صعود الإسلام السياسي إلى السلطة
وعلاقته بالولايات المتحدة الأمريكية

السنة الثالثة عشر ـ العدد 153 ـ (ذو القعدة 1435 هـ) أيلول ـ 2014 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يتمثل الإسلام السياسي في الحركات الإسلامية المستقلة تنظيمياً عن المؤسسات الدينية الرسمية، وهذه الحركات هي أساساً حركة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية الجهادية، وهناك ما يوحد بين حركة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الجهادية، وإن كان هناك ما يفرق ويميز بينهما. فكلاهما يستهدف إقامة الدولة الإسلامية، وإن كانت حركة الإخوان المسلمين تستهدف إقامة الدولة الإسلامية بالتدرج.

علاقة الإخوان المسلمين بالغرب قديمة، بدأت من تشكيل حركة الإخوان المسلمين من قبل الشيخ حسن البنا في عام 1928، وتوثقت أكثر عندما بدأت مجموعات صغيرة من الإسلاميين المصريين، وآخرون من أقطار إسلامية التمركز في بعض الدول الأوروبية والأمريكية كطلاب جامعيين عصفت بهم أثناء الصراع بين المشروع الناصري – وهو المشروع القومي الاستقلالي – الذي شكل اختراقاً لدائرة التبعية الاستعمارية، وعنواناً لمعادلة جديدة للتوفيق بين الإسلام و الغرب، أي المعادلة الناصرية الجديدة القائمة على التركيب بين القومية العربية و العالم،و بين المشروع الإسلامي المرتبط بالغرب.

قبل الثورة المصرية عام 1952، كان المد الذي شهده الإسلام السياسي بعقدين من الزمن هو الجواب السلبي على سؤال النهضة. ولذلك أيضاً كان التناقض الحاد قبل الثورة بين الإخوان المسلمين والأحزاب "الشعبية" ـ كالوفد في مصرـ . وعندما انتصرت الثورة المصرية، كان الصدام بين الناصرية والإسلام السياسي حتمياً، لأنه صدام بين مشروعين لا يلتقيان، إذا تجاوزنا وسمينا التوجه السياسي الإخواني مشروعاً.

وعلى الرغم من انقطاع الإسلاميين عن أمهاتهم التنظيمية في الشرق الأوسط، إلاّ أنّ المهاجرين بسبب مناهضتهم السلطويات العربية بدأوا نشاطاً مكثفاً لنشر أفكارهم المستقاة من أدبيات حسن البنا، ومن مفاهيمه التنظيمية، وقاموا بتشكيل أولى المنظمات الطلابية الإسلامية، وأسّسوا المساجد في مرائب وغرف صغيرة أقاموا فيها الصلوات والاجتماعات، لتصبح بذلك أولى المنتديات الدينية لمسلمي الغرب.يفيد الكاتب، بأن الحريات المتاحة في الدول الغربية سمحت للإخوان بممارسة نشاطهم المحظور في بلدانهم، فأصدروا مجلات، ونظّموا محاضرات والاجتماعات وأشكالاً أخرى ساهمت في نشر أفكارهم المحرّمة في بيئاتهم الوطنية(1).

مع بداية الألفية الجديدة، شعرت الحكومات الغربية، وفي أوقات متفاوتة، بالحاجة إلى البحث عن وسائل لدعم حركات الإسلام السياسي في الغرب. فالسلطات الدنمركية، على سبيل المثال، اعتقدت أن شبكات الإخوان المسلمين المؤثرة فيها كانت حاسمة في حفظ الهدوء داخل البلاد بعد أزمة الرسوم الكرتونية المسيئة للنبي، وقد اعترفت قوى الأمن الدنمركية بأنّ التعاون مع الإخوان كان أساسياً لمنع العنف أثناء الأزمة. وقد تعدى التعاون الأمني في بعض الحالات الأوضاع الطارئة ليرسم نهجاً ونمطاً مؤسساً لعلاقات دائمة بادرت إليه حكومات غربية لخلق نوع من الوئام والألفة مع المجموعات الإسلامية في العالم الإسلامي. إذ ترى هذه الحكومات، أن العلاقة مع حركات الإسلام السياسي في الغرب ستكون مفتاح اطمئنان لها مع الإسلاميين في العالم الإسلامي. وفي حالات كثيرة تمّ اعتبار حركات الإسلام السياسي في الغرب، شركاء في الحرب على الإرهاب. لأن الحكومات الغربية اعتقدت أن دور الإخوان في إطفاء حرائق التطرف الإسلامي ضروري، وهذا ما دفع بالغرب إلى توطيد العلاقة مع حركات الإسلام السياسي بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2011،  لتكون جدار الحماية، أو الحائط الصدّ، أو الدرع الواقي، وصمّام الأمان ضد الجهادية الإسلامية التي تأتي من "القاعدة" التي تتهم الإخوان بالرَدة لتخلفهم عن الجهاد، وعن النصرة، ولدعمهم الديمقراطية الغربية. من جهتهم، عبرت حركات الإسلام السياسي ومن خلال البيانات العامة، ومنذ الحادي عشر من أيلول عن شجبهم لما يقوم به تنظيم القاعدة، وأهابوا بالمسلمين نبذ العنف ونبذ أساليبه كافة، وحظيت هذه المواقف الإخوانية بالإشادة والإطراء من صنّاع القرار السياسي في الغرب. وهناك مصلحة لدى حركات الإسلام السياسي مع الغرب في محاربة التطرّف الإسلامي في العالم العربي وفي الغرب. وعلى الرّغم من أنّ الإسلام واحد، فإن حركات الإسلام السياسي تطلب من الغرب عدم الخلط بين مختلف الطرق التي يعاش بها الإسلام. فحركات الإسلام السياسي تتميز عن الحركات الجهادية المدافعة عن التغيير بالقوة، والتي تحمل تفسيراً ضيقاً للدين، ومأخوذة بدّاومة الأحداث، وبين الإسلام السياسي الذي تمثله الحركات المعتدلة التي تقبل بإقامة علاقات حسنة مع الغرب، والالتزام بالقواعد الديمقراطية، وتوطيد العلاقة مع العلمانيين العرب المعتدلين.

يجمع المحللون العرب، والغربيون المتخصصون، أن حركات الإسلام السياسي في العالم العربي ليست "تيارات دينية" كما تسمى عمداً، بل هي حركات سياسية، حيث أن أفعالها تأتي في سياق توظيف الدين لخدمة أهداف سياسية، كما أن ردود أفعالها الأساسية لا تخرج عن الدائرة السياسية.و تتكون القاعدة الاجتماعية لحركات الإسلام السياسي من فئات اجتماعية متعددة، تتناقض مصالحها وطموحاتها مع مصالح النظام الاقتصادي الرسمي السائد في هذا البلد العربي أو ذاك، لكنها يجمع  بينها "التدين" بدرجات ومفاهيم مختلفة. كما أن الشرائح المحافظة من البرجوازية الأكثر تعاوناً مع "الخارج" العربي والغربي، وفئات الطبقة المتوسطة المحافظة، تشكلان القاعدة الاجتماعية لحركات الإسلام السياسي، التي لا تزال تشكل قاعدة اليوتوبيا التي يستدرجها حلم "العصر الذهبي".

فهذه الفئات الاجتماعية المحافظة من الطبقة المتوسطة ليست قاعدة اجتماعية خاصة بالإسلام السياسي، وإنما تسلم قيادتها لتوازن القوى في المجتمع، وقد تتجه يوما نحو اليسار (القومي أو الناصري)، وتصل بعض قطاعاتها إلى القناعة الماركسية. ولكنها "تنقلب" حيناً آخر إلى أقصى اليمين. هذه القاعدة هي المستوى الأول لتفريخ الإسلام السياسي، إلا أن لحظات اليأس والإحباط الاجتماعي الشامل قد تستدرج حول هذه القاعدة هوامش من جميع الطبقات الوطنية بما فيها الطبقة العاملة(2).

ومنذ نجاح حركات الإسلام السياسي في تحقيق اختراقات كبيرة في الانتخابات التي جرت في سنة 2005 و 2006، في كل من مصر، وفلسطين، والعراق، بدأت العلاقات الأمريكية مع حركات الإسلام السياسي تشق طريقها، إذ حصلت لقاءات عديدة بين قيادات من حركة الإخوان المسلمين في مصر ومسؤولين أمريكيين .

وعندما انطلق ما بات يعرف في الخطاب السياسي العربي بـ"ربيع الثورات العربية" من تونس مع بداية سنة 2011، ركز على الفساد والفقر وانعدام الحريات، وليس على الهيمنة الغربية أو الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، فقد شكلت  هذه الانتفاضات العربية تهديدا فعلياً للمصالح الإستراتيجية للغرب في العالم العربي، إذ  بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في ترويض حركات الإسلام السياسي الصاعدة إلى حكم الدول العربية على السياسة الأجنبية والاقتصادية، بدلاً من تفسيرات الشريعة. واعتبرت أن الأحزاب الإسلامية التي ستخضع لذلك سوف يتم اعتبارهم "معتدلة" أما الباقي فسيظل من "المتعصبين".

ومن المعلوم أنه على الرغم من الاستقلالات التي حصلت في البلدان العربية منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، فإن هناك شعوراً حقيقياً في العالم العربي أكثر من أي بقعة أخرى من العالم الاستعماري سابقاً بأنَّ الدول العربية لم تحصل على استقلالها السياسي والاقتصادي والثقافي  بالكامل، والسبب في ذلك، التركيز الإمبريالي الشديد على المنطقة العربية بسبب وجود أكبر مخزون من البترول في العالم في أراضيها، إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني منذ العام 1948،  الذي يعتبر قاعدة إستراتيجية للغرب، لاسيما للولايات المتحدة الأمريكية، ولا يزال يحتل كل فلسطين، و الجولان السوري، ومزارع شبعا في جنوب لبنان.

ومنذ سقوط النظامين الديكتاتوريين في تونس ومصر، ظهر اتجاه مضاد متعنت بقيادة القوى الغربية وحلفائها في الخليج لرشوة أو تحطيم أو السيطرة على الثورات العربية. وتمتلك هذه القوى من الخبرة المتأصلة ما يمكّنها من استنتاج أنَّ كل مركز للثورات العربية، من مصر إلى اليمن، عاش عقوداً تحت الهيمنة الاستعمارية. وكل دول حلف الناتو الأساسية التي قامت بضرب ليبيا، ومنها على سبيل المثال - الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا- كانت لديهم قوات تحتل المنطقة ومازالت ذكراها حية في الأذهان.

وفي ظل ربيع الثورات الديمقراطية العربية اجتاحت موجة حركات الإسلام السياسي القوية العالم العربي نتيجة تحالفٍ بين الإخوان المسلمين والسلفيين وأمراء الخليج، وبمباركة من الولايات المتحدة الأمريكية. ومن يتبصّر في المسألة يجد أنّ الإسلام الحقيقي المقاوم، والداعي إلى تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية في الأرض، ليس هو البوصلة التي تقود توجّهات حركات الإسلام السياسي.

فعندما وصلت حركات الإسلام السياسي إلى السلطة في كل من تونس، ومصر، والمغرب، وليبيا، عاد الرئيس المصري السابق محمد مرسي إلى لعب دور الوسيط الذي لعبه الرئيس السابق حسني مبارك في القضية الفلسطينية، حيث كان عرّاب اتفاق الهدنة مع وزيرة الخارجية الأمريكية  السابقة هيلاري كلينتون عقب العدوان الصهيوني على غزة في 2012.

جنّدت المؤسسة العسكرية الصهيونية للعدوان الأخير على غزة نخبة قواتها الجوية والبرية والبحرية. وهي تحاول أن تختبر، مدى قدرة حركات الإسلام السياسي الجديدة في كل من مصر وتونس وليبيا، التي جاءت إلى السلطة عقب ربيع الثورات العربية، لتجسيد طموحات وأهداف الجماهير العربية في مقاومة السياسة الأمريكية المنحازة دائماً لإسرائيل، ونصرة الشعب الفلسطيني من أجل تحرير أرضه السليبة.

كان إسقاط خيار الكفاح الفلسطيني المسلح، هو الهدف الاستراتيجي التاريخي للكيان الصهيوني من هذه الحرب، وهو هدف سعى العدو على امتداد العقود الماضية أن يحققه، وكانت التقديرات الصهيونية تنطلق من أن هذا الهدف بات أقرب للتحقق، لاسيما بعد أن خرجت السلطة ومعها بعض القوى الفلسطينية من ميدان المواجهة المسلحة مع الكيان الصهيوني، وبعد أن جنح النظام الرسمي العربي بكامله تقريباً من ميدان المواجهة إلى خيار "السلام" والتصالح مع المشروع الصهيوني، وبعد أن انفصلت  حركة "حماس" عن "محور الممانعة" (الإيراني – السوري).

في الواقع التاريخي، لم يكن هذا التحالف الجديد بين حركات الإسلام السياسي والولايات المتحدة الأمريكية، وليد المصادفة، بل إنه يستند إل مرحلة الحلف المقدس، الذي نشأ في أوج عنفوان الحرب الباردة، عندما اجتاح الجيش الأحمر السوفيتي أفغانستان في 27 ديسمبر 1979. فابسم المعركة المشتركة ضدّ الشيوعيّة تشكل الحلف المقدس بين الولايات المتحدة الأمريكية و المملكة العربية السعودية والدول الخليجية التي كانت تستضيف على أراضيها حركات الإخوان المسلمين، وبدأ تدفّق آلاف المتطوّعين من الإسلاميين لمحاربة الجيش الأحمر، بتجنيدٍ من الشبكات الإسلامية بنوع خاص - في حين بقي الإخوان المسلمون متحفظّين، واكتفوا بالمساعدة الإنسانيّة .وبدعمٍ من الولايات المتحدة ومن وكالة الاستخبارات المركزيّة، وبتمويل من الأنظمة الملكية النفطيّة. ومن هذا التحرّك لصالح "المناضلين من أجل الحرية" الأفغان نشأ تنظيم القاعدة. فهل يشكّل "الربيع العربي" المرحلة الثالثة من هذا "الحلف المقدّس بين حركات الإسلام السياسي و الولايات المتحدة الأمريكية؟.

يقول ألان غريش لقد جاءت الثورات العربية لتخلط الأوراق من جديد. عارضتها السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة؛ إذ رأتا في نجاح التجربة التي يخوضها الإخوان في مصر أو في تونس كلّ شيءٍ ما عدا نبأً سارّاً. والزعماء الوهابيّون الذين أقاموا علاقات وثيقة مع السيد مبارك واستقبلوا الرئيس السابق زين العابدين بن علي بعد فراره - وما زالوا يرفضون تسليمه إلى دولته، كما يطالب به الحكم التونسي الجديد - يلومون الإخوان لأنّهم عملوا على إسقاطهما، والولايات المتحدة لأنّها تخلّت عنهما. هكذا وقف النظام السعودي موقفاً مركزياً في الثورة المضادّة، وسحق انتفاضة البحرين في آذار/مارس العام 2011. كما أن الرياض تقدّم الدعم للملك عبد الله الثاني في مواجهة حركة الاحتجاج في الأردن والتي يشارك فيها الإخوان بقوة(3).

لا تتسم سياسات حركات الإسلام السياسي بأية مبدئية، فعلى الرغم من العداء الواضح للمملكة العربية السعودية للثورات الديمقراطية العربية، فإنّ أوّل زيارة قام بها الرئيس السابق مرسي إلى الخارج، في 11 تموز/يوليو العام 2012، خصّ بها السعودية، وذلك على غرار الزيارة الأولى لرئيس الوزراء التونسي  السابق حمادي جبالي، العضو في حزب النهضة الذي كان حاكماً في تونس. ولم يكن ذلك من باب التضامن "الإسلامي"، بل من باب الواقعية السياسيّة (ريالبوليتيك) التي تسود العلاقات الدوليّة. فمصر بحاجة ماسّة إلى أموال الرياض، وقد حصلت منها على 1.5 مليار دولار ووُعِدت بـ2.5 مليار أخرى في2011. من ناحية أخرى، هناك أكثر من 1.5 مليون مصري يعملون في المملكة، والأموال التي يرسلونها إلى عائلاتهم تغذّي ميزان المدفوعات في البلاد. أمّا بالنسبة إلى السعودية، فأيّاً كانت محاذيرها، لا يمكنها أن تقطع علاقتها مع أهمّ دولة في الشرق الأوس(4).

أمّا السيد الغنّوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، فقد أقام طويلاً في لندن، وقد فضّلها على الرياض خلال منفاه الطويل. ولدى زيارته الولايات المتحدة في كانون الأول/ديسمبر العام 2011، صرّح بأنّ "الربيع العربي" سيقتلع أمراء الخليج، وقد كلّفه هذا التكهّن رداً متهكّماً من جريدة "الرياض" السعودية، التي تساءلت إذا كان ذلك يعني أيضاً أمير قطر الداعم الأساسيّ لحزب النهضة.

يتمثل المعيار الغربي الأساسي في تقويمه لربيع الثورات العربية، في الموقف الذي تتخذه الأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى السلطة في كل من تونس والمغرب ومصر وليبيا، من الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين، والذي يحظى بالرعاية الكاملة من الغرب. فهناك علاقة قوية أساسية سابقة بين الدول الغربية الاستعمارية والمشروع الصهيوني، أصبحت تحالفاً استراتيجياً دائماً بعد إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948، الذي عمل على إجلاء ونزع ملكية الأرض من الشعب الفلسطيني، من خلال حروب الصراع العربي- الصهيوني المتكررة، و66 عاماً من الاحتلال الاستيطاني. وأصبح هذا التحالف الاستراتيجي بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، والتدفق الحر للنفط، محور الإستراتيجية الأمريكية في العالم العربي عامة، ولاسيما في منطقة  الشرق الأوسط.

ارتباك أمريكا وإسرائيل أمام الثورة المصرية

خلال 18 يوماً، استطاعت مصر من أن تتحرر من الأتوقراطية السياسية المتوحشة والفاسدة، حيث نجحت الثورة الديمقراطية المصرية في إسقاط نظام حسني مبارك، بفعل عواملها الداخلية، إذ لم يكن رفع يد إدارة أوباما عن النظام المصري السبب المباشر لسقوطه. وقد أظهرت مواقف أركان الإدارة الأمريكية الحالية ارتباكاً حقيقياّ من الأزمة المصرية، وعجزاً نسبياً من جانب السياسة الأمريكية الخارجية على التأثير في مجرى الأحداث.

وشكل سقوط نظام حسني مبارك الحليف الدائم للولايات المتحدة الأمريكية ضربة موجعة لإدارة الرئيس أوباما، ذلك أن نظام حسني مبارك كان يمثل من وجهة النظر الأمريكية – الإسرائيلية، الركيزة الإقليمية لسياسة أمريكا، والاستقرار الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، والضامن الحقيقي لبقاء اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعت في عام 1979في كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أول معاهدة سلام منفردة بين مصر والكيان الصهيوني. فقد أضعفت هذه الاتفاقية العلاقة الارتباطية بين مصر وقضايا الأمة العربية المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بالتوازي مع انكماش دور مصر الإقليمي.

ولا جدل في أن خروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل أربك كل الموازين العربية، لأنه أسقط احتمال قيام الدول العربية الأخرى في المنطقة بتحدّ عسكري ناجح ضد الكيان الصهيوني من دون مشاركة مصر التي تملك القوة العسكرية الأكثر فاعلية إلى حد كبير في الشرق الأوسط العربي،و أتاح للكيان الصهيوني تحقيق فائض في قوته العسكرية في الشرق الأوسط، بما أتاحت له المعادلة أن يُدمِرَ المفاعل النووي العراقي في يونيو عام 1981، وأن يَجتاحَ لبنان في يونيو عام 1982. كما مَهّدَ خروج مصر معادلة الصراع العربي- الصهيوني الطريق لانخراط العراق في حرب طويلة الأمد مع إيران ثم لغزو الكويت الذي أدَّى بدوره إلى خروج دول مجلس التعاون الخليجي فعلياً من الصراع مع إسرائيل. حتى ولو لم تبرم اتفاق سلام معها. ومهّد ذلك الطريق لغزو أمريكي للعراق أفضى في نهاية المطاف ليس فقط إلى خروج العراق بدوره من الصراع مع إسرائيل، وإنما إلى تدمير هذا البلد العربي الكبير وخروجه من التاريخ.

بيد أن التغيير الذي حصل في مصر يحمل طابعاً مميزاً، فمصر عملاق عربي نظراً لتعداد سكانها الذي يقارب 85 مليون نسمة، ولامتلاكها قوة عسكرية لا يستهان بها، حتى وإن كانت تحتاج إلى إعادة تحديث في الوقت الراهن. إضافة إلى كل ذلك تمثل مصر دولة إقليمية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، من خلال الدور الإقليمي التقليدي الذي اضطلعت به منذ عهد عبد الناصر وحتى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد.

لهذه الأسباب مجتمعة، فإن الثورة المصرية كان يمكن أن تكون لها تداعيات كبيرة لجهة تقويض الستاتيكو السياسي القائم في الشرق الأوسط، حيث انتاب خوف شديد قادة الكيان الصهيوني من تداعيات سقوط نظام حسني مبارك، أولاً، على اتفاقيات كامب ديفيد، وثانياً، على الاستقرار في المنطقة، حيث أرسلت الولايات المتحدة كبار مسؤوليها إلى الشرق الأوسط في إطار هجمة دبلوماسية قامت بها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لطمأنة حلفائها في ظل الثورات المتتالية في المنطقة.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها في المنطقة "إسرائيل" تعتقدان بأن الأنظمة العربية المتسلطة المعتمدة ومن زمن على حماية أمريكا ستبقى ناجحة في ضبط غضب شعوبها على إسرائيل والغرب عامة. وهذا الاعتماد القريب من الإذعان كان له الفضل الأول في استقرار السلام الذي وقعته كل من مصر والأردن مع الكيان الصهيوني، وعن مبادرة السلام العربية التاريخية التي أقرت في القمة العربية التي عقدت في بيروت سنة 2002، والتي التزمت معظم الدول العربية بموجبها التطبيع مع الكيان الصهيوني، شرط التوصل إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

قبل اندلاع الثورتين التونسية والمصرية، كانت السياسة الأمريكية تواجه أزمة صدقية في المنطقة، بسبب إخفاق إدارة أوباما وانهزامها أمام الحكومة الفاشية الإسرائيلية التي يقودها بنيامين نتنياهو، لاسيَّما عندما أعلنت واشنطن يوم الثلاثاء 7ديسمبر 2010 "أنها تنازلت عن مطالبة إسرائيل بتجميد أعمال البناء في المستوطنات شرطاً لمعاودة المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين"، بعد أن وصلت المفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية إلى طريقٍ مسدودٍ، ومعها سُدَّ باب الأمل ولو إلى حين قد يطول بإيجاد مخرج أو معجزة تنهي المأساة الفلسطينية المشرعة فقط على ما تُنبِئُنَا به الوقائع على المزيد من الخيبات وانسداد الأفق أمام ولادة دولة فلسطينية عتيدة قابلة للحياة، أصبحت أثراً بعد عين.وهو ما أضعف هيبة إدارة أوباما، وأضعف موقعها إزاء حلفائها في المنطقة، كما أضعف هؤلاء الحلفاء أيضا بدورهم، علما بأنها أظهرت كيف أنها تخلت مجدداً وبالبراغماتية المعروفة عن حلفائها في كل من تونس ومصر، بسهولة، تحت وطأة الارتباك.

لكن الإخوان المسلمين الذين استلموا السلطة في مصر أعلنوا التزام القاهرة باتفاقية كامب ديفيد، لاسيَّما في ظل تركيز الجماهير المصرية وقواها الوطنية على مسألة بناء النظام الديمقراطي الجديد، على الرغم من أن التجربة التاريخية في المنطقة العربية أثبتت لنا أن كل اتفاقيات السلام، التي أبرمتها كل من مصر والأردن، وقيادة منظمة التحرير مع إسرائيل، كانت زائفة ومخادعة، وخدمت هدف المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يجري التخطيط له منذ زمن بعيد ألا وهو السيطرة على كامل فلسطين، وتهويدها.

لقد حرص المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة المصرية،ومن بعده الرئيس السابق  محمد مرسي  الذي استلم زمام السلطة في القاهرة عام 2012، على تطمين واشنطن وتل أبيب من خلال التأكيد على أنّ البلد سيحترم التزاماته الدولية؛ أي استناداً إلى اتفاقية كامب دايفد (1978) ومعاهدة السلام الإسرائيلي المصري التي تمّ التوقيع عليها في العام 1979. لكن، إن كان هنالك احتمال ضئيل في أن يطالب الشعب المصري بالعودة إلى حالة الحرب، فهو لا يعتبر تلك النصوص عامل سلام واستقرار إقليمي، بل على العكس. فكما كتبه ستيفن أ. كوك، العضو في مجلس العلاقات الخارجية (نيويورك)، "من وجهة نظر العديد من المصريين، شلّت تلك الاتفاقيات تماماً قدرات القاهرة، مع سماحها لإسرائيل والولايات المتحدة الدفاع عن مصالحها الإقليمية دون عوائق. وباحتمائها من خطر قيام حرب مع مصر، تمكّنت إسرائيل من ملء مستوطنات الضفّة الغربية وغزّة بمئات آلاف الإسرائيليين، ومن اجتياح لبنان مرّتين (في العامين 1982 و2006)، وإعلان القدس عاصمة الدولة وقصف العراق وسوريا"(5).

على الرغم من عظمة الثورة المصرية، فإن الإخوان المسلمين الذين استلموا السلطة بعد أن ركبوا الموجة الثورية، تكيفوا مع  ثوابت الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية والمتمثلة في بناء نظام إقليمي شرق أوسطي جديد تكون الريادة فيه للكيان الصهيوني، و تفتيت الأقطار العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، الأمر الذي يدمر عناصر القوة العربية المستندة إلى هويتها القومية الجامعة، ويبرر وجود الكيان الصهيوني باعتباره دولة يهودية تتواجد مع مثيلاتها من الدويلات الطائفية والعرقية والمذهبية المراد إقامتها. كما أن الوسيلة الأساسية المعتمدة أمريكياً لبلوغ هذا الهدف هو نشر الفوضى الخلاقة، وهو التعبير الدبلوماسي المخفف عن إستراتيجية تفجير الصراعات الدموية بين مكونات الأمة وإشاعة الاحتراب الداخلي فيما بينها.

ما الذي يجعلنا نقول إن حركات الإسلام السياسي أضحت متوافقة مع الأمريكية في المنطقة؟!. هناك مجموعة من العناصر تؤكد هذا التوافق بين الطرفين.

أولاً: تصريحات فيلتمان، المدير التنفيذي لمشروع الشرق الأوسط الجديد في الإدارة الأمريكية، التي تؤكد أن  أمريكا توافقت مع الإخوان المسلمين في مصر على عدم المس باتفاقية كامب دايفيد والتي لم يصدر أي تصريح أو بيان ينفي هذا الكلام. ومنها أيضاً الحلف الذي جمع ما بين الإخوان المسلمين في سورية وأفراد معروفة ارتباطاتهم بدوائر أجهزة المخابرات الأطلسية في إطار المجلس الاسطنبولي المتحمس جداً لتدخل أطلسي في سورية.

ثانياً: التاريخ السياسي الحديث والمعاصر الذي يؤكد لنا تحالف القوى الدينية الرجعية مع الغرب لمحاربة حركات المقاومة على اختلاف انتماءاتها التي كان مشروعها متصادماً مع الامبريالية الغربية والكيان الصهيوني في مرحلة الخمسينيات وليومنا هذا، حيث بدأت حركات الإسلام السياسي تخوض معركة شرسة ضد المقاومة، معيدة بذلك إنتاج التناقض ما بين العروبة والإسلام.

ثالثاً: قيام حركات الإسلام السياسي في عقد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات  من القرن الماضي بالدخول في معارك سياسية مسلحة مع العديد من الأنظمة العربية الوطنية في كل من سوريا، ومصر، والعراق، وليبيا والجزائر، ضمن مخطط أمريكي- صهيوني يستهدف تمزيق العالم العربي على أساس طائفي ومذهبي، يشهد على ذلك الحروب الأهلية التي عاشتها بلدان عربية عديدة، وكان الإسلام السياسي طرفاً رئيساً فيها.

رابعاً: انتفاء المشروع الوطني الديمقراطي لحركات الإسلام السياسي و تركيزها على بناء الدولة الدينية، و تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما يقود إلى إثارة الخوف و الرعب في أوساط الأقليات الدينية في البلدان العربية، ما يدفعها إلى المطالبة بكيانات مستقلة، و إفساح في المجال للقوى الاستعمارية أن تتدخل في شؤون الدول العربية  تحت ذريعة حماية الأقليات. ومثال جنوب السودان لا يزال ماثلاً في العالم العربي، حيث أن الإسلام السياسي في السودان بقيادة حسن الترابي أسهم في تمزيق هذا البلد العربي الكبير إلى شطرين، حين تحالف مع الرئيس الراحل جعفر النميري المنحاز لنهج السادات المدافع عن اتفاقيات كامب ديفيد، وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية لمواجهة القوى الديمقراطية والعروبية في السودان، فكانت هذه السياسات والشعارات الذريعة التي تلقفتها قوى الانفصال المحتَضنة أساساً من القوى الاستعمارية والعدو الإسرائيلي لكي تُصعّد حربها الانفصالية بحجة حماية الأقليات وصيانة حقوقها والتي انتهت بتمزيق السودان.

وتساهم حركات الإسلام السياسي المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية في تعميم تجربة انفصال جنوب السودان في مصر وبلاد الشام والعراق، وتفجير الصراع بين العرب والبربر في منطقة المغرب العربي، وتأجيج الصراع المذهبي السني- الشيعي في عموم منطقة الشرق الأوسط، وهو ما سيفسح في المجال للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني  لتغذية هذا الصراع المذهبي بهدف تمزيق العراق وسوريا ودول الخليج العربي.

إن حركات الإسلام السياسي التي جاء بها الربيع العربي إلى السلطة، لا تطبق الإسلام الحقيقي في برنامجها السياسي والأيديولوجي الذي يركز على مجابهة العدو الأمريكي – الصهيوني في المنطقة العربية، وعلى تحرير كل الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمتها فلسطين، وعلى إقامة أوثق العلاقة بين العروبة والإسلام، ورفض كل اتفاقية تهدد الحقوق العربية أو تذعن لمطالب القوى الاستعمارية، وعلى إدانة مشروع الشرق الأوسط الجديد، بما يخدم تحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والاستقلال والتنمية المستدامة.

اعلى الصفحة