|
|||||
|
ماذا تبقى منّا حتى نحرس الإنسان؟!! القذارة شيء مكتسب، كل الأشياء القذرة كائنات طفيلية تتعلق بمصائر الآخرين وتحيا عليها لهذا تجد أن كل شيء سيء في الحياة لابد أن يكون ناتجاً عن تنازل شيء آخر عن بعض مصيره أو بعض ما يخصه!. لهذا يقول الرسام بيكاسو: "كل طفل يولد فناناً، المشكلة كيف يبقى فناناً عندما يكبر؟!". لا يوجد كائن بشري يختار الخطأ كاختياره الأول وتجربته الأولى ولكن عندما يفشل في المحافظة على نقائه الطبيعي ويفشل في جعله شيئاً محترماً قابلاً للمشاركة الجماعية، يتجه بعدها إلى الأنانية وحب الذات فهذا العالم لم يعد شريكاً نزيهاً في المصير، لهذا يتجه إلى مصيره الذي يخصه وحده وليذهب العالم إلى الجحيم!!. لو نظرت إلى سيرة العالم الذاتية ستجد أنها تشبه السيرة الذاتية لأي إنسان من حيث معطياتها وانحناءاتها و ردود أفعالها فقد فرح الغرب بالثورة الفرنسية حتى اخترع نيتشه شخصية الإنسان السوبرمان الذي سيحكم العالم بعد أن كتب عبارته الشهيرة الإلحادية: "إن الرب مات(...) وبات على الإنسان السوبرمان أن يحكم هذا العالم"، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى والثانية وإذا بالإنسان السوبرمان يحطم العالم فخابت آمال أوروبا والفكر الفلسفي الأوروبي، فالإنسان تطور وتطورت معه همجيته، وهنا فشلت الحضارة الأوروبية في المحافظة على نقائها وأحلامها الوردية فكتب الفرنسي شوبنهور نظرية عدم جدوى الوجود ليعلن بأن هذه الحياة تجربة كونية فاشلة يجب أن تنتهي وأن الإنسان يجب أن يدخل في برنامج انقراض طوعي بعدم الإنجاب لينتهي كل شيء!. فشلت نظرية شوبنهور فجاء جان بول سارتر المصدوم بأعداد القتلى في الحرب العالمية الثانية ليكتب نظرية الوجودية ويؤلف كتابه "الوجود والعدم" ليقول للناس لا تهتموا ببناء شيء أبداً و لكن عليكم الاهتمام بجني السعادة من أي وسيلة وبأي وسيلة ورفَعَ شعارَه الشهير: "عش كأن لم يعش أحد قبلك ولن يعيش أحد بعدك"، فبدأت المذاهب الهيبية بالخروج والانتشار ما هدد المجتمع الغربي وجعل شبابه الذين هم عماد ثروته يعيشون لأجل الفوضى ولأجل لا شيء!. ثم جاءت التقنية كطوق النجاة لكي تصنع للإنسان الغربي يومه الفارغ من المتعة، المليء بالفراغ المعنوي فصار أحدهم يلوك التقنية حتى يتعب ثم ينام، وهكذا كل يوم!, ناهيك على أن سوبرمان الفيلسوف نيتشه تحول من الإنسان الذي سيحكم العالم إلى شخصية كرتونية بمجرد ما يصرخ أحدهم ساعدني يا سوبرمان يأتي هو طائراً لينقذه ويحقق أحلامه!. الإنسان بمفرده أيضاً يعيش نفس هذه التقلبات، فعندما يصاب باليأس من "النقاء الجماعي" يكب على نفسه ليجعلها محور كل شيء، ويطل فرعون صغير في صدره ليصرخ "أنا وما بعدي الطوفان!". فكل الناس أشرار وقطاع طرق وكل من يمد يده يفعل ذلك لأنه يريد أن يسرق منك شيئاً ما، فتصافح الإنسان الآخر ثم تجلس لتحصي عدد أصابعك!. إن الذين يفسدون على الناس الطرق السليمة لممارسة الحياة النقية الجميلة يفسدون المجتمع بأسره، فعندما تسمع من يقول "أولاد الحرام ما تركوا شي لأولاد الحلال" ليبرر خوفه منك وأنانيته في رفضك فاعلم بأنه مذهول لأعداد القتلى من الطيبين الذين كانوا يتاجرون بطيبة قلوبهم ويشاركون الناس أحلامهم بكل نقاء!. لا شك أن المدن لم تعد إلا غابات أسمنتية، وأننا مساجين نتحاصص حتى المساحة الخاصة بنا من الهواء، نحن بحاجة للبحث عن أشباهنا من جديد، للبحث عن الذين يؤمنون بمثل ما نؤمن به، عن الذين يصارعون خيباتهم قبل أن يهربوا إلى الداخل، إلى أنفسهم وذواتهم، ولكن أجلاف المدن وعبّاد المال والسلطان سرقوا كل السبل الممكنة وحولوها إلى "Zaytona bay ـ و DT".. ووظائف وبطاقات الكترونية على البصمة للحضور والانصراف، فلم تعد الثقافة ثقافة ولا الفن فناً ولا الأدب أدباً ولا الرياضة رياضة ولا العلم علماً، وحتى الدين لم يعد ديناً.. بل بات داعشياً!. أحضر الفنان فان غوغ مسدسه فوجهه إلى صدره وأطلق الرصاص، جاء أخوه "ثيو" الذي كان يدعمه ويقف بجانبه طيلة حياته فطلب من الطبيب عدم إخراج الرصاصة وقال: "احترمت رغبته أن يعيش كما يريد وأنا الآن أحترم رغبته في أن لا يعيش"، فمات فان غوغ فقيراً معدماً في مصحة عقلية هي ذاتها التي رسم فيها لوحته "ليلة مضيئة بالنجوم" والتي بِيعت فيما بعد بأكثر من خمسين مليون دولار!!. قبل ذلك أحب "كي" وأراد رؤيتها في منزل أبيها فرفض، فقال اسمحوا لي برؤيتها بقدر ما أصبر على وضع يدي فوق نار الموقد!, فأطفأوا الموقد وطردوه!!، كان يريد أن يقول لهم أنا لا أرفض منحكم وإعطائكم الأشياء أيها الجشعون ولكني لا أملك إلا لحمي، لكنهم لم يفهموا ذلك!. أحب بعدها فتاة أخرى وكانت تحبه ولكنه لم يكن يهتم بجمع الأشياء لها، كجمع المال والمنصب فكتب رسالة غرامية ثم قطع أذنه ولفّها بالرسالة وبعث بها ليقول لها قد تظنين أني لا أستمع إلى طلباتك ولكني بالفعل أستمع وهذه هي أذني!، لكني لن أعيش لأجل جمع الأشياء لا لك ولا لغيرك، ولكنها أيضاً لم تفهم ذلك!. مات فان غوغ بيد محروقة وأذن مقطوعة، مات ناقص البدن ولكنه استطاع أن يحرس "الطفل الفنان" بداخله فمات فناناً فخلّده التاريخ وأحبه الكثيرون ممن عرفوا قصته بينما ماتت بعده ألوف من ثيران البشر والحمير المكدودة والقرود المتعلقة بأغصان أسباب الحياة ولم يبق لهم أثر، لأنهم باعوا الطفل الفنان فيهم بثمن بخس دراهم معدودات بينما ترك لنا فان غوغ "كل طفله الفنان" وما تبقى من جسده!. تُرى هل نعودُ إلى إنسانيتنا من دون جنون وبغير اليد المحروقة والأذن المقطوعة؟.. هل يكفي أن نحاربَ الذي فينا من فسادٍ بالعبث بنقائنا؟ وندَّعي أننا مصلحون؟..هل فعلاً عرفنا الدينَ والقيم والأخلاق؟.. هل ندرسُ إنساننا جيداً كي لا نعطي للخير مثالاً بحرق اليد أو قطع الأذن؟... وكم من رأسٍ نحن في انتظار أن يتدحرج حتى نحرس الإنسان بداخلنا؟...
|
||||