الانتماء الخاصّ والعامّ بين التعاوُن والتمزّق

السنة الثالثة عشر ـ العدد 154 ـ (ذو الحجة 1435 هـ) تشرين أول ـ 2014 م)

بقلم: السيد جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

نستغرقُ عادةً في النظر إلى انقساماتنا المذهبيّة؛ بين سُنّة وشيعة، وانقساماتنا العرقيّة؛ بين عربٍ وفُرس وتركٍ وكُردٍ وغير ذلك، وانقساماتنا الحزبيّة على تنوّعاتها، وهذا أمرٌ طبيعيّ؛ لأنّنا عندما نكون جزءًا من إطار معيّن، فإنّ كُلا منّا يعيش خصوصيّاته؛ ليعبّر عن ذاته مذهبيّاً في إطار الانتماء للإسلام، وعرقيّاً في إطار إبراز التميّز الإنسانيّ، وحزبيّاً في خطوط الحركة التنظيميّة.

ويُمكن لنا حينئذٍ أن ننظر إلى كُلِّ هذه التمايزات على أنّها إغناءٌ للتجربة العامّة في كلّ إطار؛ لأنّ كلَّ مكوِّنٍ يضيفُ من خصوصيّاته وميّزاته عناصر يفتقدها الآخر، وبالتالي تكتمل الصورة العامّة من خلال وجودات الجميع. وهذا ما لعلّه يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾(الحجرات: من الآية 13﴾.

وإذا كانت هذه الوجهة ضروريّة لوعي أهمّية الوحدة، وتفعيل دورها في مجتمعاتنا وأطرنا التنظيمية، فإنّها تبدو قاتلةً ومدمّرة عندما تحكم تعاطينا مع التحدّيات الخارجيّة التي تفرضها لعبة الأمم، وتضارب المصالح الاستكباريّة، والتي لا تعنيها تلك التمايزات إلا بمقدار ما تخدم الخطط التي تستهدف تحقيق مصالح أولئك المستكبرين وأهدافهم المرسومة، والتي هي – حُكماً – ضدّ مصالح شعوب المنطقة وكياناتها.

إشكاليّات الواقع

وإذا أردنا أن نكون أكثر التصاقًا بمفردات الواقع، فإنّ هذه النظرة حكمت سياسات دول إسلاميّة فاعلة ومؤثّرة في العقود الأخيرة من القرن الماضي ولا تزال، كالتنافر الحاصل بين المملكة العربيّة السعوديّة والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، بما أخذ طابعاً مذهبيّاً حادّاً بينهما، ولاسيّما أنّ السعوديّة تبنّت فكر الوهّابيّة الذي يقفُ موقفًا حادّاً من المسلمين الشيعة (يأخذون عنده عنوان الرافضة) لمجرّد الانتماء..

وقد بدا التأثير المذهبي يتّسع في وصم العلاقات بين الدول في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيثّ تمّ تصوير المسلمين الشيعة على أنّهم عملاء للاحتلال، والمسلمين السنّة على أنّهم مقاومة، وتمّ إلباس الفئات المتطرّفة لبوس المقاومة حتّى في تفجيرها للمساجد والحسينيّات والأسواق الشعبيّة؛ ثمّ تفاقم الأمر بعيدًا مع الأزمة السوريّة بعد دخول حزب الله وإيران على خطّ الصراع فيها.

جمهوريّة مصر العربيّة، أكبر دولة عربيّة وذات تاريخ عريق في الانفتاح الديني، والمؤهّلة للعب دور الاعتدال مقابل خط التطرّف المذهبي، بدا أنّها تنزلق إلى خطاب فئوي يستعدي على أساس مذهبيّ، ويحدّد علاقاته مع الدول والأحزاب على أساس انتماءاتها المذهبيّة، فحصل التنافر بين سياسة مصر خلال حكم الإخوان المـسلمين، وبين إيران وحزب الله؛ مع أنّ هذين اتّهما على أنّهما ساعدا في وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم.

قد لا يستطيع المنصفُ هنا أن يغضَّ النظر عن الإشكاليّات التي أثارها الصراع في سوريا، ولاسيّما أنّ حركة الإخوان المسلمين كانت على طرف نقيض مع موقف إيران وحزب الله؛ كما لا يستطيع أن يعزل الموقف المصري منهما عن الموقف الذي كانت تقوده عدّة دول عربيّة، في مقدّمتها السعوديّة وقطر وغيرهما من زوايا مختلفة؛ كما عن قضيّة الصراع المركزيّة، فلسطين، التي تمثّل للسياسة الأمريكية قضيّة إستراتيجية – من وجهة أخرى - تجعلها تقفُ في مواجهة أيّ تقارُبٍ بين الدول يشكّل خطرًا على الكيان الصهيوني، ويبدأ مسارًا يُعيد للفلسطينيين حقوقهم المغتصبة والمشروعة.

المقاربة الفكريّة

بعد هذا الاستعراض السريع للواقع الذي آلت إليه الأمور والعلاقات بين دول المنطقة وفئاتها، نعود إلى مقاربة الجانب الفكري الذي نرمي إليه، وهذا الجانب مرتبط بالمنهج الذي ننظر فيه إلى موقعنا الخاص والعامّ. وهنا نعتقد أنّ واحداً من العوامل التي كانت تلعب دوراً في تحقيق ذاك النوع من التنافر أو التوتّر في العلاقات، هو الاستغراق في الخصوصيّة المذهبيّة على حساب النظر إلى الموقع الاستراتيجي للدولة أو للحركة في نطاق المجال الإسلامي الأوسع، وكذلك قياساً بالمسؤوليّة الحضاريّة في اللحظة الحاضرة ومدى تأثيرها على المستقبل والأجيال القادمة، ونعتقد هنا أنّ الانزلاق إلى تحكيم العصبيّة المذهبيّة، أو الفئويّة أيّاً كان عنوانها، يمثّل تقزيماً للدولة أو للحركة الإسلاميّة الكبيرة أو غير ذلك من الأطر إذا ما قيست حركتها إلى حجم تأثيرها المجالي أو الزماني.

إنّ المواقف التي تصدر عن الحركات الإسلاميّة الكبرى، أو عن الدول، لا تقاس بحجم اللحظة أو الظرف الآني الذي تمرّ فيه، وإنّما تقاس بتأثير الموقف على مصالح الدولة أو الحركة في المديَيْن القريب والبعيد، والذي يفترض حكماً ملاحظة إمكانيّة التبدّل في الظروف والمواقع تجاه الخصوم السياسيّين وغيرهم.

كلُّ ذلك يفرُض علينا كوجودات إسلاميّة، أو عروبيّة، أو إلى أيّ إطار انتمينا، أن نلاحظ في مواقفنا وخطابنا المشهد الإسلامي العامّ إذا كانت منتمية للإسلام كإطار عامّ، أو الواقع العربيّ العامّ إذا كان الانتماء للعروبة، أو المصلحة الدينية العامّة مع تنوّع الانتماء الديني؛ لأنّ هذه الأطر هي الدائرة المناسبة لحجم التأثير الذي تقفه الدولة أو الحزب أو الحركة أو الطائفة أو المذهب أو ما إلى ذلك.

عندما يكون تأثير الموقف محدودًا بحدود المذهب، فإنّ لأتباع المذهب الحقّ في ملاحظة دائرتهم المذهبيّة، وهكذا في الجانب الطائفي أو الحزبي. أمّا عندما يكون تأثير الموقف أوسع، بحيث يشمل مجالات المذاهب الأخرى، أو الطوائف الأخرى، أو الأحزاب والحركات الأخرى، فإنّ أتباع المذهب معنيّون بملاحظة الدائرة الأوسع التي يشتركون فيها مع الآخرين، وكذلك أتباع الطائفة أو الحزب أو الحركة. هذه النظرة وضرورتها تتحدّدان من خلال أمرين:

الأوّل: طبيعة الأهداف التي يتبنّاها الإطار الخاصّ، والتي عادةً ما تشترك مع أهداف يتبنّاها إطارٌ خاصٌّ آخر، بحيث تشكّل هذه الأهداف أهدافًا مشتركة، أي تنتمي إلى الإطار العامّ. وعلى سبيل المثال، تشترك الحركات الإسلاميّة بمبدأ الاحتكام إلى الشريعة الإسلاميّة، وإظهار قدرة الإسلام على قيادة الحياة، أو مقاومة عوامل الاستعمار والإخضاع التي يمارسها المستكبرون، وغير ذلك؛ فإنّ طبيعة هذه الأهداف تفترض أنّ الموقف الذي يأخذه أيّ فصيل في الأمّة ينعكس حكمًا على الآخرين، وبالتالي لا بدّ أن يكون لهذا الفصيل نظرٌ للمجال الإسلامي العامّ عند اتّخاذ أيّ موقفٍ.

وعندما يُراد لعمليّة البناء السياسي في أيّ بلدٍ يختزنُ تنوّعاً مذهبيّاً أو طائفيّاً أو عرقيّاً، فلا بدّ أن يلاحظ التنظيرُ الإطارَ العامّ الذي يعطي الحقوق للجميع، ولا يُمكن أن يتحرّك التنظير للبلد على قياس الطائفة أو المذهب أو الحزب أو الحركة؛ لأنّ ذلك يعني تقزيم البلد – نظريّاً – على قياس ذلك الإطار الخاصّ، في الوقت الذي لا يمكن ذلك – عمليّاً – إلا من خلال الاستبداد؛ وهذا بابٌ من أبوابِ الفساد.

نعم، هذا يعني أنّنا حكماً أمام ضرورة صوغ فقه العلاقات الإسلاميّة بطريقة انفتاحيّة؛ لأنّنا قد اختبرنا ما يمكن للنظرة الانغلاقيّة الإلغائيّة والإقصائيّة أن تفعله في الواقع البشري، ومدى ما يمكن أن تصل إليه من وحشيّة مع تضافر عوامل أخرى مساعدة على القسوة والتوحّش والاغتراب الاجتماعي.

الثاني: طبيعة التحدّي الخارجي الذي يفرض نفسه على الأطر؛ فإنّه عندما يتمّ تحديد الإسلام كعدوّ وكهدف للمستكبرين، فإنّ الخصوصيّة المذهبيّة غائبة عن ذلك الهدف والتحديد؛ وكذلك عندما يكون الهدف هو الحركة الإسلاميّة، فإنّ كون الحزب منتمياً للمجال العقدي الشيعي أو السنّي لا يحدث فرقاً في المسألة؛ لأنّ المطلوب رأس الجميع، وعندما يكون الهدف ضرب المشروع العلمي الإسلاميّ، فإنّه لا يعود ثمّة فرقٌ بين دولة إسلاميّة تتبنّى الفقه الشيعي، أو تتبنّى الفقه السنّي؛ لأنّ النهضة العلمية الإسلاميّة مرفوضة كخطّ حضاريّ يمكن أن يأخذ الدفّة من الخطّ الحضاري الغربي؛ وهكذا...

وعلى هذا الأساس، يشكّل الاستغراق في الخصوصيّة المذهبيّة عندما يكون الهجوم على الإسلام بما هو هو، أو في الخصوصيّة الحزبيّة عندما يكون الهجوم على الحركة الإسلاميّة بما هي هي، أو في الخصوصيّة العرقيّة عندما يكون الهجوم على المنطقة بما هي كيانات سياسية كبرى، أو في الخصوصيّة الطائفيّة كذلك... يشكّل هذا الاستغراق نوعًا من قصر النظر الفاضح، وشيئًا يقربُ من ذهنيّة الأطفال في استغراقهم بألعابهم وأنانيّاتهم أمام تحدّيات تهدّد مصالحهم أو وجودهم.. وهو كذلك الذي سقط في بئر في أسفله تنّينٌ فاغراً فاه، فتعلّق بحبلٍ وأخذ العسلُ إلى جانب الحبلِ كلّ اهتمامه، فشغلته حلاوته عن الجرذ الذي يقضم الحبل، حتّى انقطع به وسقط في فم التنّين.

وفي هذا المجال، نجد أنّ إعلان حلف الأطلسي أنّ العدوّ البديل عن الاتحاد السوفييتي المنهار هو الإسلام، يعكس لنا الصورة التي نبدو عليها كمسلمين، إلى أيّ مذهبٍ أو إطارٍ انتمينا، في نظر قوى ذلك الحلف، بما فيها القوى المحسوبة على المسلمين، أو المنتمية إلى مجالهم العقدي. علينا هنا أن نحدّد طبيعة تلك الصورة الخارجيّة، تبعًا للأهداف التي يضعها حلف الأطلسي لعمله، والرؤية التي يعمل وفقها، والتي تحدّدها مصالح اقتصاديّة وسياسيّة لا تقوم إلّا على أساس ضرب أيّ موقع قوّة للإسلام والمسلمين.

وهنا، مهما اختلفت الحركات الإسلاميّة فيما بينها عقديّاً أو فقهيّاً أو في خصوصيّات الجغرافيا، فإنّ كُلاً منها معنيٌّ بالنظر إلى سائر الحركات بما هي حركات إسلاميّة، بمعزل عن الاختلافات، وهذا ما كان ينبغي أن تلاحظه حركة الإخوان المسلمين تجاه أيّ حركة إسلاميّة شيعية، كحزب الله مثلاً، وهو الذي ينبغي على أيّ حركة إسلاميّة شيعية أن تلاحظه في نظرتها إلى الحركات الإسلامية الناشئة في المجال السنّي، كحزب التحرير أو حركة الإخوان أو غيرها.

بل قد نذهب بعيداً لنقول إنّنا معنيّون بالنظر إلى الحركات الإسلاميّة السلفيّة على أنّها حركات إسلاميّة، وأن ننظر إلى خلافنا معها في المنهج انطلاقاً من تداعياتها على الواقع، لا من ناحية إخراجها من الإسلام؛ لأنّ ذلك يزيد الأمر تعقيداً لدى أتباعها، القائمين أصلاً على فكرة استبعاد الآخرين من دائرة الإسلام، وبالتالي يشكّل استبعاد الآخرين لها من دائرته تعزيزاً لتلك الذهنيّة أو المنهجية الاستبعاديّة. وهذا ما لمسناه في منهج الإمام عليّ بن أبي طالب في إدارته للحوار مع الخوارج، مع أنّهم كفّروه، ولم يحاربهم على التكفير، وإنّما على قطع الطريق وإفساد حياة المسلمين، مع عدم وجود إمكانيّة أخرى للتخلّص ولتصحيح المسار، بعد استنفاد كلّ الوسائل الممكنة.

وهنا، يمكن لنا أن ندقِّق كثيراً في المفاهيم المستخدمة، وفي المصطلحات، وفي المواقف وطبيعتها، بما ينظر إلى البُعدين الآني، والذي قد يكون حارّاً على مستوى القتال، والاستراتيجي الذي عليه أن يُبقي هوامش معيّنة يفرضها النظر إلى الخطر الكلّي الموجّه إلى الإسلام ككلّ وإلى تجربته الحضاريّة بما هي تجربة إسلاميّة بمعزل عن انتماءاتها.

لا نريد أن ندخل هنا إلى المسألة من ناحية الميدان الذي سيجتذب الكثير من الجدل؛ لأنّنا نريد أن نأخذ مسافة هنا عمّا يجري لنعود إلى أصل المشكلة في ما له ارتباط بالذهنيّة التي تأخذ تجلّياتٍ متعدّدة في السياسة والأمن والخطاب والثقافة والفكر وما إلى ذلك؛ لأنّ العودة إلى أصل المشكلة هو الذي يجعل في الإمكان التفكير في الحلول ذات الطابع الاستراتيجي والبعيد المدى.

وعلى هذا الأساس، فلا يُمكن لدول كالمملكة العربيّة السعوديّة وللجمهوريّة الإسلامية الإيرانية أن يحدّدا علاقتهما مع بعضهما البعض على أساس مذهبيّ، كما لا يُمكن للأولى ولتركيا أن يحدّدا طبيعة علاقتهما انطلاقًا من الصراع الإخواني – السلفي، وكذلك لمصر الإخوانيّة وللسعوديّة، أو لمصر الحاليّة مع تركيا؛ وهكذا... ولاسيّما مع الهجمة الاستعماريّة المستجدّة على المنطقة، بما ينفتح على أكثر من أفقٍ في طبيعة مستقبل المنطقة.

إنّ تلك الدول ذات تأثيرات إستراتيجية كبرى، وإنّ مواقفها التي تأخذها من قضايا كبرى وحسّاسة في تاريخ المنطقة، معنيّة بصوغ العلاقة فيما بينها على أساس الأهداف الإسلاميّة العليا المشتركة فيما بينها، بحيث يكون التمايز المذهبي تنوّعات في التجربة من الناحية الثقافيّة، أو من ناحية الهوامش التي تُدار من خلالها مواجهة التحدّيات؛ تلك التنوّعات التي تنفتح بدورها على الخصوصيّات الأخرى، بما يوفّر كثيرًا من التجارب الخاطئة، ويتمّ معه الاستفادة من التنظير الذي قد يكون في مجالٍ أوسع منه في مجالٍ آخر، بما يعود بالنفع على الواقع الإسلاميّ كلّه.

ولنفرض هنا – ولا نريد أن نخرج عن موضوع المقال – أنّ الإخوان المسلمين لم يستغرقوا في مذهبيّاتهم وانفتحوا على التجربة الإسلاميّة الإيرانيّة، بالتحليل والنقد، أو حتّى على التجربة التركيّة عبر إعادة إنتاجها (لخصوصيّة المجال المصري) لا استنساخها؛ ألا نتوقّع أنّه كان في الإمكان تجاوز كثير من الأخطاء في الحكم بما كان يُمكن معه إنجاح تجربتهم كتجربة إسلاميّة؟!

ربّما ننساق هنا إلى طرح ضرورة فتح الباب أمام علم اجتماع وسياسة واقتصاد إسلاميّ، فوق التمايزات، بحيث يتمّ فيه التفكير في إطار بناء الدول على قاعدة انتمائها الإسلاميّ عندما يرتبط الأمر بما هو خارج حدودها؛ بل حتّى في داخل حدودها نظرًا للتنوّعات المذهبية أو الطائفية أو العرقيّة في داخل كلّ دولة؛ بما يعطّل أيّ قنابل موقوتة يمكن أن يستغلّها الاستكبار العالمي في خططه لضرب هذه الدولة أو تلك، ومنها إلى ضرب كلّ المنطقة.

إنّ أيَّ دولةٍ إسلاميّة تتبنّى في تقنينها فقهًا معيَّناً، ويشتمل نسيجها الاجتماعي على من يُعدّون كفّارًا لمجرّد اختلافهم العقدي أو المذهبي أو الطائفي أو ما إلى ذلك؛ ألا يشكّل ذلك إشكاليّة أمام الفقه نفسه ينبغي بحثُها ولو من خلال إعادة إنتاج القواعد الاجتهاديّة، لكي لا تتحوّل ممارسة السلطة إلى حركة إبادة جماعيّة، أو هضم للحقوق المدنيّة، أو إلى ضغطٍ على الحرّيّات أو ما إلى ذلك؟! لا يُمكن تعقّل أن تكون الدولة مسؤولةً عن تحقيق السلم المجتمعي في إطارها، وتتبنّى وجهات صداميّة مع جماعات أو منظومات في داخلها عبر التكفير العقدي أو نحو ذلك؛ إنّ هذا أشبه ما يكون بالجمع بين المتناقضين.

نطرح ذلك هنا؛ لأنّ الإخلاد إلى فكرة النهائيّات في المـُنتَج الفقهي تجاه الجماعات الأخرى، يجعل أطروحات الدولة أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا التعسّف والاستبداد في حكم المختلِف مع توجّهات الدولة العقديّة أو الفقهيّة، وإمّا العلمنة التي تعني إخراج الدِّين كلِّه من دائرة الحكم وقيادة المجتمع.

إنّنا نقول إنّ هناك خطّاً أو خياراً ثالثاً، وهو أن نُعيد إنتاج أفكارنا حول الدولة والعلاقات بين المجموعات العقديّة والمذهبيّة وما إلى ذلك، انطلاقًا من الإشكاليّات التي يثيرها الواقع المعاصر بكلّ تحدّياته وتجاربه الناجحة والفاشلة، من أجل التفكير في الفرضيّات الأخرى التي يُمكن أن تحلّ المشكلة، وتُبقي الإسلام في موقع القيادة للمجتمع من دون استبداد.

إنّ السؤال الذي يطرحُ نفسَه هنا، كيف يُمكن لبلدان تعدّدية على مستوى الانتماءات المذهبية أو الطائفيّة أو العرقيّة أن تفرض إشكاليّات على الفقه الإسلامي للتفكير الجادّ في كيفيّة تحويل الإطار العامّ إلى عنصر تنمية للإنسان، من دون أن يتعارض ذلك مع انتماء كلّ جماعة إلى انتمائها الخاصّ؟

إنّ الانتقال من ذهنيّة القبيلة إلى ذهنيّة الدولة، ومن ذهنيّة الاستغراق في المذهب إلى ذهنيّة الانتماء للإسلام، ومن الذهنيّة الطائفيّة إلى الذهنيّة الدينية أو الإنسانيّة، استنادًا إلى المبدأ القرآنيّ ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾(آل عمران: من الآية 64) شرطٌ ضروريّ لتحقيق السلام في مجتمعاتنا، والبدء بسير نهضة حضاريّة لعالمنا العربي والإسلامي؛ وإنّ الاحتكام إلى آليّات الانتماء الخاصّ في إدارة الدائرة الأوسع، سيتحوّل حكمًا إلى حالةٍ من حالات الإبادة الجماعيّة، أو الاستعباد القسري، أو التسلّط السياسي، الذي يفسح في المجال أمام كثير من القنابل الموقوتة للانفجار في لحظة مأزومة، كاللحظة التي تمرّ بها منطقتنا؛ والله من وراء القصد. 

اعلى الصفحة