|
|||||||
|
لو كان الثائرُ في عاشوراء غيرَ الحُسين (ع)، من أولئك الذين تعنيهم الدنيا ويهوون السلطة والكرسيّ، لأمكن لنا أن نطوي صفحًا عن تاريخ تلك المرحلة؛ فنعتبر أنّ ما جرى لا يعدو نزاعًا على السلطة والدنيا، انطلاقًا من أهواءٍ وأطماعٍ شخصيَّةٍ، ككثيرٍ من قصص التاريخ التي لا تخلو منها أمّة أو قومٌ. ولو كان الثائرُ غيرَ الحُسين، لكان سائغًا لنا أن نتحدّث عن نزاعٍ عائليٍّ بين عائلتين بينهما تنافرٌ أو بغيٌ تاريخي، وهم بنو أميّة – الذين ينتمي إليهم يزيدُ - وبنو هاشمٍ – الذين ينتسب إليهم الحسين-. ولو كان الثائرُ غيرَ الحُسين، لأمكن لنا أن ندخل في جدلٍ حول اجتهادٍ هنا وهناك، مصيبٍ في موقعٍ وله أجران، ومخطئٍ في موقعٍ وله أجرٌ واحدٌ؛ ككثير من الاجتهادات التي تقف في خلفيّة المواقف السياسيّة أو الحروب والنزاعات وما إلى ذلك. لا نتحدّث هنا من موقع اعتقاد المسلمين الشيعة بعصمته والتي يخالفهم فيها المسلمون الآخرون، بل من منطلقٍ آخر يأتي الحديث عنه في السطور الآتية. لو كان الثائرُ غيرَ الحسين، لكان لأوجُه التحليل لذلك الحدث وخلفيّاته مجالٌ كبيرٌ، ولكنَّ الثائرَ هو الحسينُ(ع)! وبذلك فإنّنا لا نستطيع أن نعزلَ فهم الثورة في عاشوراء عن كلّ العناصر المكوّنة لتلك الشخصيّة، والتي تتنافى مع أيّ حالةِ هوًى سلطويّ، أو شهوةِ ملكٍ، أو مع أيّ عصبيّة عائليّة أو حزبيّة، أو غير ذلك من الأمور التي قد تغلبُ على الإنسان العاديّ. هذه الشخصيّة التي تملك وضوح الرؤية، وسلامة القاعدة، وخبرة الواقع، ما يجعل الموقف منطلقاً من أساس واضح غير خاضع للأخذ والردّ بين المجتهدين، وبذلك يكتسبُ الموقفُ مشروعيّةً ثابتةً قائمةً بمنطلقاته الواضحة، انطلاقاً من خصوصيّة الشخص وموقعه؛ بل إنّ ذلك الموقف هو الذي يحسمُ أيّ جدلٍ نظريٍّ حول فهم النصّ أو القاعدة الشرعيّة التي ينبغي أن تحكمه. إنّ الإمامة التي أثبتها رسولُ الله(ص) في كلامه للحسن والحسين(ع) عندما قال عنهما إنّهما "إمامان؛ قاما أو قعدا"(1)، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة(2)، وأنّهما من أهل البيت الذين فرض الله مودّتهم في كتابه العزيز(3)، لا مودّة الانتماء للعائلة الذي نسفه القرآن في إنزاله سورةً عن أبي لهبٍ، عمّ النبيِّ(ص)، وإنّما مودّة التمثيل للخطّ الذي انطلقت من أجله الرسالة وبُعث لأجله الرسولُ، وهو الإسلامُ بكلِّ أبعاده؛ أن يأخذ موقعه في حركة الحياة وبنائها؛ كلّ ذلك يجعلنا نستنتج أنّ الإسلامُ هو الذي يحرّكُ الحسينَ(ع) بصفته التمثيليّة عنه، وعليه، فإنّ حركة الحسين(ع) ستكون انعكاساً صادقاً للموقف الإسلامي، ولاسيّما عندما يبيّن منطلقاته والقاعدة التي يرتكز إليها، من آيةٍ كريمةٍ، أو حديثٍ شريفٍ. وقد نستطيع أن نقولَ إنّ الحسين(ع)، عندما لا يكون معنيّاً بشخصه وتوجّهاته لأيّ أمرٍ آنيٍّ أو مصلحيّ شخصيّ، فإنّ معنى ذلك أنّ ثورته كانت مرتبطة بأمرٍ رساليّ، ليس إلا أن يبقى الإسلامُ ببقاء المعايير الموضوعيّة التي ينبغي أن تكون الأساس لقياس سلامة حركة المجتمع، لا أن تصبح المعايير قائمةً بالسلطة وأدواتها؛ فمن جلسَ على كرسيِّ الخلافة امتلك الشرعيّة من الله، وأصبحت طاعتُه لازمةً في أعناق المؤمنين، انطلاقًا من كونه أميرَهم، وإن لم يعرفْ صلاةً ولا وضوءً ولا حرفًا من حروفِ الإيمان!. وهذه القضيّة كانت، وما تزال، قضيّة حيويّة في حركة الاجتماع الإسلامي، ويمثّل حلّها واحدةً من أهمّ القضايا التي يمكن أن تنفتح على تجانسٍ في الرؤية والقواعد بين المذاهب والحركات الإسلاميّة، وبالتالي توحيد معايير التقويم لواقع الأنظمة التي تحكم مجتمعاتنا الإسلاميّة. إنّ المشكلة التي نعيشُها اليومَ تجاه هذه القضيّة، أيْ قضيّة مشروعيّة الحاكم أو الأمير في الفقه الإسلامي، أو من له السلطة بوجهٍ عامّ، هي في طبيعة المعايير التي ينبغي أن يشتمل عليها صاحبُ السلطة، والتي تكسبُه المشروعيّة الإسلاميّة، وهي المعايير التي ينبغي أن تحكم البيعةَ نفسَها؛ لأنّ البيعة لا تنطلق من فراغٍ، وإنّما من قاعدة لا بدّ أن تكون منسجمةً مع ما يُراد للاجتماع الإسلامي أن يحقّقه. وظيفة السلطة الاجتماع الإسلامي إنّ وظيفة السلطة تتحدّد وفق الأهداف التي ينبغي أن يحقّقها الاجتماع الإسلامي؛ لأنّ المجتمع هو تجمُّعُ أفرادٍ في شبكةٍ من القيم والعلاقات والأنشطة التي تعزّز حضورها – أي القيم والعلاقات والأنشطة – لدى كلِّ فردٍ من أفرادها بنحوٍ يمثّل جزءاً من عمليّة التربية غير المباشرة التي يمارسها المجتمع ككلّ على الأفراد الذين يعيشون في مجال تأثيره. وبهذا المعنى، لا يكون الدين معزولاً عن الحياة، وإنّما هو من صُلب حركة المجتمع والإنسان فيه؛ لأنّ الدِّين يعبّر عن ذاته في منظومة من القيم والقواعد التي تحاكي الفطرة والسيرة العقلائيّة والمنطق السليم، وتمثّل الطريق الذي يساعد الإنسان على تعزيز ذلك في وجوده الفردي والمجتمعي، على مستوى الدنيا والآخرة معاً. ومن هنا، لا يمكن النظر لمسألة الدولة في الإسلام على أنّها مسألة سلطة، وإنّما هي مسألة إدارة لكلّ تلك الأبعاد في سبيل تكريسها عبر نظامٍ متكاملٍ، تتفاعل فيه الأبعاد الاجتماعية والاقتصاديّة والأمنيّة والنفسيّة والتربويّة والروحيّة وما إلى ذلك ممّا يشكّل أبعاد حركة أيّ مجتمع من المجتمعات. وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن نطرح مفهوم "السلطة الرساليّة" في الإسلام، تلك السلطة التي ترتكز إلى كلّ أبعاد الرسالة الإسلاميّة، لكي تحرّكها على أرض الواقع، بالطريقة التي لا تكره الناس على الإيمان، وإنّما تحرّك الإيمان كنسيمٍ ينفذ إلى أعماق الروح، وكأرضٍ تحتضنُ حركة الإنسان، وكقيمٍ تضبط نوازعهم الذاتيّة كما توجّه سلوكهم وعلاقاتهم مع الآخرين؛ ومن لا يملك تلك الأبعاد كيفَ له أن يحسن إدارتها؟!. من هنا نستطيع الدخول إلى النقطة الجوهريّة التي مثّلت خلفيَّة الثورة في عاشوراء، وهي مسألة المعايير التي ينبغي أن تقوم عليها البيعة، وبالتالي الاجتماع الإسلامي ونظام الدولة وحركة المجتمع فيه؛ وهو ما نشير إليه في عدّة عناوين: المواصفات العامّة جاء في جواب الإمام الحسين(ع) لأهل الكوفة: "فلعمري ما الإمامُ إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله"(4). إنّ الإمام الحسين(ع) في هذه الكلمة لا يطرحُ شيئًا جديدًا لم يسبق أن بلغ أسماعَ الأمّة، وإنّما هو يؤكِّد على معايير الموقع الذي يمثّل استمرارًا لموقع رسول الله(ص)، والذي يأخذ فيه الحاكم صفة "الإمام" الذي يوحي بالتقدُّم على الأمّة في تجسيد قيمها، لا أن يكون مجرّد زعيمٍ متسلّطٍ عليها؛ وهذا ما يرتكز إلى عدّة قيم أو معايير أساسيّة: أ- معرفة فكر الإسلام ونظريّاته، انطلاقًا من أنّ حكمه للدولة لا بدّ أن يرتكز إلى كلّ ما ورد في الكتاب، لا أن يكون حكمُه في خطّ والقرآنُ الكريم في خطٍّ آخر. وقد يوحي لنا التعبيرُ (الحاكم بالكتاب) أنّ الحاكم إنّما يرتكز إلى قواعد موضوعيّة يمكن لكلّ أحدٍ أن يطّلع عليها، وأن يقوّم أداء الحاكم وفقَها، وبذلك يخرج الحكم عن المسألة المزاجيّة للحاكم، بحيث يصبح قرارُه ورأيه ميزان الحقّ والباطل، وبذلك يفقد الحقّ والباطل أيّ حقيقة موضوعيّة. ولعلّنا في حاجةٍ هنا إلى الالتفات إلى اعتبار أنّ دستور الدولة هو القرآن؛ فإنّ ذلك لا يكون إلا عبر اجتهادٍ يُخرج الفهم القرآنيّ من ذاتيّات الرجال إلى موضوعيّة القوانين والقواعد والنُّظُم؛ الأمر الذي يسمح بنقد تلك الاجتهادات من داخلها، بمعنى أن يكون هناك اجتهادٌ في مقابلها يصوّب خطأً ما في منطقها أو معطيات الاستنتاج منها؛ ممّا يسمح بتطوير الاجتهاد القانوني عبر تراكم الخبرات والحوار. أمّا إذا بقيت النصوص كلّيّة، وتُرك الأمرُ فيها لاستنسابات داخليّة – أعني داخل ذهنيّة الحاكم أو القاضي – فإنّ القرآن نفسه قد يتحوّل إلى شعار، ووسيلةً تسمح بتحكّم أمزجة الرجال وأهوائهم بحركة الحكم ونظم الدولة، انطلاقاً من أنّ النصوص العامّة تسمح بالكثير من التطبيقات التي تدّعي خضوعها لعمومها. ولو عُدنا إلى عاشوراء، لوجدنا بأنّ النموذج الذي حوّلت فيه بنو أميّة الخلافة إلى ملك عضود، وعمدوا من خلاله إلى تفريغ موقع الخلافة بشكل فاضح، من ضرورة أن يتمتّع الحاكم بمعرفة الأسس والمنطلقات التي قام عليها الدين والاجتماع الإسلامي، وهو ما سطّره القرآن الكريم في آياته، وطبّقه النبيُّ(ص) في حركته المتنوّعة الأبعاد؛ ولذلك كان من شعارات الحسين(ع) هو السير بسنّة جدّه رسول الله(ص)، حيث قال: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالمـاً ولا مفسداً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي(ص)؛ أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي..."(5)، كما أنّ من الواضح أنّ قول الحسين(ع) حينما دعاه والي المدينة للبيعة: "ومثلي لا يبايع لمثله"(6)، أنّ الحديث عمّا تمثّل كلّ من الشخصيّتين من معايير وقيم وحركة سلوك، لا عن النسب والانتماء ونحو ذلك ممّا شطبه الإسلام في أدبيّاته حينما جعل أساس الكرامة التقوى(7)؛ ولذلك كانت المقارنة بين معايير تمثيليّة للإسلام في البنية والسلوك: "إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلَف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ، شاربُ خمرٍ، قاتل النفس المحرَّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله"(8). ب- تطبيق العدل بين الناس، ومن أهمّ شروط تطبيق العدل تحويله إلى قواعد ونُظم موضوعيّة واضحة، تشكّل معايير تخضع لها حركة الدوائر المتنوّعة في المجتمع وفي الحكم، ويجري على أساسها التقويم. أمّا تحويل الحكم إلى سلطة على قاعدة ما طُلبت فيه البيعة ليزيد بن معاوية: "من بايع فله هذا – أي صرّة المال – ومن لم يبايع فله هذا – أي السيف –"، فهذا ينسف أهمّ أساس من أساس استقرار المجتمع، وهو الأمن، على ما أشار الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿فليعبدوا ربَّ هذا البيتِ الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفٍ﴾(9)؛ إذ إنّ الأمن الداخليّ لا يمكن أن يتحقَّق من دون نظامٍ عادلٍ يقومُ على تطبيقه على الجميع، دونما فرقٍ بين حاكم ومحكوم، وبين ضعيفٍ وقويّ، وبين قريبٍ وبعيدٍ؛ كما قال تعالى: ﴿يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداءَ للهِ ولو على أنفسكم أو الوالدينِ والأقربين﴾(10)، بحيث يتحوّل الحكم والنظام القائم بالعدل إلى قوّة للضعيف، وإلى قوّة على القوي، بهدف تحقيق العدل وتثبيت الحقّ لأصحابه، بمعزلٍ عن القرابة والجنس واللون والعرق وما إلى ذلك من تمايزاتٍ. وفي توصيفٍ للإمام الحسين(ع) لطبيعة الحكم القائم آنذاك، يقول: "أيّها الناس، إنّ رسول الله(ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثًا لعهدِ الله، مخالفًا لسنّة رسولِ اللهِ، يعمل في عبادِ الله بالإثم والعدوان؛ فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ، كان حقًّا على الله أن يدخله مدخلَه. ألا إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقُّ من غيَّرَ"(11). ومن خلال هذه الكلمة نستطيع أن نلمح عدّة إشارات: أوّلاً: أنّ سياسة الحكم القائم كانت سياسة شيطانيّة، تنطلق من قواعد العمل الشيطاني، والذي يتحرّك على قاعدة تثبيت المنكر والباطل والظلم في حياة الناس، سواء في المضمون أو في الأساليب التي تعتمدها السلطة للوصول إلى ذلك؛ وهذا يتناقض مع قواعد العمل السياسي الذي ينبغي أن يقود المجتمع الإسلامي نحو تجسيد القيم والمبادئ، تحت عنوان "طاعة الرحمن". ثانياً: الاستئثار بمقدّرات المجتمع والأمّة، وتحويلها إلى العائلة أو المقرّبين، تحقيقًا لأهداف شخصيّة وأطماع آنيّة، لا ترتبط بمصالح المجتمع والأمّة، ولا بالتخطيط لتحدّيات الحاضر والمستقبل، والحال أنّ هذه المقدّرات هي ملك المجتمع ككلّ، لا بوجوده الحاضر فحسب، وإنّما بوجوده الكلّي الذي يختزن ضمنًا تطلّعات المستقبل، تبعًا للأجيال اللاحقة. هذه النقطة تبدو ذات أهمّية قصوى في صوغ الاجتماع الإسلامي؛ لأنّ تبعات أيّ سلوك اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي عامّ، لا تقتصر آثاره السلبيّة على الجيل الحاضر، وإنّما يشمل الجيل القادم؛ فقضيّة الدَّيْن العامّ الذي توجبه خطّة اقتصاديّة - مثلاً - سيجعل من كلّ مولودٍ مديناً، ما يجعل عبء الدَّيْن موزَّعاً على مساحةٍ أكبر من مساحة الجيل الحالي؛ وهذا ما يحتّم النظر إلى البُعد الاجتماعي للسلوك بغير ما ننظر فيه إلى البُعد الفردي له. وعلى هذا الأساس، لا يمكن النظر إلى أنّ المشكلة التي كان يشير إليها الحُسين(ع) هي مشكلة يزيد كحاكم فردٍ، وإنّما مشكلة حُكمٍ في مسارٍ يتزايدُ سوءاً على النموذج الإسلامي، وعلى مستقبل الأمّة وذهنيّتها؛ الأمر الذي يجعلنا نفهم أكثر مستوى الرفض الحاسم الذي وقفه الإمام الحسين(ع) حتّى الاستشهاد؛ لأنّه – في تلك الحسابات – لا موقعَ للحلول الوسط أو التسويات، ولا لقبول الأمر الواقع، ولا للرضوخ تحت القوّة؛ لأنّ هذا يعني إعطاء الشرعيّة للواقع القائم بما وصلت إليه الأمور، وبتداعياتها المستقبليّة على ذهنيّة الأمّة وواقعها. ثالثاً: تعطيل الحدود أو القوانين الرادعة، التي هي المرجعيّة النظاميّة لمنع الفوضى والفساد، وتحقيق أمن المجتمع، وضمان استمراريّة صلاحه، وقد أصبحت في زمن حكم بني أميّة بالذات خاضعة لأهواء الحاكم ومزاجه وثقافته العصبيّة البعيدة كلّ البُعد عن الإسلام وقيمه وقواعد حركته؛ الأمر الذي أدّى إلى انقلابٍ في المفاهيم، فأصبح حلال الله حرامًا؛ لأنّه يخالف هوى الحاكم أو السلطة، وأصبح حرامه حلالًا؛ لأنّ في لذّة الحاكم وشهوته. إنّ المسألة هنا تمثّل انقلاباً، لا على صيغة الحكم التي أرساها رسول الله نظريَّةً وممارسةً، وإنّما هي انقلابٌ تامٌّ على المشروع النبويّ المتعدّد الأبعاد، فكرياً وروحيّاً وتربويّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وما إلى ذلك من أبعادٍ لا بدّ من تكريسها كمنظومةٍ تستمرُّ معها تغذية القيم الحاكمة، كمناخٍ لتغذية القيم لدى الأفراد، لتحقيق تكاملهم على المستويات كافّة. وهذا ما لعلّه يفسِّرُ لنا أيضًا الكلمة المرويّة عن الإمام الحسين(ع) بقوله: "وعلى الإسلام السلام أن بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد"(12). استناداً إلى ما تقدّم، نُعيد التأكيد على ما رمينا إليه في هذا المقال، وهو أنّه لا يُمكن التعاطي مع الحدث العاشورائيّ كحدثٍ هامشيّ في حركة المشروع الرساليّ الذي قاده النبيُّ(ص)؛ لأنّ ذلك يفوّت علينا فرصة فهم موقعنا ممّا يجري من حولنا، على قاعدة أنّ من لا يفهم التاريخ لا يفهم الحاضر؛ كما لا يُمكن النظر إلى المسألة على أنّها خصوصيّة مذهبيّة؛ لأنّ ما كان يحكم حركة الإمام الحسين(ع) لم يكن المذهب، ولا رمزيّته لمن اتّبعه كقائدٍ فئويّ مناوئٍ لفئاتٍ أخرى، بل إنّ ما كان يحرّكه هو المشروع الرسالي الذي وجده في خطرٍ، من دون فرقٍ لديه بين فريقٍ وآخر، إذا كان سائغًا لنا أن نتحدّث آنذاك عن فرقٍ بالمعنى الذي نجده اليوم؛ لأنّه لم يكن هناك سوى فريقين: فريقٍ خاضعٍ لسلطة تريد أن تقلب المعايير وتقضي – عمليّاً – على المشروع الإسلاميّ، وفريقٍ يحاول أن يعلي الصوتَ في المسؤوليّة التاريخيّة لمواجهة ذلك، حتّى لو أدّى الأمر إلى الاستشهاد. وهذا ما ينبغي على كلّ الأمّة أن تعيه، وأن ترصد موقع المشروع الرساليّ النبويّ من كلّ حركة الواقع، وأبسط ما يتطلّبه هذا إعادة فهم هذا المشروع عبر ما تراكم لدينا من تجارب وخبرات نضّجت ذهنيّاتنا في فهم حركة الواقع، ما ينعكس تغيُّرًا في فهم كثير من النصوص والقواعد النظريّة التي – ربّما – لا يزال كثيرٌ من الفهم فيها مستنداً إلى مراحل تاريخية سابقة، أو تجارب جزئيّة، قياسًا بما نعيشه اليوم من تحدّيات وإشكاليّات؛ لأنّ المرحلة التي تمرّ بها أمّتنا هي من أخطر المراحل على المشروع الإسلامي الكلّي، الذي لا يعني مذهبًا دون آخر، ولا فئة دون أخرى، وإنّما فيه رأسُ الجميع؛ فإمّا أن يبقى وإمّا أن تطيح به كلّ الأوضاع القلقة التي أورثها الفهم القلق للتاريخ، أو للنظريّة الإسلاميّة، أو لطبيعة تطبيقها على أرض الواقع؛ والله من وراء القصد. هوامش 1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص163. 2- ابن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص3. 3- وذلك قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى)[الشورى: 23]. 4- الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، 39 5- موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم، ص354. 6- موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع). 7- كما قال تعالى: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)، [سورة الحجرات: 13]. 8-موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)، ص344. 9- سورة قريش، الآية 3. 10- سورة النساء: 135. 11- موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)، ص438. 12- موسوعة كلمات الإمام الحسين(ع)، ص346
|
||||||