|
|||||||
|
مضى علينا زمن طويل ونحن نطرح – نخباً ومفكرين وأكاديميين وأحزاب وتيارات- إشكاليات بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة الحكم الصالح، دولة المواطنة والقانون والحداثة المؤسساتية والعلمية في عالمنا العربي والإسلامي.. ونبحث في أسباب بقاء بلداننا ومجتمعاتنا عاجزة عن بناء مؤسساتها وهياكلها المدنية، وقابعة في سجون التخلف الفكري والاستبداد السياسي والتأخر الاقتصادي والتفكك الاجتماعي، بحيث لا تكاد ترتاح من هيمنة نظم سياسية شمولية تسلطية (بدولها العميقة العقيمة ذات العناوين العلمانية المدنية (تدعي الحضارية والمواطنية والانفتاحية)، حتى تدخل في دهاليز وأنفاق نظم سياسية استبدادية أخرى بعناوين دينية أو غير دينية لها نفس مضامين ومكونات وبنى الاستبداد والطغيان والفساد ذاته، مع فوارق في الشكل ليس إلا.. وما حدث خلال فترة ما سمي بربيع العرب منذ نهاية عام 2010 حتى اليوم، وما رافقها من تداعيات ومخاضات سياسية ومجتمعية عسيرة ومعقدة، هو الشاهد الأهم على ما ذكرناه. ويمكن القول بكل تأكيد إننا وحتى اللحظة لم ننجح إطلاقاً – على الرغم من تشخيص الداء، ووجود مظاهر للحداثة المجتمعية العربية، شكلية الطابع والعناوين- في بناء ولو نموذج واحد يبعث على السعادة والارتياح، لمجتمع عربي مدني حديث تكون فيه المواطنة أساس الانتماء والعمل، وليس الدين أو المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو القوم كبنى ومكونات ما قبل وطنية.. كما لم نتمكن من استثمار نجاحات دول وحضارات أخرى مزدهرة ومنتجة وحاضرة بقوة في عالمنا المعاصر، سوى في استجلاب أشكال ومظاهر حداثية من دون فهم ووعي بنيتها، ومحاولة استثمار مضامينها المعرفية والفلسفية تحت ذرائع وحجج واهية من أبرزها ادعاء اختلاف السياقات التاريخية والمناخات الحضارية بيننا وبين الآخرين وكأنهم ليسوا بشراً مثلنا، أو كأننا لا نتفق معهم في قيم إنسانية واحدة مشتركة يشعر بها ويؤمن بها ويدافع عنها كل إنسان عاقل على هذه البسيطة كالحرية والعدالة والمساواة وإحقاق الحقوق.. إلى غيرها من القيم الإنسانية الرفيعة التي نتغنى بها صباح مساء من دون أن ننتجها ونحققها، ويكون لها دور ومكانة عملية في بيئتنا السياسية والاجتماعية العربية، أي بأن ننقلها من عالم الكتب والنصوص إلى عالم وحيز الفعل والواقع.. على الرغم من تفاؤلنا النسبي الذي تصاعد في نفوسنا بعد اندلاع الانتفاضات والثورات العربية التي سارت من بلد إلى آخر، ورفعت جماهيرها لواء الدولة المدنية الحديثة، دولة الحق والقانون والمؤسسات. أسئلة وأجوبة على هذا المنوال يمكن أن نسأل: هل يجب أن يكون مطلوب دائماً أخْذ الدروس والعبر والاقتداء والتأسّي بتجربة التنوير والحداثة الغربية من حيث الإجمال العام والملامسة الخارجية الشكلية من دون الدخول في طبيعة البنية المفاهيمية الذاتية والأسس العقلانية والعلمية والإنسانية والمناخ الفكري الموضوعي الذي ساهم في إيجادها وإفرازها؟!!.. أم أن المطلوب الاندماج في التفاصيل والاستغراق الكامل – وليس فقط الاستفادة - في عمق تجربة الحداثة الأوروبية بما فيها من أفكار وقيم وتجارب، ووعيها ذاتياً وموضوعياً؟!.. ثم هل تتناسب معايير ومحددات حداثة الغرب مع طبيعة المناخات والأجواء المجتمعية والقيم والأنماط الثقافية والمفاهيمية العاصفة السائدة في بلادنا العربية حتى الآن، مع ما هو موجود في معطيات ومفاهيم تلك الحداثة من بنى معرفية وفلسفية قد تتناقض في العمق مع طبيعة تلك الأفكار والبنى المعرفية الدينية التي لا تزال مسيطرة على عقول الناس وتشكل بنية صلبة راسخة في تربة مجتمعاتنا العربية؟!!.. ثم ما هي معايير هذه الحداثة التي نجحت نجاحاً مذهلاً في نقل المجتمعات الغربية والإنسانية عموماً من واقع الجهل المركب والاستبداد الأرعن المقيت والتخلف المقيم المزمن إلى واقع العلم والحريات والتطور؟. من المعروف أن الحداثة (ومختلف الاتجاهات التنويرية التاريخية المعروفة في العالم الغربي) ظهرت إلى الوجود في داخل سياق ومناخ ثقافي وتاريخي مؤطر ومحدد بسياق تجربة مجتمعية انطلقت مفاعيلها من خلال عصر التنوير الذي ساهم في صياغة أفكاره ومعارفه نخبة من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين ممن أعادوا تأسيس العقل الإنساني على معطيات وركائز عقلانية علمية إنسانية جديدة، بعد أن حسمت تلك النخبة لصالحها نتائج المواجهة العنيفة التي حصلت بين أنماط ومحددات الفكر والمعرفة التقليدية اليقينية السائدة وبين ثورة العقل البشري الذي انتفض على واقع الجمود الديني الرث والبالي، كما كان من أهم وأبرز تجليات وتمظهرات ذلك المناخ العملية هو وجود علاقة قوية وشبه العضوية بين الواقع المتغير وبين النص الثابت الجامد الخاص باللاهوت الديني المسيحي، وكأنهما حالة متلازمة على مستوى الفكر الديني والفلسفي.. وهكذا استمرت تلك العلاقة المتوترة والعنيفة التي امتلك "إكليروس الكنيسة" الديني التقليدي فيها – منذ البداية- مواقع قوية لرفضها ومحاولة إسقاطها في مهدها.. وقد كان من الطبيعي أن تكون الكفة مائلة لصالح هذا "الإكليروس" حيث كان الإقطاع الديني المسيحي في أوروبا يحظى بكثير من الإمكانيات المادية ومواقع القوة المعنوية، نذكر منها: - التمتع بغطاء سماوي مقدس، بكل ما يختزنه من نصوص وأفكار وقيم مقدسة مهيمنة على عقول ومشاعر وسلوكيات الناس الذاتية والموضوعية في طبيعة تفكيرهم وقناعاتهم وأكلهم وشربهم وملبسهم ومعيشتهم ومجمل تصرفاتهم. - ارتباط المنظومة الدينية بشبكة واسعة من العلاقات المصلحية الزبائينية مع قطاع كبير من المواقع الاجتماعية والاقتصادية القوية والمؤثرة والنافذة في الحياة الاقتصادية والمعيشية للناس مما كان يستتبع ولاءً شبه مطلق منهم للعقيدة والدين والمذهب.. فالطريق إلى كسب الولاء الأعمى والتبعية الكاملة للناس لابد وأن يمر عبر قنوات المصالح وتقديم الخدمات لأفراد المجتمع الديني، وهذا ما ساهم بقوة وجود تأييد شعبي كبير للاكليروس والعقيدة الدينية ألغى من حسبانه وجود أي تفكير يعاكس تفكير ومقلات الكنيسة، مغيباً عقول البشر الذين كانوا غارقين في ظلام العصور الوسطى. - وجود دعم مادي ومعنوي لا محدود من قبل السلطات الزمنية الحاكمة لممثلي الدين شكل لاحقاً نوعاً من التحالف المتين بين جهتين، رموز وزعامات ورجالات الدين وممثلي المذاهب الدينية، والملوك والقادة والأمراء الإقطاعيين.. طبعاً، طبقة الملوك والأمراء المسيطرين والقابضين على الثروة والقوة، لم يكن يهمها من الدين كله سوى طابع الشرعية و"تاج الملوكية المذهب!" الذي كان يضعه البابا أو زعيم "الاكليروس" الديني على رأس هؤلاء القادة الزمنيين هنا وهناك. العرب والمسلمون وقيم النهضة وهكذا بقيت واستمرت تلك المواجهات والصراعات (بين الناس والعلماء) لقرون عديدة، كلفت المجتمعات الغربية عشرات الآلاف من الضحايا والأبرياء الذين سقطوا على طريق العقل والتفكير والعلم.. حتى تمكنت أفكار الحداثة والتنوير المستندة إلى العقل والتفكير البشري وحده من أخذ موضعها في بنية التفكير والحضارة الغربية، ومن أن تثبت وجودها وتفعل فعلها على صعيد تطورات العلم والمعرفة العلمية والتقنية ومجمل الاختراعات والاكتشافات في كل مجالات الحياة البشرية، لتعلن عملياً عن انتصارها الحاسم على خطرين داهمين كانا دائمين ومؤثرين بصورة سلبية على تطور وسيرورة الحداثة الغربية، هما: - خطر وعبء أفكار الدين الخرافية ومعارف الكنيسة القروسطية الرثة والبالية التي كانت تدفع الناس عن المعطى الديني باعتباره رسالة محبة ووئام وسلام داخلي، وتدخلهم في مواجهات خاسرة لا طائل منها مع العلم والعقل والتفكير والبحث والتطور... - خطر الممالك والنظم الزمنية السلطويّة -المرتبطة بشبكات مصالح وولاءات ونظام طاعة عمياء- المتصلة عضوياً بدعم الكنيسة.. بما يعني أن هناك خطراً حقيقياً من الاستبداد الديني والمجتمعي، وتوظيف واستغلال الدّين ومفاهيمه، ورسالته، وأخلاقياته، في مضمار السياسة والألاعيب السياسية. وقد أضحت أوروبا والغرب عموماً – بعد سيادة قيم العلمنة والعلم والعقل، وإجراء فصل نهائي بين الجانب العقائدي الديني والجانب الحياتي الدنيوي العملي بعدما حدت وتخلصت كلياً من تسلط الكنيسة التاريخي- نموذجاً لسيادة قيم الحداثة العلمية والتنوير الفكري والمجتمعي التي أفرزت واقعاً حضارياً مدنياً جديداً، قاعدته العلم والعقل ونسبية الأخلاق والقيم، وتعميم ثقافة الحوار والتسامح والمشتركات الإنسانية، وقمته التطور والازدهار وسعادة الإنسان.. وقبل ذلك أن تكون هذه القاعدة الحضارية الإنسانية وما فيها من الحداثة الفكرية والتنوير العقلي هي الثقافة الإنسانية القادرة على مواجهة أي حالة يمكن أن تجرد الإنسان من قيمته وتجعله مشيئاً (بمعنى أن قيمته تكمن فيما يمتلكه من أدوات ووسائل وأشياء)، وتجعله رهناً للأهواء والنزعات والقيم الاستهلاكية الفارغة والخالية من أية مضامين فكرية رصينة. ماذا عن المثقف العربي وإذا كان الغرب قد بنى نهضته الحديثة على العقل والعلم، وانطلق من خلال الطبقة الليبرالية التي تكونت خلال مخاضات عسيرة، لتبني وتحمل قيم مشروعها الليبرالي القائمة على الحريات العامة وحرية التعبير والحريات الاقتصادية وغيرها.. فأين العرب والمسلمون من ذلك كله خصوصاً بعد أن أضحى مشروع الحداثة الغربية - الذي جاء من خلال عصر الأنوار في القرن الثامن عشر- مشروعاً عالمياً كونياً بقيم كونية مشتركة؟ هل استفادوا عملياً من قيم تلك النهضة التي شملت جميع مواقع الحياة، وقدمت مكتسبات حية ساهمت في تطور الناس وتعزيز قدرة الإنسان على العيش بنجاح وقوة وسعادة في الحياة؟ وهل تمكنوا من بناء مجتمعات إنسانية متطورة ومزدهرة في بلدانهم؟ وما هو موقع وموضع الإنسان والعقل الإنساني فيها؟. أسئلة صعبة لا تزال تبحث عن إجابات عملية واضحة ومحددة يمكن تمثلها في بيئة مجتمعاتنا العربية.. وبعض تلك الإجابات يعتبر قائلوها ومنتجوها –من المفكرين وأصحاب مشاريع النهوض العربية- أن العرب غير قادرين على اللحاق بركب الحضارة والتقدم والعلم والتطور والازدهار الحقيقي ما دامت عقلية النص المقدس مسيطرة على الناس والمجتمعات، وبالتالي لابد من تركيز النقد وتطوير العقل الاجتهادي للنصوص والأفكار الدينية والتاريخية.. وبعض تلك الإجابات تحاول تقديم رؤية توافقية لتكييف ثقافتنا التاريخية الدينية مع الحياة المعاصرة كنوع من المواءمة بين العصر والتراث، بين الدين والحداثة، بين الماضي والحاضر.. وبعضها الآخر المنطلق من خلفية عقائدية دينية يعتبر أن لا خلاص للعرب والمسلمين، ولا حل لمشاكلهم إلا بالعودة إلى أحضان الماضي التليد.. وبعضها الآخر المنطلق من خلفية عقائدية علمانية صلبة (وربما علمانية أصولية مستبدة باعتبار أن الأصولية مصطلح لا يقتصر فقط على السلفيين المتدينين) يعتبر أن الحل واضح وصريح وهو يتجسد عملياً في إلغاء كامل للتاريخ والتراث وحذفه نهائياً من الوجود.. مع عدم إمكانية ذلك على الإطلاق.. وقد وضعت التحولات العربية الأخيرة المفاجئة بتوقيتها وحركيتها العالية التي طالت العديد من البلدان العربية، على شكل احتجاجات شعبية وانتفاضات وثورات مجتمعية عارمة، استفادت من تقنيات العصر الاتصالية وثورات المعلوماتية المذهلة لإنجاح حركيتها، وبدأت فعلياً بتحقيق انتصاراتها في كل من تونس ومصر، أقول وضعت تلك التغيرات النوعية المهمة مجموعة أسئلة وإشكاليات جديدة أمام النخبة المثقفة التي لا زال قسم منها غير مصدق بأن تلك الانتفاضات الشبابية الشعبية تحققت من دونه، وسبقت أفكاره ونظرياته ومقولاته، وتجاوزت آليات تفكيره النخبوية ومشاريعه النهضوية القديمة، وبات هذا المثقف - صاحب الأفكار النقدية التراثية الطوطمية العظيمة - رأينا كيف كان يحاول جاهداً اللحاق بركب مسيرة تلك الثورات عسى ولعل يجد لنفسه موقعاً ما في قطار التغيير السريع.. إذاً فمن الواضح هنا أن المثقف النقدي العربي الذي أتعب نفسه مشكوراً في متاهات الكثير من الأطر والصياغات النظرية والدراسات الأكاديمية المعرفية الصارمة، قد وجد نفسه على الأرض مسبوقاً بتطورات الواقع العربي وتحولاته المتسارعة على المستوى الشعبي خاصة ذاك المثقف الذي كان يكيل المعلقات الشتائمية لثقافة وتاريخ هؤلاء الناس الذي فجروا شرارة التغيير السلمي في عالمنا العربي. فهؤلاء كانوا - من وجهة نظره - كسالى ومتقاعسين ومنغلقي التفكير وبعيدين عن التطور وخارج منطق وسبيل الحياة المعاصرة التقدمية كما يفهمه هو، أما هم فمجرد مجموعات بشرية تقليدية غارقة في ثقافة تقليدية اتباعية هامشية تحرضهم على التقوقع والانغلاق والبعد عن التأثير في واقع وجودهم وحياتهم.. وأراني هنا مدفوعاً بلحظة إنسانية صادقة وربما صادمة للاعتراف والإقرار وكمثقف نقدي – وفق المعنى والتصور الغرامشي- بأنني كنت واحداً من هؤلاء المثقفين النخبويين الذين اشتغلوا على حفريات التراث، ومارسوا الثقافة النقدية، وطالت أدواتهم النقدية مجمل هذا البناء المعرفي التراثي الصلب والمتين، ولكن من دون القدرة على إيجاد قنوات تواصل عملية فعالة مع الناس ومناهج وآليات عمل واقعية للنفاذ إلى عمق واقع مجتمعاتنا وناسنا البسطاء الذين حركتهم آلامهم ومعاناتهم وشعورهم بالمذلة والهوان الطويل في ظل نظم ديكتاتورية مغلقة وغير إنسانية، ودفعهم شعورهم وإحساسهم العالي بالكرامة الإنسانية والحرية الفطرية الوجودية إلى الخروج والتعبير عن تطلعاتهم للحرية والعيش المسالم وتحمل تضحيات مكلفة من ذواتهم وأرواحهم للدفع باتجاه نيل الاستقلال الذاتي عن أنظمة الاستبداد التاريخية التقليدية العربية الموغلة في حياة ودماء ومال وثروة هؤلاء البشر المستضعفين.. بينما كان الفشل هو النتيجة التي وصلنا إليها كمثقفين نقديين وصل ضعفنا إلى حد أنه اكتفى بالتنظير الفوقاني (مؤتمرات-ندوات-جلسات-لقاءات-..الخ)، وبات عاجزاً حتى عن تحريك نفسه إلى ساحات العمل والكفاح والنضال ضد مستعمري الداخل من أبناء بلده للأسف، اللهم إلا ما رأيناه من حالات استثنائية نادرة لبعض المثقفين هنا وهناك شاركوا وشعروا بلذة ونشوة الانسجام والشراكة الوطنية الحقيقية مع أبناء جلدتهم في الوطن والإنسانية والمستقبل. طبعاً لن يكون نقدنا منطقياً ومتوازناً إلا إذا اعترفنا أيضاً بأن المثقف النقدي العربي تمكن من بناء وصياغة مادة نظرية بمنهجية علمية محكمة وصارمة لا يستهان بها، لم تنتقل للحيز العملي بعد، ولهذا فأمام الأجيال الشابة الطالعة التي بدأت بتحقيق نجاحات عملية مشوار طويل لبناء مواقع الداخل العربي على الديمقراطية السياسية والمجتمعية، فلا ديمقراطية من دون وجود ثقافة ديمقراطية حقيقية.. حداثة الشكل من هنا أمامنا جميعاً مسؤوليات جسيمة – على هذا الصعيد البنائي العملي- في طرح مجموعة قضايا فكرية وسياسية سلوكية لا تزال تحول دون وجود استثمار واستفادة حقيقية من مشروع الحداثة الكونية الغربية الذي أبدع وقدم لنا ثقافة التعددية السياسية والثقافية، والعقد الاجتماعي وثقافة حقوق الإنسان، خصوصاً لجهة الفشل في نقل مثل هذا النموذج إلى باقي التجارب الحضارية المجاورة لأوروبا حتى الآن إلا من خلال جانبه المادي فقط.. باعتبار أن مشروع النقل فاشل لابد له من مقدمات وشروط ثقافية وفكرية وتهيئة نفسية غير موجودة كلها أبداً.. طبعاً لا بد لنا هنا – استطراداً في الفكرة السابقة - من التوقف قليلاً عند ظاهرة ملفتة للنظر تخص هذه النقطة، وهي مسألة إمكانية تهيئة وبناء شروط ومناخات نمو وتطور – وليس نقل- الحداثة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهذه الظاهرة هي وجود تفكير وقناعة سلبية زائفة مفادها أن الحداثة هي حداثة الشكل والمظهر فقط، وأن شيوع مظاهر الحداثة الشكلية من أساليب وطراز العمارة الأجنبية، وبناء شبكات طرق حديثة، والتسابق لبناء أبراج عالية سامقة، وتشييد المباني والكتل الاسمنتية والحديدة العملاقة، وإقامة المجمعات والمولات التجارية الاستهلاكية، و بناء الجزر الاصطناعية الضخمة في البحار لاستقطاب ساكنين وقاطنين جدد، وإدخال ألفاظ انكليزية إلى خانة التداول الاجتماعي بين الناس، وو.. غيره كثير.. هي نوع من الحداثة الحقيقية، وهو ما يكفينا.. ويجعلنا في منأى عن أية تأثيرات سلبية قد تلوث حياتنا وعفافنا وطهارتنا (وبكارتنا!!) الحضارية.. مع ضرورة الإبقاء على ما لدينا من قيم وتقاليد وعادات وأنساق حضارية خاصة بنا!!.. من هنا فالحداثة – عند أصحاب هذا المنهج نصف المغلق- تعني أنه بإمكاننا استخدام أموالنا المجموعة والمكدسة نتيجة بيع النفط وغيره من الثروات الطبيعية لشراء منتجات وأشكال ومظاهر الحداثة دون السماح للفكر والمفهوم والثقافة والوعي الذي أنتجها بالدخول إلى مجتمعاتنا.. إنها حداثة الشكل والمظهر إذاً، وليست حداثة الجوهر والمضمون.. ولكن هل هذا النوع من التفكير واقعي أو صحيح بالمعنى العملي الحضاري؟ وهل هناك إمكانية أن نطلق على بعض مجتمعاتنا العربية -التي بنت وأشادت واشترت مظاهر الحداثة المادية من الغرب دون استنباتها في تربتها ومناخها- بأنها مجتمعات حداثية علمية متطورة؟.. الجواب المباشر والنهائي هو أن التفكير الذي يعتبر أننا حداثيون بالمعنى العلمي وبمعنى أننا منتجون علمياً هو تفكير طوباوي مثالي بعيد عن الواقع من دون أدنى شك، فنحن ليست لدينا نتاجات علمية تقنية مادية، وليست عندنا أسس موضوعية وبنية تحتية حقيقية لنمو بذور تلك الحداثة.. وقد لا أكون متطرفاً في القول بأن العرب بعيدون عن عجلة التقدم العلمي، وليست لهم أية مشاركات حقيقية في مسيرة التطور العلمي البشري منذ قرون وقرون.. أي أنهم لم يضيفوا أشياء علمية جديدة يمكن أن تفيد الحضارة الإنسانية على عكس ما كان قائماً في أزمان مضت وبادت أيام العباسيين وما بعدهم حيث كانت لشمس العرب إشراقات عديدة لا تمحى في مسيرة الحياة البشرية.. وبالطبع لا نستطيع إلا أن نقول ونؤكد – إجابة على ما تقدم- بأن الحداثة الحقيقية ليست هي حداثة الشكل والمظاهر العمرانية، وهيمنة ثقافة الاستهلاك الجنوني (تسليع البشر والحجر) والرفاهية الاقتصادية المطلقة غير المتوازنة (ثقافة الاستهلاك المادي الفارغ المدمر للحياة والموارد والطاقات) على حساب الوعي والفكر والمعايير العقلية عند الإنسان، وليست هي ثقافة الشكل والحجر على حساب ثقافة العقل والبشر والمضامين الإنسانية الروحية العميقة.. وليست هي أيضاً حداثة شراء أحدث أنواع المصانع والمعامل والاختراعات والمكتشفات والطائرات والتكنولوجيات على حساب رفض ثقافتها ومناخها المعرفي الذي أفضى إليها وأنتجها وساهم في بنائها ونموها وتحولها لكائن حي مادي مفيد.. وبالتالي، فلا حداثة فعلية مطلوبة من دون اعتماد ثقافة العقل والحرية، لا ثقافة النص والغلبة، وثقافة البناء التعليمي منذ الصغر القائم على اعتماد قيم الشك والنسبية والتجريبية بعيداً عن المطلقات اللامنظورة والنصوص التاريخية التقليدية غير المفهومة، ولا حداثة فعلية مستقبلية من دون اعتماد مناهج الفلسفة ومناهج فلسفة العلوم لتجديد العقلانية وتطويرها وتفعيلها.. باحث وكاتب سوري(*) |
||||||