|
|||||||
|
تثير الحركة وبشكل أدق الحركات الإسلامية في تركيا جدلاً لا يتوقف، يشبه إلى حد كبير الجدل بشأن (العلمانية) في تركيا، فثمة دينامية خاصة نتجت عن حالة إقصاء الهوية الإسلامية عقب تأسيس الجمهورية التركية عام 1924 ومن ثم الحركات الإسلامية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية.. ومن هذه الدينامية ظهرت آليات بدت وكأنها مصمَّمة من أجل الوصول إلى السلطة وفق قواعد اللعبة الديمقراطية التي سنها (العلمانيون)، وهي آليات مكنت الحركة من البقاء والقدرة على تجديد نفسها كلما تم إقصاؤها من المشهد السياسي. وعلى صعيد الأيديولوجية وطبيعتها اتسمت الحركة بالتنوع وتعدد المنابت الاجتماعية والسياسية والمرور بعدة مراحل، تلونت فيها الأدوار والخطاب والآليات، ولعل السمة المشتركة لجميع الأحزاب الإسلامية في تركيا، هي أنها بدأت على أساس أنها أحزاب تطالب بالمدنية وحقوق الإنسان وتلتزم الديمقراطية وانتهت إلى قوى تجسد الإسلام السياسي وتنشد السلطة والتغيير الإيديولوجي. خريطة القوى والحركات الإسلامية التركية مع الإقرار بصعوبة الإحاطة بالحركة الإسلامية في تركيا في هذه المقالة نظرا لتعدد القوى والأحزاب، والتعقيدات التي شابت مسيرتها، وللتداخل الاجتماعي والسياسي والديني الحاصل، إلا انه يمكن تصنيف هذه القوى في أربعة مجموعات أساسية. الأولى: أحزاب الإسلام السياسي، وقد بدأت هذه الأحزاب مع البروفيسور نجم الدين أربكان عندما أسس في عام 1970 حزب النظام الوطني حيث وللمرة الأولى احتوى برنامج حزب سياسي تركي صراحة على مواد لها طبيعة دينية وهو ما أدى إلى حظره من قبل القضاء بعد أقل من عام على تأسيسه، وقد شكل هذا الحزب الأساس الحقيقي لسلسلة أحزاب الإسلام السياسي لاحقا، فكان حزب السلامة الوطني ومن ثم الرفاه والفضيلة والسعادة وأخيرا حزب العدالة والتنمية بعد أن انفصل كل من رجب طيب أردوغان وعبد الله غل عن معلمهم أربكان وأسسا حزب العدالة والتنمية عام 2001. ولعل من أهم سمات هذه الأحزاب أنها حاولت على الدوام التوفيق بين إيديولوجيتها الدينية والأسس العلمانية التي أسست عليها الجمهورية التركية عام 1923، وإتباع الآليات السلمية والوسائل والآليات المتاحة للوصول إلى السلطة، وتحويل الخطوات التكتيكية إلى إستراتيجية بعيدة المدى لأسلمة الدولة والمجتمع دون الصدام مع الجيش، وقد نجح حزب العدالة والتنمية بفضل هذا الأسلوب في تحقيق نجاحات لم يكن يتوقعها أحد قبل نحو عقد من الزمن. واللافت انه خلال الخمسين السنة الماضية كلما تمكنت قوى الإسلام السياسي من تحقيق تحول كبير في بنية المجتمع والدولة حصل انقلاب عسكري يضع حدا لهذا الصعود، إذ شهدت تركيا سلسلة انقلابات عسكرية عام 1960 – 1971 – 1980 وصولاً إلى الانقلاب ضد رئيس الوزراء نجم الدين أربكان عام 1997، وفي كل انقلاب كان يتم حظر أحزاب الإسلام السياسي ووضع قادتها في السجن، بل وإعدام بعض الشخصيات المؤثرة ولاسيما رئيس الوزراء عدنان مندريس عقب انقلاب عام 1960 الذي قاده الجنرال جمال جورسيل. الثانية: الحركات والطرق الصوفية التي انتهجت ما يعرف بالإسلام الاجتماعي والروحي والخدمي، ولعل من أهم هذه الحركات والطرق، الحركة النورسية (نور جولار) نسبة إلى سعيد النورسي المعروف ببديع الزمان الذي اشتهر برسائل النور التي جسدت فلسفته في إثبات التوحيد والإيمان والصراعات الفكرية. والطريقة السليمانية نسبة إلى الشيخ سليمان حلمي طوناخان الذي ركز في فكره على إعادة إحياء الإسلام من خلال اللغة العربية، وإلى جانب هاتين الطريقتين هناك النقشنبدية التي اختلفت عن سابقتيها بعدم الاكتفاء بشيخ واحد وإنما اعتمدت إستراتيجية اعتماد كل جماعة محلية على شيخها. وفي الإجمال ابتعد أصحاب هذه الطرق عن ممارسة الحياة الحزبية والسياسية ولكنها في الوقت نفسه شكلت خزانا انتخابيا للأحزاب السياسية التي وجدت نفسها مضطرة إلى التقرب منها والاستجابة لتطلعاتها لأسباب انتخابية، ومع أن هذه الحركات انتشرت بشكل أساسي في الريف إلا أنها نجحت في فترة السبعينيات من تأسيس مراكز ثقل لها في المدن الكبرى والاستحواذ على العديد من المرافق التجارية والخدمية والتعليمية والاجتماعية والدينية، كما نجحت حركة الخدمة بزعامة فتح الله غولن لاحقاً بالتغلغل في مؤسسات القضاء والأمن والتعليم قبل أن ينهار التحالف بينها وبين حزب العدالة والتنمية ويبدأ الأخير بحملة إقصاء ضد كل ما يمت للحركة بصلة. وقد ظلت الأحزاب السياسية التركية الكبرى على الدوام تحاول التقرب من هذه الطرق لأسباب تتعلق بثقلها الانتخابي ودورها الاجتماعي وعمقها الروحي والثقافي في المجتمع التركي. الثالثة: الإسلام الرسمي من خلال رئاسة الشؤون الدينية والمعروفة (بديانت)، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن إدارة الشؤون المتعلقة بالدين الإسلامي (تتبع المذهب الحنفي الذي هو المذهب السائد في تركيا) وتأسست في آذار عام 1924 كجزء من مؤسسات الجمهورية التركية وهي تتبع لرئاسة الوزراء مباشرة، وبالتالي أي موقف سياسي أو فقهي يصدر عنها يجب أن يحظى بموافقة رئيس الوزراء، وعليه يمكن القول أن عمل هذه المؤسسة ومواقفها جاءت على الدوام في إطار سياسة الحكومات المتتالية ولاسيما في عهد أردوغان، وبدا ذلك واضحاً عندما رفضت مؤخراً التعليق على فضيحة الفساد التي هزت حكومة أردوغان قبل نحو عام. وتقوم رئاسة الشؤون الدينية بتنظيم جوانب العلاقة الدينية بين الدولة والمجتمع والإشراف على الحج والتعليم الديني والفتاوى وغيرها من الأعمال المماثلة لوزارات الأوقاف في العالم العربي، ولكن اللافت هذا العام هو تخصيص الحكومة التركية ميزانية ضخمة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية تفوق ميزانيات عدة وزارات مجتمعة، تعبيراً عن مدى اهتمامها بالتعليم الديني وإعادة بعث العثمانية الجديدة خصوصاً بعد قرار أردوغان إعادة التعليم باللغة العثمانية في المدارس. واللافت أنه خلال عهد أردوغان زيادة دور هذه المؤسسة في دعم الجمعيات الخيرية التي نشأت في مجال أعمال الإغاثة وقد شكل هذا الدعم رافعة سياسية لتعاظم دور هذه الجمعيات في العمل السياسي لصالح حزب العدالة والتنمية على شكل تأمين مجتمعات انتخابية مضمونة لجهة التصويت والولاء السياسي والاصطفاف الاجتماعي. الرابعة: الحركات الإسلامية المتشددة والتي تنتهج العنف، ولعل من أهمها، حزب الله التركي الذي برز في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وتورطه في العديد من عمليات الاغتيال ضد الناشطين الكرد واليساريين ومع أن هذا الحزب اختفى من المشهد التركي بعد عام ألفين ولكنه عاد وظهر منتصف العام الماضي تحت اسم هدى بار – حزب الحق، وسرعان ما نشط في جنوب شرق البلاد د ودخل في مواجهات مسلحة مع حزب العمال الكردستاني في وقت أكد الأخير مراراً أن حزب الله التركي هو على صلة قوية بتنظيم داعش والمخابرات التركية معاً، إذ أن جل أعماله تنصب على تصفية الناشطين السياسيين والحقوقيين. إلى جانب حزب الله هناك منظمة دولة الخلافة التي أسسها متين قبلان عام 1985 وهي منظمة دعت منذ البداية إلى إسقاط النظام العلماني بالقوة وإقامة الخلافة الإسلامية، وعقب وفاة مؤسسها استلم أبنه مفتي أوغلو المقيم في ألمانيا رئاسة المنظمة، وأعلن من هناك نفسه خليفة للمؤمنين إلا أن تورط المنظمة في العديد من العمليات الإرهابية دفعت بالحكومة التركية إلى التحرك بقوة ضدها والتنسيق مع الحكومة الألمانية التي اعتقلت زعيمها وحكمت عليه بالسجن لأربع سنوات، وعقب اعتقال أوغلو تراجع نفوذ المنظمة كثيراً. إلى جانب هاتين المنظمتين هناك حزب الوحدة الكبرى الذي أسسه محسن يازجي أوغلو حيث نفذ الحزب عبر جناحه السري مئات العمليات التي تراوحت بين عمليات الاغتيال واستهداف مقار حزبية وحكومية، وهناك مجموعات صغيرة مثل الفجر وجيش القدس وحزب التحرير.. وغيرها من التنظيمات السرية التي هي عبارة عن خلايا سرية غير معروفة، ولعل السمة الأساسية لهذه التنظيمات هي أنها تظهر في ظل أحداث داخلية تركية ثم تختفي فجأة لتعود ثانية وسط تقارير تشير إلى ارتباطها أو اختراقها من قبل أجهزة الاستخبارات التركية، وقيامها ما يشبه بالمهام القذرة في تصفية السياسيين والمفكرين والصحفيين المعارضين. التحولات الاجتماعية وآليات الحركة الإسلامية شكلت التحولات الاجتماعية في قلب الأناضول البيئة الأساسية التي نشأت منها طبقة حملت المشروع الإسلامي لتركيا عبر استعادة هويتها الإسلامية، وفي الطريق إلى استعادة هذه الهوية كثيراً ما تعرضت للإقصاء والحظر، إذ أن الأنظمة العلمانية الحاكمة كانت لها بالمرصاد، فمن بوابة القضاء تم حظر الأحزاب التي حملت في إيديولوجيتها الإسلام حتى مطلع العام ألفين. لكن الانفتاح التركي التدريجي على الداخل والخارج بعد الانتقال إلى التعددية السياسية والسعي إلى العضوية الأوروبية أتاحا المجال للحركات الإسلامية امتلاك آليات سمحت لها بالتطور حتى في أصعب المراحل، أي تلك التي أعقبت الانقلابات العسكرية، فمنذ عهد عدنان مندريس ومروراً بمرحلتي تورغوت أوزال وسليمان ديميريل سعي الإسلاميون إلى تثبيت وجودهم عبر آليات كثيرة، لعل أهمها: 1- الإعلام: فالحركات الإسلامية التركية على اختلافها، اتجهت إلى إنشاء مؤسسات إعلامية من صحف: (ملي غازتا – زمان – تركيا – آسيا الجديدة ... الخ)، ومجلات (الميزان الذهبي – مساج – السبيل – إسلام - إجمال .. الخ)، وقنوات تلفزيونية (القناة السابعة – تي كر تي – صامان يولو – مساج .. الخ)، وإذاعات (حضور – أف أم – مرمرة – مورال – برج ... الخ)، وقد نجحت هذه الحركات عبر هذه الوسائل في مخاطبة الذاكرة التاريخية للأتراك وهويتهم الإسلامية والتركيز على الإيمان بهدف بناء قاعدة شعبية لها، وبفضل هذه القاعدة تمكن العديد من قادة الحركات الإسلامية وعلى رأسهم أربكان وأردوغان من الفوز بالانتخابات المحلية والبرلمانية وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية. ونجحت هذه الوسائل مع الزمن في كشف مواطن الخلل في النظام العلماني الذي تكلست بناه وبات عاجزاً عن تأطير الحياة الاجتماعية الثقافية والسياسية في البلاد، إلى درجة أنه بدا مع الزمن في صدام مع الهوية الحضارية لتركيا وخياراتها السياسية وعلاقاتها مع الجوار الجغرافي، وهو ما عمل عليه حزب العدالة والتنمية عبر نظرية صفر المشكلات التي جاءت لتعوض الخلل السياسي الحاصل في خيارات البلاد السياسية والعلاقة مع دول الجوار الجغرافي. وعلى الرغم من نظرية صفر المشكلات لم تنجح في تحقيق هدفها الأساسي، أي بناء علاقات إيجابية مع دول الجوار الجغرافي إلا أنه كشف أهمية البنيان الحضاري لهوية تركيا في الدائرة الجيوسياسية الإسلامية، وما ينتج عن هذا الخيار من علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية، على شكل البحث عن نظام إقليمي مشترك لهذه التحديات. 2- المدارس والمعاهد والجامعات الدينية: وقد اتجهت الحركات الإسلامية إلى بناء المدارس الخاصة والتي تعرف بالكوليج ومن ثم الجامعات الخاصة (أشهرها جامعة الفاتح) إلى جانب مدارس الأئمة والخطباء... في إطار إستراتيجية تهدف إلى بناء جيل إسلامي بعيد عن تأثيرات العلمانية، حيث يشكل خريجو هذه المدارس والمعاهد والجامعات الكادر الأساسي الذي يقود اليوم الحركة الإسلامية على اختلاف مشاربها في البلاد، فضلا عنه انه بات يشكل الكادر في مؤسسات حكومة العدالة والتنمية. وقد نتج عن هذا التحول ما يمكن تسميته بذهنية التفكير الإسلامي لدى جيل جديد في تركيا، هذا الجيل الذي يزاوج في تفكيره بين الهوية القومية والإسلامية والعثمانية الجديدة التي عمل عليها أردوغان بقوة في السنوات الأخيرة. 3- المصارف والبنوك الإسلامية: وتسمى بالتركية فينانس، وأبرزها وأقواها بنك فيصل للاستثمار وبنك آسيا التابعة لجماعة غولن (وضعت حكومة احمد داود أوغلو يديها على بنك آسيا بحجة أنها تدعم التنظيم الموازي أي جماعة فتح الله غولن)... وغيرها من البنوك التي أمنت الغطاء المالي للمشاريع الاقتصادية والتجارية والزراعية والخدمية التي رعتها الحركة الإسلامية، وهدفت من ورائها إلى بناء حاضنة اجتماعية مرتبطة بنشاطها المالي والاقتصادي، وقد كان لهذه البنوك دورٌ كبيرٌ في بناء المشاريع الصغيرة والصناعات التحويلية التي كان لها دورٌ بارزٌ في تحقيق نتائج ايجابية على الصعيد الاقتصادي ومكافحة البطالة والتخلص من الأزمة الاقتصادية وتدخلات البنك الدولي. 4- اتحاد رجال الأعمال الأتراك المستقلين: وهو اتحاد تجاري إسلامي تشكل في باكستان عام 1995 ومن ثم انتقل إلى اسطنبول ليرتبط بمؤتمر (موسياد) ومعرضه السنوي الذي يحضره رجال أعمال ومسؤولون من مختلف دول العالم. وقد لعب هذا الاتحاد دورا كبيرا في إصدار تشريعات جديدة على صعيد الاقتصاد والتجارة والتصدير وزيادة معدلات التبادل بين الدول الإسلامية. إلى جانب هذه الآليات اتبعت الحركات الإسلامية عشرات الوسائل الأخرى كإقامة مؤتمرات علمية ودور نشر وتشكيل جمعيات أهلية وفتح مكاتب في الخارج وغير ذلك من الوسائل التي ساهمت في تراكم عناصر القوة في مواجهة النظام العلماني الذي بدا مع التحولات الاجتماعية والتغيرات الداخلية عاجزاً عن تأطير الحياة العامة في البلاد، كما بدت الطبقة العلمانية التي قادت البلاد بدعم مباشر من المؤسسة العسكرية طوال العقود الماضية وكأنها مجرد نخبة فوقية بعيدة عن فهم التحولات الاجتماعية المنبثقة من الهوية التركية. وما سبق تضافر على شكل عوامل داخلية وخارجية ساهمت في نجاح الحركة الإسلامية التركية في قيادة ثورة بيضاء ضد المؤسسة العسكرية التي كانت تحكم وتتحكم بكل مفاصل الحكم في البلاد وتديرها من وراء الستار. إذ نجحت هذه الحركة في إعادة الدين إلى السياسة بعد أن بنى العلمانيون حكمهم على إقصاء البعدين الديني والقومي ( الكردي ) من المشهد السياسي التركي. في الواقع، من الواضح أن السمة الأساسية للحركة الإسلامية في تركيا هي أنها بدت مدروسة سياسياً في الأساس من أجل الوصول إلى السلطة وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، وهي في سبيل ذلك انتهجت الآليات المتاحة والممكنة لتحقيق هذا الهدف، عبر الاستفادة من التحولات الاجتماعية الداخلية والعوامل الخارجية (انهيار الاتحاد السوفييتي - الانفتاح على العالم العربي)، خلافاً للحركات الإسلامية في العالم العربي التي غالباً ما انتهجت خطاباً دينياً أحادياً واتبعت وسائل عنقية جعلتها في صدام مع الدولة والمجتمع والجيش، بما وفر هذا الأسلوب من أرضية للعنف كلما جرى الحديث عن التغيير، ولجوء السلطات إلى القوة في التعاطي مع قضية التغيير السياسي في البلاد. إسلاميو تركيا بين (الأخونة) و(العثمنة)!! اتسمت أحزاب الإسلام السياسي في تركيا، بدءا من حزب النظام الوطني وانتهاء بحزب العدالة والتنمية بنزعتين: الأولى - الاخوانية: تعود إلى مؤسس الجماعة حسن البنا الذي كان يطالب بضرورة عودة الخلافة الإسلامية إلى تركيا، على اعتبار ان الخلافة تشكل رمزا للوحدة الإسلامية ومظهرا من مظاهر الارتباط بين الدول الإسلامية، وعلى الرغم من أن العلاقة بين الجانبين (الإخوان المسلمين في كل من تركيا والعالم) كانت في السابق في إطار التنسيق والتشاور والتعاون من خلال المؤتمرات والاجتماعات الدورية إلا أنها انتقلت في مرحلة ( ثورات الربيع العربي ) وتحديدا بعد سقوط حكم محمد مرسي إلى مرحلة الاحتضان التركي لحركات الإخوان المسلمين في مختلف الدول العربية، بل والتدخل في شؤونها ومحاولة الاستفادة منها إلى جانب الحركات الإسلامية المتشددة لزيادة دورها ونفوذها الإقليميين في العالم العربي. ولعل تركيا انطلقت هنا من بعد إيديولوجي ومشروع إقليمي يجعل من تركيا قائدة للشرق الأوسط على أساس أنها الدولة الأكبر في العالم السني، وهو ما تسبب بتوتر شديد في علاقات تركيا مع معظم الدول العربية وحصول اشتباك سياسي مع مصر ودول الخليج وسورية والعراق على خلفية اختلاف الموقف من مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة. الثانية – العثمانية: مع أن حزب العدالة والتنمية حرص طوال الفترة الماضية على إبعاد صفات كالإسلامي والعثماني عن نفسه والظهور بمظهر الحزب الديمقراطي المحافظ على غرار الأحزاب المسيحية في الغرب، إلا أنه من الواضح أن ثمة تحولاً كبيراً بدأ يحصل في خطابه منذ وصول رجب طيب أردوغان إلى سدة الرئاسة، فلسان حاله بات يقول إن العقود التسعة من تاريخ الجمهورية التركية لم تكن سوى فاصل إعلاني في عمر الإمبراطورية العثمانية على حد تعبير تولاي بابوشجو النائب في حزب العدالة والتنمية عن مدينة باليكسير التركية، ولعل حفيد السلاطين لم يعد يرى أن لتركيا هوية دون عثمانيتها لغة وثقافة وفضاءً جغرافياً يمتد من بحر الأدرياتيكي إلى سور الصين. وهذا التحول من الإسلام السياسي نحو العثمانية الجديدة يعد تحولاً مدروساً، والهدف منه هو تأسيس تركيا جديدة بحلول عام 2023 أي في الذكرى المئوية لانهيار الدولة العثمانية، فالعملية حسب هؤلاء تتعلق بتغيير الوعي بالهوية الحضارية والثقافة ونمط التفكير والتعليم على شكل إنهاء لإرث أتاتورك، كخطوات لابد منها على طريق إعادة الخلافة الإسلامية بهوية عثمانية جديدة، وإن حاول أحمد داود أوغلو وضعها في إطار سياسي من خلال مقارنتها بالرغبة في إقامة كومنولث عثماني على غرار الكومنولث البريطاني كما تحدث أكثر من مرة. وهو هنا يعتمد على الإرث الثقافي والتاريخي والعامل الجغرافي، كحوامل للعثمانية الجديدة. في الواقع، إذا كان من الطبيعي أن تثير العثمانية الجديدة جدلاً في الداخل التركي، فإنها في الوقت نفسه تثير هواجس تتجاوز العالم العربي، نظراً لما تركته الدولة العثمانية من إرث قام على القتال والغزو تسميها تركيا (بالفتح) بكل ما تحمل هذه السياسة من مفاهيم استعمارية فيما يرى فيه تيار الأخوان المسلمين مخرجا لأزمة الهوية في تركيا ومدخلا لعلاقة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي. وحقيقة بين النزعتين الاخوانية والعثمانية، ثمة أسئلة كثيرة عن مشروع حزب العدالة والتنمية المستقبلي، ولعل من يدقق في سلوك حزب العدالة والتنمية والذي مازال يقوده أردوغان (علماً أن الدستور التركي ينص على أن لا يقوم رئيس الجمهورية بأي عمل حزبي وعليه الاستقالة إن كان عضواً في حزب ما) لا بد أن يرى أن الحزب وعلى الرغم من استفادته من طابعه الاخواني وعلاقاته مع التنظيمات الاخوانية في العالم العربي وحتى استغلال التنظيمات المتشددة والإرهابية مثل (داعش والنصرة) لتحقيق التطلعات التركية الإقليمية تجاه العراق وسوريا، وهو ما أدى إلى حالة استنفار في مواجهة التطلعات التركية الجامحة هذه. بعبارة أخرى فان النزعة العثمانية الحاملة للمجد والدور والمكانة باتت تتفوق على النزعة الاخوانية للحزب أو الحرص على تقديم (النموذج) الذي وفق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد إلى مشروع نيوعثماني ينتهي إلى إعادة بناء الخلافة من جديد بعد هدم أصول الجمهورية التركية التي بناها أتاتورك. تركيا في كل سبق تبدو نموذجا للدولة الحائرة في هويتها وجغرافيتها وخياراتها السياسية، ولعل مشكلتها الأساسية إزاء العالمين العربي والإسلامي في هذه المرحلة هو حضور البعد الإيديولوجي بقوة في سياستها الخارجية على حساب بناء علاقات تقوم على المصالح المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول. تركيا بين الإسلام السياسي المتمثل بالطابع الاخواني والعثمانية الجديدة بتطلعاتها المستمدة من التاريخ والجغرافية تبدو في محنة جديدة لها علاقة بالهوية والنظرة إلى الخارج انطلاقا من تحديد الذات والمشروع المستقبلي لتركيا وعلاقتها بالمنطقة. كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*) |
||||||