إسرائيل والجماعات اليهودية في العالم..
يهود فرنسا نموذجاً

السنة الرابعة عشر ـ العدد 158 ـ (ربيع الثاني 1436 هـ) شباط ـ 2015 م)

بقلم: مأمون كيوان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

سلطت "حادثة باريس"، الاعتداء على صحيفة "شارلي إيبدو" وتداعياتها من: تعرض بعض مراكز يهود فرنسا لاعتداءات؛ والمشاركة اللافتة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مسيرة باريس المعادية لـ"الإرهاب" ومطالبته يهود فرنسا إلى الهجرة إلى إسرائيل؛ ودفن قتلى يهود فرنسيين في إسرائيل.

سلطت الأضواء من جديد على واقع العلاقة الرابطة بين إسرائيل والجماعات اليهودية في العالم، وما يرتبط بها من إشكاليات وقضايا منها: الذوبان والاندماج؛ والزواج المختلط؛ وما يسمى موت "الشعب اليهودي"؛ والهوية؛ والولاء المزدوج.

حسب معطيات الوكالة الصهيونية فإنه في العام 1970 كان في العالم 12633000 نسمة، ووصل هذا العدد في العام 2006، إلى 13080000 نسمة، أي أن مجمل الزيادة خلال 36 عاما بزيادة 3,6% فقط، في حين أن عدد سكان العالم في هذه الفترة ازداد بنسبة تتراوح ما بين 60% إلى 70% على الأرجح. وعدد اليهود المتوقع في العام 2020 سيكون في حدود 13558000 نسمة، أي زيادة بنسبة مماثلة وهي 3.6% خلال 14 عاماً، ويذكر هنا أن النسبة السنوية لتكاثر الشعب الفلسطيني تفوق 3% حسب التقديرات.

ووفق الإحصائيات المعترف بها إسرائيليا، بلغ عدد اليهود في العالم، في العام 2013، ما يقارب 13392000 نسمة. وبلغ عدد اليهود في القارة الأوروبية، باستثناء الجمهوريات السوفييتية السابقة، 1134000 نسمة، وأكبر تجمع لهم في فرنسا- 478 ألف نسمة، ثم المملكة المتحدة- 290 ألفاً، وألمانيا- 118 ألفاً، وهنغاريا- 48 ألفاً، وفي باقي الدول 200 ألف نسمة.

يهود فرنسا

تعد الجماعة اليهودية في فرنسا هي المجموعة الأكثر أهمية وحيوية عددياً والرابعة بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق وإسرائيل وتحتل المركز الثالث بين الجماعات اليهودية الكبيرة. ويشكل اليهود في فرنسا نسبة 1% من إجمالي تعداد سكان فرنسا.  و يتواجد أكثر نصفهم أي 350 ألف يهودي في منطقة العاصمة باريس ويتوزع الباقون على المدن الفرنسية، وفي ما يلي تعدادهم في أهم المدن الفرنسية: مرسيليا 70 ألف نسمة؛ ليون 25 ألف نسمة؛ تولوز 23 ألف نسمة؛ نيس 20 ألف نسمة؛ ستراسبورغ 16 ألف نسمة. وإجمالاً، يوجد في فرنسا نحو 230 تجمع يهودي.

والجماعة اليهودية في فرنسا ذات تركيبة مختلطة من الاشكناز ذوي الأصول الأوروبية، والسفارد ذوي الأصول الشرقية الذين قدموا إلى فرنسا من دول شمال أفريقيا.

ومعظم أعضاء الجماعة اليهودية في فرنسا هم من العلمانيين. لكن حصل ارتفاع في عدد اليهود المتدينين المتزمتين (الحرديم). وفي أعداد اليهود الذين يعتبرون أنفسهم منتمين لتيارات مثل الاتحاد العالمي لليهودية التقدمية.

ويمتاز يهود فرنسا عن عربها ومسلميها بأنهم الأكثر تنظيماً وتجاوباً مع التنظيمات المتعددة التي ترتبط بعضها مع البعض الآخر. والتنظيمات اليهودية موجودة على جميع الأصعدة، الثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية والقانونية والطلابية، وحيثما يوجد تجمع يهودي فهناك تنظيم أو اتحاد يربط بعضهم ببعض.

وتوجد ما يزيد عن 100 جمعية واتحاد وتنظيم يهودي وصهيوني في باريس وحدها إلى جانب وجود مكاتب لمختلف الأحزاب السياسية الموجودة في إسرائيل. ومن أشهر هذه المنظمات "الحركة الصهيونية في فرنسا"، و"مجلس المثقفين اليهود من أجل إسرائيل في فرنسا". ودخلت العديد من المنظمات اليهودية في تنظيم موحد منذ عام 1977 تحت اسم "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا Le Conseil Representatif des Institutions Juives de France (CRIF)" الذي يرأسه آلان روتشيلد. وتعمل في صفوف يهود فرنسا منظمة "التجديد اليهودي" التي ظهرت في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وعملت على تناقل التراث التاريخي والثقافي "للشعب اليهودي" مع إعطاء هذا النقل بعداً سياسياً وتقديم الدعم لإسرائيل، مركز اليهودية وتجسيد حركة الشعب اليهودي. وساندتها لجنة العمل اليهودي.

وهناك مجلس الجماعة الذي يعالج الشؤون الدينية والتربوية - الدينية ويتضامن مع التيار اليهودي الأرثوذكسي المتمسك بالنص التوراتي. والصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد ومهمته تخطيط وملائمة الأنشطة الاجتماعية والثقافية والتربوية ليهود فرنسا تموله الجباية الموحدة ليهود فرنسا ويحول أموالاً إلى إسرائيل.

ومن المنظمات اليهودية التي أشرفت إسرائيل على تأسيسها في فرنسا هناك منظمة التجديد اليهودي، والمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا F.I.R. لكن القوة الأساسية المكونة للوبي الصهيوني في فرنسا هي: رابطة مكافحة العنصرية ومعاداة اليهود "ليكرا" L.I.C.R.A  التي رأسها برنار أتالي، مالك شركة إير- فرانس. ويتبع للرابطة مصرف "كريدي ليونيه". ويمارس هذا اللوبي نفوذاً على وسائل الإعلام المختلفة وخصوصاً دور النشر ولجان قراءة النصوص فيها، ومنها دار "غاليمار"، و"سوي"، و"غراسيه" و"ديلون".

ومن أبرز إنجازات "ليكرا": قانون "فابيوس-غايسوا" في 17/7/1995 الذي يعيق إلى حد ما حرية الرأي في فرنسا وعملية توجيه أي نقد للصهيونية، لأن ذلك النقد يعتبر تعبيراً عن لا سامية جديدة يحاول الفرنسيون التبرؤ منها، خصوصاً أنهم لا زالوا يحتفظون بالعقدة الناجمة عن تعاون حكومة فيشي مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية فضلا عن قضية "درايفوس" الشهيرة.

الصهيونية في فرنسا

مر النشاط الصهيوني في أوساط يهود فرنسا بمراحل ثلاث هي: مرحلة النشأة بين الأعوام 1880 ـ 1919، و مرحلة التطور بين الأعوام 1914ـ 1939، و مرحلة الاستقرار بين الأعوام 1939ـ 1967، ومرحلة التوترات الموسمية التي امتدت من 1967-2014. بداية، كانت الغالبية العظمى من اليهود المولودين في فرنسا لا مبالية إن لم تكن معادية للبرنامج الصهيوني. وقد كان اليهود في فرنسا يمثلون في الأغلب الأعم الشرائح المتوسطة في الطبقة الوسطى، وبذا كان الاتجاه الغالب هو رفض الحل الصهيوني الذي يطلب منهم التخلي عن الوضع المستقر الذي يعيشونه والذهاب إلى أرض يجهلونها تماماً.

ولاقت الصهيونية في فرنسا ترحيباً كبيراً من قبَل المهاجرين اليهود من شرق ووسط أوربا الذين بدأوا في الوصول إلى فرنسا مع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهكذا كان قادة الحركة الصهيونية في فرنسا هم على التوالي: إسرائيل يفرويكين ومارك ياربلوم وجوزيف فيشر، وكلهم من شرق أوروبا.

وأول تجمُّع في فرنسا هو تجمُّع اليهودي الأبدي الذي شكَّلته جماعة من المهاجرين الروس على شاكلة التجمعات الطلابية المماثلة في روسيا عام 1881. وأسست هذا التجمع جماعة استيطانية اسمها "بني صهيون" عام 1886 ، وقامت هذه الجمعية بشراء 120 دونماً من الأرض في وادي حنين في فلسطين. وعلى المنوال نفسه، نشأت جمعيات طلابية صهيونية في مختلف أنحاء فرنسا.

وطوال الفترة الممتدة بين المؤتمر الصهيوني الأول وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، لم يزد اليهود المنضمون للحركة الصهيونية ومنظماتها العديدة في فرنسا عن بضع مئات من المثقفين ممن لا تأثير لهم في الجماعة اليهودية التي ظلت ترفض الصهيونية.

وتميَّزت مرحلة التطور بازدياد الاهتمام المُتبادَل بين الحكومة الفرنسية والحركة الصهيونية ونمو العلاقة بين الصهاينة والحركات المعارضة. وشهدت فترة ما بين الحربين العالميتين نمواً مطرداً في صفوف الحركة الصهيونية في فرنسا حيث وجد يهود الطبقة المتوسطة أن هذا التأييد يضمن لهم مكانتهم في المجتمع نظراً لأنه موقف الحكومة الرسمي، ووجد يهود الألزاس واللورين ذوو الارتباطات الثقافية الألمانية في الحركة الصهيونية نوعاً من التحقق القومي الرومانسي الذي يمثل استمراراً لتلك الارتباطات الثقافية ولا يتعارض في الوقت نفسه مع انتماءاتهم الألمانية الرومانسية التي تغيَّرت. وقد شكَّل هؤلاء في ستراسبورج (عام 1917) حركة صهيونية شبابية عُرفت باسم "هاتيكفاه".

وفي عام 1921 تأسست في ستراسبورج أيضاً جماعة مزراحي. وفي إطار هذه الجماعة، أكدت الجمعية الفرنسية للحاخامات (عام 1923) أهمية الاستيطان اليهودي في الأراضي المقدَّسة وضرورة خلق مجتمع صهيوني.

وشهدت الأعوام 1919 ـ 1939 نشـاطاً محـموماً في الحـركة الصهــيونية، وعلى مستويات عدة. فتحْت قيادة جوزيف فيشر (الذي صار سفيراً لإسرائيل في بلجيكا عام 1949) قام الصندوق القومي اليهودي بفتح فروع له في الجزائر، واشتركت الحركة الصهيونية الفرنسية في الوكالة اليهودية الموحَّدة عام 1929. وكان ممثل فرنسا في مجلس الوكالة هو السياسي الفرنسي الشهير ليون بلوم.

وفي عام 1937، شُكِّلت لجنة التنسيق بين المنظمات الصهيونية التي شملت عضويتها كل الفصائل والتنظيمات الصهيونية حتى أنها ضمت منظمة صهيونية سفاردية بلغت عضويتها 250 فرداً.

وتميزت مرحلة الاستقرار بغلبة الطابع السياسي التحريضي وشهدت دعماً مالياً معنوياً ضخماً للحركات الصهيونية في فلسطين ثم لإسرائيل، وازدادت العلاقة توثُّقاً مع الحكومة الفرنسية.

ومع الغزو النازي لفرنسا ازداد عدد اللاجئين من بولندا وهولندا وغيرها من المناطق الواقعة تحت الاحتلال النازي. ولقد استقر النشاط الصهيوني في منطقة جنوب فرنسا في جمهورية فيشى. وفي عام 1941 أُنشئت في فيشي حركة الشباب الصهيوني بقيادة سيمون ليفيت. التي لعبت دوراً بارزاً في تهريب اليهود اللاجئين عبر الحدود إلى إسبانيا وسويسرا ومنها إلى فلسطين، بل شاركت في المقاومة المسلحة. وفي عام 1942، ساهم الشباب الصهيوني في تولوز في تشكيل ما عرف بالجيش اليهودي الذي لعب أيضاً دوراً مهماً في توطين اللاجئين اليهود الفارين في فلسطين وشارك بعدئذ في وحدات فرنسا الحرة تحت قيادة ديغول.

وتشكَّلت في عام 1947 منظمة الاتحاد الصهيوني الفرنسي التي رأسها أندريه بلوميل وهو اشتراكي من أتباع ليون بلوم كما أنه قانوني شهير، ولعبت تلك المنظمة دوراً بالغ الأهمية في عمليات الهجرة غير الشرعية عَبْر الموانئ الفرنسية إلى فلسطين. كما قدَّمت مساعدات مالية هائلة للاستيطان الصهيوني في فلسـطين، وخصوصاً بعـد صدور قرار التقسيم، حتى أن الهاجاناه وحدها تلقت ما يزيد على 2 مليون من الفرنكات.

ومع اندلاع حرب تحرير الجزائر عام 1954، كانت كل الحركات اليهودية في فرنسا بحلول الستينيات مؤيدة للصهيونية وإسرائيل حتى أن الحاخام الأكبر يعقوب قبلان كان الرئيس الفخري لحركة مزراحي (عمال مزراحي في إسرائيل)، وشاركت مشاركة فعالة في كل الجهود الصهيونية في فرنسا.

وقدمت الحركة الصهيونية والمؤسسات اليهودية في فرنسا مساعدات هائلة إلى إسرائيل قبل حرب 1967 مباشرةً، وأثناءها وبعدها، حتى أن حملة التبرعات التي حدثت بعد الحرب مباشرةً أرسلت 4000000 جنيه إسترليني إلى إسرائيل تحت اسم "تبرعات التضامن مع إسرائيل". وقد عارضت الحركة الصهيونية الموقف الرسمي الفرنسي الديغولي بعد الحرب وتشكلت جماعة تحت اسم "لجنة التنسيق بين المنظمات اليهودية في فرنسا" لتشكيل رأي عام ضاغط على الحكومة ومساندة إسرائيل.

حزبياً، تؤيد الجماعة اليهودية في فرنسا الحزب الاشتراكي الفرنسي والاشكناز منهم يؤيدون اليمين والوسط الفرنسيين. والمعنيون بإسرائيل هم من اليسار الفرنسي ويؤيدون سياسات الحكومات العمالية الإسرائيلية أو أية سياسة إسرائيلية معتدلة تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي.

جوديوفوبيا وإسلاموفوبيا

"اليهود الفرنسيون تحت الضغط " كان عنواناً رئيساً في التقرير الإجرائي الثالث أو التقويم السنوي الصادر عام 2006عن "معهد التخطيط لسياسة الشعب اليهودي"، تحت عنوان "الشعب اليهودي بين الازدهار والانحدار". حيث أفاد التقرير أن "اليهود الفرنسيون قلقون جداً على المسار المستقبلي الذي ستسلكه فرنسا سياسياً واجتماعياً. وفي وجه معدّ الهجرة العالي والصعوبات التي تتكابدها على طريق التكامل مع الاتحاد الأوروبي، تجد فرنسا نفسها اليوم عند تقاطع طرق على صعيد التغيير المجتمعي, مع ما ينطوي عليه ذلك من مضامين بالنسبة إلى اليهود - الفرنسيين. وللمرة الأولى في تاريخ فرنسا, قامت موجة من التظاهرات الاحتجاجية وأعمال الشغب نتيجة "للوعكة الاجتماعية" التي بدت علائمها قوية وسط الشبّان المسلمين العاطلين عن العمل, على وجه الخصوص.

ففي تشرين الثاني 2005 قرر هؤلاء الشبان المحبطون الذين يسكنون ضواحي عدد من المدن الكبرى، أن يعبّروا عن شعورهم بالإحباط والإقصاء، وعن كراهيتهم للنظام الحاكم(.....) وبشكل عام, عبّرت أعمال الشغب عن استياء من أداء النظام الفرنسي،  لكن مثيري هذه الأعمال عبّروا عن الوقت نفسه عن "غيرة اجتماعية" من اليهود. ولم تكن عدوانيتهم تلك إلا دليلاً على موجة جديدة من العنف والعداء الأسود للسامية, كما تبيّن بوضوح من خلال عملية خطف وقتل الشاب اليهودي إيلان هاليمي في شباط 2006.

على الرغم من زوال علامات التوتر والشحن, وبعد الجهود الحازمة التي نظمها ساركوزي عاد إلى السطح موضوع خطير وبالغ الحساسية, وهو موضوع "الدمج الاجتماعي" ببعده الانتمائي الديني- الإثني, مع ما يقتضيه من معالجة عاجلة وحاسمة.

ولهذا الموضوع أوجه ثلاثة هي: الوجه الاقتصادي والوجه الثقافي والوجه السياسي.

وعلى المستوى الاقتصادي, بات واضحاً عدم استعداد الجيلين الثاني والثالث من العمال الأجانب (المهاجرين) لتأدية الأعمال "الخدامية" (الممتهنة) ,التي كان يقوم بها آباؤهم وأجدادهم ولقاء أجور متدينة وفي ظل ظروف اجتماعية صعبة. وبالإضافة إلى ذلك, انسجاماً مع ظروف سوق العمل عالية مستوى التنظيم, يميل أرباب المصالح والأعمال الفرنسيون إلى عدم استئجار أبناء الشرائح الاجتماعية الذين قد يثيرون المشاكل في المستقبل. وحتى الشبان العرب والسود الذين يحملون شهادات ثانوية أو جامعية يعتبرون "غير موثوقين" ويجدون صعوبة في العثور على أعمال في عالم المصالح المتدامجة.

وفي الحيّز الثقافي, ينتقد المواطنون المسلمون قيام الجمهورية الفرنسية التي يعتبرونها احتكارية ومتعجرفة. ونظراً لكونهم مضللين بالروايات الإعلامية التي تتحدث عن"المال الذي يأتي بالسهل", من جهة, وبسبب استيائهم من ندرة الفرص التي تسمح لهم باكتساب الديناميكية/الحركية الاجتماعية, من جهة ثانية, يميل هؤلاء المواطنون(المسلمون) إلى عدم التصديق بأن العمل الدؤوب المدعوم بتحصيل علمي عال هو السبيل إلى الاندماج الاجتماعي الناجح. وهم غير راضين عن منظومة القيم الغربية التي لا تقدم لهم حلولاً عملية, إلا أن حملهم للقيم الفردية واندماجهم في المجتمع كأفراد مستفيدين ومستهلكين سببّاً لهم "أزمة هوية" وجعلاهم يفتشون عن نموذج بديل في قيمه ومعانيه".

وأضاف التقرير: "وقد لا يسهل فهم النزعة إلى الاندماج التكاملي بدون معاينة الموقف السلبي من اليهود وسط العديد من شرائح السكان الفرنسيين. ونشير في هذا الصدد إلى أنه, على الرغم من المساعي المكثفة والمنسقة التي بذلتها الشرطة(الفرنسية), والتي أدّت إلى تراجع الأعمال العنيفة المعادية للسامية بنسبة 48 % (من 974 حادثاً عام 2004 إلى 504 حوادث عام 2005), ما زالت معاداة السامية تتسلل إلى الجدل العام في فرنسا, بشكل تدريجي, إلى درجة أن 33 % من المواطنين الفرنسيين باتوا يصنّفون أنفسهم في خانة "العنصريين".

واعترف معدو التقرير بأن "إرهاب الأجانب" موجّه بالدرجة الأولى إلى العرب والسود وبالدرجة الثانية إلى اليهود الأكثر اندماجاً ويكشف عن التآكل الذي أصاب الهوية الفرنسية والتلاحم الاجتماعي الفرنسي على مر السنين. إذ أن كل قطاع اثني- ثقافي من قطاعات المجتمع الفرنسي يميل إلى تفادي اللقاء مع القطاعات الأخرى المشابهة. واليهود، الأكثر التزاماً, يميلون إلى التجمع طوعاً ضمن ما يمكن وصفه بـ"الغيتو الاجتماعي".

وكان الفيلسوف مكسيم رودنسون قد ابتدع تعبير الـ "جوديوفوبيا" Ju-deophobia  للتدليل على شعور العداء تجاه اليهود وحدهم. ويميز أيضاً بين نوعين من "الجوديوفوبيا"، جاء تعبيرها الأول بدوافع دينية ويمكن فهمه في إطار الصراع التاريخي بين الديانتين اليهودية والمسيحية. أما تعبيرها المعاصر المستند إلى أساس التمييز العرقي فحديث النشأة نسبياً.

تهجير لا هجرة

بلغ إجمالي عدد اليهود الفرنسيين الذين هاجروا إلى إسرائيل خلال الفترة 1948-2012 نحو 78981 نسمة، بمعدل وسطي سنوي يقارب 1215 مهاجراً سنوياً. وهذا معدل منخفض قياساً بمعدل هجرة يهود الاتحاد السوفييتي السابق، وإن أعلى عدد من اليهود الفرنسيين الذين وصلوا إلى إسرائيل خلال العقود السابقة كان 5292 يهوديا فرنسيا وصلوا إسرائيل في العام 1969.

وهكذا تنفرد فرنسا اليوم بإرسال أعداد من مواطنيها اليهود إلى إسرائيل. يأتي ذلك ضمن خطة إستراتيجية تعتمدها حكومة بنيامين نتنياهو، بالتعاون مع تنظيمات يهودية في فرنسا أهمها "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية" (CRIF) وتهدف إلى "إنقاذ اليهود الفرنسيين" أو استقطابهم كمهاجرين إلى إسرائيل، في ظلّ تراجع نسبة المهاجرين وارتفاع نس ب الهجرة المعاكسة. وكانت خطة وزارة الاندماج الإسرائيلية ترمي إلى استقطاب عدد مهاجرين يهود من فرنسا إلى إسرائيل يصل إلى 4000 مهاجر في العام 2014، و5000 في العام 2015، و6000 في العام 2016.

وشملت الخطة زيادة في عدد المبعوثين الإسرائيليين، فقامت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً بإضافة ثلاثة مبعوثين جدد إلى "الوكالة اليهودية" وثلاثة آخرين إلى عديد العاملين في السفارة الإسرائيلية في باريس، معظم هؤلاء ينتمون للأحزاب اليمينية، خاصة "إسرائيل بيتنا" الذي يتزعّمه أفيغدور ليبرمان، وحزب "البيت اليهودي" الذي يتزعمه تانيت. أضف إلى ذلك مبعوثين عديدين من الشباب سيتمّ توزيعهم على عدد من المدارس الفرنسية الخاصة التي تدرّس اللغة العبرية وتتناول دولة إسرائيل. الهدف هو تحريض اليهود على الهجرة، وتعزيز معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل.

 وتسعى الخطة إلى تحقيق أهدافها عبر خطوتين: الأولى قوامها الدعاية، والثانية قوامها الدمج. على مستوى الأولى، تمت زيادة الدعاية الإعلامية في فرنسا، التي تروج لمزايا الهجرة، وتسمي الهجرة "عاليه" وتعني "الصعود". كما تستخدم الدعاية الإعلامية عدداً من الشعارات أهمها: "عاليه" إلى بر الأمان في إسرائيل. ويركز طرح الدعاية الإعلامية على صورة اليهودي الضحية، والدور الإسرائيلي في جلبه إلى المكان الآمن الوحيد لليهود: إسرائيل.

كما تركز الدعاية التي تحضر في الندوات وورش العمل التي تعقدها "الوكالة" أربع مرات أسبوعياً، على تقديم مفصّل للمساعدات والإغراءات المادية للراغبين بالهجرة إلى إسرائيل: مساعدات السكن والتعليم والقروض والاعتراف بالرخص والشهادات الفرنسية في أغلب المجالات، وتسهيل الطريق أمام رجال الأعمال لفتح مصالح اقتصادية وتخفيض الضرائب وغير ذلك.

 وتتمحور الخطوة الثانية حول دمج المهاجرين الجدد في المجتمع الإسرائيلي، فتتم عن طريق إيجاد عمل وسكن إلخ. وقد اعتمدت الحكومة الإسرائيلية ميزانية بمبلغ 3,8 مليون يورو لإزالة ما سمته بـ"العوائق الإدارية"، وتسهيل اندماج الوافدين.

وتروِّج المنظمات اليهودية والمندوبون لأشكالٍ من المغريات الخاصة باليهود الفرنسيين، في ظل ظروفٍ اقتصادية صعبة تعيشها فرنسا. إذ أشارت المفوضية الأوروبية في بروكسل إلى إخضاع وضع فرنسا لـ"مراقبة مشددة" بسبب "غياب التنافسية وارتفاع مستوى ديونها". كما أعلن "المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية" أن إجمالي نسبة البطالة بلغ نسبة 8.9% خلال الربع الأخير من العام 2013. ومن الملاحظ أن الظروف الاقتصادية تؤدي دوراً بارزاً في ازدياد عدد روّاد الندوات والمعارض والمؤتمرات الدورية وورش أعمال والبرامج التعليمية والتطوعية الطويلة الأمد كـ"رحلة الماسة" - مشروع مشترك بين الحكومة الإسرائيلية والوكالة اليهودية في فرنسا -، "ومعرض سنوي" تشرف عليه الوكالة اليهودية بالتعاون مع شركة العقارات ICUBE الإسرائيلية.

وتستند دعاية المؤسسات الصهيونية بين يهود فرنسا على أيديولوجيا دينية متعصبة، بعيداً عن لغة العصر ومنظومة القوانين والاتفاقات والقرارات التي تعتبر مرجعية للصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي، وللعلاقات الدولية بشكل عام. إذ تنكر الدعاية الصهيونية المنهجية أي وجود وأي حق للشعب الفلسطيني في وطنه، وتعتمد عوضاً عن ذلك شعار "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، وتلغي في خطابها وموادّها الدعائية حقيقة الصراع المستمرّ مع "السكان الأصليين"، الشعب الفلسطيني.

وقد أظهرت دراسة أجرتها "وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية" ونشرتها مؤخراً حول تصاعد معاداة السامية في أوروبا. وأظهرت الدراسة نتائج مثيرة في ما يتعلق بفرنسا، إذ اعتبر 52% من اليهود الفرنسيين أن معاداة السامية "مشكلة كبيرة جداً"، بينما وجدتها نسبة 33% "مشكلة كبيرة إلى حدّ ما". وبفعل ذلك، فإن نسبة 49% من اليهود المتواجدين في فرنسا يأخذون بعين الاعتبار إمكانية الهجرة، وليس بالضرورة إلى إسرائيل.

جدار ديودونيه

من اللافت قيام أشخاص يمارسون أفعالاً عنصرية ضد اليهود، بـ"التضامن"مع القضية الفلسطينية. لكن هذا "التضامن" هو أشبه بالموقف الكيدي، لكونه لا ينطلق من مبادئ وقيم إنسانية، ولا يرتبط بالنضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة وتقرير المصير. والمثال الفاضح عن ذلك يجسده الممثل الكوميدي ديودونيه مابالا، الفرنسي من أصل أفريقي (الكاميرون). إذ يثير جدلاً واسعاً في الإعلام الفرنسي، فيجد كثيرون أن أعماله، خصوصاً حركته الشهيرة التي ابتكرها في مسرحيته "الجدار"، معادية للسامية. الحركة، وهي عبارة عن حركة النازية معكوسةً "quenelle"، انتشرت في الأوساط الشبابية، حتى أن لاعب كرة القدم الفرنسي الشهير نيكولا أنيلكا قلّدها في الدوري الإنكليزي. كما رفضت أكثر من ثلاث مدن فرنسية استضافة عروض ديودونيه لأن أعماله مسيئة وتنتهك القوانين الفرنسية المتعلقة بالتحريض على الكراهية والعنصرية و"تنكر المحرقة"، حسبما صرّح رؤساء البلديات إثر إلغاء عروضه في مدنهم. وفي المقابل، يحظى ديودونيه بشعبية كبيرة. فمثلاً، أعماله على "يوتيوب" (وتقدر بمئات السكتشات) سجّلت مئات آلاف المشاهَدات. وبحسب صحيفة "ليبراسيون" و"باريس دايلي"، بلغت إيراداته 1.8 مليون يورو أوروبي في العام 2012. الجدير بالذكر هنا أن ديودونيه كان قد وقّع لائحة "يورو فلسطين" في العام 2002، التي تمحورت حول نهاء احتلال الأراضي الفلسطينية عبر الامتثال إلى قرار مجلس الأمن الدولي 242 والضغط على الاتحاد الأوروبي والحكومة الفرنسية لإجبار إسرائيل احترام قرارات الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف". وقّع اللائحة أكثر من 12000 شخص.

ولعل الانجاز الأكثر أهمية يكمن في الإدعاء الإسرائيلي بنجاح عملية أسرلة يهود فرنسا. ففي هذا السياق زعم الكاتب الإسرائيلي يوسي شاين، في مقالة نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت في 14/1/2015 أن قسماً كبيراً من يهود فرنسا يجتاز منذ سنين عمليات "الأسرلة" المتسارعة باللغة وبالثقافة وبالدين، في البيت وفي الطائفة. وهم يزورون البلاد بشكل دائم، واعون للسياسة الإسرائيلية، يستمتعون بالموسيقى وبالأفلام الإسرائيلية بل ويقرأون الأدب الإسرائيلي الذي أصبح محبوبا حقا في أوساط الناشرين الفرنسيين. وتبرز الأسرلة على نحو خاص في الكُنس.

وأضاف شاين، تبدد الحلم الفرنسي- الجمهوري بالنسبة للعديد من اليهود ليس فقط بسبب التواجد العربي المتزايد الذي يترافق واللاسامية، بل وأيضاً بسبب تحول إسرائيل لتصبح مركز جذب وتأثير على العالم اليهودي. وأن الشرك الأكبر هو ليهود فرنسا الأكثر علمانية. فالكثيرون منهم ما يزالون يؤمنون بالقيم الكونية للجمهورية، وعلى رأسها عقيدة العلمانية. وهم يشددون على أن فرنسا، وليس إسرائيل هي وطنهم القومي.

إجمالاً، تعد هجرة يهود فرنسا من حيث الجوهر قضية سياسية من الدرجة الأولى- مفبركة من قبل إسرائيل- ولها أبعادها ومدلولاتها الإستراتيجية والسياسية والاجتماعية، وإسقاطاتها على مجرى ومصير الصراع والتطور في الشرق الأوسط وفي إسرائيل.

اعلى الصفحة