|
|||||||
|
مما لا شك فيه أن سرعة استعادة روسيا لنفسها، اقتصادياً ودولياً، ومحافظتها على جزء مهم من ترسانتها النووية الإستراتيجية، أسهم في تعزيز دورها، وعودتها إلى الساحة العالمية، من باب الدول الكبرى، التي تمتلك موارد وقدرات وإمكانات تؤهلها لتكون لاعباً جيو/استراتيجياً فاعلاً ومؤثراً في العلاقات الدولية ضمن المنظومة العالمية، الحالية، من دون الوصول إلى حدّ المواجهة مع الولايات المتحدة أو أية قوة كبرى أخرى.. ... إنما مع المحافظة على مصالحها في المدى الجيو/سياسي الذي ترتبط فيه هذه المصالح، والدفاع عنها بالقوة إذا لزم الأمر في حال تعرضت للخطر، وهذا ما جعلها تعيد تقييم إستراتيجيتها السياسية والعسكرية، لتتواءم مع عالم اليوم، حيث المنافسة، وصراع مصالح الدول الكبرى يهيمنان على العالم. كما تسعى الإدارة السياسية الروسية الحالية إلى الانفتاح على دول العالم المختلفة، ولاسيما دول الشرق، وإعادة الاعتبار لنظرية المحور الثلاثي (روسيا، الصين، الهند) مع إتباع دبلوماسية جديدة تقوم على تعزيز دورها كوسيط مقبول من كل الأطراف في حل النزاعات والأزمات الدولية والإقليمية، وهذا ما سعت إليه روسيا (كما يرى بعض المحللين الاستراتيجيين) في ملفات مثل العراق، إيران، سوريا ولبنان وفلسطين، وغيرها من الأزمات خلال السنوات الأخيرة. منطلقات سياسية جديدة تعتمد التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الروسية والتي بدأ العمل بها في منتصف فبراير الماضي في معظمها علي ضرورة استخدام الأشكال والمناهج العصرية للعمل السياسي الخارجي, بما في ذلك الدبلوماسية الاقتصادية, وإدخال ما يسمي بعناصر القوة الناعمة والاندماج الواعي في التيارات المعلوماتية العالمية. وتؤكد هذه النظرية الاهتمام الأكبر لحماية مصالح وحقوق المواطنين الروس في الداخل والخارج. وقد حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الوقت نفسه علي تأكيد التمسك بالمبادئ الرئيسية لنظرية السياسة الخارجية التي سبق وأعلنها خلال ولايتيه السابقتين ومنها الشفافية والوضوح والبراجماتية والتصميم علي تحقيق وحماية المصالح القومية, مشيراً إلى ضرورة تنفيذ ذلك دون الانزلاق إلى أية نزاعات أو مواجهات مع الآخرين والتعاون مع كل شركاء روسيا علي أساس مبدأ المساواة والاحترام المتبادل, إلى جانب مراعاة الدور المحوري للأمم المتحدة وسيادة القانون الدولي. وتسيطر حالة من القلق على السياسية الخارجية الروسية بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعانى منها المجتمع الدولي والتي أثرت بشكل واسع على العلاقات الدولية وعلى علاقة روسيا بصفة خاصة مع شركائها وحلفائها التقليديين وفى مقدمتهم الصين . ويقول محللون سياسيون أن هناك قلقا روسيا واضحا من الوضع الدولي الراهن وقد أثير هذا الأمر على نحو مباشر ومكثف في أروقة صناعة القرار الروسي، وفي ندوات مغلقة ناقشت مستجدات الوضع الدولي وتم خلالها التحذير من تأثير تداعيات الأزمات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة في مناطق مختلفة من العالم، وأيضاً تفاعلات ما سمي بـ"الربيع العربي" المتزايدة على النظام الدولي القائم، خاصة فيما يتعلق بإضعاف مبدأ سيادة الدول الذي قام عليه النظام الدولي منذ خمسينات القرن الماضي، لمصلحة تغليب مصالح الشعوب، مع ما يتبع ذلك من إعادة النظر بتركيبة مجلس الأمن الدولي ومهماته. ورصد المحللون السياسيون ارتفاع الهاجس الأمني عند القيادة الروسية في الآونة الأخيرة حيث قام الرئيس الروسي بوتين عقب مشاركته في قمة دول مجموعة "بريكس" التي تضم إضافة إلى روسيا والصين كلاً من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، بإعطاء أوامر بإحياء تقليد سوفيتي بإجراء مناورات عسكرية مفاجئة تهدف إلى المحافظة على حالة التأهب عند الجيوش الروسية وتوجه رسائل ذات مغزى تتعدى إقليم البحر الأسود حيث أُجريت المناورات لتصل إلى الحلف الأطلسي وشركاء روسيا الأوروبيين. في الوقت ذاته واصلت روسيا استعراض عضلاتها العسكرية في حوض البحر المتوسط موجّهة رسائل مماثلة إلى دول حوض المتوسط. واعتبر المراقبون السياسيون أن موسكو تبنت عقيدة سياسية جديدة حملت خطاباً متشدداً للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق على سكة التنفيـذ العملي. ولم يخف الروس أن التحديات الجديدة وعلى رأسها المتغيرات الأخيرة في العالم بما فيها الأزمة المالية والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شكلت حافزاً أساسياً لتشديد عدد كبير من البنود التي تقوم عليها العقيدة الجديدة. وقال بوتين في اجتماع لمجلس الأمن الروسي عقد بعد مرور يومين على توقيع الوثيقة الجديدة: "تركز العقيدة على ضرورة استخدام الأشكال والمناهج العصرية للعمل السياسي الخارجي، بما في ذلك الدبلوماسية الاقتصادية، وإدخال ما يسمى بعناصر القوة الناعمة". وأضاف أنه "من المهم كذلك، أنها تأخذ في الاعتبار التغيرات الجارية في العالم، وفي وجه خاص، الظواهر الكبيرة كالأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي لا تزال مصدر إزعاج لنا جميعاً، وإعادة توزيع موازين القوة في الشؤون العالمية، والتصعيد الحاد للاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وارتفاع أهمية التقويم الثقافي الحضاري وقوة المنافسة في العالم". ويعتبر المراقبون السياسيون أن ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي" لعبت دوراً رئيسياً في دفع روسيا نحو إعادة التفكير في تطوير السياسة الخارجية إلا أن تطورات المنطقة العربية لم تكن الأساس الوحيد الذي دفع روسيا لتبني سياسة خارجية أكثر حزماً، لكنها بالتأكيد زادت قلق الكرملين من مخاوف تسريع إنشاء نظم دولية جديدة لا تناسب طموحات الروس. واهتمت الأوساط السياسية بتصريح هام لمسئول رفيع في الديوان الرئاسي أدلى به مؤخرا لصحيفة "كوميرسانت" قال فيه " أن بعض بنود عقيدتنا السياسية كان بحاجة إلى تشديد، وعلى سبيل المثال ينبغي التعامل مع مسألة مواجهة محاولات التدخل بشؤوننا الداخلية بمنطق جديد"، مشيراً إلى أن ما يحدث في بعض مناطق العالم يعد مؤشراً مزعجاً إلى تبدل في المزاج الدولي يسمح بزيادة التأثير في الوضع الداخلي في دول مستقلة وذات سيادة. وكان بوتين قد طلب تعديل وثيقة السياسة الخارجية الروسية فور تسلّمه مقاليد الرئاسة في ولاية جديدة، وأنجزت الخارجية الروسية وضع وثيقتها في نهاية العام، لكن الرئيس الروسي قام بتأجّيل التوقيع عليها مرات وأرسلها للمراجعة بهدف "تشديد بعض بنودها أكثر" قبل أن تخرج بصيغتها النهائية في فبراير الماضي. وبحسب مصادر سياسية فإن البنود التي طلب بوتين تشديدها كانت تتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة وبنمط العلاقات داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وتقول المصادر أنه بسبب التعديلات الكثيرة على الوثيقة أصبحت العلاقة مع واشنطن في موقع متأخر على لائحة أولويات السياسة الخارجية الروسية في حين حلّت رابطة الدول المستقلة تقليدياً في المقدمة. وقالت المصادر أن تحالفات موسكو الإقليمية والدولية، خصوصاً في إطار منظمات مثل "بريكس" و"شانغهاي" و"شوس" (تعتبر الأخيرة الذراع العسكرية الأمنية لعدد من بلدان الرابطة) تقدمت أيضاً، تليها أوروبا وشرق آسيا قبل أن تصل العقيدة إلى الحلف الأطلسي ثم تطرح البند المتعلق بالعلاقات مع واشنطن بعد ذلك. واعتبرت المصادر أن أزمة "حرب القوانين" التي أسفرت عن تدهور العلاقات مع واشنطن أثرت كثيراً في صياغة العقيدة العسكرية، خصوصاً بعدما اعتبرت أوساط روسية أن واشنطن "تستخدم ملفات انتهاكات حقوق الإنسان لزيادة دائرة نفوذها وتأثيرها في صنع القرار الروسي". ويرى دميتري ترينين، مدير "مركز كارنيغي" في موسكو، أن السياسة الروسية تجاه الغرب ستكون أكثر انعزالية، لكنه يعتبر مع ذلك أن النزعة نحو تشديد النهج في العلاقة مع واشنطن قد ظهرت حتى قبل تبني قانون "ماغنيتسكي"، الذي يوفر سبلاً غير قانونية لملاحقة منتهكي حقوق الإنسان من المسؤولين الروس. ويقول المحللون السياسيون أن الرئيس الروسي يشعر بحالة خيبة أمل تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً مشيراً إلى أن الكرملين اعتبر محاولة الغرب المراهنة على دميتري ميدفيديف، على أنها تدخل في الشئون الداخلية لروسيا. وأضاف المحللون "عندما وقف بوتين بعد الانتخابات الرئاسية في ساحة "مانيج" في موسكو وقال – وقد اغرورقت عيناه بدموع الفرح – "نحن انتصرنا"، كان ذلك رداً ليس على المعارضة الداخلية فقط، بل وعلى رعاتها في الخارج، وجاء تبني "قانون ماغنيتسكي" في الولايات المتحدة ليشكل القطرة الأخيرة التي أقنعت بوتين نهائياً بضرورة تعزيز"سيادة واستقلالية السياسة الخارجية لموسكو". وعموماً، لم يكن إدخال عنصر استخدام القوة للمحافظة على مصالح روسيا هو التعديل الوحيد الذي أشار إلى التوجه لتشديد السياسة الروسية الخارجية. وتعتبر العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية قد نجحت في الحفاظ على غالبية بنودها السابقة كما تميزت بوضوح الفقرات التي تتعلق بدور روسيا ونيتها الدفاع عن حقوقها ومصالحها الوطنية ومواطنيها في أي مكان. عودة الدور الروسي يمكن القول إنه بعد تولي بوتين السلطة في أبريل 2000، اعتمد إستراتيجية تهدف لدعم سلطة الدولة المركزية، وتشديد قبضتها على المؤسسات الاقتصادية والسياسية وتقوية قدراتها الإستراتيجية. وبالتالي بدأ في تقويض سلطة أباطرة رأس المال والسياسة في روسيا واعتقال بعضهم، كما اتجه إلى تعيين حكام الأقاليم الروسية بدلاً من انتخابهم، واختيارهم ممن يعرفهم ويثق في قدراتهم. وقد أحكم بوتين كذلك سيطرته على ثروات روسيا من النفط والغاز، حيث تزامن هذا مع ارتفاع أسعارهما في السوق العالمي، ما أدى إلى انتعاش الاقتصاد الروسي، وارتفاع مستوى معيشة الفرد في الدولة الروسية، الأمر الذي زاد من شعبية بوتين داخليّاً بشكل غير مسبوق. انعكس هذا بوضوح على سياسة روسيا الخارجية حينما أعلن رئيسها أن سنوات الضعف والمهانة قد ولَّت، وطالب الولايات المتحدة وأوروبا بمعاملة روسيا باحترام، وكقوة لها مكانتها ودورها العالمي. واتجه بوتين إلى بناء علاقات شراكة مع كلٍّ من الصين والهند، وإلى استثمار ميراث الاتحاد السوفييتي السابق، وما بناه في مناطق مثل الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. تتمثل أهم أهداف السياسة الخارجية الروسية في إضفاء الطابع القومي، وضرورة استرداد روسيا المكانة التي افتقدتها، وإنهاء الانفراد الأمريكي بموقع القمة. فمن الواضح أن بوتين قد كرَّس قدراً ملحوظًا من اهتمامه لصياغة اتجاه جديد وقوي للسياسة الخارجية الروسية، تحاول استعادة المكانة التي كان يتبوأها الاتحاد السوفييتي السابق في مرحلة الحرب الباردة، مع إحداث بعض التغييرات الجوهرية بحيث تتفق مع الوضع الجديد؛ ليمكِّنها من تحقيق طموحاتها في عصر العولمة وحرية الأسواق. ولهذا فقد اعتمدت روسيا الاتحادية في سياستها الخارجية عدة دوائر تعتمد على مراحل نموها ومدى استقرارها السياسي والاقتصادي. وفي كل هذه الدوائر كان الهدف الأسمى هو تحقيق الإستراتيجية الأمنية على المدى البعيد. ويمكن القول إن أهم أهداف السياسة الخارجية الروسية في هذه المرحلة تتمثل فيما يلي: 1- إضفاء الطابع القومي على السياسة الخارجية الروسية، والتأكيد على ضرورة استرداد روسيا المكانة التي افتقدتها منذ قيامها، وإنهاء الانفراد الأمريكي بموقع القمة. وحسب رؤية القيادة الروسية، فيجب إتباع خطة إستراتيجية وعقلانية تفضي إلى إحلال التعددية القطبية محل هذا الانفراد، وعلى نحو يتناسب أكثر واتجاهات العالم الجديد. 2- السعي إلى علاقات متميزة وتعاون استراتيجي مع أصدقاء الاتحاد السوفييتي السابقين، لاسيما الهند وإيران والصين. 3- الاتفاق مع دول الجوار الإقليمي حول كيفية إقرار السلام والاستقرار في المنطقة. 4- الواقعية في التفكير، وزيادة التعاون وتعزيز العلاقات مع كومنولث الدول المستقلة. 5- السعي إلى تعزيز النفوذ الروسي في الفضاء السياسي للاتحاد السوڤييتي السابق. 6- منع انتشار الصراعات السياسية والعسكرية المؤدية لعدم الاستقرار بآسيا الوسطى. 7- تعزيز الديمقراطية في روسيا. وكان من أهم الخطوات التي اتخذها لتقوية سياسة بلاده الخارجية في مواجهة القوى العالمية الكبرى الأخرى اندماج روسيا في العديد من نشاطات السياسة الخارجية مثل مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، ومنتدى آسيا- باسيفيك للتعاون الاقتصادي، ورابطة الأمم لجنوب شرق آسيا، ومؤتمرات القمة الروسية مع الاتحاد الأوروبي... إلخ. قبل وصول بوتين مرة أخرى إلى سدة الحكم، لوَّح بخطوات قوية لسياسة روسيا الخارجية تنوي بلاده اتخاذها ضد "الشركاء الغربيين" بسبب ما يقومون به مما أسماه "الخطوات الانفرادية على الساحة العالمية، والتي لا تراعي رأي روسيا ومصالحها". وأكد الرئيس الروسي أنه لا يجوز تحديد قواعد اللعب في الاقتصاد والسياسة الدولية من وراء ظهر روسيا، أو بمعزل عنها وعن مصالحها، مشيراً إلى أن التعاون الدولي طريق ذو اتجاهين، ومشدداً على السعي إلى التعاون البنَّاء والحوار في شأن قضايا مكافحة الإرهاب الدولي، والرقابة على الأسلحة، وصون الأمن العام. وألمح إلى أن الخطوات الانفرادية المشار إليها سلفاً سوف تلقى التقويم المناسب والرد المقابل. وأشار إلى أن روسيا استعادت خلال السنوات الأخيرة موقعها بين القوى العالمية الرئيسة، معتبرًا أن مكانتها الحالية وقدراتها تؤهلها للعب دور أوسع، وتجعل مشاركتها في الشئون الدولية ضرورية أكثر فأكثر. وفي خضم حملته الشديدة اللهجة على الغرب قبل وعقب انتخابه رئيساً لروسيا لفترة جديدة، حدَّد بوتين أولويات عمله كرئيس للدولة، مؤكداً أن إعادة تسليح روسيا أصبحت ضرورية لمواجهة سياسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في مجال الدفاع الصاروخي، ما يفرض عدم تخلي الدولة الروسية عن قدراتها للردع الاستراتيجي، التي اعتبرها مُشكِّلةً للضمانة الأساسية لبلاده، في إشارة إلى السلاح النووي، والصواريخ العابرة للقارات، والمقاتلات، والغواصات، وذلك من خلال أضخم برنامج للتسليح في روسيا منذ استقلاها عام 1991. وفي هذا الإطار، فقد عارض الرئيس الروسي سياسات الولايات المتحدة والغرب في مد مظلة حلف الناتو إلى الحدود الروسية، ورفض بشدة -ولا يزال- المشروع الأمريكي لبناء قواعد صواريخ مضادة في بولندا وجمهورية التشيك، مستخدمًا لغة قوية في رفض الهيمنة الأمريكية. وعلى ما سبق يمكن القول بأن ثَمَّة عدة تطورات على المستوى الوطني قد حدثت؛ من أجل تعزيز الدور الروسي على الساحة الدولية، كان من أهمها ما يلي: 1- السعي إلى وضع مساوٍ، واستغلال حيز دبلوماسية القوى الكبرى، حيث كانت تلك في قمة أولويات السياسة الخارجية الروسية في تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية. - حدَّد بوتين أولويات عمله كرئيس للدولة، مؤكدًا أن إعادة تسليح روسيا أصبحت ضرورية لمواجهة سياسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. 1- تقوية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)؛ كي تمارس دورًا رئيسًا، وفي ذات الوقت السعي نحو منع توسع حلف شمال الأطلسي (NATO) نحو الشرق، والحد من قدرته على لعب دور في شئون منطقة النفوذ الروسي. 2- وضع إستراتيجية لإحياء الاقتصاد الروسي، ومحاولة التغلب على الصعوبات الاقتصادية العديدة، لاسيما نقص الأرصدة البنكية، والاحتياطيات الأجنبية بالبنوك، وصعوبات الاستثمار، وتفاقم مشكلة البطالة في روسيا... إلخ. 3- تقوية الموقف والتأثير الروسي كقوة أوراسية، خاصةً بعد توسع حلف شمال الأطلسي شرقًا في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث سعت القيادة الروسية إلى محاولة إيجاد عالم متعدد الأقطاب، وتوجهت بدبلوماسيتها جنوبًا نحو الصين والهند والدول الآسيوية الكبرى الأخرى؛ بهدف تقوية الدور الروسي في الشئون العالمية. السياسة الروسية تجاه المنطقة عند الحديث عن محددات وأهداف السياسة الخارجية الروسية، فيمكن القول بأن روسيا شأنها شأن الدول العظمى، توازن بين المحددات المحلية والدولية، وبين الاعتبارات الداخلية والخارجية، بل وتسعى لأن توظِّف السياسة الخارجية بما يتفق ومصالحها الداخلية. وعند الحديث عن الدور الروسي في المنطقة العربية، فلا يمكن فهم المحددات دون النظر إلى تاريخية هذا الدور، لاسيما في ظل الحقبة السوفيتية، كمدخل لقراءة الدور الراهن، أو فهم مدى إمكانية إعادة تفعيله. فقد ارتبطت بعض دول المنطقة بعلاقات إستراتيجية مع السوفييت، وهي الآن في طور تعميق هذه العلاقات مع وريثتها الروسية، وذلك من خلال متابعة المواثيق والمعاهدات المبرمة مع الاتحاد السوفييتي السابق، مع الأخذ بعين الاعتبار اختفاء الطابع الأيديولوجي الذي كان ينطلق منه النظام السوفييتي المنهار. وهذه العلاقات الروسية مع دول المنطقة لا تزال تحتفظ بمبرراتها وأسبابها، خاصةً أن روسيا ما زالت تمسك بأكثر من ورقة من أوراق اللعبة السياسية، من خلال علاقاتها المتميزة والتاريخية مع الجزائر وسوريا والعراق وإيران ولبنان وفلسطين. هذا القول مفاده أنه ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد شهدت السياسة الخارجية الروسية عملية إعادة هيكلة أصبحت بمقتضاها أكثر واقعية، تقيس تحركاتها واتجاهاتها بحجم ما تملكه من قوة، وبمقدار ما تحققه تلك التحركات والتوجهات من فائدة للمصالح الوطنية الروسية. ويظهر هذا واضحاً من مقولة الرئيس الروسي بوتين عندما أكد على أن "العالم يتغير بسرعة، ومسارات العولمة تخفي أخطاراً متنوعة، فيما الأزمة الاقتصادية والهزات التي تشهدها مناطق من العالم تشجع بعضهم على حل مشاكله على حساب آخرين باستخدام وسائل الضغط العسكري. وبالتالي فإن بروز قوى هدامة في بعض مناطق العالم يهدد أمن الشعوب، كما أن الدول التي تحاول تصدير الديمقراطية، ولا تتوانى عن انتهاك القانون الدولي وسيادة الدول من أجل ذلك تبقى حليفةً لهذه القوى". وتعتبر منطقة الشرق الأوسط إحدى تلك المناطق التي تشهد هزات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وطائفية وعرقية ودينية شديدة التعقيد والخطورة. ففي تلك المنطقة المترامية الأطراف، يوجد العديد من الملفات الحساسة التي تأخذ طابعاً دوليّاً، ولها امتداداتها وتشعباتها. كما أن التعامل مع تلك الملفات لا يمكن بحال من الأحوال أن يتجاهل التداخلات والصراعات ذات الأبعاد الإستراتيجية؛ كونها على تماس مع قضايا تتعلق بمستقبل البشرية بشكل عام، وبمصير العديد من الدول، وبموازين القوى الدولية بشكل أكثر خصوصية. وعلى هذا، يمكن تحديد ثلاث مصالح كبرى وأساسية تحدد نمط السلوك الروسي في الشرق الأوسط بصفة عامة، ومنطقة الوطن العربي على وجه الخصوص: الأولى، العمل على إنهاك الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيا عن طريق مزاحمتها في المنطقة. والثانية، ترتبط بالمصالح الاقتصادية الروسية في منطقة الشرق الأوسط. والثالثة، أمنية حَتَّمَتها قواعد الجغرافيا والديموغرافيا. وتعتقد موسكو أن إمكاناتها وإرثها السياسي وتوجهاتها الحالية تؤهلها لحجز مكان بارز في خارطة تشكيل العالم الجديد. ومع ذلك تعمل روسيا بحذر في هذه المنطقة المليئة بالألغام السياسية، وتحاول ألا تخسر أحداً من الأطراف. فمثلاً تدعم موسكو طهران، مع محاولة الأولى ألا يجلب ذلك عليها استعداء دول مجلس التعاون الخليجي، كذلك تدعم دمشق، مع مراعاتها ألا يثير ذلك قلق الدول العربية الأخرى. والشرق الأوسط يمثل حزاماً غير محكم الأطراف يحيط بجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز اللتين تعتبرهما روسيا مجالاً حيويّاً لها، وتُسخِّر كل إمكاناتها لمنع أي تعدٍّ يهدد تلك المناطق. لذا كان اهتمام موسكو منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بشكل خاص بكلٍّ من تركيا وإيران؛ ذلك لأنهما أكثر دولتين في الشرق الأوسط رغبةً في النفاذ إلى هاتين المنطقتين، ومحاولة اختراقهما والسيطرة عليهما؛ وهذا نظرًا لوجود نوع من الارتباط الديني أو العرقي أو اللغوي الذي بين هاتين الدولتين وبين الشعوب القوقازية وفي آسيا الوسطى، ناهيك عن أن توثيق العلاقات مع إيران يفيد بقدر ما في إزعاج الولايات المتحدة، وفي جني أرباح اقتصادية لا بأس بها من إيران. وهكذا يمكن القول إن السياسة الخارجية الروسية، إذن، تسعى إلى تلمُّس طريقها نحو الوصول إلى مكانتها التي تصبو إليها في النظام الدولي. ومن أجل ذلك، حاولت موسكو جاهدةً تحقيق العديد من الأهداف التي تمثِّل خطوةً هامة في سبيل اعتلاء روسيا الاتحادية مكانة سامقة في النظام الدولي الجديد المتعدد الأقطاب الذي ترغب في تدشينه. كان من أهم تلك الأهداف الحفاظ على الوضع الأمني واستقراره الداخلي، وتعميق أواصر العلائق مع دول الجوار في الفضاء السوفييتي السابق، وتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع قوى كبرى أخرى في آسيا كالصين والهند واليابان، والحؤول دون تدخل الدول الأخرى في شئون روسيا الاتحادية أو منطقة نفوذها في المحيط السوفييتي السابق. وقد لجأت موسكو في سبيل تحقيق ذلك إلى عدد من الوسائل والأساليب التي لم تقتصر على الناحية السياسية فحسب، وإنما امتدت لتشمل باقي المناحي العسكرية والاقتصادية وما يسمى بالقوة الناعمة من إعلام وثقافة وغير ذلك. فقد أعلنت موسكو عن عزمها على تقوية الجيش الروسي وإمداده بأحدث الأسلحة القتالية، وكذلك سعت نحو تعزيز دور ومكانة المنظمات الدولية ذات الثقل الدولي مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة شنغهاي للتعاون؛ وذلك لمجابهة النفوذ الأطلسي الذي صار أداةً أمريكية للتغلغل والتوغل في الشئون الدولية، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط. كما نحت موسكو نحو إرساء نظام اقتصادي وتجاري يقوم على التبادل التجاري -لاسيما العسكري- لاسيما مع الدول الحليفة والصديقة في منطقة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وآسيا، بما يساعد على إنعاش الاقتصاد الروسي بشكل كبير. وفيما يتصل بالمصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط، فقد عملت موسكو على وضع إستراتيجية سعت من خلالها إلى الوصول إلى تلك المصالح وتحقيقها والحفاظ عليها. تمثلت أولى ملامح تلك الإستراتيجية في محاولة إنهاك قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة من خلال مزاحمتها في القضايا الشائكة والحساسة بالشرق الأوسط. المصادر 1. نبيه الأصفهاني، "مستقبل التعاون الروسي- الإيراني في ضوء التقارب الأخير"، السياسة الدولية، العدد 144، المجلد 36، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، أبريل 2001)، ص 164. 2. د. عبد العزيز مهدي الراوي، "توجهات السياسة الخارجية الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة"، دراسات دولية، العدد 35، ص 162- 163. 3. د. عبد العزيز مهدي الراوي، "توجهات السياسة الخارجية الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة"، دراسات دولية، العدد 35، ص 162- 163. 4. د. السيد أمين شلبي، مرجع سبق ذكره (بتصرف)، ص 258. 5. أحمد دياب، "عودة بوتين: تحديات وطموحات روسيا بعد انتخابات الرئاسة"، السياسة الدولية، العدد 188، المجلد، 47، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، أبريل 2012)، ص 106. 6. د. السيد أمين شلبي، "بوتين وسياسة روسيا الخارجية"، السياسة الدولية، العدد 175، المجلد 44، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، يناير 2009)، ص 257. 7. عبد الغني سلامة، "السياسة الروسية في الشرق الأوسط"، شئون عربية، العدد 151، (القاهرة: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، خريف 2012)، ص 173. باحث في القضايا الإقليمية(*) |
||||||