|
|||||||
|
بلغت الجمهورية الإسلامية في إيران ستة وثلاثين عاماً من عمرها الزمني الفيزيائي.. ولكنها بلغت أكثر من ذلك بكثير على صعيد عمرها العقلي، وعلى صعيد فعلها وإنتاجها وتنميتها البشرية على الرغم من العراقيل والصعاب والعقوبات والتحديات... وهنا نسأل: ما الذي يمكن أن تقوله الذاكرة الحية، ويقوله حساب الزمن في عمر الجمهورية وهي تحتفل بذكرى انتصارها السنوية؟!.. والذاكرة في هذا المحل تشبه ما ذهب إليه "برغسون" من الدفق الحيوي للروح، ويصبح معها عمل المؤرخ السياسي أو الذاكرة التاريخية، دور تحويل هذا الكيف من الدفق الحيوي للروح إلى كمٍ متراكمٍ من الأعمال والسياسات واستراتيجيات التطبيق الفاعل، في حقول الحياة العامة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والعلمية، لتكون محل فحصٍ وتدقيق واختبار لكل صاحب علم في موضوعه وميدان علمه، يشغّل فيها مناهجه وأدواته وتقنياته، يستخلص النتائج ويقدّم محصلتها العامة. من هنا، وفي أجواء الانتصار المهم والكبير الّذي حقّقته الثّورة.. لا بد لنا من حديث مقتضب حول الخلفيّات المؤسِسة الّتي حفّزت الشعب الإيراني المسلم صاحب الحضارة الإنسانية والتاريخية العريقة على القيام بثورته، ومجمل التداعيات والتأثيرات الكبيرة لها في المنطقة والإقليم، وحتى على مستوى العالم ككل، وما امتازت به قيادتُها من خبرة وحنكة سياسية، خاصة على صعيد المواجهة ضد قوى الهيمنة والاستكبار العالمي. كلنا يعرف بأن إيران - في المرحلة السّابقة على الثّورة، أي مرحلة الاستتباع والوصاية الشاهنشاية - كانت واقعةً تحت الوصاية والنّفوذ الأمريكي بالكامل، بحيث كانت الإدارة الأمريكيّة تستخدمها وتستثمرها في مجمل مشاريعها ومخططاتها الأمنيّة والاقتصادية الخاصة بالمنطقة، كما جرى عندما دخلت "إيران-الشاه" في حلف بغداد، إلى جانب تركيا وباكستان، في مواجهة الحركة القوميّة النّاشئة في العالم العربي في حركة الثّورة المصريّة بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد النّاصر، إضافةً إلى اعترافها بإسرائيل اعترافاً واقعيّاً بطريقة دبلوماسيّة خاصة، وكما ظهر أيضاً في تحرّكها مع المخابرات المركزية الأمريكيّة ضدّ أكثر من دولةٍ في المنطقة وفي العالم، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي السابق، لتنفيذ المشاريع والمؤامرات الأمريكيّة سياسياً وأمنياً.. وفوق ذلك أيضاً كان التحرّكُ الداخليّ على أساس سيطرة النظام الدكتاتوري "الشاهنشاهي" الّذي كان يقهر القوى الشعبية الحرّة، ويضغط لتحويل إيران إلى دولة مرتبطة فقط بالتاريخ الإمبراطوري الفارسي الممتد زمنياً حتى آلاف السنين، إلى غير ذلك من الانحرافات المتعدّدة زمن الشاه طبعاً. وقد انطلق الشّعبُ الإيرانيّ الصديق ليعيدَ إيران إلى معادلتها الحضارية التاريخية، إلى عمق الأمّة الإسلامية، إلى حاضنتها الشعبية، إلى قلب معادلة القوة، إلى مصالحها "الجيو/إستراتيجية" الحقيقية مع محيطها الطبيعي العربي والإسلامي، وذلك من خلال شعوره (شعور هذا الشعب المسلم المنتمي إلى خط وفكر ونهج أهل بيت رسول الله(ص)) بالمسؤوليّة التاريخية الكبرى تجاه الأمّة، وتجاه قضاياها المصيرية، وعلى رأسها قضيةُ فلسطين، وقضايا التحرر الوطني من ربقة الوصايات الدولية. .. وعلى مستوى تأثير الثورة الإسلاميّة في المنطقة، وفي الحركات الشعبيّة المقاوِمة، فقد لاحظنا كيف أدخلتْ هذه الثورة المنطقةَ في ما يشبه الـ"زلزال السياسيّ"، الذي استطاع أن يتركَ تأثيره السلبيّ على مجمل حركة وسلوكية ومخططات السياسة الأمريكيّة والربية عموماً، ويَهُزَّ الدّولَ المتحالفة معها، بالطّريقة الّتي أخافت القائمين عليها من امتداد الثورة إليها، مما أطلقوا عليه عنوان "تصدير الثّورة". لقد أطلق الإمام الخميني نداءَ الثورة ضد الظلم والطغيان والتجبّر، وبدّد حاجزَ الخوف والخنوع، ونسفَ مقولات الهيمنة ومعادلات السيطرة والتحكم التي كانت سائدة في المجتمع الإيراني زمن الشاه المخلوع، وبشّر بالحرية والتحرر والاستقلال، وقاد الجماهير المضطهدَة المظلومة ليحققَ واحدةً من أعظم ظواهر عصرنا الحاضر وأكثرها دهشة وإعجاباً. وفي ظني ما كان ذلك ليتحقق لولا التوفيق والتسديد الإلهي، وأيضاً لولا هذا الاندماج والتلاحم المصيري والانسجام المتقابل بين "عقل الإمام وقلب الجماهير"، فكانت "الثورة تفكر بعقل القائد، وتعشقُ بقلب الناس". ولا يخفى أنّ مجردَ وجود قائد للثورة قد لا يكون سبباً للنصر، حيث أنه في الوقت الذي لعب عنصر القيادة دوراً مصيرياً في انتصار الثورة الإسلامية، كان هناك عناصر أخرى مهمة للغاية، ساعدت -جنباً إلى جنب مع القيادة والكاريزما الفذة لشخصية الإمام الخميني- في انتصار الثورة.. وهي عناصر: الإيمان الحقيقي، وشجاعة الجماهير وتضحياتها، وأيضاً سلميتها ومدنيتها. ومن جانب آخر، فإنّ الطرح النهضوي الحضاري في خطابات الإمام الخميني (الذي أثار قضية تحريك طاقات الأمة واستنهاضها وتحررها من قبضة الارتهان للاستكبار) حرّك المسألة الإسلاميّة العامة باقتدار وتقوى، وأثار القلق في العالم الغربي كله من خلال البحث عن هذا النوع من الوعي الديني الحضاري التحرري السلمي: - البعيد عن العنف والسلاح والعسكرة. - البعيد عن الأصولية والإرهاب ومفاعيل القوة والعنف. - البعيد عن ثقافة الذبح والجهاد العنفي. - البعيد عن ثقافة ونهج قتل الأبرياء باسم الدين... هذا الإسلام "الثوري التحرري النضالي" الّذي انفتح على مواجهة أعداء الأمة العربية الإسلامية (وليس مواجهة وتكفير وقتل أبناء الأمة).. بل مواجهة قوى الاستكبار والمتصهينين والمتأمركين في مختلف مواقعهم وأوضاعهم وامتداداتهم السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، الأمر الّذي جعلهم يخطّطون لمحاصرة وإسقاط هذه الثّورة في إعلامهم المتنوّع الّذي انطلق إلى العالم العربي للإيحاء بأنّ "الثّورة فارسيّة" تهدف إلى السّيطرة على العالم العربي والإسلامي، كما طُرح في العالم الإسلاميّ بـــ"أنها ثورة شيعيّة في مواجهة العالم السنّي"... إلى آخرِ تلك الروايات التي أثبتت تجارب الأيام اللاحقة –برغم الضخ والفبركة والتضليل والتزييف- كذبها ودجلها وتلفيقها الواضح لمن له قلب وبصر وبصيرة، أو ألقى السمعَ والبصرَ وهو شهيد.. ومن اللافت أنّ الشرقَ والغرب قد تعاونا في التآمر والضّغط السياسيّ والعسكريّ على هذه الثّورة منذ بواكيرها الأولى، تحت عنوان مواجهة الخطر الأمني والاقتصادي والإيديولوجي على مقدّراتهم الأساسيّة، لأنهم كانوا يرون أن هذا النمط غير القابل للتدجين والاحتواء، هذا النمط الرافض للظلم والهيمنة، من الإسلام الثوري التحرري هو الذي يمثّل الخطر الأكبر على كلّ أوضاعهم ومصالحهم ومطامعهم في المنطقة. ولهذا رأينا، أنه كان من جملة التأثيرات الإيجابية للثورة على المنطقة، أنها فتحت للحركات الإسلامية والحركات الوطنية التحررية آفاقاً واسعة في امتداد العمل النضالي التحرري في العالم الإسلامي.. خاصةً على مستوى الدور النوعي الحيوي الكبير في إنتاج وإنضاج المقاومة المسلّحة في مواجهة الكيان العبري، ومواجهة السياسة "التسلُّطية" الأمريكيّة (رموزاً وحلفاء وأدوات) في المنطقة بالتعاون والتنسيق الكامل مع سورية الصمود والمقاومة، هذا التعاون الذي استطاع أن يحقّق الانتصار النوعي الكبير على إسرائيل بمساعدة الجمهوريّة الإسلاميّة ودعم وإسناد سوريا الصمود (في لبنان تحرير الجنوب ونصر المقاومة عام 2000م)، ما أدّى إلى تخطيط بعض حلفاء أمريكا لإثارة الحرب العدوانية على نهج المقاومة، والتنسيق مع أمريكا وإسرائيل والدّول الأوروبيّة، فكان انتصار المقاومة على الكيان الصهيوني في العام 2006م. - ولا تزال الثّورة الإسلامية في تحدّيها للاستكبار العالميّ، تتحرّك لإرباكه في سياسته، ولاسيَّما ما كان في احتلاله للعراق منذ العام 2003م، وفي تخطيطه للإخلال بموازين القوى، في عمليّة تصنيع السلاح الّذي ساعدت فيه قوى التحرر، وفي الملفّ النووي السلمي الذي يتحرّك العالم الغربي المستكبر بقيادة أمريكا، من أجل منع إيران من استكمال الخبرة العلميّة فيه، ومن الحصول على الطّاقة من خلال ذلك.. ولاحقاً في الأزمة السورية التي دبرتْ قوى الاستكبار الكبرى لها (لسوريا) مخططات إسقاطها من خلال محاولاتهم الرامية إلى تفتيت البلد، وتدمير أسس وبنية الدولة، وانتهاك سيادتها والتلاعب باستقرارها وتبديد مقدراتها، وإنهاء دورها الحيوي والاستراتيجي المقاوِم، وذلك عبر محاولاتهم الحثيثة تحويل البلد إلى حالة فوضى وساحة مستباحة، وميدان تصفية حسابات، بتحريك مختلف قوى وتنظيمات وجماعات التكفير والإرهاب الأصولي الإسلاموي ضد بلدنا الصامد. لقد نجح الإمام الخميني، في المرحلة التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، ليس فقط في إعادةِ مد جسور التواصل الواعي والعقلاني مع الأمة، من خلال فتح المجال أمام الجماهير لتعبر عن وعيها العملي التاريخي، وتطلق مشاعرها الإسلامية التحررية والاستقلالية، ومركبها الحضاري التاريخي الخاص الذي تشكل في إطار نسقها الحضاري، وثقافتها وهويتها وتجاربها، وخبراتها النفسية والفكرية المختلفة المتراكمة عبر تاريخ طويل من السلم والحرب، والتقدم والتأخر، واليسر والعسر... ولكنه نجح أيضاً نجاحاً باهراً في إطلاق فاعلية هذه القدرة النوعية الكامنة، والاستفادة القصوى من زخمها القوي من أجل تحقيق النهوض الحضاري العلمي والاقتصادي المعاصر، وإنجازه في إقامة أول دولة "حديثة" على قاعدة "ولاية الفقيه" التي استطاع فيها علماء الدين العقلانيين – وليس فقهاء الوعظ السلطاني المسجدي العتيق- أن يحققوا للأمة، (من خلال تفاعلهم العميق مع الجماهير في أمانيها وأهدافها الطموحة) الاستقلال، وفك الارتباط بالخارج، وكسر حلقات الاستلاب والتبعية لهذا المحور أو ذاك، وتعزيزهم لذلك الودّ بينهم وبين الأمة. وبهذا المعنى العميق لطبيعة العلاقة الرائدة التي يجب أن تقوم بين الأمة وقياداتها العلمائية الجماهيرية قدّم الإمام الخميني النموذج العقلاني الواعي لطبيعة هذه العلاقة، وهي علاقة يجب ألا تكون فوقية أو استعلائية تشكك بقوى الأمة وقدراتها، وتوجه لها سهام النقد الجارح غير الموضوعي، لتثبط عزيمتها عن العمل والإنتاج.. ولكنها علاقة تكاملية لابد من أن تتوغل عميقاً لتتأمل التكوين النفسي والنسيج التاريخي للأمة لتستفيد منها، وتستثمرها على صعيد تحقيق تطلعاتها وأهدافها ومبادئها العالية على طريق الإنتاج والعطاء والتطور والازدهار "الدولتي" الحديث، لأن هذا الأمر وحده هو الذي يدفعُ الأفراد والمواطنين للبذل والعطاء والتضحية في طريق ذات الشوكة، ويحرّضُ أجملَ ما في الأمة من قيمٍ إيجابية نافعة للتطوير والعمل الخلاق.. ويمكّنها (وهي التي تمتلك قدرات وطاقات وموارد بشرية ومادية متنوعة لامتناهية) من تحقيق الانتصار والنجاح والفلاح والإثمار الحضاري المدني.. وهكذا هي إيران اليوم، التي تحولت بفضل ثورتها إلى نظام سياسي وثقافي حديث ثابت الأركان، يتم فيه تداول السلطات وفقَ دستور مؤيد من الشعب، ومستفاد من الشرع، ومستفيد من النظريات الدستورية المعاصرة، الأمر الذي يجعل منه تطبيقاً خلاقاً لنظرية الحكم في الإسلام، أعطاها الاجتهاد الفقهي في محله سمة المعاصرة والتعايش مع أنماط أخرى من الحكم في حوار وتعاون متبادلين. لقد غير انتصارُ الثورةِ الإسلامية عام 1979، الكثير من المعادلات المختلة والظالمة ليسَ على مستوى المنطقة، وهي الأهم، بل على مستوى العالم ككل أيضاً، فقد نقلت الثورةُ إيرانَ من موقع البلد التابع المستلب الذي تحركهُ أصابع القوى الكبرى خدمةً لمصالحها وأجِنْدَاتها ليكون قوة سلبية منفعلة في المنطقة، إلى موقع القوة النوعية الفاعلة المضافة، على مستوى مناصرة الشعوب والقضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. واليوم، وبعد مضي ستة وثلاثين عاماً على ذلك الانتصار الباهر، تُواصلُ الجمهوريةُ الإسلامية مسيرتها التصاعدية الّتي رسمتها بوعي وإرادةِ شعبها، وبقوة وعزيمة وتضحيات أبنائها، بنفس الوتيرة والاندفاع حتى أصبحتْ مطمحاً لجميع المسلمين والمستضعفين، وتثير حقد الأعداء لها، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني، والقوى التي فقدت الكثير من مصالحها اللامشروعة في المنطقة. وفي عيد الثورة، نوجّه تحية محبة، وتحية إجلال وإكبار لهذه الثورة الإنسانية الناضجة والمستمرة في تجددها، ودعمها لقضايا الحق والعدل والكرامة.. والتي تطبق عملياً اليوم التزاماتها الأخلاقية العملية في وقوفها الصلب إلى جانب تضحيات الشعب السوري، ودعمها ومساندتها لقضيته التحررية العادلة في مواجهة مختلف مواقع رموز الفتنة والخراب وجماعات التكفير السلفي الجهادي وتنظيمات الإرهاب الديني التي يحاول صانعوها والمتاجرون بها عبثاً الإساءةَ للإسلام، وتشويهَ الصورة الإنسانية الناصعة لهذا الدين الرسالي الإنساني الذي هو دين الفطرة الصافية.. دين العقل والعلم والمسؤولية، دين الخير والرحمة والمحبة والسلام.. ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ باحث وكاتب سوري(*) |
||||||