"البنيان المرصوص".. النصر والتحديات "الجهاد" نموذجاً

السنة الثالثة عشر ـ العدد 154 ـ (ذو الحجة 1435 هـ) تشرين أول ـ 2014 م)

بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

هل انتصرت غزة بمقاومتها وشعبها على العدوان الإسرائيلي الذي استمر 51 يوماً؟ ما هو مفهوم هذا النصر في معركة "البنيان المرصوص"؟ وكيف تم؟ ولماذا تصدرت المشهد سرايا القدس وكتائب القسام؟ وهل حققت المقاومة نصراً سياسياً يُضاهي النصر العسكري؟..

ولماذا حرصت المقاومة على عدم منح العدو نصراً سياسياً، في وقت لم يستطع فيه تحقيق نصر عسكري؟ وفي أيّ سياق يمكن قراءة "نصر غزة"؟ وفي أي سياق يمكن قراءة رؤية وممارسة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كطرف أساسي في المعركة التي أثبتت خلالها البوصلة أنها ثابتة على طريقها ونهجها الذي اختطته منذ انطلاقتها، ولم تبدّل طريقها على الرغم من عواصف "التغيير" التي حاولت تفتيت المُفتّت وتجزئة المجزأ إلا أنها لم تقدها إلى تغيير الاتجاه أو إضاعته؟!

في البداية لا بد من التأكيد على أن إسرائيل هي من بدأت الحرب العدوانية ضد أهلنا في القطاع، ولكنها لم تفاجئ المقاومة التي "كانت تعدّ العدة لملاقاة العدو، واستطاعت مفاجأته بمدى قدراتها"، بحسب تعبير الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين د. رمضان عبد الله شلح، في المؤتمر الصحفي الذي عقده في بيروت بعد انتهاء العدوان مباشرة.

مؤكداً أن خيار المقاومة هو الذي أنتج هذا النصر، وأوضح أنه لا يمكن الرهان بأي شكل من الأشكال على إستراتيجية المفاوضات، قائلاً "لا مكان للرهان على المفاوضات وابحثوا عن مسار المفاوضات في حطام قطاع غزة، مسار أوسلو قصفته الطائرات في غزة، ابحثوا عنه تحت ركامها، وعلى الجميع حسم خياراته".

داعياً الجميع إلى "حسم الخيار بأن المقاومة التي يقدم لها الشعب اليوم الدم يجب أن نحتضنها كما احتضنها الشعب".

مشيراً إلى أن ما فعلته المقاومة الفلسطينية من إنجازات في قطاع غزة، يجب أن يُصدّر إلى الضفة المحتلة بأسرع وقت ممكن.

مفهوم الانتصار بين حربين

غيّرت المقاومة في لبنان مفهوم النصر من قدرة أحد الجيشين النظاميين المتعاركين بالسيطرة على الأرض أو إجبار جيش الخصم على التراجع والاستسلام، إلى مفهوم الصمود ومنع العدو من تحقيق أهدافه وإفشاله في ذلك.

ووفق مفهوم المقاومة للانتصار، فإن الصمود هو انتصار، وإلحاق الخسائر بالعدو، هو انتصار، وعدم جعل العدو يحقق أهدافه هو انتصار، ومنعه من التقدم برّا هو انتصار.

وأظهر استطلاع للرأي العام الفلسطيني أجراه مركز "وطن للدراسات والبحوث" حول اتجاهات آراء الفلسطينيين حول العدوان على غزة، وأجري في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس أن 78.5% من عموم المستطلعة آراؤهم يرون أن نتيجة العدوان على غزة نصر للمقاومة ونسبة %1.0  يرون أن النصر للاحتلال ونسبة 20.5% يرون أنه لم ينتصر أحد.

وأفادت نتائج استطلاع للرأي نشرته القناة الإسرائيلية العاشرة بأن 77% من الجمهور الإسرائيلي يعتقدون بأن العملية العسكرية "الجرف الصامد" في قطاع غزة لم تنجح في إعادة الهدوء والأمن للمدن والبلدات الإسرائيلية في المناطق الجنوبية.

ووفقاً لنتائج الاستطلاع فإن 37% من الإسرائيليين يعتقدون بأن العملية العسكرية قد أدت لزيادة تدهور الوضع الأمني في المناطق الجنوبية عمّا كان عليه قبل البدء بالعملية، بينما يرى 47% منهم بأن العملية لم تؤثر على الوضع الأمني القائم سواء بالإيجاب أو بالسلب، في حين يعتقد 9% بأن القيادة السياسية والعسكرية قد نجحت في تعزيز الأمن لدى سكان المنطقة الجنوبية.

ومن هنا، فإن قدرة المقاومة على الصمود وإفشال أهداف العدو، ومنعه من التقدم وإلحاق الهزيمة بجيشه ـ وإن كانت محدودة ـ ، وبقاء التأييد الشعبي لها، بمعنى احتفاظها بحاضنتها الشعبية، واستمرارها بإطلاق الصواريخ، وإخفاء منصاتها والأنفاق عن أعين العدو، يُعتبر انتصار للمقاومة.

ويقول الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور رمضان شلح: "كل من يشك للحظة بانتصار المقاومة فلينظر إلى الكيان ماذا يقول، وإلى الإعلام العبري وتصريحات القيادات الإسرائيلية"، مستدلاً على انتصار المقاومة بانخفاض شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وفقاً لاستطلاع إسرائيلي.

ويرى الباحث في الإستراتيجيا عماد يوسف قدورة، أن أغلب حروب القرن الحادي والعشرين لم تسفر عن نتيجة حاسمة مطلقة، بل كان الاختلاف بشأن نتيجتها هو السائد؛ ليس بين عامة الناس فحسب، بل على الأصعدة السياسية الرسمية والأكاديمية والإعلامية أيضاً. وقد حدث ذلك في حروب عديدة؛ أربع منها على الأقل في منطقتنا العربية؛ وهي: حرب سورية، وحرب غزة، وحرب تموز في لبنان، وحرب العراق، فضلاً عن حرب أفغانستان. فما الذي تغير؟ أهي أساليب الحرب التي أضحت غير حاسمة أم امتلاك الخصم أدوات تحرم المنتصر قطف ثمار حربه؟ أم هل توسعت مدارك الناس في ما يتعلق بفهم دوافع الحروب ومتابعة مجرياتها، عبر فيض المعلومات، ما جعلها أكثر قدرة على محاكمة نتائجها؟

لقد دلّت تلك الحروب على أنّ النصر الحاسم أصبح غاية يصعب تحقيقها، وأما النصر النسبي فصار دارجاً، بل أضحى رضى الطرفين المتحاربين عن هذا النصر الجزئي النسبي هدفاً لإقناع الرأي العام المحلي والخارجي بأنّ تحقيق بعض الأهداف هو نصر في حد ذاته، على الرغم من التكاليف المادية والبشرية والمعنوية المدفوعة مقابل تلك الأهداف الجزئية المتحقِّقة.

ويضيف: "هناك ثمة معايير صريحة ودلالات رمزية تدل على تحقق النصر؛ مثل اعتراف أحد الأطراف بالهزيمة، أو توقيع اتفاقية أو معاهدة سلام تقر نتائج الحرب لمصلحة أحد الطرفين، أو إعلان الاستسلام، أو إعلان فصيل مقاتل بوضع السلاح أو طلب العفو العام. وحتى تكون النتيجة حاسمة أيضاً، لا بد من أن يكون النصر المتحقق دائمًا لا مؤقتًا، بحيث لا تعقبه عودة النزاع مجددًا. وفي العادة، تؤدي تلك النتائج الواضحة إلى حل القضايا السياسية التي نشأت من أجلها الحرب من خلال فرض أحد الأطراف رؤيته وشروطه، وربما بمراعاة مطالب محددة للطرف المستسلم".

وبخلاف ذلك، يصبح مفهوم النصر تقييماً أو رأياً أو مجموعة آراء، وتبقى نتيجة الحرب مفتوحة للتأويلات والادعاءات. ومن هنا، فإنّ تعيين النصر، بغير تلك الحالات، تختلف فيه الآراء لاختلاف المدارك والتقييمات،وحتى الأهواء، فالنفس البشرية مفطورة غريزيًا ونفسيًا على المقولة الأولية: "أنا فزت، هو خسر".

ويرى مدير مركز دراسات الوحدة العربية الدكتور يوسف الشويري أن نصر 2006 شكل قطعاً مع التاريخ العربي المسكون بالهزائم والعجز ولذلك يمكن اعتباره لحظة تأسيسية ومرجعية، فأضحت مرجعاً ومرجعية بهما تقاس الأمور الطارئة والمستجدة. فحرب 2006 هي لحظة تأسيس في ذاكرة ملايين المراهقين والشباب العرب، خاصة أن هؤلاء كانوا في قلب عصر التلفزة الفضائية والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.

لقد استقرت حرب تموز عميقاً في الذاكرة، وستظل كذلك إلى أن تتجاوزها مواجهة أشمل وأبعد أفقاً ومدى. وهكذا يمكننا أن نستعيد بعض هذه الدروس ثم نحاول تلمس تداخلها مع أحداث أخرى وفي خضم انتقال جيل عربي كامل من طور المراهقة إلى طور النضج الرجولة. وأبرز هذه الدروس بحسب شويري:

ـ أولاً: لقد قدمت هذه الحرب دروساً في الصمود والثبات وهي حقائق كانت تفتقدها النضالات العربية الداخلية قبل 2006. لقد كان هذا الانهيار العسكري والسياسي المتكرر يشكل صورة مضاعفة أو ثنائية الوجه للنضالات العربية الداخلية، والتي كانت هي الأخرى تبلغ حداً معيناً، ثم لا تلبث أن تنطوي على نفسها إما انحناءً أمام قمع الأنظمة أو عجزاً عن مدّ آفاقها في اتجاه توخي إنجاز ملموس، رغم بذل الجهود وحشد الطاقات.

ـ ثانياً: القدرة على الانتقال للهجوم وأخذ المبادرة وفق "خطة محكمة لا تعتـبر الهجوم تكتيكاً مؤقتاً بل إستراتيجية لا ترضى بأقل من لجم اندفاع الخصم وضربه في العمق ... وتحويله إلى آلة عمياء تتخبط في ميدان المعركة".

ـ ثالثاً: بروز القيادة الواعية الصادقة الشجاعة وتحف بها جلالة الانضباط والتؤدة والهدوء المدروس.

ـ رابعاً: إن المعركة مع العدو هي معركة طويلة الأمد، وتوقفها أو إجباره على مراجعة حساباته لا يعنيان الدخول في مفاوضات مباشرة معه والاعتراف به أو توقيع معاهدة سلام مع دولته، وإعلان انتهاء حالة الحرب.

لا يمكن القول إن المقاومة توقعت مسبقاً كل النتائج المترتبة على انتصاراتها أو أمسكت بكل أبعادها، غير أنها أطلقت هذا المارد من قمقمه وخلقت معادلة تاريخية جديدة، وهي بالتالي أضحت أمام مسؤولية معنوية وأخلاقية لكي تواكب هذه المعادلات والتعبير عنها كثقافة ومفاهيم وأطر عمل قابلة هي الأخرى لاستيلاد معادلاتها التي لن تكون بعد اليوم أقل من نهضة كبرى طالما حلمت بها وعملت لها أجيال عربية متتالية. (صحيفة السفير، 8-9-2011).

واعتبر الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكريّة في الجيش الإسرائيليّ الجنرال في الاحتياط، أوري ساغي، أن الجيش الإسرائيلي لا يستطيع تقديم الجواب لكلّ التهديدات والتحديّات لإسرائيل، والمُعضلة أنّهم هنا في إسرائيل، يرفضون التسليم بهذا الأمر. وقال أيضًا إنّ تهديد إسرائيل بالجيوش النظاميّة العربيّة قد انخفض كثيرًا، ليس لأنّهم باتوا يُحبوننا، بل بسبب التشرذم الذي حلّ بهم، الجيش باستطاعته أنْ يُعالج تهديد الإرهاب، ولكنّه لا يعرف أنْ يُعالج الأسباب التي ولدّت الإرهاب، على حدّ قوله.

ورأى المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت" يوسي يهوشع، أن حرب غزة انتهت كما كان متوقعاً من قبل بطعم مرّ وشعور بتفويت الفرصة وبنتيجة تعادل إستراتيجي مع (قوى المقاومة). ويشير في سياق تشخيصه للخلل خلف هذه النتيجة، لاتساع الهوة "بين القيادات الميدانية والقيادات العليا بالجيش والحكومة التي شنت الحرب دون أن تفهم خطر الأنفاق والاستعداد لمواجهتها".

أما المعلق العسكري في "هآرتس" عاموس هارئيل فقد أكد على نجاح المقاومة الفلسطينية بمباغتة عدوها عدة مرات، داعيًا لإصلاح الإخفاقات قبل الجولة المقبلة.

ويعدد هارئيل إخفاقات الحرب وأبرزها: الخلل الاستخباراتي، وتشوش خطط الجيش "الإسرائيلي" بسبب الأنفاق، وعدم الاعتماد على جنود الاحتياط، والمساس المفرط بالمدنيين الفلسطينيين. ويضيف "أن إسرائيل كانت قادرة على أن تختار بين احتلال القطاع وإسقاط (حماس)، أو التفاوض مع حكومة الوحدة الفلسطينية، لكنها فضّلت خيارًا ثالثًا وهو الأسوأ ويتمثل بالانسحاب من غزة دون تسوية.

ما بعد الانتصار

من الواجب التأكيد أن الوفد المفاوض الفلسطيني الموحد في القاهرة قد خاض معركة سياسية كبيرة، بموقف موحد متفق عليه. وأظهر قدرة قوية على الصمود السياسي والتمسك بالشروط الفلسطينية التي تم التوافق عليها والمتلخصة بـ: رفع الحصار ووقف العدوان...

ويعتبر البعض أنها المرة الأولى منذ اتفاقات أوسلو، بل منذ مفاوضات مدريد عام 1991، التي يتفق فيها الفلسطينيون على مطالب موحدة في مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" والقوى والجهات الدولية والعربية والإقليمية الداعمة له، ومن أبرز هذه الشروط أن المقاومة تملك قدرات عسكرية وبنية تحتية عسكرية تؤهلها لخوض حرب استنزاف ضد العدو تمتد لأشهر وليس لأسابيع، إضافةً إلى قدرات عسكرية تهدد بإحداث شلل في مناطق واسعة من الكيان الصهيوني الغاصب. وبديهي أن هذه الشروط كان لها تأثير كبير في مجرى المفاوضات غير المباشرة، وفي النتائج التي تم التوصل إليها.

وهذا العدوان الذي استمر 51 يوماً نتج عنه بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية استشهاد 2144 شخصاً، منهم 569 طفلًا و275 امرأة. أما الجرحى فقد قدر عددهم بنحو أكثر من أحد عشرة ألف مواطن. أما التدمير فحصيلته كالتالي: 6300 منزل دمرت بالكامل إضافة إلى عشرة آلاف و300 منزل أصيبت بأضرار جسيمة. وكانت نتيجة ذلك تشريد أكثر من 375 ألف شخص، وزعوا على مراكز الإيواء التي كانت المدارس والأماكن العامة عمادها الرئيسي.

وكتب المفكر المصري فهمي هويدي: "إن عملية التدمير لم تشمل المباني السكنية فقط، ولكنها استهدفت المستشفيات والمدارس والمساجد والمرافق ومواقع البنية التحتية، ولم تستثن المباني التابعة للأمم المتحدة، ذلك أن القصف الإسرائيلي لم يكتفِ بالتمادي في قتال المدنيين، وإنما استهدف كل ما هو محظور دولياً في زمن الحرب. إذ بدا واضحاً أن القيادة الإسرائيلية تصرفت بانفعال وصل إلى حد الجنون، بعدما فوجئت بصمود المقاومة وابتكاراتها وارتفاع مستوى أدائها القتالي الذي هدد الداخل الإسرائىلي ونقل الخوف إليه. لذلك قررت معاقبة كل الفلسطينيين والفتك بهم من خلال القصف الجوي، لأن الطيران كان سلاح التفوق الوحيد الذي لم يكن بمقدور المقاومة أن تتحداه لأسباب مفهومة".

ويتساءل الدكتور فهد عابد في مقال له: "لكن ماذا بعد الانتصار الذي حققه شعبنا من هذا كله؟ هل بالإمكان استثماره محلياً ودولياً وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والقانونية؟ هل نستطيع محاكمة بني صهيون على ما ارتكبوه من مجازر بحق أطفالنا وحجارتنا؟ أسئلة توجه للسياسيين والقائمين على هذا الشعب، شعبكم يريد منكم أن لا تخذلوه وتكونوا عند المسؤولية، وأن لا تضيعوا النصر وتحولوه إلى مجاملات ومهادنات ومصافحات مع العدو، وأن تضعوا الضامن المصري تحت المسؤولية في تطبيق اتفاق التهدئة، وأن تحاصروا العدو حتى لا يتلاعب بالألفاظ والزمن في استكمال ما تم الاتفاق عليه من إعادة أعمار المطار وبناء الميناء".

موجهاً كلامه حول ما حصل من تدمير وقلع للشجر والبشر من مكانها، لحكومة الوفاق والاتفاق قائلاً: "نريد أن تضعوا غزة في أولويات قراراتكم واهتمامكم وأن يكون الاهتمام بحجم التضحيات التي قدمها أهل غزة، ولا نستمع إلى أقوال المشككين والمتصيدين في الماء العكر..".

ومع تحقيق الانتصار الفلسطيني، إلا أن أسئلة عديدة ما تزال بحاجة إلى إجابات: من يشرف على الإعمار: هل الحكومة الوفاقية وحدها أو من خلال لجنة وطنية موثوق بها؟ مع المطالبة بحل حكومة الظل القائمة في غزة التي تنفي وجودها حماس. ولماذا لا تمارس حكومة رئيس الوزراء رامي الحمد الله لمهامها في غزة، وكذلك عدم الاتفاق على البرنامج السياسي، خصوصًا فيما يتعلق بالمفاوضات والمقاومة والتزامات أوسلو، وعدم عقد الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، الذي يوفر الشراكة الحقيقية من خلال المؤسسة القيادية الجامعة، التي من شأن وجودها أن يفتح الطريق لوحدة وطنية حقيقية على أساس شراكة سياسية، من شأنه أن يجعل من حكومة الوفاق فاعلة وليست أكثر من طربوش لإدارة الانقسام وغطاء لحكومة الظل في غزة، بحسب الكاتب الفلسطيني طلال عوكل.

الجهاد الإسلامي والانتصار

ظلّت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، مُحافظة على نهجها وفكرها على الرغم من مرور السنوات الطوال، والتي شاهدنا خلالها تغيُّر وتبُّدل الكثيرين، خصوصاً في ظل ظروف ومتغيرات وتحولات ما يسمى "الربيع العربي" في المنطقة؛ فمنذ انطلاقة "الجهاد" أعلنت أن "فلسطين هي القضية المركزية للحركة الإسلامية المعاصرة"، وفق مقولةٍ لأمينها العام السابق الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، بعدها تغيّر وجه المعركة في فلسطين وتم إعطاؤه البُعد الحقيقي والضروري، من خلال تفجير وعي الإسلاميين بضرورة ووجوب توجيه السلاح نحو العدو الإسرائيلي، وأما الوطنيين بعدم تغييب الإسلام أو محاربته. وبناءً عليه فقد ظلّت "الجهاد" بعيدة عن التحولات الحاصلة، وحافظت على "طهارة ممارستها السياسية" من خلال تأكيدها على أن البوصلة يجب أن تبقى باتجاه فلسطين، نائية بنفسها عن الصراعات والاحتراب الداخلي الحاصل في أكثر من بلد عربي، رافضة في الوقت نفسه، الانجرار لمستنقع الطائفية والمذهبية، وفق رؤية واضحة المعالم والاتجاه، بل عمل قادتها وفق رؤية الحركة على القيام بالعديد من محاولات رأب الصدع الداخلي الفلسطيني بين "فتح" و "حماس"، ومع بعض الأفرقاء المتناحرين في بعض الدول العربية، في محاولة لإنهاء بعض القضايا الخلافية، والتي نجح بعضها، وفشل بعضها الآخر.

وتستند "الجهاد" لرؤية واضحة في تبنيها، ومن ثم تعاطيها مع القضية الفلسطينية، وفي هذا يقول الأمين العام الحالي للحركة د.رمضان عبد الله شلّح: "إن فلسطين هي بوابة العرب والمسلمين التاريخية والجغرافية لأي دور حضاري عالمي راهن أو مستقبلي. لذا فإن أي محاولة للنهوض لا تبدأ بفلسطين ستضل الطريق لأنها ستُحاصر وستُضرب ولا تجد من يبكيها.. ولا أشك لحظة أنه لا حياة لمشروع عربي أو إسلامي نهضوي إلا بموت المشروع الصهيوني".

وتقيم "الجهاد" علاقاتها مع الآخرين على أسس ثلاثة: الإسلام، الجهاد، فلسطين. وهي ترفض مبدأ الحرب الأهلية، وبغض النظر عن الخلاف السياسي والعقدي والأيديولوجي مع المختلف الوطني. فإنها ترى أن الخلاف يُحسم بالطرق السياسية، ولا يحسم بالحرب الأهلية والعنف المضاد، بل بتصعيد الجهاد المسلح ضد العدو الصهيوني.

وتميّزت حركة الجهاد الإسلامي عبر مسيرة جهادها بالجدية والتفاني المطلق، فقد نفذ مجاهدوها الاستشهاديون عمليات تفجيرية نوعية: "بيت ليد، كفار داروم، القدس، حيفا، مجدو.."، كما خاضوا مواجهات مسلحة: "عملية زقاق الموت في الخليل، جنين..". أو عبر العمليات البحرية "عملية بحر غزة.."، أو عبر عمليات إطلاق الصواريخ التي كانت فيها أول من قصف "تل أبيب".

أما التطور الذي حصل، فهو عملية إعادة بناء القوة والتنظيم لدى الحركة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التطور والحرفية في الأداء من خلال صمودها مع المقاومة وإفشال الأهداف الإسرائيلية خلال العدوان الواسع على قطاع غزة 2008 - 2009. وكذلك بمعركة المواجهة في غزة 2012، واستطاعت مع بقية فصائل المقاومة فرض تهدئة متبادلة ومتزامنة وبضمانة مصرية، وكان ذلك مُقدّمة لنصر الشيخ خضر عدنان في معركته التي أطلق عليها معركة "الأمعاء الخاوية"، ما أعطى حافزاً للأسرى للدفع باتجاه الإضراب الشامل... وأيضاً خاضت معركة "كسر الصمت" في (12-3-2014)، منفردة ومُحققة نصراً في تلك الجولة، على الرغم من الظروف الصعبة وعدم تكافؤ القوى، مُتسلحة بموقف سياسي واضح وإرادة قوية وعمل دؤوب متحمّلة كافة الضغوط، ما أنتج نصراً كان له ما بعده..

وقد أبدعت سرايا القدس إلى جانب الأجنحة العسكرية المختلفة للفصائل الفلسطينية في تصديها للعدوان الصهيوني في معركة "البنيان المرصوص"، وكانت حصيلة الصواريخ والقذائف التي أطلقتها (3249) صاروخًا وقذيفة. وقتلت 30 جندياً وضابطاً إسرائيلياً بحسب الاعترافات الإسرائيلية.

كما برع مجاهدو السرايا بسلاح البنية التحتية "الأنفاق" وكان من أبرز الوسائل التي استخدمتها المقاومة للتصدي للتوغل الصهيوني المحدود خلال معركة "البنيان المرصوص"، كما استخدمتها المقاومة في إطلاق الصواريخ والقذائف صوب المدن والمواقع والمستوطنات الإسرائيلية. وعجز الاحتلال عن كشف معظم الأنفاق التي تستخدمها المقاومة رغم زعمه أنه دمرها بشكل كامل.

ونقل الإعلام الحربي لسرايا القدس عن أحد المجاهدين في السرايا ويدعى أبو إبراهيم قوله عن أحد الأنفاق في رفح إن "هذا النفق يمتد من عمق المدينة وصولًا إلى منطقة حدودية، ويحمل اسم الشهيد فتحي الشقاقي، وبه أكثر من 7 تفرعات تستخدمها الوحدات القتالية المختلفة في سرايا القدس من ضمنها الوحدات القتالية والإسناد والصاروخية والمدفعية".

وأضاف "استغرق إعداد هذا النفق ما لا يقل عن عامين، وجرى تجهيزه وفق منظومة أمنية معقدة للغاية. مشيراً إلى أن سرايا القدس تمتلك عدداً من الأنفاق ولم تستخدم خلال الحرب إلا العدد القليل منها".

وكان لشبكة الهواتف الأرضية الخاصة بالمقاومة دوراً مهماً في تحقيق النصر وهزيمة الاحتلال، لأن الأجهزة اللاسلكية بجميع أنواعها تشكل خطراً عليها لسهولة مراقبتها من قبل العدو. فقامت بإيجاد اتصال آمن بين عناصر المقاومة وقيادتهم من جهة، وكان لديها القدرة على التحكم في إدارة المعارك والحروب، وحرية التواصل بين القادة والجند، والتنسيق الآمن بين كافة الأجنحة العسكرية دون الاجتماع أو اللقاء المباشر، ما شكّل نجاحاً كبيراً من الناحيتين الأمنية والعملياتية للمقاومة.

وما تقدم ظهر جلياً لناحية التحكم والسيطرة الواضحان لدى المقاومة في إطلاق الصواريخ.. "نوعيتها، عددها، المدى الزمني، والنطاق المكاني"... وتنفيذ عمليات هجومية  نوعية: "قاعدة زيكيم".. و"الكمين المحكم" لوحدة المغاوير في سرايا القدس، الذي استهدف قوة من وحدة لواء "غولاني" شرق مدينة غزة. و"شل" قدرة الطيران المروحي بعد استهدافه بصواريخ "ستريللا"، مما جعل الاحتلال يستعيض عنها بالطيران الحربي...

وفي العموم، ظهر أن التخاطب عبر "الصواريخ" والميدان، أثبت أن المقاومة قادرة على استنزاف "إسرائيل"، وأنها ـ أي المقاومة ـ، قادرة على الصمود فترة طويلة، ولم يشكل عامل الوقت ضغطاً عليها كما شكّل ضغطاً على "إسرائيل".

ختاماً

لقد ثبُت أن تعاطي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين قيادة وقاعدة، خلال "البنيان المرصوص"، كان تعاطياً جدياً لمن أعدّ العدّة للحرب، وكانت مستعدة للتعامل مع كافة الظروف والمعطيات: السياسية والميدانية بكل مرونة يرافقها إصرار على تحقيق نصر سياسي مع النصر العسكري. وهذا ما ظهر من خلال وحدة القرار السياسي لحركة الجهاد الإسلامي، والتنفيذ الدقيق لسرايا القدس على أرض الواقع، والالتفاف الشعبي، وأيضا  ثبات "الجهاد الإسلامي" وبقية الفصائل الفلسطينية على موقفها الرافض للعودة إلى تهدئة مجانية، وإخضاع العدو الإسرائيلي للاشتراطات الفلسطينية، وهذا ما حصل.

ويمكن التدليل على ذلك من خلال استطلاع أجراه مركز "وطن للدراسات والبحوث"، الذي أظهر ارتفاع نسبة المؤيدين لأداء حركة الجهاد الاسلامي خلال العدوان.

فقد تعاطت الجهاد والمقاومة عموماً  من خلال ردّها على العدوان "الإسرائيلي" "الجرف الصلب"، وفق تطور العدوان ووسائله في القتل، بحيث أنها قصفت "تل أبيب" و"القدس" و"حيفا" و"بئر السبع" عندما بدأت "إسرائيل" باستهداف المدنيين ومنازلهم، ناقلة الحرب إلى عمق "إسرائيل" مع ما جرته من انعكاسات مؤذية اقتصادياً وسياسياً على إسرائيل التي لا تستطيع تحمّل إغلاق مطار "اللد" ومرافىء "حيفا" و"أسدود" و"عسقلان" و"إيلات" مدة طويلة..

كما ساعد الالتفاف الكبير والواضح حول المقاومة وخيارها في الدفاع عن شعبها والرد على جرائم الاحتلال، والتوافق الكبير بين الفصائل الفلسطينية من خلال تشكيل وفد موحد لخوض معركة المفاوضات السياسية غير المباشرة في تحقيق جزء كبير من الاشتراطات الفلسطينية.

وفي العموم إن نصر غزة يُثبت للمرة الألف أن المقاومة ليست فعلاً عبثياً على الإطلاق، وأن المفاوضات ونهجها قد ثبُت وبالملموس فشلهما وإخفاقهما الكبيران في تحقيق أي إنجازات لشعبنا.

ومن هنا يجب التأكيد أن هذا النصر هو جزء من معركة مستمرة، ويجب العمل على المزيد من الإعداد للمعركة القادمة، وأن يتم فعلًا تسليح الضفة الغربية المحتلة، كما أشار إلى ذلك الأمين العام لحركة الجهاد د. رمضان شلح، وهذا يعني وبوضوح أن الجهاد والمقاومة مصرّون على الاستمرار في المعركة حتى نهاياتها الطبيعية في الانتصار الكامل على العدو الإسرائيلي، ولكن وفي مقابل ذلك توجد مخاطر ومعوقات ومصالح فئوية وبرامج متضاربة يجب العمل على تجاوز كل التناقضات فيها وتغليب التناقض الأساس مع العدو على كل تناقض.. وهذا هو الأساس في المرحلة المقبلة!!

اعلى الصفحة