|
|||||||
|
من يتابع إحصاءات شركة Pew الأميركية للإحصاءات، فسيصيبه القلق. وعلى فرض صحة هذه الإحصاءات، وخلوها من استراتيجيات "التحكم في الاستجابة" (Response Bias)، فإن الأرقام التي تنشرها هذه الشركة وسواها حول معدلات التكفير والعصبية المذهبية في منطقتنا عالية جداً. وقد لا يكون بريئاً إشارة هذه الشركة، ميدانياً، بأن أعلى نسب التكفير بين أهل السنة تنوجد عند الفلسطينيين. وهذا نجده في إحصاءات وطنية وغربية أيضاً في ما يتعلق بنسب الانتحاريين الذين فجروا أنفسهم في العراق طوال السنوات العشر الماضية. وما حدث في العراق بعد 2003، ولاسيما في 2006، رفع منسوب الاحتقان المذهبي الموجّه إلى أعلى درجاته، في وقت يجب أن يُشهد لمرجعيات دينية وقيادات سياسية وشعبية حرصها على الصبر على الاستهدافات الدموية اليومية، دون أي تعقيب أو تحرك ذي معنى لانتقاد الجرائم اليومية من المحيط العربي للعراق. عند النظر إلى ظواهر تحريض طائفي متنامية من بعض فروع القاعدة وفروعها، والتي أنتجت في العراق 5000 عملية انتحارية، 92 % منها مذهبية، فإن السؤال يتوجه إلى مصانع التكفير الفقهية والسياسية والإعلامية. ثمة جهد هائل تسبب في هذا السيل من الدماء، إنه التحريض. ففي العالم العربي اليوم، 70 فضائية مذهبية، ولها جمهور واسع، وتحظى برعايات رسمية من شخصيات معروفة، ومموّلة بشكل جيد. كما أنه من الملفت أن 12 % من كلام سياسيي الغالبية في المنطقة المنبري والإعلامي بات مذهبياً. هذه أرقام صادمة، وحبذا لو تكون خاطئة. ما العمل؟ في الإسلام بحث موسّع عن العصبية. فليس من العصبية أن تحب قومك، ولكن "العصبية أن تفضل شرار قومك على خيار قومٍ آخرين". الإسلام دين قِيم، دين انتماء إلى قيم، وليس مجرد انتماء إلى جماعة. لا طائفية في الإسلام إلا لطائفة الحق، ولا تعصّب إلا للحق. ولمّا كان كل طرف يدّعي امتلاك ناصية الحقيقة بين المسلمين، أو ربما يحتكر توصيف الفرقة الناجية أو المنصورة لنفسه، فإن من صفات المؤمن حسن الخلق والكياسة والفطنة. وبما أن الحكمة ضالته، وكل المسلم على المسلم حرام، متى تشهد بالشهادتين، فإن هناك قاعدة تعاقدية اتفاقية يمكن الاجتماع عليها تعالج التزاحم، الواقعي، بين العصبية للجماعة وبين العصبية للحق. وعلى طريقة أمارتيا سين في تحقيق العدالة بمعالجة المظالم وليس عبر ترتيبات مؤسسية متعالية، فإن المأمول، هنا، هو التخفيف من آثار التطييف، وليس إلغاءَه. وما يشجع على التفكير في حلول للانقسام العمودي بين المسلمين هو ملاحظة وجود أدوات تحريض تتقصد إشعال النار كل حين. وهذا ليس أمراً جديداً، بل له أسس نجدها في كتب السِير والمغازي وفقه العامة، وفي مذكرات وكتب صادرة عن "المستعمر" الرومي الحديث. وجدير بمن يتلفت إلى وجود مصالح سياسية تتوسل التحريض المذهبي ضد فئة أو فئات بعينها لتحقيق مصالح محددة أن يتوقف ويفكر في الأمر. فالمؤمن مُطالب بتبيان أي نبأ يأتي به فاسق، وأن يتحرّز في حقوق الناس. أما السياسيون بغالبيتهم، فدينهم السلطة، لا السنة ولا الشيعة، ولا مسيحي ولا غيره. دائماً هناك شكاوى من الجماعات الأخرى، وباتت سرديات المظلومية أكثر شيوعاً كجزء أصيل من استراتيجيات التحريض. ليس مطلوباً أن يقبل شخص ما بظلم يراه، أو بهيمنة يرفضها، المطلوب هو تقييد الاندفاعة المذهبية في المجتمع العربي؛ الشرقي منه تحديداً. وهذه صرخة لاستلحاق ما يمكن تداركه قبل تفشي القتل الذريع في منطقتنا حيث لا يسلم منه أحد، وحيث تستحكم الفتنة، ولا ينجو منها إلا النزر القليل. في الاقتراح، ندعو إلى ميثاق "شرف" للطائفيين والمذهبيين: لك أن تحب قومك، ولك أن تغضب لما "يتعرضون" له على يد الجماعة الأخرى. لكن، هناك حد لهذا الحب: لا تدعُ إلى القتل، ولا تدعُ إلى التكفير باعتباره حكماً بالقتل. قد يبدو مفهوم "الشرف" غير مناسب كاسم لهذا الاقتراح، بمقدار ما لا يقبل كثيرون بتوصيف "المذهبي" على سلوكه. على كل حال، إذا أردتَ محاربة الجماعة الأخرى، فحاربها بالقوة الناعمة وبالحرب النفسية البيضاء، انتقدها، وأكثر من شكواك، لكن لا تدعُ للقتل ومقدماته. فإذا صحت التعميمات الأميركية في التواصل السياسي للمجتمعات، فإن 5% من أي مجتمع يحكم، و 15% يرتبط بالحاكمين، لكن 80% يتفاعل. أستاذ حوزوي وجامعي(*) |
||||||