|
|||||
|
لا وجود للحرية دون فضيلة
باتريك جيه بوكانن, سياسي ومفكر أمريكي مخضرم, شغل منصب مستشار لثلاثة رؤساء أمريكيين, وخاض معركة تسمية المرشح لمنصب الرئيس عن الجمهوريين مرتين في عامي 1992 و1996, رشح نفسه للانتخابات الرئاسية عن حزب الإصلاح عام 2000, وهو كاتب لعمود صحافي دائم في عدد من الصحف الأمريكية, وعضو مؤسس لثلاثة من أشهر برامج التلفزيون العامة في محطة إن. بي. سي ومحطة سي. إن. إن. من كتبه: يوم الحساب, حالة طارئة, عندما يصير الصواب خطيئة, الخيانة العظمى.. وكتابا: محق منذ البداية وجمهورية لا إمبراطورية, اللذان اعتبرا من أكثر الكتب بيعا في الولايات المتحدة. في هذا الكتاب, ينبّه بوكانن إلى أن الموت الذي يلوح في أفق الغرب هو في الواقع موتان: موت أخلاقي, بفعل الثورة الثقافية التي قلبت القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية، وموت ديموجرافي – بيولوجي يظهر بوضوح على شاشات الكمبيوتر وفي السجلات الحكومية التي تشير كل يوم إلى اضمحلال القوى البشرية في الغرب, وإصابة ما تبقى منها بشيخوخة لا شفاء منها إلا باستقدام المزيد من المهاجرين الشبان, أو بالقيام بثورة ثقافية مضادة تعيد القيم الدينية والأخلاقية إلى المكان الذي شغلته خلال سنوات النمو والازدهار والموت المقبل مريع بشكل خاص, لأنه وباء من صنع أيدي الغربيين أنفسهم, ما يجعله أسوأ بكثير من الوباء الأسود الذي قتل ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر. فالوباء الجديد لا يقتل إلا الشباب, ما يحول الغرب عموماً وأوروباً بشكل خاص إلى قارة للعجائز. والقصة ليست مجرد تخمينات أو وجهات نظر, إنما هي حقيقة واقعة تصدم لفرط وضوحها خصوصاً عندما تبدأ الأرقام بالحديث. فوفقاً للإحصاءات الحديثة، هبط معدل الخصوبة عند المرأة الأوروبية إلى 1.4 طفل, علماً أن الحاجة تدعو إلى معدل 2.1 طفل لمجرد تعويض وفيات السكان الموجودين الآن دون الحديث عن زيادة عددهم. وإذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية على ما هو عليه فإن سكان أوروبا البالغ عددهم 728 مليون نسمة, بحسب إحصاء عام 2000, سيتقلصون إلى 566 مليوناً عام 2050, ثم إلى 207 ملايين في نهاية هذا القرن. وفي المقابل, وفي الوقت الذي تموت فيه أوروبا يشهد العالم الثالث انفجاراً سكانياً لم يسبق له مثيل, بمعدل 80 مليوناً كل عام, ومع حلول عام 2050 سيبلغ مجمل نموه السكاني أربعة مليارات إضافية من البشر. وهكذا يصبح كابوس الغرب حقيقة وتصبح أوروبا بكل بساطة ملكاً للعالم الثالث بعد وقت ليس بالبعيد وبالنسبة للمؤلف, فإن الأرقام تصبح مخيفة أكثر عند تناولها لتشخيص مرض النقص السكاني على مستوى الدول والأمم بعد 50 عاماً من الآن, ففي ألمانيا سيهبط التعداد السكاني من 82 مليوناً إلى 59 مليون نسمة وسيشكل عدد المسنين ممن تجاوزوا الـ65 عاماً أكثر من ثلث السكان, أما إيطاليا فستشهد تقلص عدد سكانها البالغ 57 مليوناً إلى 41 مليوناً فقط, مع نسبة مسنين تصل إلى 40% من التعداد العام للسكان, وفي إسبانيا ستكون نسبة الهبوط أكثر من 25%, وستشهد روسيا تناقص قواها البشرية من 147 مليوناً إلى 114 مليون نسمة, ولا تتخلف اليابان كثيراً في اللحاق بمسيرة الموت السكاني فقد هبط معدل المواليد اليوم إلى النصف مقارنة بعام 1950 وينتظر اليابانيون تناقص أعدادهم من 127 مليون نسمة إلى 104 ملايين عام 2050. لكن لماذا توقفت أمم أوروبا وشعوبها عن إنجاب الأطفال وبدأت تتقبل فكرة اختفائها عن هذه الأرض بمثل هذه اللامبالاة؟. يرى المؤلف أن الجواب يكمن في النتائج المميتة لانتصار الثورة الثقافية في الغرب, وأن الموت الأخلاقي الذي جرته هذه الثورة على الغربيين هو الذي صنع موتهم البيولوجي, فانهيار القيمة الأساسية الأولى في المجتمع وهي الأسرة, وانحسار الأعراف الأخلاقية الدينية التي كانت فيما مضى تشكل سدا في وجه منع الحمل والإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية, إضافة إلى تبرير لا بل تشجيع العلاقات الشاذة بين أبناء الجنس الواحد, كل هذا يدمر بشكل تدريجي الخلية المركزية للمجتمع وأساس استمراره وهي الأسرة. وتبدو لغة الأرقام هنا أكثر هولاً, فقد ارتفع الرقم السنوي لعمليات الإجهاض في الولايات المتحدة, من ستة آلاف حالة سنويا عام 1966 إلى 600 ألف عام 1973 وهو العام الذي سمح فيه بالإجهاض, واعتبرت عملية قتل الأجنة حقا للمرأة يحميه الدستور, وبعد عشر سنوات وصل الرقم إلى مليون و500 ألف حالة إجهاض في العام الواحد أما نسبة الأطفال غير الشرعيين فهي تبلغ اليوم 25 في المائة من العدد الإجمالي للأطفال الأمريكيين, ويعيش ثلث أطفال أمريكا في منازل دون أحد الأبوين, من ناحية ثانية بلغ عدد حالات الانتحار بين المراهقين الأمريكيين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1960, أما عدد مدمني المخدرات فهو لا يقل عن ستة ملايين شخص في الولايات المتحدة وحدها. لقد تناقصت إلى حد كبير أعداد الشبان والشابات الراغبين في الزواج, في مجتمع يسمح بالحرية الجنسية الكاملة ويتيح المساكنة بين الرجل والمرأة دون أي رابط شرعي أو قانوني، أما قضية الشذوذ الجنسي وتشريع الزواج بين أبناء الجنس الواحد فقد بلغت حدا لم يكن ممكنا مجرد تخيله في السابق, فعندما انفصلت الممثلتان السحاقيتان آن هيك وإيلي دي هينيرس زارهما الرئيس الأمريكي بنفسه ليقدم تعاطفه, وصارت هيلاري كلنتون أول سيدة للبيت الأبيض تمشي في تظاهرة للواطيين لإبداء تعاطفها مع قضيتهم ويخلص المؤلف للقول, إن هذه هي إحصاءات مجتمع منحط وحضارة تموت، وأن بلداً مثل هذا لا يمكن أن يكون حراً فلا وجود للحرية دون فضيلة، ولا وجود للفضيلة بغياب الإيمان.
|
||||