|
|||||||
|
ترجمات معهد أبحاث الأمن القومي مع نهاية عملية "الجرف الصلب" ـ المعركة العسكرية التي استمرت خمسين يوما بين إسرائيل وحماس وسائر المنظمات في غزة ـ ساد شعور امتعاض كبير وسط الجمهور في إسرائيل. تجسد ذلك بالكلام الانتقادي حول طريقة إدارة الحرب الذي وجهه بعض أعضاء الحكومة والساسة من طرفي الخريطة السياسية في إسرائيل, وفي مقالات تحليلية لكبار الكتّاب في إسرائيل. كما سُمع في الرأي العام في إسرائيل خلافات رأي شرعيّة بشأن أهداف الحرب المطلوبة. زعم البعض أنه كان يجب العمل بحزم أكبر لإخضاع حماس وإقصائها عن السلطة في غزة, وآخرون دعوا "للاكتفاء" بضربة عسكرية قاسية لحماس وشركائها, تؤخّر الجولة التالية إلى أبعد وقت ممكن, وتضمن الهدوء والأمن للمستوطنات الحدودية الجنوبية لإسرائيل. على أي حال, النغمة التي سيطرت خلال العملية ومع نهايتها كانت أن إسرائيل لم تنجح في تحقيق حسم وصورة انتصار واضحة ضد منظمّة إرهابيّة أصغر منها من حيث حجمها ومواردها. من هنا كانت الطريق قصيرة لاستنتاج أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها. بشكل عام, اختبار مجمل لنتائج المعركة, قبل أن تنتهي العملية العسكرية باتفاق أمني _ سياسي, واقعي أو شرعي, غير ممكن. لذلك لا يمكن تحديد ما إذا تحقق هدف المعركة كله. بالإضافة إلى ذلك, غياب البعد, الذي يسمح به الوقت فقط, يقود بالضرورة إلى استنتاجات لا أساس لها وأحيانا حتى خاطئة بالنسبة لنتائجها. على الرغم من هذه القيود, كان يمكن حتى قبل اندلاع الحرب وصف وتوضيح خصائص المعركة والخصم, المسؤولة عن حالة الغموض والتي تؤدي إلى طمس هوية "المنتصر". طابع هذه الخصائص يلزم باستخدام مصطلحات انجازات وإخفاقات لوصف نتائجها وليس بالتحديد مصطلحات انتصار وحسم, غير الموجودة للديمقراطيات الغربية التي تحارب بحسب المعايير والمكابح المقتطعة من طابع تلك الأنظمة, في معارك ليست بحروب "حاصل صفر". يبدو أن بعض أسباب الإحباط الدائم, التي ترافق المعارك العسكرية التي نفذتها إسرائيل أمام حزب الله, حماس وشركائه في غزة, ناجم عن التحديد غير الدقيق والسطحي لخصومها, كمنظمات إرهابية فقط, ومن عدم استيعابها لنوع المعركة التي تديرها ضدها. حماس, الجهاد الإسلامي وبالطبع أيضاً حزب الله ليست فقط "منظمات إرهابية", إنما جيوش "عصابات إرهابية", تدمج طابع الإرهاب والعصابات, تعمل ضمن السكان المدنيين وتحتمي بهم. هناك عدة مميزات لجيوش عصابات إرهابية ولإستراتجية قتالهم أ- بنية تنظيمية كجيش نظامي بكل معنى الكلمة: بنية قيادية تسلسلية ومنقسمة إلى ألوية, كتائب وسرايا. هم مدربون وموجهون بحسب خطة نظامية ومنسقة, أحياناً أيضاً على يد جيوش دول داعمة (في هذه الحالة إيران), وحتى أنهم يطورون منظومة تدريبات وتوجيه مستقلة. ب- لديها وسائل قتالية وعتاد متطور تؤمنه الدول الداعمة, وبعضها طور قدرته لإنتاج سلاح بشكل مستقل. ج- تقاتل على الأغلب بهجمات عصابات "ضرب وهرب, تخندق ولسع", ويهيئون مواقع قتالية وشبكة أنفاق للقتال داخل منازل المواطنين, في حُفر أو في "أماكن طبيعية محمية". د- يعملون بحسب منطق الإرهاب ـ ضرب غير انتقائي فعلي ومُوجّه مسبقاً نحو مدنيي العدو, في مناطق مدنية واضحة ـ، لذلك هم يطلقون مئات وآلاف القذائف الصاروخية, صورايخ وقذائف هاون بشكل عشوائي باتجاه مستوطنات مدنية, لقتل أكبر قدر من المدنيين. هـ- يلزمون الطرف الذي يحاربهم بتحمل المسؤولية أيضاً عن كل ضربة تستهدف مواطنيهم, الذين يستخدمونهم كدرع بشري. لذلك هم يعرضون صور قصف مواطنيهم, وبشكل أساسي النساء والأولاد, أمام أنظار الرأي العام العالمي. هذه الطريقة تستخدم كحجر أساس في إستراتيجية القتال التي تتبعها جيوش "عصابات إرهابية", وهي ناجمة عن قراءة دقيقة لمشاعر الرأي العام العالمي وأيضاً في إسرائيل نفسها لمس كبير بالأبرياء, وهي مخصصة لتعقيد الأمور على الدولة التي تحاربهم من ناحية طريقة القتال, عرقلة زخمها ومنح مقاتليهم فترة زمنية, لكي يستطيعوا الاختباء والهروب من ذراع جيش الخصم. و- استخدام المواطنين الأبرياء, الذين يحمونهم بممتلكاتهم وبجسدهم لقاء تعويض مالي يُدفع لهم مسبقاً. أحياناً هم يطبقون ذلك في التهديدات. على أي حال, بيوت المواطنين تتحول طوعاً أو كرهاً إلى مواقع عسكرية, بينما في داخلها أو في محيطها القريب يطلقون قذائف صاروخية, صواريخ أو قذائف هاون. بالتبادل, تستخدم البيوت مخازن لوسائل قتالية وبعضها يلغّم. إسرائيل التي خرجت إلى معركة عسكرية ضد حماس, حددت مسبقاً أنها ستكون محدودة في أهدافها. رئيس الحكومة الإسرائيلية حدّد الهدف المركزي لعملية الجرف الصلب كضمان الهدوء والأمن لسكان الجنوب. وفي أعقاب محاولات الهجوم لعدة خلايا كبيرة جداً ومسلّحة جيداً من حماس, اخترقت الحدود, نمت في أطراف الكيبوتسات وكبحوا قبل أن يتمكنوا من تنفيذ مجزرة بالسكان, ينضم أيضاً هدف هدم الأنفاق الهجومية التي تخترق إلى المستوطنات الحدودية. أما حماس, التي بدأت الحرب بوضع من الدونية وصعوبات في غزة خصوصاً وفي الساحة الفلسطينية عموماً, تستطيع أن تتباهى بعدة انجازات: إدارة معركة عسكرية مستمرة ومكثفة, بشكل أساسي بواسطة إطلاق قذائف صاروخية ومدافع هاون باتجاه عدة مدن في أنحاء إسرائيل, وإزعاج مواطنيها لاسيما في مستوطنات الجنوب؛ قتل 74 إسرائيلياً, من بينهم 67 ضابطاً وجندياً؛ نجاحها في عرقلة الطيران المدني من وإلى إسرائيل لمدة يومين. إسرائيل من جانبها قصفت البنى التحتية الخاصة بحماس ومقاتليها, وكما قتل في نهاية الحرب أربعة من كبارها, وفرضت على حماس وشركائها القبول بوقف النار بالشروط نفسها التي رفضتها قبل عدة أسابيع. فلقد كان واضحاً مسبقاً أن زعماء حماس خرجوا بإعلانات متباهية حول انتصارهم, من دون صلة لنتائج المعركة العسكرية الحقيقية وعلى الرغم من الدمار الهائل الذي لحق بالسكان وبمدينة غزة. الاحتساب الحقيقي للنتائج وللإصابات والأضرار التي حصلت بالفعل تمت في غرفة خفية, وعلى الأقل بحسب مسؤولين رفيعي المستوى في القيادة وفي الاستخبارات الإسرائيلية, يوجد فجوة ملحوظة بين فهم زعماء حماس لنتائج العملية وبين التصريحات العلنية. ففي إسرائيل أخفى رئيس الحكومة ووزير الدفاع تصريحات انتصار إسرائيل واكتفوا بمقولة واضحة وحاسمة بأن الأهداف العسكرية للعملية أنجزت حتى النهاية, ولأنه يجب الاستعداد للمعركة السياسية على استكمال العملية بواسطة إبرام تسوية أمنية فعالة ستضمن الهدوء والاستقرار لسكان الجنوب, في المباحثات المتوقعة في القاهرة. لذلك, يُلقى على عاتق حكومة إسرائيل السعي لبلورة تسوية ستركز على وعد بحد قدرة إعادة تسلح حماس وشركائها في القطاع. وعليها أن تصر على ألا تكون حماس الجهة المسؤولة عن ترميم القطاع, وألاّ تسيطر على أموال المساعدة الضخمة المتوقع أن تكون متدفقة إليها وعلى طريقة توزيعها. وعليها التأكّد من أن دخول البضائع, العتاد والأشخاص إلى القطاع سيكون تحت سيطرة ورقابة في المعبر الحدودي في رفح على يد مصر, وفي الجانب الفلسطيني سيكون تواجد عناصر من السلطة الفلسطينية وجهاز رقابة دولي, سيشرف على دخول البضائع ومواد البناء, الحديد والمعادن وعن وصولها إلى أهدافها المحددة لحاجات مدنية فقط. وإذا نجحت إسرائيل حقاً في منع تسلح حماس وشركائها في غزة من جديد, سيتحقق هدوء أمني وستمنع إطلاق قذائف صاروخية باتجاه مستوطناتها في الجنوب ونشاطات عدائية أخرى في مناطقها على مدى زمن طويل, وستنجح أيضاً في منع الانزلاق إلى معركة عسكرية أخرى في غزة _ سيكون بالإمكان تحديد أن المعركة في غزة أدت إلى الانجازات التي هي مساوية لمصطلح "انتصار استراتيجي". لحين كتابة هذه السطور تحديداً, يوجد بين الأطراف المشاركة في عملية الجرف الصلب وضع انتقالي لوقف نيران مؤقت, تحقق بوسيط مصري وبمشاركة جهات السلطة الفلسطينية. الأمر معد لإتاحة متسع من الوقت لإدارة مفاوضات ليست تحت الضغط, لإبرام تسوية أو اتفاق طويل المدى بين الأطراف. هناك ثغرة كبيرة جداً بين المواقف الصادرة عن حماس ـ التي تطمح لإقامة مرفأ, فتح مطار وفتح حر للمعابر وبين موقف إسرائيل ـ القاضي بنزع السلاح بشكل كامل من القطاع, تجريد المنظمات المسلحة من سلاحها ومنع أي نشاط إرهابي من غزة. لذلك سيكون من المنطق أن يتطلب ذلك تسويات وتليين في مواقف الطرفين لكي يتوصلوا إلى اتفاق, أو على الأقل, إلى تسوية أو تفاهمات واقعية. إذا حصل ذلك حقاً, ستسود فترة هدوء أمني بين إسرائيل وغزة لفترة زمنية غير معلومة. بالإضافة إلى الجبهة الجنوبية, إسرائيل لا تستطيع استبعاد كافة الاحتمالات بأن تصطدم بمعركة أخرى على الحدود الشمالية مع حزب الله ـ هو أيضاً جيش عصابات إرهابية يحتمي بالمواطنين ـ، على الرغم من أن حزب الله في الوقت الراهن يشارك في المواجهة في سوريا ويتلقى نتائجها في لبنان, إلا أن مواقفه المتطرفة حيال إسرائيل وإخضاع المصالح اللبنانية لصالح مصالح راعيته إيران قد تجره في نهاية المطاف إلى محاربة إسرائيل. حزب الله جيش عصابات إرهابية يفوق بقدرته كثيراً تلك المنظمات في غزة, هو مدرب ومسلح أكثر, ومزود بعشرات آلاف القذائف الصاروخية تصل لمدى بعيد ودقيق جداً, تحمل تسليحاً أضخم. على ذلك, مواجهته مع إسرائيل ستكون بالطبع, أخطر بكثير. في مثل هذه الحالة ستجد إسرائيل نفسها تواجه مجددا معركة عسكرية مشابهة في طابعها عملية "الجرف الصلب", لكن تختلف كثيرا في نطاقها ومعايير الدمار المتوقّع نتيجة ذلك. وبالنسبة للحالة التي ستصطدم فيها إسرائيل بمواجهة أخرى مع جيوش العصابات الإرهابية لحماس والجهاد الإسلامي في جبهتها الجنوبية, أو في الجبهة الشمالية أمام حزب الله, فعليها استخلاص العبر العسكرية والعملانية من المعركة الحالية, وتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية على حد سواء. لكن في المقابل, عليها اتخاذ بأسرع ما يمكن مبادرة في المجال السياسي العام أمام الفلسطينيين. إسرائيل, التي دفعت ثمناً خيالياً لدى الرأي العام العالمي بسبب تعدد الإصابات المدنية من جراء المعركة العسكرية التي فرضتها عليها حماس وشركاؤها, تستطيع ترميم قواعد شرعيتها المستنفدة عن طريق سعيها لاستئناف العملية السياسية مع الفلسطينيين. التأرجح الإقليمي, العداء المتزايد لحركة "الأخوان المسلمون" في الدول العربية وفي إمارات الخليج والنمو الهمجي للجهاد السلفي المتطرف, خلقت بالنسبة لإسرائيل بيئة مريحة للشراكة الإستراتيجية مع الدول العربية المذهبية, التي قد تدعم السلطة الفلسطينية, أو حتى حكومة وحدة فلسطينية ـ إذا ما بقيت ـ ومنحها شبكة أمنية لاتخاذ القرارات الحاسمة التي ستسمح بالتقدم نحو تحقيق تسويات سياسية مرحلية, أو تسوية دائمة مع إسرائيل. ومن الممكن خلافا للموقف العدواني والهجومي الذي أظهرته حماس في المعركة في غزة, ستوضح نتائجها لها بأن مغامرة عسكرية أخرى في غزة ستدفع الحكومة الإسرائيلية إلى سياسة مختلفة عن تلك السياسية المنضبطة التي اتبعتها في المعركة الحالية, التي قد تقود في المرة القادمة إلى خسارة حماس للسلطة في القطاع. في جانب العبر التي يجب أن تستخلصها إسرائيل من نوع المعركة التي جرت في الجرف الصلب, يوجد أيضا عبرة تتعلق بالدول الغربية. التقدير الشائع في العالم الواسع ـ والذي بحسبه تحدي محاربة العصابات الإرهابية التي تحتمي بمواطنيها هو مشكلة خاصة بإسرائيل, التي وجه لها انتقاد لاذع بسب المس غير المقصود بمواطنين كثر ـ قد يتبين كخطأ. مواجهات من هذا النوع قد تصل في المستقبل غير البعيد أيضا إلى باب زعماء الدول الغربية. قد يتم استدعاء جيوشها إلى حرب ضد داعش التي تعمل كجيش عصابات إرهابية في العراق وسوريا. وإزاء الطابع الوحشي لداعش (والشركاء المحتملين الآخرين) وضرورة مهاجمته من الجو ومن الأرض أيضاً على يد القوات الغربية, بينما من المتوقع أن يكون متحصناً وسط السكان المدنيين في الأماكن التي يعمل فيها, ستحد كثيراً قدرات المهاجمين لمنع استهداف كبير بالمواطنين. في وضع كهذا سيحتاجون هم أيضاً للنجاح في اختبار عسكري ـ أخلاقي, التي اتهمت إسرائيل بسببه بحرب غير متكافئة وبـ"يد خفيفة جداً على الزناد", بثمن إنساني باهظ. |
||||||