوع الأمن الموازي وإصرار عديد الكوادر الأمنية والنقابية على وجود اختراقات في وزارة الداخلية. ويتساءل هؤلاء المحللون: كيف سيتمكن وزير الداخلية الجديد من التعاطي مع جملة الملفات المعروضة عليه في ظل بوادر اعتراض على ترشيحه بلغت حدّ التشكيك في شخصه وفي انتماءاته؟

وكان أقوى تصريح معارض لشخص وزير الداخلية المقترح صدر عن القاضية كلثوم كنو التي ترشحت في الانتخابات الرئاسية، إذ قالت: "وزير الداخلية ناجم الغرسلي أسوأ اختيار قام به رئيس الحكومة، إنه قاض غير مستقل لعب أدواراً قذرة في السابق. وهو من الانتهازيين ولا أثق فيه أبدا ولا أطمئن لأدائه فهو من جماعة قلابة الفيستة (الجاكيت).." على حد تعبيرها.

في مواجهة هذا الوضع يتساءل المدافعون عن أهداف الثورة التونسية: ماذا نقول للأجيال التي ناضلت من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وحرية التعبير والتفكير وإرساء قواعد التعامل الديمقراطي وتكافؤ الفرص في الدّولة والأحزاب، ورفعت شعارات فصل الحزب عن الدولة، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وترسيخ مفهوم دولة القانون والمؤسّسات أي كل التقاطعات والشعارات والأحلام الموءودة التي طفت إثر 14 كانون الثاني2011 وامتزجت بشعار الكرامة الوطنية كي تصبح رايات لبناء مستقبل البلاد والحفاظ على المكتسبات الّتي حقّقتها الأجيال السّابقة، فأين ربيع الشعارات الّتي حملتها الأجيال، بعد سنوات أربع في ربوع تونس والّتي تجمّعت كلّها حول بناء أسس الجمهورية الثانية؟.

وعاد من جديد موضوع استمرار ذهاب آلاف الجهاديين للقتال في سورية ليحتل المشهد السياسي التونسي بعد تشكيل الحكومة الجديدة التوافقية  برئاسة السيد الحبيب الصيد، الأمر الذي أثار تساؤلات كبيرة حول معنى قدوم شباب تونس إلى هذا البلد العربي، ليلقوا حتفهم في محرقة الموت؟ وما هي القضية التي يدافعون عنها؟ فالتقديرات في تونس تقول أنّ  بين 1900 و3 آلاف تونسي ذهبوا للقتال في سورية، لتصير تونس واحدة من أكبر مصدّري الإرهابيين الأجانب إلى  سورية.

وفي مقابلة مع صحيفة "التونسية" الصادرة يوم الخميس 29 كانون الثاني 2015، قال السيد رضا صفر الوزير المعتمد لدى وزير الداخلية المكلف بالملف الأمني: إنّ العدد الجملي للجهاديين التونسيين يبلغ حوالي 2800 جهادياً في سوريا، 1608 جهادي تونسي ما زالوا هناك بعد مقتل حوالي 600 وعودة  حوالي 568 إلى تونس وقد تمت إحالة بعضهم إلى القضاء أمّا البعض الآخر فهم تحت المراقبة  الأمنية. وينتمي حوالي 90% من الجهاديين التونسيين إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وبأعداد رهيبة والأسباب تعود إلى أن تنظيم "داعش"يقدم تجسيماً فورياً للمشروع (أرض وقوة وغنائم وسبايا) عكس مشروع تنظيم "القاعدة" الذي يتم تجسيده على مراحل متباعدة. ويعتبر تنظيم "داعش" أخطر من "القاعدة" لأنه يعتمد على الغرائز وهو دموي أكثر ويوفر حلولاً سريعة للشباب الذي يعاني من الكبت الجنسي ونقص الأموال والاندفاع والعدوانية. وهذه هي أسباب الانسياق الكبير للشباب نحو هذا التنظيم.

وفي يوم 11 أكتوبر2014، نشرت صحيفة "الواشنطن بوست "خارطة تبين الأصول المختلفة للإرهابيين الأجانب الّذين التحقوا بصفوف التنظيمات الإرهابية والتكفيرية السورية، لاسيما تنظيم "داعش"، فاحتلّت تونس صدارة مصدّري الجهاديين (3000 شخص) تليها السعودية (2500) والأردن (2089) والمغرب (1500) ولبنان (890). وقد ساهمت الـ CIA وSoufan Group ـ مؤسسة أنشأها علي صوفان موظّف سابق في الـ FBI بغية توفير "معلومات أمنية وإستراتيجية للحكومات والمنظّمات الدولية"، في إعداد التقرير الذي يحمل توقيع ريتشارد برات الدبلوماسي ورجل المخابرات البريطانية السابق.

ففي عهد حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة عاشت تونس سنة سوداء في 2013، اغتال الإرهاب التكفيري قياديين بارزين من المعارضة اليسارية والقومية، وسقط العديد من الشهداء في صفوف الأمنيين والجيش والدرك الوطني، وتطور الفكر الجهادي بشكل سريع نحو ما يسمى "الجهاد المسلح" وتغلغل في النسيج المجتمعي التونسي فعُقِدَت مؤتمرات "أنصار الشريعة" في سنة 2012، وسنة 2013، والحكومة تتفرج مثلما هو الحال عند مهاجمة السفارة الأمريكية وحرقها(14 سبتمبر 2012). وبالنظر لتنامي هذه الظاهرة الإرهابية لم تتمكن الحكومات المتعاقبة والمخابرات الأمنية(التونسية) لم يتمكّنوا حتى الآن من الحدِّ من هذه المغادرات الضخمة للجهاديين التونسيين للقتال ضد الدولة السورية، والسبب في ذلك، هو التواطؤ من قبل جهات سياسية نافذة، وأمنية موازية.

الامتحان الحقيقي للحكومة الجديدة يتمثل في قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية التي تعاني منها تونس، فهل ستقدم الحكومة الجديدة "حلولاً سحرية" للأزمة الاقتصادية الناجمة بصورة رئيسة عن وصول الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائداً منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن إلى مأزقه الأخير مع اندلاع الثورة، الأمر الذي بات يتطلب من حكام تونس الجدد، انتهاج خيار جديد من التنمية قادر على تحقيق نسب نمو مرتفعة، لا يدفع  المواطن البسيط فاتورته من "دمه".

لكن المراقب للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح أن الأطراف الأساسية التي تتكون منها هذه الحكومة الجديدة، تتبنى نهج الليبرالية، وتالياً فإن الحكومة الجديدة موضوعة – على الرغم من إرادتها- أمام خيارات صعبة، ولاسيما فيما يتعلق بتطبيق الإصلاحات الهيكلية التي تشترطها المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) لمعالجة الواقع الاقتصادي التونسي. فالحكومة الجديدة ستسير في نهج الليبرالية  الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في النهج الاقتصادي نفسه، ومنوال التنمية نفسه اللذين سارت فيهما معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى كانون الثاني 2015، بصرف النظر عن طبيعة النظام التي اشتغلت  تحت لوائه هذه الحكومات المتعاقبة... وهذا النهج الاقتصادي القديم – الجديد يتناقض بصورة جذرية مع أهداف الثورة التونسية المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وانتهاج تونس أنموذجاً جديداً للتنمية يحمي القدرة الشرائية للمواطن، ويسمح بتكوين الثروة، وتطبيق مبادئ السوق الاجتماعي، وإنقاذ البقية الباقية من الطبقة المتوسطة عماد أي اقتصاد قوي في العالم. أنموذج من التنمية جديد قادر على إخراج تونس من الوضع الاقتصادي المتأزم، ويكون قادراً على مواجهة "غول" الفقر الذي بات يضرب الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.

خيبة أمل الطبقة المتوسطة والبحث عن البديل

صوتت الطبقة المتوسطة التونسية بقوة لمصلحة "حزب نداء تونس" في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولزعيمه السيد الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها، لقناعتها بأن المكسب الوحيد للثورة التونسية الذي تحقق في عهد حكم الترويكا بقيادة حركة "النهضة "الإسلامية، هو تعميم الفقر والبؤس على الغالبية العظمى من الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، ولاعتقادها أيضاً أنه الحزب الأوفر حظاً على إلحاق الهزيمة بمشروع الإسلام السياسي، الذي عبد الطريق لاستيطان الإرهاب التكفيري في تونس، وبث الرعب والخوف في نفوس التونسيين من تغوّل الإسلام السياسي. من هنا، يبدو جلياً أن الطبقة المتوسطة في تونس التي انحازت بقوة لـ"حزب النداء" وزعيمه في الانتخابات التشريعية والرئاسية، تشعر الآن بالإحباط الشديد، بسبب مشاركة حركة النهضة في الحكم، ومن جراء البرنامج الليبرالي للحكومة الجديدة، وهذا ما يجعل هذه الطبقة المتوسطة، الآتي تشكل العمود الفقري لأية تنمية حقيقية في البلاد، ولإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، تبحث عن حزب جديد قادر أن يعبر عن تطلعاتها وطموحاتها. فهل تمتلك الجبهة الشعبية القدرة السياسية والفكرية الحداثية، والمشروع الوطني الديمقراطي، لكي تجلب إليها الطبقة المتوسطة التي طحنتها العولمة الليبرالية؟.

لا تزال الطبقة المتوسطة التونسية بمختلف شرائحها تقف في صلب جميع الاستراتيجيات السياسية للأحزاب التونسية، لاسيما في حالات الأزمات التي تعيشها البلاد(تحديات الإرهاب والأزمة الاقتصادية والاجتماعية)، تتراوح مواقفها بين التضامن مع الطبقات الشعبية والتحالف مع البورجوازية الكبيرة. وقد شهدت هذه الكتلة المتنافرة ذات الدوائر غير المحدّدة تغيّراً جذرياً في صورتها: ففي الخيال الشعبي، حلّ الشاب خرّيج الجامعة ومتصفّح الانترنيت محلّ الملاّك الصغير ذي الأفق الضيّق. ومن النضالات ضد الاستعمار إلى الثورة التونسية، كانت الطبقة المتوسطة حمّالة للمشاريع الوطنية والتقدمية إلى الأمام.

ومع تفاقم أزمة الديون الخارجية  التونسية في نهاية العقد الثاني من الثمانينيات وجدت البلاد التونسية نفسها عاجزة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فلم تجد من سبيل لها سوى تطبيق برنامج التكيف الهيكلي للاقتصاد الذي فرضه صندوق النقد الدولي على كل بلدان العالم الثالث، والذي يستند من حيث الأساس النظري على فلسفة الليبرالية الجديدة التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة، وهي: السوق هي الخير... والدولة هي الشر. فانخرطت الطبقة المتوسطة التونسية في العولمة الليبرالية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث جنت البلاد ثروات جلبتها تلك العولمة، واستفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، وحلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين من يحمل شهادات جامعية إلى مستويات غير مسبوقة (250 ألف جامعي عاطل عن العمل)، وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب، وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة، وأهمل أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيو/ليبرالية الجهات والمناطق. وتجاهل النظام الديكتاتوري السابق وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر الخ..

وليس عجيباً أنه في ظروف سيطرة الرأسمالي الأجنبي، والاستعمار الاقتصادي والسياسي على تونس، أن يستلزم تشكل وظهور الطبقة البرجوازية الطفيلية طحن الطبقة المتوسطة. وفي الحقيقة التاريخية لا يجوز أن نُحمّل العولمة الليبرالية  المسؤولية الكاملة في تدهور أوضاع الطبقة المتوسطة في تونس، ذلك أن جانبا من هذا التدهور حصل بالفعل إبان الأزمة الاقتصادية التي سبقت الموافقة على تنفيذ برامج الإصلاح الهيكلي. ولما كانت الطبقة المتوسطة طبقة غير متجانسة على صعيد شرائحها المختلفة بسبب التفاوت الواضح في مستويات دخولها و مستويات معيشتها ووزنها الاقتصادي و الاجتماعي ووعيها الطبقي، فإن سياسات العولمة الليبرالية الجديدة قد أثرت على شرائحها بشكل متباين لجهة السقوط الاجتماعي المفاجئ كما هو الحال في تونس بعد الثورة.

سيطرة الاقتصاد  الموازي

في حكومات الترويكا تراجع الاقتصاد التونسي بشكل مخيف، حيث وصل معدلات التضخم إلى نسبة 5.6%، وانهار الدينار أمام الدولار الذي أصبح يساوي 1.9 دينار، لاسيما أن العملة الوطنية هي عبارة عن مرآة للوضع المالي والاقتصادي لأي بلد وباعتبار صعوبة الأوضاع المالية والاقتصادية في تونس فان النتيجة الحتمية أن تتدهور قيمة الدينار مما يجعل عملية الاستثمار مكلفة. كما وصلت البطالة إلى نحو مليون عاطل عن العمل، وارتفعت الأسعار بمستوى غير مسبوق، في مقابل ارتفاع نسبة من وقعوا تحت خط الفقر31%، وتدنت قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، في الوقت الذي كانت الدولة التونسية تتفاخر بأنها تمتلك أحسن إدارة ذات كفاءة عالية على صعيد العالم العربي والإسلامي. ولاشك أن التهرب الضريبي له انعكاسات سلبية على الاقتصاد التونسي وخصوصاً على مداخيل الدولة، لاسيما إذا علمنا أن 70% من مداخيل الدولة متأتية من الأداءات الموظفة على الأجراء بينما لا تدفع مؤسسات بعينها ـ على الرغم من أرباحها الضخمة ـ ما يوظفه القانون من أداءات، إضافة إلى أنه من جملة 3.8 مليون نشيط نصفهم ينتمون إلى الاقتصاد الموازي (التهريب) غير المنظم وهي خسارة أخرى للخزينة.

ويحتكر الاقتصاد الخفي 53.50% من السوق التونسية، حسب دراسة نشرها البنك الدولي خلال السنة الماضية عن تونس. ويضم في تركيبته فروعاً من النشاط من الباعة المتجولين في أسفل الهرم إلى الشركات غير المقيمة(الأوفشور)، والشركات المصدرة كلياً (تسوق جزءاً من إنتاجها في السوق المحلية بشكل غير قانوني) والتي تستنزف بشكل كبير رصيد تونس من العملة الصعبة في ظل مرونة عجيبة من القانون التونسي.. ولكن في قمة الهرم يتربع بعض المتنفذين، الذين يتقاسمون مناطق النفوذ والنشاط.

ويمثل الاقتصاد الخفي حسب الدراسة المشار إليها 38% من الناتج الداخلي الخام، ويحتكر 42.2% من اليد العاملة في شكل تشغيل هش، وثلث النسيج المؤسساتي (مؤسسات صغرى يبلغ عددها 52400 وحدة حسب بيانات السجل التجاري). وينشط الاقتصاد الخفي في مجال الاحتكار، إذ تقدر القيمة الإجمالية لحصته من المداخيل من هذا الباب بأكثر من 30%، باعتبار أن زيادة الأسعار لأكثر من عشرين مادة أساسية قد بلغ معدلها سنة 2012، 27%. ويحتكر الاقتصاد الخفي  حسب تقديرات الخبراء 35% من التداولات المالية في تونس، كما أنه من المؤكد أن دوائر متنفذة مالياً وسياسياً تقف وراءه وتحميه وتوفر له الغطاء المناسب سياسياً وأمنياً وحتى إعلامياً. ويقدر معدل النزيف من الموارد المالية حسب بيانات البنك المركزي التونسي خلال الأربع السنوات الأخيرة بين 4200 مليون دينار إلى 4700 مليون دينار. هذا النزيف يتحول جزء منه إلى الفراديس الضريبية، لاسيما سويسرا، حيث تبين الإحصائيات أن حجم تناقص رصيد تونس من العملة الصعبة التي تتداول داخل منظومة البنوك التونسية بلغت سنوياً 11268 مليون دينار(باعتماد سعر التحويل). وتدل هذه الأرقام أن معدل تبييض الأموال أو رسكلتها في تونس ناهز قيمة 2150 مليون دينار سنوياً، باعتماد تدقيق وتحليل معطيات الوضع النقدي وتغييرات مؤشراته العامة. ويتهرب الاقتصاد الخفي من دفع الضرائب للدولة التونسية، بما أن تسويق سلعه تتم عادة خارج الإطار القانوني، إذ إن العائد الجبائي للاقتصاد الخفي لا يتجاوز 1.70% (مذكرة تنفيذ ميزانية الدولة عن سنة 2014 الصادرة في شهر يناير 2015). أما كتلة الأجور في الاقتصاد الخفي من إجمالي المداخيل، فهي لا تمثل سوى 1.45%. كما لا تسهم منظومة الاقتصاد الخفي  إلا بنسبة 7% من القيمة المضافة الاقتصادية العامة( باعتماد سنة 2011 كنموذج). وتستخدم الموانئ كممر رئيس للتهريب، إذ إن 80% من التداولات تتم عبر الموانئ، بينما 20% تتم عبر المعابر الحدودية الليبية والجزائرية. ويقتصر ريع مداخيلها على عائلات المناطق الحدودية.

ويلمس المراقب للمشهد السياسي التونسي بوضوح أن الحكومة الجديدة التي ستسير في نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في النهج الاقتصادي نفسه، ومنوال التنمية نفسه اللذين سارت فيهما معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى كانون الثاني 2015، سيزيدان في إفقار الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة. ومن هنا، يبدو جلياً أن الطبقة المتوسطة في تونس التي انحازت بقوة لـ"حزب النداء" الذي قدم نفسه على أنه حامي المشروع الوطني الحداثي في تونس،  تبحث في الوقت الحاضر بعد خيبة أملها بسبب إشراك حركة النهضة في الحكم، وهيمنة التوجه الليبرالي للحكومة التونسية على صعيد الاقتصاد، تبحث عن حزب جديد قادر أن يعبر عن تطلعاتها وطموحاتها. فهل تمتلك الجبهة الشعبية القدرة السياسية والفكرية الحداثية، والمشروع الوطني الديمقراطي، لكي تجلب إليها الطبقة المتوسطة التي طحنتها العولمة الليبرالية؟.

عودة التحالف بين الطبقة المتوسطة و الطبقات الشعبية

على الرغم احتدام الأزمة الاقتصادية في تونس، فإن معوّقات التحالف بين الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة تبقى هي نفسها. فالرهبة التي تثيرها عند شرائح الطبقة المتوسطة مشاريعٌ يعتبرونها راديكالية جدّاً – لاسيما من اليسار، أي تلك التي تهدّد مثلاً الملكية الخاصة أو أهميّة الادّخار - تبدو وكأنّها تشكّل دائماً معطى لا يتغيّر. لكن في مراحل الأزمات الحادة، تشجّع الخشية من الانحدار الطبقيّ بالنسبة للطبقة المتوسطة، لاسيما عندما تبدو يبدو الحكومة التونسية الجديدة عاجزةً إزاءه (هذا عندما لا يكون هي أصلاً مهندسها بشكلٍ مباشر)، تشجّع التحالفات أو اللقاءات بين الطبقات الشعبية والطبقة المتوسطة حول أهداف الإنقاذ العام للثورة التونسية، والتمسك بتحقيق أهدافها، خاصة في مجال بناء اقتصاد وطني منتج، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وبدلاً من درسٍ عن الواقعية محبطٍ قليلاً، تقدّم دراسة التجارب الماضية إذن عدداً من المفاتيح التي تساعد في تحديد شروط نجاح تحالفٍ من هذا النوع، سواءً أكان اجتماعياً (مصالح اقتصادية مشتركة نسبياً) أو سياسيّاً (رغبة الأغلبيّة من المجتمع التونسي في طرد اليمين بشقيه الليبرالي والديني). وللمفارقة، فإن تشدّد الفوارق بين الطبقات، وانقطاع الحركيّة الاجتماعية، والطابع الأكثر أقليّة للنخبة التي تسيطر على الدولة دون الانشغال بمصير الشعوب، كلّ هذا من شأنه أن يشجّع على وحدة مصالح، كثيراً ما أسقطها التاريخ.

في الواقع التونسي لا تزال القيادات اليسارية المتنفذة داخل الجبهة الشعبية سجينة الأطروحات الماركسية التقليدية، ولم تطور خطابها لكي يلامس مسائل العصر الحديث، عصر العولمة الليبرالية، لاسيما في المهمة المركزية الملقاة على اليسار والمتمثلة في توفير مقومات بناء جبهة ديمقراطية واسعة يكون عمودها الفقري الطبقة المتوسطة - لا "جبهة شعبية" ذات طابع يساري ضيق- تشكل نوعاً من الكتلة التاريخية التي تهدف إلى منع اليمين الليبرالي واليمين الديني، من الهيمنة على مقدرات البلد و دفع البلاد نحو ثنائية موهومة لن تنتهي إلا بتحالف جديد، أو لنقل تقاسم السلطة بين حركة النهضة وحزب نداء تونس.

لذلك لا تزال الطبقة المتوسطة المطرودة من السلطة بصفتها الاجتماعية،والفئات الشبابية المهمشة، والعمال والفلاحون هم القوى الاجتماعية المؤهلة لحمل المشروع السياسي الديمقراطي في زمن الثورة التونسية المغدورة، على الرغم مما أصابها من ضعف وتهتك. لذلك لابد أن تتصدى الطبقة المتوسطة باعتبارها تشكل العمود الفقري للمجتمع التونسي على وهنها، وكتلة الانتلجنسيا لقيادة المشروع الوطني الديمقراطي، وعلى مدى نجاحها في إعادة إنتاج وعي سياسي حديث ديمقراطي، وعلى مدى جسارتها، تستطيع أن تستقطب العمال والفلاحين والفئات المهمشة لمصلحة تحقيق تحالف ديمقراطي، ومن أجل تحقيق أهداف الثورة، في بناء الدولة الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.

اعلى الصفحة