خطة فكرية ملحة للتصدي لــ"داعش"

السنة الرابعة عشر ـ العدد 157 ـ (ربيع أول 1436 هـ) كانون الثاني ـ 2015 م)

بقلم: محمود إسماعيل

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

من المسؤول عن ظاهرة تنظيم "داعش" الإرهابي؟ لا شك أن لائحة ليست بالقصيرة يمكن أن تعد للإجابة عن هذا السؤال، فإن في عداد الأجوبة العامل الطائفي البغيض، وجواب آخر هو الاختباء وراء شعارات دينية تقوي العصبية القبلية والمذهبية، أي اتخاذ هذه الشعارات غطاء لأهداف أخرى مختلفة، كأن يقال اليوم إن "داعش" يضم مقاتلين رئيسيين من الجيش العراقي الذي حله بول بريمر بعيد الغزو الأمريكي للعراق، ممن خسروا بحل هذا الجيش مصدر رزقهم والمفعمون بالرغبة العارمة بالانتقام.

في الأجوبة أيضاً، تلك الإمكانيات المادية الضخمة لهذا التنظيم ومقدرته على زرع فلسفة العنف باسم الدين. تطول، إذا، لائحة الإجابة عن أسباب ظاهرة تنظيم " داعش " الغريبة عن العالم العربي والإسلامي. يبقى في جوهر الإجابة سبب رئيسي وهو التراجع الكبير للفكرة العربية، التي لطالما شكلت الأرض التي يقيم عليها الناطقون باللغة العربية من المحيط إلى الخليج، من مسلمين ومسيحيين ويهود وأزيديين وزردشتيين وصائبة، وحتى من هم من أصل أرمني وغيرهم.

هكذا، كانت الفكرة العربية، أي العروبة، بوتقة لمواطنية جامعة. لقد تراجع الفكر العربي، فاتسع المجال لانتشار أقليات عديدة ينتاب الواحد منها الحذر من الأخرى، حتى إذا جاء هذا "الفطر الغريب" أي تنظيم "داعش" ، كان السحق لأقلية تلو أقلية على يد هذه الظاهرة الغريبة. وكان الرد، وإن تأخر، قصف هذا التنظيم بسلاح الطيران.

كانت مواجهة السلاح بالسلاح، لكن، ما كان ينقص من عتاد في مواجهته هو الفكر، أي الرد على أيديولوجيته المرعبة بأخرى لم يتبلغها منتسبوه بعد، وإيجاد أفضل السبل لإيصال فكر يقارع فكره، فيه من قوة الإقناع ما يسمح بتصحيحه. أجل، إنها الحاجة الماسة لخطة فكرية لإعادة بناء ما دمرته وتدمره حرب "داعش".

لماذا يشكل السعوديون العمود الفقري للحركات المتشددة المسلحة؟

من المعروف أن العمود الفقري لكل الحركات المتشددة التي قاتلت في أفغانستان والشيشان وكوسوفو والبوسنة، ولاحقاً في العراق وسوريا وليبيا تحت راية تنظيمات القاعدة المختلفة هم من الجنسية السعودية. التفسير السائد لهذه المشاركة يركز عادة على عاملين أساسيين، كان لهما فعلا تأثير كبير في صنع هذه الظاهرة، وهما:

العامل الأول: المذهب الوهابي الذي تعتمده المملكة السعودية، وتعاليم هذا المذهب تكفر المذاهب الإسلامية الأخرى وتتخذ مواقف متشددة من الديانات الأخرى، تصل إلى حد اعتماد حرب الإبادة ضد أتباع هذه الديانات.

العامل الثاني: توظيف حكومة المملكة الشباب المتطرف من أتباع المذهب الوهابي في حروب الخارج، تحت تأثير دوافع متعددة، أبرزها خدمة السياسات والإستراتيجيات الغربية، وتحديداً الأمريكية، والتخلص من خطر تحول هؤلاء الشباب إلى معارضة قد تطيح بالنظام الملكي السعودي، أو تسهم في خلق وضع مضطرب وغير مستقر، في ضوء تجربة الهجوم الذي قاده جهيمان العتيبي في عام ١٩٧٩ في مكة المكرمة.

هناك عامل آخر، غالباً ما تغفله المقاربات والتحليلات التي يعتمدها محللون وكتاب عرب، ويكمن هذا العامل في البعد الاجتماعي، أي محتوى الفقر في المملكة العربية السعودية، لأن الانطباع السائد أن المملكة، بما لديها من ثروات نفطية، لا وجود للفقر فيها ولا يشكل بعداً اجتماعياً في تحليل الظواهر التي تطفو على السطح السياسي في أكبر دولة في الجزيرة العربية.

لماذا ينضم الشبان العرب إلى تنظيم "داعش"؟

تركز غالبية البحوث والدراسات التي تتناول تنظيم "داعش" على الإستراتيجيات التي يتبعها التنظيم لجذب الشباب إلى عضويته، وعلى الأسباب التي تدفع الشباب الغربي والمتحولين حديثًا إلى الإسلام، إلى أن الانضمام له دون تركيز مماثل على بحث أسباب انضمام شباب دول الإقليم له، ومعرفة الخصائص الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية التي تميزهم، والاختلافات بين الدول في عدد المنضمين ودوافعهم.

وتتفاوت تقديرات المسؤولين في منطقة الشرق الأوسط حول عدد المنضمين إلى التنظيم؛ ففيما لم تنشر السلطات المصرية العدد التقريبي للمواطنين المنضمين إلى صفوف التنظيم، واعتبرت في أغسطس/ آب ٢٠١٤ وجوده في مصر "مجرد دعاية إعلامية تسوق لشيء بلا أساس وغير موجود"، فإن تقديرات المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي في لندن، تشير إلى أن عددهم يبلغ نحو ٣٠٠ مجند. أفصح وزير الداخلية المغربي في كلمته أمام الغرفة الثانية للبرلمان المغربي في ١٥ يوليو/ تموز ٢٠١٤، عن أن عدد المغاربة الذين يقاتلون تحت راية "داعش" يفوق ألفين، ١١٢٢ جاؤوا مباشرةً من المغرب والباقي جهاديون يقيمون في الدول الأوروبية، وأشار وزير الداخلية التونسي في ١٤ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٤ إلى انتماء قرابة ٢٥٠٠ تونسي إلى تنظيمات إرهابية في سوريا والعراق، وأن أجهزة الأمن تمكنت من منع أكثر من تسعة آلاف شاب وفتاة من الالتحاق بالجماعات المقاتلة في سوريا.

وعلى الرغم من ذلك، يُلاحَظ بصفة عامة أن التنظيم يحظى بشعبية إلى حد ما في الدول العربية؛ حيث كشفت نتائج الاستطلاع الذي أجراه المركز العربي للأبحاث والدراسات بالدوحة، خلال شهر أكتوبر/ تشرين أول ٢٠١٤، عينة من ٥١٠٠ شخص موزعة على سبع دول عربية؛ هي: تونس ومصر وفلسطين والأردن والسعودية ولبنان والعراق- عن أن ١١% من المستطلعة آراؤهم ينظرون إلى التنظيم بإيجابية أو إيجابية إلى حد ما مقابل ٨٥% ينظرون له بسلبية. ويلاحظ ارتفاع نسب هذا التأييد مقارنةً بنتائج استطلاعين للرأي أجرتهما إحدى الشركات التجارية لصالح معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى على عينة من ١٠٠٠ مشارك في كل دولة في أيلول وتشرين أول ٢٠١٤؛ حيث كشف هذان الاستطلاعان عن أن نسب مؤيدي التنظيم تبلغ ١% في لبنان، و٣% في كل من مصر والإمارات، و٤% في الكويت، و٥% في السعودية. وتزيد هذه النسبة لتصل إلى ١,١٣ % في فلسطين حسب استطلاع نفذه المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي في أغسطس/ آب ٢٠١٤.

ومن تحليل نتائج هذه الاستبيانات، يلاحظ أن نسب تأييد التنظيم تقل في دول الإقليم عن مثيلتها في بعض الدول الأوروبية؛ وذلك باستثناء فلسطين التي يمكن تفسير ارتفاع النسبة فيها بسبب ظروف الاحتلال وسيطرة حماس على غزة. فوفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة "آي سي أم" ونشرت نتائجه في ٢٧ أغسطس/ آب ٢٠١٤، فإن ٢٥% من الشباب الفرنسيين في الشريحة العمرية ١٨ـ ٢٤ سنة المستطلعة آراؤهم؛ قد أبدوا تأييدهم لـ"داعش". وتنخفض النسبة إلى ٧ % في بريطانيا، و٤ % في ألمانيا. كما يلاحظ غموض الأسئلة المطروحة في هذه الاستبيانات، فهي لم تفرق بين أسباب تأييد الفكرة من ناحية، ومدى تعاطف أفراد العينة مع مشاهد القتل اليومي التي يقوم بها التنظيم من ناحية ثانية، ومدى استعدادهم للانخراط في صفوفه إذا سنحت لهم الفرصة من ناحية ثالثة.

ومع ذلك، فإن نسب تأييد التنظيم التقديرية تخفي في طياتها تهديدات متطرفة وإرهابية كامنة، خاصةً أن مثل هذه الأعداد يمكنها تشكيل خلايا إرهابية من الشباب إذا نجح التنظيم – والجماعات التي تماثله- في الوصول إليهم وتجنيدهم.

دوافع توجه الشباب الغربي نحو "داعش"

الكثير من الخبراء والمحللين السياسيين والباحثين تناولوا ظاهرة تنظيم "داعش" الإرهابي عبر تحليلاتهم وتحقيقاتهم، في سياق البحث عن إجابة شافية عن التساؤل الذي بدأ في البروز بقوة وشغل الناس بشرائحهم المختلفة، عن سر انضمام الشبان والشابات الغربيين، أو ذوي الجنسيات الغربية، إلى هذا التنظيم الإرهابي.

كثيرون أيضاً أبدوا استغرابهم الشديد ودهشتهم من تواصل انضمام المقاتلين الأجانب إلى هذا التنظيم، على الرغم من أن التهديدات التي تتربص به باتت أكثر وأخطر من ذي قبل، وعلى الرغم من أنه سيبقى أسوأ إنتاج للحضارة البشرية على مر العصور والأزمان، إذ لا يوجد في الذاكرة البشرية من حاول استغلال الدين على هذا النحو البشع لتبرير جرائمه بدءاً من عهد قابيل وهابيل، مروراً بنيرون، سفاح روما، وحتى هتلر وموسوليني.

والآن، ما هي أبرز الآراء والتحليلات حول فك لغز توجه الشبان والشابات الغربيين للالتحاق بـ"داعش"؟. البعض أرجع الأمر لدعاية هذا التنظيم وانتشارها على الشبكة العنكبوتية وتوظيفها الدين الإسلامي من خلال استخدام مبادئ متطرفة لا تمت للإسلام بصلة. البعض الآخر من الباحثين أضاف عنصراً ثانياً يتجسد في ما يوفره الانضمام إلى التنظيم من مزايا مالية ونفوذ ميداني. بمعنى أن من انضموا لـ"داعش" ليسوا إلا مرتزقة باحثين عن المال والنفوذ وإرضاء شهوات دنيوية لا تمت بصلة إلى الدعاية القائمة على الشهادة والجنة والحور العين التي يروج لها التنظيم، لإغراء الشبان والشابات إلى جانبه من أجل الحصول عليها.

هناك من رأى بأن "داعش" شكل فرصة ذهبية للشبان الباحثين عن تغيير جذري على حياتهم الرتيبة وروتين أيامهم، وكأن هذا التنظيم بات وسيلة للترفيه أو الهروب من الالتزامات والتحديات التي تنطوي عليها الحياة اليومية، ومنها الاجتماعي والاقتصادي والقانوني وغيرها.

لا شك أن الواقع يؤكد مثل هذه التحليلات المتقاربة. فالقصص والحكايات التي يرويها العائدون من جحيم الحرب في سويا والعراق، بعد ما شاركوا في ارتكاب جرائم دموية، كشفوا في أكثر من مناسبة عما يلي:

١- إنهم صدموا بالحقيقة المغايرة تماماً لدعاية "داعش" الإرهابية التي ضللتهم وسلبتهم القدرة على التحليل المنطقي وغيبت عقولهم في الحكم على الخطأ والصواب.

٢- إنهم لم يستطيعوا التورط في ارتكاب جرائم دموية وجدوا أنها تنافي كل دين وعرف وعقل.

٣- إنهم اكتشفوا متأخرين أنهم يدافعون عن قضية وهمية وليسوا إلا بيادق على رقعة شطرنج كبيرة تحاول أطراف معينة أن تحركهم عليها بالاتجاهات التي تخدم مصالحهم الذاتية فقط .

إن المتابعة اليومية للجرائم والتطورات على صعيد هذا التنظيم الإرهابي الدموي، تحمل على الاعتقاد بأن كثيراً من الإرهابيين في صفوفه ليسوا إلا لاهثين وراء إشباع غريزة همجية، تتمثل في تعطشهم الشخصي للدم والقتل والتعذيب وامتهان كرامة الإنسان، بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه ودينه، وليس أدل على ذلك من الصورة التي التقطت لإرهابي يلتهم، كالوحش المفترس، كبد جندي سوري.

الدليل الآخر، وما أكثر الأدلة التي لا تحصى، أن المعروف بـ"جون الإرهابي"، جلاد "داعش"، الذي ظهر في أكثر من تسجيل يذبح الرهائن بالسكين أو بالساطور، لم يتوان عن ذبح الرهينة الأمريكي عبد الرحمن كاسنغ، على الرغم من أنه أشهر إسلامه، ولعل هذا يشير إلى أبعد من دعاية دينية كاذبة، والدين من "داعش" براء.

التنظيم يعمل بعقول "شبابية"

يتجه الشباب إلى عضوية التنظيم بسبب جاذبية الأسلوب الذي يستخدمه في مخاطبتهم وحداثته؛ فالتنظيم الذي تغلب سمة الأصولية على فكرته وحركته، يعمل بعقول "شبابية"؛ فغالبية قياداته، وعلى خلاف تنظيم القاعدة، من الشباب، وهو يعمل على مخاطبة هذه الشريحة العمرية والوصول إليها في قلب أماكن تركزهم وإكسابهم الفكر "المتطرف" من خلال وسائل تكنولوجيا الاتصال الحديثة، مثل يوتيوب وتويتر وفايسبوك وفليكر وإنستجرام.

ويستخدم التنظيم في ذلك "جيوشاً إلكترونية" من شباب العشرينيات الذين لديهم خبرة في استخدام أدوات التواصل الاجتماعي وصياغة الرسائل الجاذبة للشباب عبر فيديوهات مصورة ومعدة باستخدام تقنيات هوليودية متطورة تظهر تسجيلات لتدريبات التنظيم ومقاطع مزعومة لانتصاراته.

كما أصدر التنظيم مجلة ترويجية باسم "دابق" بعدة لغات في ٨ يوليو/ تموز ٢٠١٤ يتم توزيعها إلكترونيّاً، وتبني الأسلوب الأمريكي في الترويج لذاته، فأطلق خطّاً لإنتاج الملابس تضم قمصاناً وقبعات تحمل شعاره وتوقيعه، وطور رسومات لبعض الأسلحة التي يستخدمها مقاتلوه، ونشر لعبة إلكترونية جديدة أطلق عليها "صليل الصوارم" في محاكاة لألعاب الحرب التي اخترعتها بعض القوى الكبرى للترويج لبطولاتها.

لا تنحصر هذه العقلية الشبابية في نوعية أداة التواصل فقط، بل في الرسائل الإعلامية التي يستخدمها التنظيم لجذب الشباب، ومن أهمها الإغواء المادي بالإعلان عن توافر فرص عمل في صفوف التنظيم لمؤهلات معينة، مثل القضاة وخبراء البترول برواتب مرتفعة تصل للفئة الأخيرة إلى ١٤٠ ألف يورو سنويّاً، حسب تقارير صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، بالإضافة إلى تقديم عروض مغرية للعمل والزواج لجذب الشباب الفقراء الراغبين في الانضمام إليه، خصوصاً في ظل ازدياد موارد التنظيم واتساع المناطق التي يسيطر عليها ورغبته في جذب عاملين لإدارتها. أضف إلى ذلك قيام التنظيم بنشر صور لقتلاه "بعد تعديلها" كما يبدو، تظهر الابتسامات العريضة التي تعلو وجوههم فرحاً بموته "شهيداً".

ويتمثل الملمح الثالث للعقلية "الشبابية" للتنظيم في قيامه بالاعتماد على وسطاء ومتطوعين من الشباب المحليين - خصوصاً في مصر وتونس واليمن والسعودية - لتجنيد أقرانهم بوصفهم الأكثر وعياً بأساليب مخاطبتهم والتواصل معهم وفق ظروف كل دولة على حدة. ويعتمد نهج التنظيم في ذلك على استخدام أسلوب التجنيد الفردي أو ما يطلق عليه "الذئاب المنفردة"، وتخطي الأشكال النمطية المعروفة للتنظيم الشبكي والمؤسسي على نحو يُمكّن هؤلاء الوسطاء من التأثير في الشباب المستهدفين وإقناعهم بالانضمام إليه. وتشير الخبرة العملية إلى أن عادة ما يصاحب عملية التجنيد هذه ضخ أموال وصلت في حالة تونس إلى ألفي دينار شهريًّا لكل طالب جامعة (نحو ١٢٠٠ دولار أمريكي) حسبما كشفت التحقيقات الأمنية التي أعقبت عملية "وادي الليل" الإرهابية في تونس، والتي نفذت في ٢٣ أكتوبر/ تشرين أول ٢٠١٤.

وتدل خبرة الشهور الأخيرة من عام ٢٠١٤ على تزايد نشاط هؤلاء الوسطاء، ونجاح أجهزة الأمن في إلقاء القبض على عدد منهم واستجوابهم لمعرفة الأساليب التي يستخدمونها في تجنيد الشباب، ومن ذلك مثلاً إلقاء أجهزة الأمن السعودية القبض في ٨ أغسطس/ آب ٢٠١٤ على خلية وساطة تتكون من ثمانية أفراد، ونجاح السلطات المصرية في أكتوبر/ تشرين أول ٢٠١٤ في القبض على أربعة أفراد يقومون بالمهمة نفسها.

البيئة الحاضنة في المجتمعات العربية

يعود انضمام الشباب إلى "داعش" إلى توافر الحاضنة الفكرية والثقافية للتطرف والإرهاب في المجتمعات العربية. وهذه الحاضنة التي تحيط بتنشئة النشء والشباب من جميع الاتجاهات، تعمل على بث أفكار وهابية تعيد إنتاج الأفكار الظلامية وفق نسق أحادي متشدد يرفض التعايش مع الأنساق المجتمعية الأخرى. ويشكل كل ذلك جزءاً من عقلية الشباب التي تتشكل في فترة المراهقة، والتي يصعب تغييرها على المدى الطويل، والتي تجعلهم فريسة للفراغ والحيرة خصوصاً في ظل اختفاء المشروع الفكري والثقافي الوطني الجامع، وغيبة القضايا الكبرى أو التاريخية التي يؤمن بها الشباب ويلتفون حولها.

وتزدهر تلك الحاضنة في ظل ارتفاع معدلات الفقر بين شريحة الشباب وتدني فرصة حصولهم على عمل مناسب، على نحو يجعل من هجرة الشباب إلى"داعش" أمراً مماثلاً لهجرتهم في قوارب الموت إلى سواحل شمال المتوسط. ولا يعني ذلك أن الأزمة الاقتصادية بمفردها هي سبب انضمام شباب دول الإقليم إلى "داعش"، بل إنها جزء أصيل من عوامل ازدهار التنظيمات المتطرفة التي تنشط حاليًّا في الإقليم مستفيدة من تراجع دور المؤسسات الدينية التقليدية في نشر الفكر المعتدل، ومن انتشار فوضى المرجعيات في العالم الإسلامي السني، ومن ملل الشباب من "طول فترة الانتظار" لبدء حياة كريمة، كما أن هذه التنظيمات تعمل على استغلال فشل سياسات الدولة في استيعاب الشباب وتوجيه طاقاتهم نحو أعمال مفيدة.

وعلى الرغم من اعتبار كثير من الشباب في تعليقاتهم على فيس بوك، أن غياب الديمقراطية والقمع الذي تمارسه الدولة العربية هو السبب الرئيسي لانجذاب الشباب إلى التنظيم، فإن هذه الإجابة ليست دقيقة أو كافية، فحالة تونس، وهي البلد الأكثر تصديراً للـ"مجاهدين!!" إلى سوريا والعراق لا تشير إلى ذلك، فهي تسير في عملية ديمقراطية منذ قيام ثورتها في ديسمبر/ كانون أول ٢٠١٠، وجربت انتخابات برلمانية شفافة يعقبها انتخابات رئاسية قريباً، وهي "تعيش لحظة ثورية تستغرق البلد وتعبئ طاقاته"، كما كتب ديفيد كيركباتريك في تحقيقه المنشور مؤخراً في نيويورك تايمز.

الإثارة بنكهة دينية

لا يقتصر انجذاب الشباب للانضمام إلى التنظيم على شباب تيار الإسلام السياسي؛ حيث تشير التقارير المخابراتية والإعلامية إلى انجذاب عدد من شباب الطبقات العليا في دول الإقليم لصفوف التنظيم. والسبب الرئيسي لذلك هو التمرد والرغبة في التغلب على حالة الملل والروتين، وخلق جو بديل تسوده روح الإثارة والمغامرة، والظهور بمنظر البطل الأسطوري الموجود في شاشات العرض السينمائية. ويعزز من ذلك تأثر الشباب بالأفكار المثيرة التي تظهر بين الفينة والأخرى، وانضمامهم إلى أي تنظيمات جديدة تطرح أفكارًا جذابة، فالشباب مولع دائمًا بالجديد.

ويستغل التنظيم هذه الدوافع بطرحه نماذج لبعض مقاتليه يلعبون البلياردو، أو لأحد منهم خلال توقيعه بانتشاء على أحد علب الشوكولاته السويسرية الشهيرة، أو بإبرازه انضمام بعض الشخصيات الشهيرة له مثل مغني الراب الألماني السابق دينيس كوسبرت (أبو طلحة)، أو مطرب الراب البريطاني المصري الأصل عبد المجيد عبد الباري، أو بإبراز حالة المتعة والإثارة التي يعيشها المنضمون للتنظيم، ومثال ذلك الفيديو الذي خاطب فيه شاب أسمر من مقاتلي التنظيم أقرانه قائلاً: "أشعر أني في حلم.. المتعة التي نحن فيها لا يمكنكم تخيلها.. إنها – والله- لنعمة عظيمة".

في هذا الإطار، يمكن فهم بروز ظاهرة "نكاح الجهاد" في تونس، وانضمام عدد من شباب الأسر الميسورة إلى التنظيم، مثل الشاب المصري العشريني إسلام يكن وكنيته "أبو سلمة"، والتي انتشرت صوره على صفحات التواصل الاجتماعي ممتطياً حصانه شاهراً سيفه، على الرغم من أن ظروف معيشته تكشف عن أنه من أسرة ميسورة الحال، نجحت في إلحاقه بإحدى المدارس الفرنسية واهتمت بتنمية مهاراته على أغاني الراب وممارسة الرياضة.

كيف نوقف هجرة الشباب إلى "داعش"؟

هذه الأسباب العامة لانضمام الشباب إلى "داعش" تحتاج إلى خطة متكاملة لمواجهتها.

أولى عناصر هذه الخطة هي تشديد قيود السفر إلى تركيا بوصفها الدولة المعبر للانضمام إلى التنظيم والتي يسافر إليها الشباب عبر رحلات سياحية مخفضة التكلفة ثم يلتقون بعدها بجهات اتصال تيسر لهم عبور الحدود إلى سوريا. وبالتوازي مع ذلك، يمكن الاستفادة من نص القانون الفرنسي الذي يفرض حظر سفر لمدة ستة أشهر على الأشخاص الذين يشتبه أنهم يخططون للسفر إلى مناطق خطرة.

وثانيها- مراجعة الخطاب الديني وتجديده والتصدي لمحاولات توظيفه لخدمة الجماعات المتطرفة والإرهابية. ويتم ذلك بالمواجهة الحاسمة مع الأفكار الوهابية المسكوت عنها والمسؤولة عن انتشار التطرف، وبحيث يدين الخطاب الجديد أفعال "داعش" وأخواتها بوصفها أفعالاً تخالف طبيعة الدين الإسلامي الوسطي وقيم الإنسانية لا بوصفها أفعالاً تسيء إلى صورة الإسلام فحسب. ويمتد ذلك أيضاً للتصدي لمحاولات بعض وسطاء التنظيم لاستخدام المساجد وسيلةً للتجنيد.

وثالثها- إجراء مزيد من الدراسات الميدانية التي تقيس التغير في منظومة القيم لدى الشباب، ومدى انتشار أفكار التطرف بين مختلف فئاتهم، ومدى استعدادهم للانخراط ؛ ليس في صفوف التنظيم فقط ، بل في التنظيمات الإرهابية المحلية التي تتبنى أفكاره واستراتيجياته، وأن يتم تحليل هذه الدراسات بواسطة فريق عمل من الخبراء المتخصصين بالأمن وعلم الاجتماع.

رابعها- تطوير استراتيجيات خلاقة لكسب حروب التطرف والإرهاب على الإنترنت وفي المساجد.

يمكن القول، إن عدم الاهتمام بهذه الأبعاد يعني عمليّاً اقتصار جهود دول الإقليم في مواجهة التنظيم على المواجهة الأمنية، وتقديم مبادرات عامة طويلة الأمد يغيب عنها التحديد الدقيق لبعض المشكلات الكامنة التي تحتاج إلى مواجهة فورية. وفي هذه الحالة يرجح أن تزداد خطورة "العائدون من داعش" مع عملهم حلقات وصل بين التنظيمات المتطرفة والإرهابية وكأداة لتجنيد مزيد من الشباب، وقد تزداد كذلك التهديدات الإرهابية الكامنة في المستقبل القريب والمتوسط حتى مع نجاح التحالف الدولي في القضاء على "داعش"؛ فـ"داعش" فكرة والأفكار المتطرفة تأخذ وقتاً حتى تموت. 

اعلى الصفحة