|
|||||||
|
هذه قراءة معاصرة حول الإسلام السياسي، هذا المصطلح الذي شغل حيزاً واسعاً في الخطاب الدائر حول دور الإسلاميين الساعين للإمساك بالسلطة في معظم أقطار العالم الإسلامي لاسيما العالم العربي.. حيث شهد الأخير قيام حركات اعتراض وانتفاضات أدت إلى تغيير أنظمة حكم واستبدالها بواقع جديد تتراوح بين الفوضى والتدمير والانشقاقات المجتمعية، وإلى نشوء حالات صراع واقتتال بين جماعات ذات توجه إسلامي، مما ظهر معه أن ما يسمى بالإسلام السياسي لم يبلغ الحد المطلوب من الوعي بالواقع والمخاطر التي تتهدد الأمة ومجتمعاتها. كما أن مبدئياته لم تترسخ بالقدر الذي يمكنها من بسط سطوتها على الأداء السياسي للفئات التي تنادي بعودة الإسلام إلى منصة الحكم. وستكون هذه القراءة على حلقتين تتناول مكانة الإسلام السياسي في النص الديني في الكتاب والسيرة، وهل جاء في النص ما يدل على وجوب السعي لإقامة الدولة كجزء من التكليف الديني ومدى صدقية الشعارات المرفوعة في هذا المجال. الحلقة الأولى عنوان هذه الورقة: الإسلام السياسي/ قراءة معاصرة على هدي القرآن الكريم. شهد العالم الإسلامي مع مطلع القرن الماضي وفي الفترة التي تفككت فيها دولة الخلافة العثمانية على أيدي الدول الأوروبية، والقائد التركي أتاتورك(مصطفى كمال) وجمعية الاتحاد والترقي التركية حيث أعلن مصطفى كمال إلغاء الخلافة وتأسيس دولة تركية الحديثة وفق النمط الأوروبي، وترافق ذلك مع حملة ثقافية واجتماعية للفصل والقطيعة بين تركيا الحديثة وماضيها الإسلامي، وتحول الكتابة باللغة التركية من الحرف العربي الذي هو حرف القرآن الكريم إلى الحرف اللاتيني، ومنع لبس الطربوش على الرأس واستبدله بـ(البرنيطة) وهي غطاء الرأس الأوروبي. وقد جرى فصل البلاد العربية وتقسيمها إلى دول صغيرة، وتم تقطيع أوصال الأمة ورسم حدود مصطنعة بين أقطارها بعدما بسط الانتداب الأوروبي سيطرته عليها. منذ تلك الفترة بدأت في الظهور دعوات وحركات تهدف إلى إصلاح واقع الأمة واستعادة مجدها ووحدتها لتعود إلى الوقوف في وجه السيطرة الغربية. وقد حمل هذه الدعوات علماء دين ومصلحون اجتماعيون، ونشطاء وجمعيات وأحزاب وكانت جميع تلك الدعوات ذات مرجعية إسلامية، كما كان هناك دعوات مقابلة ذات مرجعية علمانية تسعى إلى الخروج من الواقع القديم والانتقال إلى مرحلة التشبه بالأوروبي المنتصر في الحرب العالمية الأولى على الدولة العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية. أطلق على الدعوات التي هدفت إلى إعادة الأمة إلى وحدتها ومجدها السابق أسماء عديدة منها النهضوية والإصلاحية والإسلامية، واستمرت هذه الدعوة بالنمو والتطور وبرزت بأشكال عديدة وأحزاب وجماعات ليس فقط في العالم العربي ولكن في جميع أقطار العالم الإسلامي كالهند وباكستان وشمال أفريقيا وشرقها وغربها، وفي إيران وتركيا والقوقاز، وتركت كل تلك الحركات والدعوات أثراً في مجتمعاتها وبعضها تجاوزت مجتمعاتها إلى مختلف دول العالم الإسلامي، ومن أهم هذه الأحزاب والجماعات، حركة الإخوان المسلمين التي أسّسها في مصر الداعية حسن البنّا، وحزب التحرير الإسلامي الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني في فلسطين، ومن الأسماء التي برزت أبو الأعلى المودودي في باكستان والسيد أبو الحسن الندوي في الهند والسيد قطب في مصر وغيرهم كثيرون. وببلوغ الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بدأت آثار الأحزاب والحركات الإسلامية تطال أوروبا وأمريكا بفعل هجرة أعداد كبيرة جداً من المسلمين إلى هاتين القارتين، وقد كانت الحركات والأحزاب والشخصيات الإسلامية تطرح فكرة التغيير السياسي للواقع استناداً إلى فكر إسلامي. واعتبار أن الإسلام كدين يشمل الاهتمام بالدولة والسياسة، وقد أطلقت على أصحاب هذا التوجه تسميات كثيرة، عمل الغرب على تسويقها انطلاقًا من فهم الغربيين للأمور مما جعل هذه التسميات محل رفض أو تجاهل من قبل الإسلاميين. ومن هذه التسميات: - الأصوليون: والأصولي هو كل مسلم مرتبط بدينه اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهذا المصطلح هو غير مصطلح " الأصولي" المعروف تاريخياً بين المسلمين حيث يطلق الاسم على العلماء المختصين بعلم أصول الفقه أو أصول الدين، أو غيره من علوم الشريعة الإسلامية. - المتطرفون: والمتطرف هو كل إنسان ينسب الفضل والسمو والعدالة وكل شيء جميل إلى نفسه أو إلى جماعته وينفيه عن الآخر، وأن تلصق بالآخر تُهم الكفر والفساد وكل شيء، ولو كنت تعلم علم اليقين أنك خاطئ وانك لا تقول الحقيقة، وقد أطلق هذا المصطلح على بعض المسلمين، على الرغم من أنهم يرون أنفسهم أنهم أهل اعتدال. - المتشددون: والتشدد هو التطرف والتزمت في الدين، والالتزام المبالغ فيه من حيث التحريم والمنع، والغلو في العبادة والمعاملة بحيث يؤدي ذلك إلى المشقة الزائدة، وفي هذا السلوك مخالفة لسماحة الشريعة ويسرها وللنهي عن التنطع وهو التشديد على النفس في أمور قد وسع الله على النفس فيها. - الإسلامويون: والإسلاموي Islamism وهو المنتمي إلى الإسلام باعتباره إيديولوجيا، أو الذين يُؤدلجون الإسلام، أما المنتمي إلى الإسلام باعتباره ديناً فهو مسلم muslim. ويعتبر الدكتور عوض القرني أن الإسلاموية والإسلامويين مصطلح أطلقه غلاة ومتطرفو العلمانية في العالم الإسلامي على الإسلاميين، وأن المصطلح هو انعكاس للرؤية الغربية للدين النصراني. ويرى آخرون ومنهم الدكتور سليمان الضحيان أن ما يتبين من خلال كتابات الغربيين أن المصطلح مصطلح محايد، ويعني اتخاذ الإسلام إيديولوجيا يتمثلها المرء في جميع نشاطاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهو معادل لما اصطلح عليه الفكر العربي الحديث بـ(الإسلامية). وننقل من وجهة النظر الغربية قول المسؤول السابق في (CIA) إلى أن الإسلاموي هو المرء الذي يعتقد بأن الإسلام يعد منظومة إيمان لديها الشيء المهم الذي تقوله عن كيفية تنظيم المجتمع والسياسة في العالم الإسلامي المعاصر ويسعى لتطبيق الفكرة في بعض الصيغ. - الإسلام السياسي: الإسلام السياسي مصطلح سياسي إعلامي وأكاديمي استخدم لتوصيف حركات تغيير تؤمن بالإسلام باعتباره نظاماً سياسياً للحكم. ويمكن تعريفه كمجموعة من الأفكار والأهداف السياسية النابعة من الشريعة الإسلامية التي يستخدمها مجموعة (المسلمين الأصوليين) الذين يؤمنون بأن الإسلام ليس عبارة عن دين فقط وإنما هو نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة. من خلال ما نقلناه من تعريفات تدور حول التسميات التي طالت الحركات والشخصيات والأحزاب والجمعيات التي عملت وتعمل من اجل التغيير السياسي والاجتماعي، ندرك أننا أمام إشكالية معاصرة تتناول هذه المسألة ومن المفيد الإضاءة عليها للمساهمة في تحديدها ومعرفة مدى واقعيتها وصدقيتها وملاءمتها، وعما إذا كانت هذه الطروحات سليمة أم أن فيها ما فيها من الغلو والمبالغة أو المطامع والمطامح. وسنركز في هذه الورقة على الإسلام السياسي ومفاهيمه العامة وفهم الذين يطلق عليهم هذا الوصف للمسألة السياسية في الإسلام. مصطلح الإسلام السياسي قلنا في تعريف الإسلام السياسي في التمهيد لهذا البحث أن الإسلام السياسي هو مصطلح سياسي إعلامي وأكاديمي استخدم لتوصيف حركات تغيير تؤمن بالإسلام باعتباره نظاماً سياسياً للحكم. وفي الفقه أن الإسلام هو الدين الذي أرسل الله به محمداً (ص) وأنزل عليه كتاباً هو القرآن الكريم المشتمل على أحكام وأوامر ونواهٍ وتوجيهات أخلاقية وآداب وعبادات وقصص للاتعاظ بها والاعتبار، وقد عبّر القرآن الكريم عن الغاية من هذه الرسالة وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، أي الانتقال بالناس من حياة الضياع والتخبط في جميع نواحي حياتهم إلى حياة ذات رؤية واضحة يتجسد فيها مفهوم العيش الحر الكريم الهنيء. والسياسة بمفهومها المعاصر وهو ما يعنينا، إذ أن المصطلح أطلق حديثاً ولم يكن معروفاً فيما سبق وإنما أطلق على من يسمّون أنفسهم بالإسلاميين بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001; فالسياسة كمصطلح لها معانٍ كثيرة وقد تصل أحياناً إلى حد التناقض، فبينما ينظر إليها البعض على أنها فنٌ ومثلٌ، يرى آخرون أنها قمة الخديعة والفساد الأخلاقي والاجتماعي. والحقيقة أن السياسة أقرب ما تكون إلى الفن منها إلى العلم، وممارسة السياسة أمرٌ حتمي لا غنى عنه لأي مجتمع مهما كانت درجة تطوره، فهناك من يعرف السياسة على أنها العلم الذي يبحث في كيفية إدارة شؤون الدولة وأسلوب ممارسة السلطة، (Autority) وهناك من يعرفه على انه العلم الذي يبحث في كيفية صنع القرارات الجماعية ومن التعريفات الايجابية أن السياسة هي العملية التي يمكن من خلالها لأي مجتمع أن يحقق أكبر قدر من التعاون وأقل قدر ممكن من الصراع. غير أن المراد من إطلاق صفة السياسي على الإسلام هنا هو الإشارة إلى أن الإسلاميين الذين يدل عليهم المصطلح هم المسلمون الساعون من اجل تحكيم الإسلام كعقيدة وكشريعة في حياة المجتمع وذلك عبر استلام السلطة وإقامة الدولة، وأصحاب هذا التوجه يمثلون معظم الحركات والهيئات والتيارات والأحزاب الإسلامية الناشطة في العصر الراهن. فالإسلام السياسي بهذا المعنى كمصطلح وإن كان حديث النشوء، إلا أنه ينطبق على مدرسة فكرية نشأت عقب انهيار دولة الخلافة العثمانية التي ينظُرُ معظم الإسلاميين إليها على أنها دولة الإسلام، حيث كان على رأس تلك الدولة سلطان يطلق عليه لقب الخليفة، وكان آخر الخلفاء السلطان عبد الحميد الثاني المتوفى سنة 1944 والمدفون في المدينة المنورة، بعد وفاته في باريس بعشر سنوات، وامتدت إلى يومنا هذا، ومن رجالاتها جمال الدين الأفغاني (الأسد أبادي) ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وحسن البنا وسيد قطب والسيد روح الله الخميني وراشد الغنوشي وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وغيرهم كثير. كما وجدت عشرات الأحزاب والحركات التي تعتمد فكرة إعادة الإسلام إلى حياة المجتمع عبر إقامة ما يسمّى بالدولة الإسلامية وقد عُرفوا بالإسلاميين، والحقيقة أن اسم الإسلاميين لا يطلق إلا على أصحاب التوجه الإسلامي في السياسة، وقد ارتضى معظمهم لأنفسهم هذه التسمية التي تطال تياراً واسعاً في المجتمع الإسلامي، بينما يطلق على إتباع الدين الإسلام اسم المسلمين فقط، وهو الاسم الذي سمّاهم به الله تعالى في القرآن الكريم، بقوله: ﴿هو سمّاكم المسلمين من قبل...﴾. الإسلام والسياسة: الأنبياء السابقون ما هي علاقة الإسلام بالسياسة، وكيف مارس المسلمون هذه العلاقة على مر العصور؟ وما هي النماذج التي قدّمها القرآن الكريم لعلاقة الدين بالسياسة؟ ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(المائدة:20). وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال:" أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي خلفه آخر، وانه لا نبي بعدي ولكن يكون خلفاء ويكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال:" أوفوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عن استدعائهم". (حديث صحيح أخرجه بخاري ومسلم في الصحيحين). وورد في الكتاب العزيز ذكر نبيين من بني إسرائيل كانا ملكين هما داوود وسليمان الذي أتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وسخر الله له من مخلوقاته ما شاء ليكونوا عوناً له في ما يشاء من أموره. وقصة سليمان مع ملكة سبأ معروفة في القرآن الكريم. وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(البقرة:246). هذه الآيات تتحدث عن علاقة النبوة بالملك ويظهر من خلالها أن بني إسرائيل وأنبياءهم وهم المسلمين الأوائل كان عندهم رابط بين الدين والملك والسياسة والحديث صريح في هذا المجال، ولكن هذه العلاقة يبدو أنها لم تكن على نمط واحد معروف ففيما تفهم من منطوقها أن داوود وسليمان كانا ملكين على قومهما، وأن داوود قد آل إليه الملك بعدما قتل عدو بني إسرائيل جالوت: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾(البقرة: من الآية251)، ثم انتقل الملك إلى سليمان بالوراثة من داوود(عليهما السلام). ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)(النمل:16). ونجد أن أحد أنبياء بني إسرائيل طالبه قومه بأن يولي عليهم ملكاً ليقاتلوا معه أعداءهم الذين أخرجوهم من أرضهم وديارهم، وقد ولّى عليهم طالوت الذي خلفه داوود بعد قتله لجالوت. فهل كان دور الأنبياء هو مراقبة الملوك والتدخل عند الحاجة إذا لم يكن الملك نبياً؟ ونشير هنا إلى أن المسيحيين يطلقون على المسيح عيسى بن مريم لقب "ملك إسرائيل" مع أنه عليه السلام لم يكن حاكماً ولا رئيس دولة، وإنما كان نبي دعوة ووعظ وإرشاد. فإذا كان هناك رابط بين النبوة والملك عند أنبياء بني إسرائيل فهل هذا يشكل قاعدة عامة؟ من المعروف أن أصحاب الرسالات من أولي العزم لم يكن لهم علاقة بالملك أو السياسة والحكم، فهذا نوح وإدريس وإبراهيم وأيوب وشعيب وموسى وإدريس كانوا دعاة إصلاح وحصل صدام بينهم وبين الملوك المعاصرين لهم، كما حصل لنوح مع قومه بعد رفضهم لدعوته حيث دعا عليهم بالهلاك، وكما حصل لإبراهيم عليه السلام مع النمرود ولموسى مع فرعون. لقد كان معظم الأنبياء دعاة إصلاح أو توحيد كما تُبين الآيات القرآنية وكانوا يهدفون إلى إصلاح أقوامهم حيث غلب على خطابهم مخاطبة كل نبي لقومه دون سائر الناس. ومن هنا نفهم حديث رسول الله(ص):" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء" أن هذه السياسة لم تكن تعني الملك المباشر وإنما تعني وجود سلطة معنوية لهؤلاء الأنبياء على الناس وعلى حكامهم وأنهم يسوسونهم بموجب هذه السلطة عبر التوجيه والإرشاد ومن ذكر القرآن انه كان منهم ملكاً فهو ملك مباشر. الإسلام والسياسة في عهد النبي محمد(ص) حينما بعث محمد(ص) بالرسالة كانت العرب قبائل وكان لكل قبيلة كيانها المستقل، وحتى في مكة التي كانت (أم القرى) كان هذا الواقع القبلي، وكانت الأمور تدار عبر مجلس عشائري يُعقد في مكان يسمّى دار الندوة يشترك فيه كبار القوم، وكان الأمر مختلفاً في اليمن ولدى بعض قبائل العرب المتنصرة كبني غسان. وفي المدينة كان هناك رجل يسعى ليُعلن نفسه ملكاً هو عبد الله بن أبي بن سلول ولكن ظهور النبي(ص) وهجرته إلى المدينة فشل مخطط ابن سبأ لإعلان نفسه ملكاً. وببعثة محمد (ص)وفتح مكة آل أمر الرئاسة في الجزيرة العربية إلى النبي (ص)، وأصبح الناس يرجعون إليه في كافة أمورهم ليس باعتباره ملكاً أو رئيساً أو أميراً ولكن باعتباره نبياً مرسلاً. واستمر النبي(ص) طيلة حياته يدعو الناس ويقضي في أمورهم وكان يرسل إلى البلدان البعيدة من ينوب عنه في الفصل والقضاء بين الناس كبعثة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه إلى اليمن، كما كان يعين في القبائل من يفصل بينهم. وبوفاة النبي(ص)انقطع الوحي، وسارع المسلمون إلى اختيار خليفة لرسول الله(ص) فوقع الاختيار على عبد الله بن أبي قحافة ولقبه أبو بكر الصديق الذي اعتُبر ولياً للمؤمنين وأميراً لهم ويستدل على ذلك من خطبته التي ألقاها عقب مبايعته بالخلافة إذ قال:" وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". وبهذا صار الصديق خليفة رسول الله(ص) ثم توالى الخلفاء من بعده وبدأت الدولة، دولة المسلمين تأخذ شكلها شيئاً فشيئاً فكان الخليفة يعين العمال (أي الولاة) على الأمصار ثم دُوّنت الدواوين وأسّس نظام البريد، ونُظّمت الأمور بشكل يحقق مصالح المجتمع ويحفظ كيان الدولة، وقد استعان المسلمون بخبرات الأمم المجاورة لهم التي سبقتهم في تأسيس وتنظيم الدول كالروم واستمرت على ذلك حتى عهد عبد الملك بن مروان الذي أمر بتعريب الدواوين حوالي سنة 86 هجرية، والدواوين تشبه الوزارات في عصرنا الحاضر ومنها ديوان الرسائل وديوان الخراج وديوان الجند، وديوان السكة وغيره. وكان يتولّى هذه الدواوين عند تأسيسها موظفون من غير المسلمين من الروم والقبط والفرس واليونان، وكان لهؤلاء نفوذهم في الدولة، فلما عُرّبت الدواوين. استُبدل هؤلاء بموظفين من العرب والمسلمين. وبانتقال الحكم إلى الأسرة الأموية أصبح التوريث هو الوسيلة المعتمدة لتعيين الخلفاء. الخلافات والثورات اختلف المسلمون حول اختيار الخليفة منذ اجتماع السقيفة الذي تمت فيه مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة واستمر هذا الخلاف مع كل الخلفاء حيث لم يحظ خليفة منهم بإجماع المسلمين، وإنما كان دائماً يوجد من يعترض أو يرفض البيعة. ولعل ثورة الإمام الحسين بن علي (رضي الله عنهما) من أهم الثورات التي قامت ضد الحاكم في الإسلام حيث ظهر فساد الحاكم يزيد بن معاوية وانحرافه عن مبادئ الدين وعبثه بالسلطة، فخرج الحسين بن علي رضي الله عنه ليعمل على إصلاح الأمور ولكن ثورته انتهت بتخلي أنصاره عنه وبمقتله مع عدد كبير من مؤيديه وإزاء أسرته وذلك في أرض كربلاء في واقعة الطف. وتتابعت بعد ذلك الثورات وحركات التمرد حتى لم يخل عهد خليفة لا أموي ولا عباسي من فئة تتمرد أو تثور عليه أو تناوئه، وكل تلك الحركات كانت ذات طابعٍ سياسي وإن حاول بعضها التستر برداء الدين أو الثأر أو الاقتصاص، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من قاد تمرداً ضد الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأريد أن أشير هنا إلى أن المسلمين لم يكونوا أفضل من سواهم من الأمم والشعوب في مسألة الصراع السياسي أو الصراع على السلطة، وقد سفكت دماء غزيرة في إطار هذا الصراع الذي لم يأخذ بعداً فكرياً أو عقائدياً إلا نادراً. وتمت تصفية رجال ذوي أهمية بالغة مثل عبد الله بن الزبير الذي أعلن نفسه خليفة وحكم الحجاز لمدة تسع سنوات. لقد لعبت كل العوامل لعبتها وأثّرت في الصراع، واستعملت كل ألاعيب السياسة والتآمر والفتن والاغتيالات، ولم يمنع انتساب المتصارعين للإسلام الكثيرين منهم من مخالفة أوامر الدين واللجوء إلى أمور غير شريفة للفوز في الصراعات الدائرة. إن ادعاء التاريخ المجيد للمسلمين إنما هم مجرد ادعاء لا دليل عليه بل إن الدلائل تشير إلى عكس ذلك، لقد كان تاريخ الصراع بين المسلمين دموياً إلى أبعد الحدود، وعلينا أن نفرّق بين التاريخ الحضاري للمسلمين والتاريخ السياسي. |
||||||