كيف نعالج ظاهرة التكفير الاجرامي‏

السنة الثالثة عشر ـ العدد 154 ـ (ذو الحجة 1435 هـ) تشرين أول ـ 2014 م)

بقلم: الشيخ الدكتور محمد شقير

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن ظاهرة التكفير ليست ظاهرة جديدة في المجتمعات الإسلامية لكنها في العديد من الأحيان كانت موجودة بشكل محدود ومضبوط وكان يحول دون تفشيها وانتقالها إلى ممارسة الإجرام والقتل وجود حالة من التعايش الأخوي بين مختلف الطوائف الإسلامية وإن اختلفت في مذاهبها الكلامية أو الفقهية، لأن الاختلاف لا يلغي حقيقة كون الآخر مسلماً تحفظ حرمته في دمه وماله وعرضه.

والملفت أن هذه الظاهرة حافظت على وجودها على امتداد التاريخ الإسلامي بشكل أو بآخر حتى إذا ما توفرت لها الظروف في وقت ما أن تنمو وتمارس عملها في القتل والإجرام الطائفي فإنها لا تدخر وسعاً في ذلك؛ وهذا يعني أنه لم يعمد إلى معالجة أسباب هذه الظاهرة ولم تتكاثف الجهود بالمستوى المطلوب للقضاء على العوامل والأسباب التي تسهم في بقائها تفعل فعلها في المجتمعات الإسلامية قتلاً وتكفيراً وارتكاباً للمجازر وإراقة الدماء.

إن ما تقدم يستلزم منا أن نقف عند الأسباب التي تسهم في بقاء هذه الظاهرة كظاهرة تسعى إلى ضرب الوحدة الإسلامية وإشعال نار الفتنة بين طوائف المسلمين، وسوف نحاول أن نذكر هنا مجمل الأسباب التي تقف وراء تلك الظاهرة سواء كانت تلك الأسباب أسباباً نظرية أو كانت أسباباً عملية (ظرفية آنية). أما فيما يرتبط بالأسباب النظرية فيمكن الإشارة إلى هذه الأسباب:

1- التراث التكفيري: إن مما يؤسف له أن يتضمن الإرث التاريخي في الإسلام فيما أنتجه بعض فقهاء المسلمين  وخصوصاً من كان منهم مرتبطاً بالسلطة  بعض الفتاوى التكفيرية وكثير من الكلام التكفيري بحق طوائف متعددة من المسلمين، ولعل من مصلحة السلطة في ظرف ما أن تستخدم سيف الفقهاء وأن توظف فتاواهم في معركتها مع خصومها السياسيين وغير السياسيين من المسلمين ولعل هوى السلطان لا يمنعه ورع من أن يوظف مقولة التكفير ليحفظ بها مصالحه وحكمه، لكن ألم يكن يدرك أولئك الفقهاء أن كلاماً تكفيرياً  نسجته مصلحة الحاكم  لن تقف ارتداداته عند زمان هذا السلطان وأهوائه ومصالحه بل سوف تفعل فعلها ما كرَّ الجديدان.

إن هذا التراث التكفيري الذي تولد نتيجة تشابك المصالح والمنافع ما بين الفقيه والسلطان تحول مع مرور الزمن إلى جزء أساسي من التراث الإسلامي بمعنى أن البعض أخذ ينظر إليه نظرة قداسوية تجعله في صميم الدين وجوهره.

إن الحل النظري هنا يكمن منهجياً في غربلة التراث الإسلامي من كل ما علق به من شوائب تكفيرية وتصفيته من كل الكلام التكفيري وتجاوز كل الكلام الفقهي والتراث الفقهي الذي ارتبط بمصلحة السلطان وكان ينسجه الفقهاء تبعاً لمصالحه وأهوائه، لصالح العودة إلى الأصول الإسلامية أي العودة إلى القران الكريم والسنّة الشريفة ومحاولة بناء منظومة مفاهيمية في العلاقات الإسلامية / الإسلامية لا من وحي فقهاء السلاطين وتراثهم التكفيري بل من وحي كتاب الله تعالى الذي يدعو إلى أن بناء العلاقات الإسلامية  الإسلامية على قيم الأخوة ومنظومة من الحقوق والواجبات المتبادلة مما يوصل إلى بناء علاقات إسلامية صحيحة وأخوية.

2- الجهل بالإسلام: بمعنى أن أية عودة ولو سريعة إلى القران الكريم وآياته التي ترسم مبادئ العلاقات الإسلامية/الإسلامية والياتها يتضح منها أن الأسس في تلك العلاقات ليس هو القتل والإجرام وأن الاختلاف الكلامي والفقهي لا يبرر إباحة دم الآخر وأن أية مطالعة ولو بسيطة لسنّة النبي الأكرم محمد(ص) توضح بشكل لا لبس فيه عدم استسهال إخراج أحد من الإسلام وأنه ليس أمراً مشروعاً إخراج أحد من هذا الدين بناءً على الظن والشبهة وأن الأصل في المسلم عصمة دمه وعرضه وماله.

ولذلك فإن المعرفة الواعية والعميقة بالإسلام والعودة الصحيحة إلى الأصول الإسلامية سوف تؤكد هذه الحقيقة أن التكفير الإجرامي الذي شاب العلاقات الإسلامية/  الإسلامية هو أمر دخيل على الإسلام وأن الإسلام ينكره ويرفضه بل ويدعو إلى مواجهته بمختلف السبل العلمية والعملية لاجتثاث جذر الفتنة هذا الذي يمارس القتل.

وهنا يوجد دور أساسي لجميع علماء الإسلام وفقهائهم يتمثل ببيان حقيقة الإسلام وموقفه فيما يرتبط بهذا الموضوع الخطير وتفنيد جميع الآراء الباطلة وتحويلها إلى ثقافة عامة وواعية لدى جميع فئات المجتمع الإسلامي.

3- الجهل بالآخر: والمقصود بالاخر هنا المذاهب الإسلامية الأخرى التي يحكم عليها بالتكفير ويعتبرها التكفيريون خارجة عن الإسلام وبالتالي يبررون قتل مئات الملايين من المسلمين ونسائهم وأطفالهم واستباحة أموالهم وأعراضهم في ترداد لمقولات بالية ودعاوى باطلة من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم الاخر في معتقداته وقناعاته فهماً صحيحاً وعلمياً وموضوعياً بعيداً عن روح العداء والتعصب والكراهية وبعيداً عن التقليد الأعمى لمقولات نسجتها أقلام العداء والجهل وإلا فإن أية قراءة موضوعية وعلمية للعديد من المذاهب الإسلامية في معتقداتها وقناعاتها سوف تظهر أنها كانت ضحية لعملية تشويه طالت مجمل معتقداتها وممارساتها وشعائرها مما أدى إلى تكوين جملة تصورات مغلوطة عنها حتى أنها تلامس  أي هذه التصورات  في بعض الأحيان حدود السذاجة.

وبالتالي فإن فهم الآخر فهماً علمياً وصحيحاً سوف يظهر أن كثيراً من الأفكار التي يحملها التكفيريون عن العديد من المذاهب الإسلامية  والتي تبرر بحسب زعمهم قتلهم  ليست أفكاراً صحيحة، إنما هي أفكار مغلوطة تكونت نتيجة حملات اعلامية مغرضة كان يغذيها السلطان ويتلقفها العوام.

4- احتكارية الإسلام: بمعنى أن هؤلاء التكفيريين يرون أن الإسلام لا يتسع إلا لهم في نظرة احتكارية للإسلام، فكل من خرج عنهم وعن أفكارهم وقناعاتهم فقد خرج عن الإسلام وكل من دخل في أفكارهم وقناعاتهم فقد دخل في الإسلام، حيث يغدو الإسلام الانتساب لهم وليس الانتساب إلى رسول الله(ص).

إن هذه النظرة الضيقة للإسلام التي تقزمه بحيث يغدو على مقاس جماعة أو أخرى؛ هي نتاج جهل حقيقي بهذا الدين، وإلا فإن الفهم الصحيح لهذا الدين سوف يقود إلى نتيجة مفادها أنه يتسع لجميع أبنائه وأنه على مقاس جميع مذاهبه، وأنه لا يخرج منه إلا من أخرج نفسه، وأن من اعتقد بأصوله الأساس وضرورياته فقد دخل فيه ولا يخرجه منه توهم متوهم أو اعتقاد خاطئ من جاهل بالدين.

5- استبعاد الحوار: فعندما تضعف قيم الحوار ولا تدرك أهميته على مستوى فهم الآخر وعلى مستوى فهم الذات وعلى مستوى تعميق فهم الدين والإسلام؛ عندها سيمارس القتل بناء على الظن وسوف يستسهل الإقدام عليه بل سوف يصبح الهدف الأساس والمشروع الحضاري لدى هذه الجماعة أو تلك ممارسة القتل.

وهنا سوف يكون مبرراً لدى جميع الناس مسلمين وغير مسلمين النظر بعين القلق إلى هذه الجماعات لأنه إذا كان الآخر المسلم غير مقبول لدى هؤلاء فكيف بالآخر المختلف على المستوى الديني؛ أي أن الديانات الأخرى سوف تسأل عن موقف هؤلاء منها. ومن حقها في التفكير بل من حقها في الحياة والوجود، وبناءً عليه توجد أهمية خاصة للحوار بحيث يكون الآخر والاختلاف معه مدخلاً أساسياً لهذا الفهم الأعمق بالذات والآخر والدين إذا ما اعتمدت صيغة الحوار الجاد والهادف بدل أن يتخذ هذا الاختلاف كمبرر لاستخدام القتل والإجرام وعدم الاعتراف بحق الحياة والاعتقاد للآخر المختلف عقيدياً وفكرياً.

يضاف إلى ما تقدم ضعف مبادئ الوحدة الإسلامية وتفعيلها والشعور بها أو ضعف الانتماء للإسلام بل الانتماء للمذهب أو جماعة معينة على حساب الانتماء للإسلام.

لعل هذه الأسباب هي أهم الأسباب النظرية التي تسهم في تغذية ظاهرة التكفير الإجرامي يضاف إليها جملة من الأسباب الزمنية أو الظرفية التي ترتبط بظرف ما أو واقع ما كما هو الواقع العراقي حيث يسهم الاحتلال بشكل كبير في التفريق بين المسلمين وتعزيز روح الانقسام بينهم بل ربما تسهم قوى متعددة أخرى في زرع بذور الفتنة بينهم.

ولا يخفى أن أكثر ما يضر الاحتلال ويسهم في تسريع خروجه واندحاره عن العراق هو تعزيز روح الوحدة بين العراقيين والمسلمين ودرء الفتنة من بينهم ومحاولة حل خلافاتهم فيما بينهم متجنبين أية عوامل خارجية قد لا تساعد على تجاوز تلك الخلافات والوصول إلى قواسم مشتركة فيها.

وعلى ما تقدم لا بد من القول إن معالجة ظاهرة التكفير تتطلب كنس التراث التكفيري والعودة إلى كتاب الله تعالى والسنّة الشريفة وتجاوز كل ما يتعارض مع كتاب الله تعالى في نظرته إلى العلاقات الإسلامية/الإسلامية وضرورة بنائها على قيم الأخوة والتعاون، واعتبار الإسلام أوسع من المذهب أو جماعة مذهبية معينة وعدم احتكار الإسلام، من قبل فئة أو أخرى وهو ما يتطلب فهماً أعمق وأشمل للإسلام يجعلنا نفهم هذا الدين بأبعاده القيمية والأخلاقية والإنسانية أي فهم إنسانية الإسلام.

إن إعطاء القيمة للإنسان وللحياة الإنسانية يتلاقيان مع القواعد الشرعية في الاحتياط بالدماء وعدم استسهال القتل.

كذلك فإن اعتماد الحوار كوسيلة لفهم الآخر فهماً علمياً صحيحاً وإعطاء هامش لحرية التفكير وحق الاختلاف بحيث لا تكون القاعدة "إما أن تكون مثلي أو تقتل"؛ كل ذلك يسهم في تكوين علاقات ودية وسليمة في الاجتماع الإسلامي وخصوصاً إذا ما وجد هؤلاء التكفيريون أن جميع علماء المسلمين ينكرون عليهم فعلهم ويعتبرونها خارجة عن الدين بحيث يكون الإنكار عليهم بمستوى الجرم الذي يرتكبون، وإلا فإن الإدانات الخجولة  وعدم المبادرة إلى مشروع إسلامي عام لمواجهة هذه الظاهرة بجميع أسبابها وأشكالها؛ لن يفي بمعالجة هذه الظاهرة والقضاء عليها.

اعلى الصفحة