الرافضة من السياسي إلى العنصري
الدلالة - التاريخ – الموقف

السنة الثالثة عشر ـ العدد 153 ـ (ذو القعدة 1435 هـ) أيلول ـ 2014 م)

بقلم: الشيخ الدكتور محمد شقير

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لم يكن هذا المصطلح جديداً في لغة التنابز المذهبي أو التوصيف السياسي، حيث إن استخدامه يعود إلى العهود الإسلامية الأولى وتجاذباتها السياسية - الدينية والمذهبية، والتي كانت تُوظَف فيها العديد من الأدوات، بما فيها الأدوات الإصطلاحية وغيرها في توصيف الآخر أو وصمه، وترتيب العديد من الآثار والأحكام على هذا  الوصم وتوظيفه.

سوى أنَّ الحاصل اليوم هو إعادة نبش لهذا المصطلح من قبور التاريخ ومدافنه، بما يشي بالعقلية التي تتحكم اليوم في العديد من مواقع التوجيه الثقافي، والتأثير الديني، ومنابر الإعلام المتنوعة. وهو ما يضع الجميع أمام مسؤولياتهم لمعرفة أي مستقبل ينتظر هذه الأمة والمجتمعات الإسلامية والعربية، إن ترك لهذه العقلية والخطاب الذي تفرزه، المجال لفرض ثقافتها وخطابها والرؤية التي تحمل، على مستوى نظرتها للآخر والواقع والمستقبل.

من هنا ينبغي أن نبحث في المعنى اللغوي لهذا المصطلح، وتطوره التاريخي، وعملية التوظيف التي كرّس لأجلها، وخلفية هذا التوظيف وآثاره والمنحى الذي أخذه لاحقاً، وموقف أئمة أهل البيت (ع) منه، وصولاً إلى محاولة إحيائه من جديد لتحقيق الأهداف المقصودة منه، والمخاطر التي تترتب على بعثه من بين الركام، بعد أن أصبحت العظام منه كالرميم.

1. المعنى اللغوي والإصطلاحي: يُفسر الرفض لغوياً بمعنى الترك، حيث جاء في كتاب العين للخليل : " الرفض تركك الشيء.. والروافض جند تركوا قائدهم وانصرفوا، كل طائفة منهم رافضة، وهم قوم لهم رأي وجدال يسمون الروافض"(1).

وذكر ابن  منظور  في  لسان  العرب: "الرفض تركك الشيء، تقول رفضني فرفضته، رفضت الشيء أرفُضه وأرفِضه رفْضاً ورفَضاً، تركته وفرّقته... والرفض الشيء المتفرق، والجمع أرفاض"(2).

ويبدو أن المعنى الاصطلاحي للرافضة هو أقرب ما يكون إلى مصطلح "المعارضة" في زماننا المعاصر، ويدل على ذلك أنَّ ممارسة المعارضة يستلزم أن يترك المعارض الطرف المعارَض، ويفترق عنه في المورد الذي يختلف فيه معه، فهو بذلك يمارس الرفض لما يتبناه الطرف الآخر، ولذلك يطلق على الجماعة التي تمارس المعارضة الرافضة أو الروافض.

وهو بذلك مصطلح عام لكل من مارس أو يمارس فعل المعارضة في أي جانب من مجالاتها، وإن أصبح يطلق فيما بعد من قبل البعض (سيوضح لاحقاً) على طائفة إسلامية بعينها (المسلمون الشيعة أو بعض طوائفهم)(3)، وقد يكون من الأسباب أن موقعهم في مجمل التاريخ الإسلامي، وبما فيه العهود الإسلامية الأولى، كان موقع المعارضة للسلطة السياسية والحكومات المتوالية.

2. تاريخ المصطلح إسلامياً: بناءً على الدلالة الاصطلاحية للرافضة وأنها تعني فعل المعارضة، نلاحظ أن استخدام هذا المصطلح كان متداولاً في العهد الإسلامي الأول، حيث رافق استخدامه الانقسام السياسي وغير السياسي الذي شهده الاجتماع الإسلامي تاريخياً، إذ لم يكن  آنذاك يطلق على طائفة إسلامية بعينها، ولم يكن بعد قد تقمص مذهبياً حتى ذلك الحين.

ولذلك نجد أن معاوية بن أبي سفيان يطلق على بعض من أهل البصرة تعبير الرافضة، وذلك لمعارضتهم الإمام علي بن أبي طالب(ع)، ويكتب إلى عمرو بن العاص: "...إنه كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة.."(4)، حيث نجد أن تعبير الرافضة، قد أطلق على خصوم أبرز أئمة أهل البيت(ع) لمعارضتهم إياه.

ولذلك ليس صحيحاً القول إنه كان خاصاً في المراحل الأولى من التاريخ الإسلامي بفئة دون أُخرى، كما ليس صحيحاً القول إنه يعود إلى مرحلة تاريخية متأخرة عن ذلك، حيث يرجعه البعض إلى زمن خروج زيد بن علي وثورته، ويربطه بالموقف من أبي بكر وعمر،عندما ترحم زيد عليهما، مما أدى إلى أن يرفضه قوم ".. فقال لهم رفضتموني. فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه"(5)؛ إذ إن هذا النص يُرجع الرفض إلى معارضة قوم لزيد بن علي، فيما يرتبط بموقفه من أبي بكر وعمر، في حين أن هذا المصطلح كان متداولاً قبل ذلك(6)، ولم يكن محصوراً  بطائفة  دون أخرى، كما أن النص لم يذكر لنا من الذي سمى أولئك القوم بالرافضة، فضلاً عن أنه يجعل معيار التسمية بالرافضة من عدمها الموقف من قضية زيد بن علي، في حين أنه أوسع من ذلك، بما يشمل الموقف من السلطة السياسية وغيرها(7).

بل نحن نعتقد أن صناعة المصطلح مشحوناً بتلك الدلالات العنصرية والمذهبية، ليست بعيدة عن سياسات السلطة الأموية، في استهداف المعارضة وتحديداً الشيعية منها، وممارسة شتى ألوان الإرهاب والإقصاء بحقها.

ولذلك أمكن القول: إنه لما كان الموقع السياسي للمسلمين الشيعة على الغالب، موقع المعارض للسلطة السياسية، التي كانت قائمة في العهود الإسلامية المختلفة وخصوصاً في العهد الأموي، فقد أصبح يُطلق على هذه الطائفة من قِبل السلطة الأموية وفقهاء البلاط لديها الروافض أو الرافضة، أي المعارضون أو المعارضة، وهو وإن كان أصل هذه التسمية (المصطلح) لا يحمل دلالة أكثر مما ذكرنا – أي المعارضة – لكن يوماً بعد يوم أخذت السلطة

الأموية، تعمل على  تقبيح  هذا  المصطلح  وشيطنته، وذلك  من  خلال  اتخاذ إجراءات قاسية، وإصدار أحكام ذات طابع عنصري إلغائي، بحق تلك الفئة التي كانت تقف في موقع المعارضة للسلطة وسياساتها آنذاك، وبشكل أساس المسلمون الشيعة.

والنتيجة تحول هذا المصطلح - الرافضة - إلى وصمة ذات طابع ديني سياسي اجتماعي، عندما استخدمت تلك السلطة جيشاً من فقهاء البلاط،  ووعاظ السلاطين، ممن باع دينه وتاجر السلطان علمه، فأبدع أحاديث مكذوبة، وأحدث فتاوى مدسوسة، بثمنٍ بخسٍ ما زال يجنيه إلى عصرنا الحالي، إيغالاً في دماء المسلمين، وقتلاً لأطفالهم، وتفجيراً لمساجدهم، وتدميراً لأسواقهم، وإفساداً في الأرض ما بين مغربيها.

لقد أدت سياسات السلطة إلى إنتاج اصطلاح عنصري، إقصائي،  إلغائي، يمارس بحق طائفة من المسلمين، لتبرير كل الأعمال العنصرية أو الإجرامية أو المتطرفة بحقها، من قتل أو اضطهاد أو إقصاء اجتماعي، أو إرهاب فكري، أو نفسي، أو سوى ذلك (سنشير لاحقاً).

بل يمكن القول إن هذا المصطلح بعد أن أصبح متخماً بكل تلك الدلالات السلبية التي حشتها فيه السلطة الحاكمة آنذاك، واستكمالاً لمشروعها في استهداف الرسول (ص) وأهل بيته وعلاقة الأمة بهم، أصبح يستخدم من قِبل البعض لوصم حتى من ينظر بعين الحب إلى أهل بيت رسول الله(ص)، ويعبر عن حبه للأئمة من ذريته، فكان يُوْصم بكونه رافضي.

3. توظيف المصطلح؛ الأحكام والآثار: إن العمل على شيطنة المصطلح وتشنيعه، كان الهدف منه شيطنة من يعنيهم هذا المصطلح بدلالته المستجدة والتشنيع عليهم، تمهيداً لضربهم وإسقاطهم. هذه هي السياسة التي اتبعتها السلطة الأموية، واشترت من أجل تحقيقها ذمم العديد من الفقهاء بالدرهم والدينار، فسطروا الفتاوى بثمن ما زالت أسواقه تطرق دماً، وقتلاً وإجراماً.

 لقد كان هذا المصطلح يُوظَّف لضرب تلك الفئة من المسلمين، التي كانت تعارض السلطة الأموية، والعمل على إسقاطها والقضاء عليها، وممارسة كافة أنواع الظلم والإجرام بحقها، وتجريدها من كافة حقوقها الدينية والمدنية. فمن كان رافضياً لا تُقبل له شهادة في القضاء، ومن كان رافضياً لا تقبل روايته، ومن كان رافضياً تستباح أمواله، ويصبح عرضةً لكل أنواع الاضطهاد والظلم الذي يمارس بحقه.

إن من يعاين مجمل النصوص ذات العلاقة، يجد عدة مستويات ومجالات لعملية التوظيف تلك.

فمنها ما يرتبط بالجانب القضائي والحقوقي، وهو ما يتجلى في عدم قبول شهادة من يتهم بالرفض، بما يعنيه ذلك من تعطيل لقدرات الدفاع القضائية لديه وإفقاده الشعور بالأمن الاجتماعي والحقوقي، والتمهيد لاستباحة حقوقه وممتلكاته... وتصنيفه خارج دائرة الجماعة والاجتماع العام، بهدف عزله ومحاصرته واضطهاده على أكثر من مستوى، وفي أكثر من مجال، عندما تقبل الشهادة بحقه ولا تقبل شهادته.

ومنها ما يرتبط بالجانب العلمي والفكري. وهو ما يتجلى من خلال عدم القبول بروايته. أي إن من يُتهم بالرفض، لا يمكن أن يُعتمد عليه في صناعة التراث الديني وتوثيقه، ولا يمكن أن يكون مورداً لممارسة التوجيه الفكري أو التثقيف المجتمعي، ولا أن يكون مصدراً يعتمد لمنح المشروعية الدينية لأية قضية دينية أو اجتماعية ترتبط بالشأن العام وغيره.

لقد كان الهدف طمس كل المضامين الفكرية والعلمية التي تحملها مدرسة أهل البيت(ع) ومحاصرتها، وتعطيل أية قدرة لديها على توجيه الأمة، وإيصال ما تحمله من علوم رسول الله(ص) إليها، لإخلاء الساحة لثقافة البلاط، وفقهاء السلطان، وفقه الطاعة والركون، وكل ذلك الضخ الثقافي الذي يخدم مصالح السلطة ومشروعها.

ومنها ما يرتبط بالاجتماع العام واجتماع الدولة، حيث إن من يُتهم بالرفض يمارس بحقه الاضطهاد والتمييز الاجتماعي والسياسي والمالي، فيمحى اسمه من ديوان بيت المال ويُسقط عطاؤه ورزقه، ويمارس بحقه الوصم الاجتماعي والتمييز العنصري ويُعاب عليه، ولا يولى في أي من مناصب الدولة، ولا يُتاح له أن يكون في أيٍّ من أعمالها. بل كان هذا الوصم يُتخذ ذريعة إلى ممارسة شتى ألوان النبذ والإقصاء، بل مختلف أشكال الإلغاء السياسي منه والاجتماعي.

ومنها ما يرتبط بسياسات السلطة على مستوى ممارسة العنف بكافة أشكاله، وفي مختلف مجالاته وأساليبه بحق المعارضين لها، وتحديداً من يوصم بالرفض منهم، حيث كان يُشرّع بحقه القتل والتنكيل، والاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، وممارسة شتى ألوان التعذيب والظلم والإجرام. دون أن يكون هناك أي رادع أو حاجز يحول دون حصول أي من الانتهاكات وأعمال القتل والإجرام، بل والإبادة في بعض الأحيان. وهذه بعض النصوص التي تبين مدى توظيف المصطلح في هذا الميدان من قبل السلطة آنذاك.

يأتي أحد أصحاب الإمام الباقر(ع) (من أئمة أهل البيت(ع)) شاكياً إليه وطأة ذلك المصطلح، وتوظيفه في ممارسات عنفية من قبل السلطة الأموية آنذاك، والمجالات التي استخدم فيها، فيقول له: "جعلت فداك، اسم سُمينا به، استحلت به الولاة دماءنا، وأموالنا، وعذابنا، قال (أي الإمام): وما هو؟ قال (أي الشاكي) الرافضة ..."(8).

وهذا استمر إلى عصر الإمام الصادق(ع)، حيث شكى إليه أحد أصحابه - المعروف بأبي بصير - سوء التوظيف الذي مارسته السلطة آنذاك، مُحملاً المسؤولية لفقهاء السلاطين عما كان يحصل، فيقول له: " إنا قد نُبزنا نبزاً، إنكسرت له ظهورنا، وماتت له أفئدتنا، واستحلت به الولاة دماءنا، في حديث رواه فقهاؤهم هؤلاء. فقال [الإمام الصادق (ع)]: الرافضة؟.. قلت [أبو بصير]: نعم..."(9)

ومنها ما يرتبط بالجانب الوجداني والعاطفي، حيث وصلت الأمور إلى حد - وبعد أن أصبح هذا المصطلح سلاحاً فعالاً – أن بدأت السلطة الأموية بمختلف أجهزتها، تستخدم هذا المصطلح بوجه جميع محبي أهل البيت(ع)، استكمالاً لمشروعهم الهادف إلى إسقاط مدرسة أهل بيت رسول الله(ص) ومشروعيتها الدينية والسياسية، في محاولة منها لطمس الموقف العاطفي من  قبل  أبناء الأمة  تجاه أهل  بيت  رسول الله (ص)، ونزع مكانتهم من قلوب الناس.

لكن قد يَصح القول إن توظيف المصطلح إلى هذا الحد، الذي يشمل جميع محبي أهل بيت رسول الله(ص)، لم يلقَ ذلك الرواج والتأييد الذي يُساعد على توسعة دلالته وسوء استخدامه، لأسباب منها تجذر حب أهل بيت النبي(ص) في قلوب معظم المسلمين وأكثرهم، وعدم رضوخهم لممارسة هذا الإرهاب الإيديولوجي بحقهم، ولربما التفاتهم إلى مديات هذا المشروع وأهدافه.

بل يمكن القول، إنه في الوقت الذي تشهد فيه محاولات التوسعة في دلالة المصطلح وطبيعة توظيفه، على المدى الذي كان يهدف إليه المشروع الأموي في اقتلاع حب آل البيت(ع) من قلوب المسلمين ووجدانهم، فلقد لاقت تلك المحاولات معارضة عامة من كثير من المسلمين. فهذا عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وعندما يسمع من الفرزدق تلك القصيدة المعروفة في مدح الإمام زين العابدين(ع) يقول له: "أو رافضي أيضاً أنت؟ فيجيب الفرزدق: إن كان حب آل محمد رفضاً، فأنا هذاك"(10).

وهذا ما حدا أيضاً بالإمام الشافعي إلى مواجهة هذا الحد، الذي بلغته خطورة توظيف هذا المصطلح، والمدى الذي أريدَ له أن يصل إليه في دلالته ومواجهته لأهل بيت رسول الله(ص)، حيث روي أنه عندما خرج الشافعي من مكة إلى منى، لم يرتقِ شرفاً أو  ينزل وادياً، إلا وأنشد باكياً:

يا راكباً قف بالمحصب من منى

سحراً إذا فاض الحجيج من منى

إن كان رفضاً حب آل محمد

وﭐهتف بساكن خيفها والناهض

فيضاً كملتطم الفرات الفائض

فليشهد الثقلان أني رافضي..(11)

ومن أشعار الشافعي في الموضوع نفسه:

إذ كان حب الولي رفضاً

فـإننـي أَرْفَضُ العـباد

وقيل للشافعي إنّ أناساً لا يصبرون على سماع منقبة أو فضيلة لأهل البيت (ع)، فإذا رأوا أحداً منا يذكرها، يقولون هذا رافضي، ويشتغلون بكلام آخر، فأنشأ الإمام الشافعي يقول:

إذ في مجلس ذكروا عليا

وشبليه وفاطمة الزكية

يقال تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الرافضية

هربت إلى المهيمن من أناس

يرون الرفض حب الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربي

ولعنته لتلك الجاهلية(12).

وهذا الإمام أحمد بن حنبل، يرفض توظيف هذا المصطلح لمواجهة حب أهل البيت (ع)؛ إذ يذكر الخطيب البغدادي، أنّ عبد الرحمن بن صالح - يذهب يعقوب بن يوسف المطوعي إلى كونه رافضياً - كان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه أحمد ويدنيه. فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن رافضي. فقال: سبحان الله! رجل أحب قوماً من أهل بيت النبي (ص)، نقول له لا تحبهم ؟!(13).

إنّ شواهد كثيرة - مما ذكرنا وغيرها - تظهر أن جوهر الاستهداف في مشروع السلطة هو أهل بيت رسول الله (ص)، على جميع المستويات، وفي مختلف الميادين. وما التعرض لهذه الطائفة من المسلمين أو تلك، إلا من باب كونها شيعة لأهل بيت رسول الله(ص)، لأن المطلوب هو القضاء على كل ما يرتبط بأهل البيت(ع) أو ينتسب إليهم، من قريب أو بعيد. ومن هنا كان الهدف من شيطنة المصطلح شيطنة من يطلق عليه، بهدف النيل منه وإرهابه، وهو ما جرّ إلى إغراء السلطة وأرباب مشروعها لزمرة من فقهاء السلطان لاختلاق جملة من الفتاوى، وابتداع بعض من الأحاديث التي تبرر تحقيق أهدافها، وتنفيذ سياساتها، بحق المعارضين لها ولظلمها، فكانت جملة من الأحكام والآثار، التي تترتب على من يوصف بكونه رافضياً، وهذه منها:

1- القتل: إنه ومن أجل أن تبرر السلطة لنفسها ممارسة الإجرام والقتل بحق المعارضين لها والمخالفين لسياساتها، كان من الضروري وضع بعض الأحاديث التي تعطي مشروعية دينية، لما كانت تقدم عليه تلك السلطة بحق من يرفض أي فساد أو ظلم تمارسه، فكان الحديث الذي وُضِع على لسان رسول الله(ص) والذي يدعو فيه إلى قتل الرافضة، حيث زعموا أنه قال:" يكون قوم في آخر الزمان، يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم فإنهم مشركون"(14). انظر تلك الصورة التي أرادوا إلصاقها بنبي الرحمة محمد(ص)، الذي رحل عن هذه الدنيا، وهو يوصي أمته:" لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض..."(15)، لكن في هذا الحديث المكذوب نسبوا إلى رسول الله انه يأمر بقتل طائفة من أمته!!! وهنا الذي يحدد من هو رافضي أو غير رافضي هو السلطة نفسها! وفي حديث مكذوب آخر، وهذه المرة نسبوه زوراً وكذباً إلى الإمام علي(ع)، انه روى عن النبي (ص): "سيأتي قوم من بعدي لهم نبز، يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلهم، فإنهم مشركون. قال(أي الإمام علي (ع)): قلت يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟ قال(أي الرسول (ص)): يقرظونك بما ليس فيك، ويطعنون على السلف"(16). في هذا الحديث توجد إضافة، تجعل من الأسهل للسلطة إسقاطه على شيعة الإمام علي(ع) وتوظيفه للنيل منهم(17). وبالتالي منحت الفتوى، وأُعطي الضوء الأخضر لتلك السلطة، لتمارس جميع ألوان الإجرام والإفساد بحق المعارضين لها، لأنه إذا كان القتل مُباحاً لها، فإن ما دونه من إجراءات، سوف يكون مباحاً أيضاً. بالنسبة إلى السلطة وفقائها، الرافضة هم أولئك المسلمون الذين أطاعوا رسول الله(ص) في أهل بيته(ع)، فاتبعوهم وأحبوهم، وشربوا المر في حبهم، لقد  كان ممنوعاً من قبل السلطة أن تتبع أهل بيت النبي(ع)، وكان مرفوضاً أن تنظر بعين المودة إلى قربى رسول الله(ص)، ولذلك كان يُقتل حتى من يُتهم أنه من أتباع أهل البيت(ع)، أو من يظهر من فعله وكلامه أنه يحبهم ويطيع كلام الله تعالى فيهم، كل هذا وهم يقرأون قول الله عز وجل: ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى﴾(18) أي يا محمد قل لأُمتك: لا أريد أجراً على رسالتي، إلا أمراً واحداً، وهو محبة أهل بيتي، فمحبتهم أجر الرسالة، وطاعة لله تعالى، ووفاء لرسوله(ص)؛ لكن في قاموس السلطة ودستورها، هذا الأمر كان محظوراً، ويُعاقب عليه بالقتل والإجرام. لقد أمعنت السلطة في إظهار الحقد والعداء لأهل بيت رسول الله(ص)، إلى درجة أنها لاقت معارضة حتى من أئمة المذاهب السنية، كالشافعي وأحمد ابن حنبل وسواهم، ممن لم يرضَ بهذا الحد من التوظيف لذاك المشروع ومراميه، والأهداف البعيدة التي كان يسعى إليها.

2- عدم قبول شهادته: إن من الإجراءات التي اتخذتها السلطة للتضييق على شيعة أهل البيت(ع)، وحرمانهم من حقوقهم، عدم قبول شهادة أي منهم، من خلال توظيف تهمة الرفض، لتجريد كل من يوجّه إليه إصبع الرفض من حقه في أن يكون له شخصيته القانونية، وممارسة هذا الحق في الشهادة في أي مورد، يتطلب منه أن يكون شاهداً في المنازعات القضائية وسوى ذلك. أي إن من لم يكن على دين السلطة، ويذعن لثقافتها، ويسلم بسياساتها، فليس بمواطن، ويُحرم من حقوقه، ويُجرد من شخصيته القانونية، وحقه في ممارستها في الدفاع عن نفسه وسوى ذلك.

يعرض ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة لهذه القضية، فيقول: "كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق، أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة..."(19). هذه السنّة التي قامت على التشفي من الإمام علي(ع) وأهل بيته(ع) وشيعته، استمرت لاحقاً، وتحولت إلى سنة تعتمدها السلطة بحق من يتهم بالرفض ويرمى به، فهذا عمار الدهني بعد أن يشهد شهادة عند أبي ليلى قاضي الكوفة، يقول له: " قم يا عمار، فقد عرفناك، لا تقبل شهادتك، لأنك رافضي؛ فقام عمار وقد ارتعدت فرائصه، واستفرغه البكاء، فقال له ابن أبي ليلى : أنت رجل من أهل العلم والحديث، إن كان يسوؤك أن نقول لك رافضي فتبرأ من الرفض، فأنت من إخواننا؛ فقال له عمار: يا هذا ما ذهبت والله إلى حيث ذهبت. ولكني بكيت عليك وعلي. أما بكائي على نفسي، فإنك نسبتني إلى رتبة شريفة لست من أهلها... وأما بكائي عليك، فلعظم ذنبك في تسميتي بغير اسمي، وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله، أن صرفت أشرف الأسماء إليّ..."(20).

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ الإمام الصادق(ع)، وعندما يعلم بما قاله عمار، فإنه يبادر إلى القول:" لو أنّ على عمار من الذنوب ما هو أعظم من السموات والأرضين، لمحيت عنه بهذه الكلمات"(21).

لقد وضعت السلطة كل من يعارضها، أو يختلف معها بين حدين: إما أن تكون على شاكلتها، وتقبل باستلاب فكرك وعقلك ورأيك وقرارك...، أو أن تصبح لا شيء في قانون السلطة وقاموسها، فتجرد من حقوقك، ولا تبقى إمكانية لممارسة حقك القانوني في الشهادة. ولقد كان هذا بمثابة المقدمة لاستباحة الدماء والأموال... عندما لا يبقى لهذه الفئة التي لا تنتمي إلى ثقافة السلطة، ولا تذعن لمشروعها، أية قدرة (قضائية) للدفاع أمام أي اعتداء عليها في نفسها أو مالها. وكان بمثابة إجراء للحط من قدرها، والعمل على استصغارها واستضعافها، عندما تقبل شهادة أي كان عليها، ولا تقبل شهادتها عليه.

إنه يمكن لأي كان، أن يتهم أو يدعي على أي من أولئك الذين يوسمون بالرافضة، في مال أو سوى ذلك، حتى تكون النتيجة لصالحه قضائياً، لأنه لن يستطيع من سمي بالرافضة أن يُدافع عن حقوقه، ولا أن يحمي نفسه وأمواله.

هي استباحة قضائية، تنطوي على استباحة شاملة، وعلى الدعوة إلى استباحة دماء من يوصمون بالرافضة وأموالهم وحقوقهم..لأنه في دين السلطة وقاموسها، أن  كل من لم يكن شبيهاً لها وعلى شاكلتها، أو يمشي في ركابها؛ ينبغي أن يكون صفراً وعدماً، وتُسلب منه كل حقوقه، وتُستباح منه أمواله وتُحلل دماؤه؛ وللأسف هذا الذي حصل في التاريخ.

3. عدم قبول روايته(22): وهو من سياسات ذلك المشروع (مشروع السلطة) وأهدافه، في إلغاء أي دور علمي - ديني لمدرسة أهل البيت(ع) ومحاصرتها، ومحاصرة كل ذلك النتاج العلمي والثقافي لأئمة أهل البيت(ع)، وأي دور لهم في بناء الثقافة الدينية والمجتمعية للأمة الإسلامية، ومختلف المجتمعات التي تنضوي فيها.

لقد رأت السلطة في المحتوى العلمي والفكري لمدرسة أهل البيت(ع) خطراً على مصالحها، ونقضاً لكل ذلك النتاج الثقافي والديني الذي يخدم مصالح السلطان واستبداده واستعلائه؛ فكان المطلوب القضاء على أي رأي أو فكر لا ينسجم مع رأي السلطان ويخدم مصالحه، ولذلك لم يعد مقبولاً الأخذ بأية رواية لا تصدر من جهاز السلطة وفقهائها، أو تتناقض مع مصالحها وثقافة الاستلاب والتبعية لديها.

بل وتعبيراً عن ذلك المشروع الأموي في الثأر من رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) والانتقام منهم ، كان ذلك الإجراء، وتلك السياسة، للقضاء على المكانة العلمية والدينية لأهل بيت رسول الله(ص) وأئمتهم(ع)، فمنع التحديث بأي فضيلة لهم، أو رواية مناقبهم، أو التصريح بأي نص يستشم منه مدحهم، والإعلاء من مكانتهم.

لقد شنت السلطة حرباً شعواء على المشروعية الدينية والعلمية لأئمة أهل البيت(ع)، ودورهم في توجيه الأمة وتعليمها وتربيتها، ومدها بجميع العناصر الفكرية والثقافية، التي تنسجم مع ما جاء به محمد بن عبد الله(ص)، ونطقت به رسالته، والصحيح من بيانها، بما هم أبواب مدينة العلم والراسخون فيه، ومن لديهم علم الكتاب والمؤتمنون عليه، والعارفون به وبتأويله، ومن لديهم ما يحتاجه الناس من علم الكتاب وصحيح السنة.

إنه لا تقبل رواية أصحاب أئمة أهل البيت(ع) وأتباعهم وتلامذتهم، ليكون ذلك بمثابة حَجْر علمي- ديني على علوم أهل بيت رسول الله(ص) وتعاليمهم، لصرف الأمة عنهم وعن علومهم، التي تتضمن الصحيح من تأويل كتاب الله وسنة رسوله.

وهو ما أدى إلى حرمان الأمة في مجمل مذاهبها، وأكثر تراثها، قديماً وحديثاً، من مجمل علوم أئمة أهل البيت(ع)، حتى أن أكثر من مصنف لكتب الحديث الأساسية، كان يكثر الرواية عمن وقع النقاش في صحة العديد من رواياته، ومدى إمكانية الأخذ منه، في حين أنه كان يمتنع عن تدوين أية رواية صادرة عن كبار أئمة أهل بيت رسول الله(ص)، في مصنفه الحديثي هذا أو ذاك!(23).

أليس العجب كل العجب أن يؤخذ الحديث ممن عرف بإشهار العداء والبغض لأهل بيت رسول الله(ص)، ولا يؤخذ من كبار أئمة أهل البيت(ع) ممن عرف بغزير العلم وبذله، إلى درجة أن بعض أئمة المذاهب الأربعة تتلمذ على يديه، وقال فيه ما قال، من قبيل "لولا السنتان لهلك النعمان"(24) وغيره.

وهو ما أدى أيضاً إلى ترك الميدان لفقهاء السلطان وثقافة السلطة، فأوغلت وضعاً ودساً وتحريفاً، واختلاقاً للأحاديث والروايات، التي تخدم مصالحها، وتساعد على تحقيق مشروعها، وتنفيذ سياساتها، في تعظيم شأنها، وإضفاء المشروعية على من تنتسب إليه أو ينتسب إليها، وفي المقابل النيل من خصومها ومن يعارضها ويرفض سياساتها، تحت عنوان  الرفض والرافضة.

والنتيجة أن جزءاً كبيراً من التراث الإسلامي تشكّل بناءً على سياسات السلطة وتدخلاتها، وتلبية لرغباتها، في صناعة تراث علمي ديني في الفقه والكلام والتاريخ وسوى ذلك يتماهى مع أهدافها، حتى ولو كان بعد المشرقين بينه وبين كتاب الله، والصحيح من سنة رسوله(ص)(25).

والخطورة في هذا المقام أن مجمل الذين أتوا من بعد تلقفوا هذا التراث بصحيحه وسقيمه - وسقيمه كثير- تلقف من يحسن الظن بمن روى فيه الرواية، وأفتى الفتوى، وأبان العقيدة، وسطر التاريخ... وهو لا يعلم أن الكثير من ذلك، كان أجره مدفوعاً من جيب السلطان ورنين دنانيره، استجابة لمصالحه، وتلبية لرغباته. فأصبح يرى أن جفاء أهل بيت رسول الله ديناً، والإجرام بحق من أحبهم زلفى؛ وان العدوان على شيعتهم طاعة، ظلمهم قربة، في حين أن كل ذلك كان في أصله ثأراً من رسول الله(ص)، وانتقاماً من أهل بيته(ع)، وعبثاً من فقهاء السلطان بإرثه وسنته.

4. الإرهاب الفكري والديني: وهو أسلوب من الأساليب التي استخدمت لإضعاف معارضي السلطة والنيل منهم، بل تشويه حقيقتهم الدينية وحقيقة انتمائهم، وممارسة التضليل بالنسبة إلى معتقداتهم وهويتهم، تمهيداً لتبرير النيل منهم، وإغراء الكثير ممن تنطلي عليه أضاليل السلطة وإعلامها المغرض على ألسنة فقهاء السلطان، لممارسة شتى ألوان الإجرام والعدوان بحق أهل البيت(ع) وشيعتهم، ومن نظر قلبه بعيون الحب والمودة إليهم.

إن الكثير ممن مشى في ركاب السلطة ناقماً على أهل بيت رسول الله(ص) وشيعتهم، إنما يفعل ذلك لقلة زاد في العلم، أو ثقة عمياء بمن حسن ظنه به، وعده من كبار أهل العلم والفقه، وهو يجهل أن أولئك أفتوا ونطقوا، ورووا وكتبوا..لأنهم أكلوا على مائدة السلطان، فضربوا بألسنتهم وأقلامهم بين يديه.

إن المطبخ الثقافي والمعرفي للسلطة لم يكتفِ بإنتاج وصمة عنوانها الرافضة، ووصم شيعة أهل البيت(ع) بها، وإنما ذهب أبعد من ذلك – وهذا كان غايته من إنتاج تلك الوصمة – إلى ممارسة شتى ألوان الإرهاب الفكري والديني بحق من يستهدفهم بذلك الوصم، ولذلك تراه يفتري الكذب على رسول الله، (ص) مبتدعاً روايات تفيد أن الرافضة مشركون، بهدف إخراجهم من الملة، ونزع صفة الإسلام عنهم. ومن خلال عنوان الشرك، تستطيع أجهزة السلطة ومن مشى في ركابها، أن تمارس شتى ألوان الإرهاب (الديني والفكري) والإجرام والعدوان بحق من يطلق عليه، ويوصف به.

وللأسف إن هذا الذي حصل في التاريخ، وانطلى على كثير من بسطاء الأمة، حين وقع في فخ السلطة، وأكل من تراثها، وهو لا يعلم أن سُمَّه كثير، ووضعه وفير؛ فاتهم من وحّد الله بالشرك، ومن أطاع رسوله(ص) بالكفر، ولم يدع مسألة إلا واتخذها ذريعة إلى حكمه، ودليلاً على وهمه، لا شيء إلا لأنها تخالف ما هو عليه، أو رأي ذهب إليه(26).

لقد أصبح الغالب على البعض، هو سوء الظن بمن اتهم بالشرك أو رُمِي بالكفر، حتى لم يعد من اليسير عليه، أن يخرج من سطوة تلك المرويات المكذوبة، والأحاديث الموضوعة، فلم يعد ينظر إلى شيعة أهل البيت(ع) إلا بعيون تلك المكذوبات وبمنظار تلك الموضوعات، فأينما رأى فعلاً يُخالف ما هو عليه، يتخذه دليلاً على شركهم، ومطية إلى الحكم بكفرهم.

إنك لتعجب مما تسمع، كيف يتفتق عقل البعض، فيُسهب في أقاويل تضحك الثكلى في خدرها، وتدع اللبيب حيراناً، فمن سجد على التراب مثلاً، عُدّ شركاً لأنه تراب الحسين؛ ومن زار مقاماً لأهل البيت(ع) محبةً لهم في الله تعالى، عُدّ شركاً، لأنه مقام علي(ع) والحسين(ع)! واللائحة تطول، حتى لتقطع أن هؤلاء لا ينطقون بحجة ولا علم، وإنما يعيشون هوس الكفر أو الشرك، ويا ليتهم طبقوا قواعد الشرك لديهم على فقهاء السلطان ومصنفاتهم، وعلماء البلاط وفتاواهم، لأراحوا واستراحوا. ولن يفعلوا إلا عندما يهجرون من سوى الله تعالى، مهما عظمت تسمياته، وكثرت مرويات السلطان في مقاماته، ويتمسكون فقط وفقط بكتاب الله، والصحيح الصحيح من سنة رسوله.

للأسف، وبكل مرارة، نقول: لقد أحدثت سياسات السلطة قديماً شرخاً في الأمة ما زال طعمه يضرس إلى يومنا هذا، والدهر الذي نعيش. شرخ لن يلحم، وفتق لن يرتق، إلا برحمة عظيمة من الله تعالى، واعتصام من الأمة بحبله، وإستمساك بكتابه، وجهاد فيه يهدي إلى سبله، وحلم وسيع، لا يستنفذه جهل الجاهلين، وحقد المتعصبين، ومن فعله أكثر ضرراً بالإسلام والمسلمين، و"هم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً"(27).

5- الإرهاب النفسي: إن جميع ما تقدم، لا ينفصل عن ممارسات الإرهاب النفسي، التي مورست بحق معارضي السلطة ومشروعها، من وصمهم بذلك الوصم، الذي أريد له أن يتحول إلى منقصة، ومذمة لها بُعد اجتماعي عام للنيل من  شيعة أهل البيت(ع)، إلى اتهامهم بشتى التهم، من الشرك، والكفر، والغلو، إلى تهديدهم ووعيدهم بالقتل وما سواه، إلى إمكانية التعرض لهم في أي شيء من أموالهم وممتلكاتهم، دون أن يكون لهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم، إلى ممارسة شتى أنواع الوعيد والتهديد بحقهم...

لقد مورست شتى أساليب الإرهاب النفسي بحق أهل البيت (ع) وشيعتهم، وكان الهدف دوماً الرضوخ للسلطان وسطوته، والاعتراف به ومشروعيته، وتراجعهم عن معتقداتهم وقناعاتهم، وما أخذوه من رسول الله (ص) وجاء به الأئمة من ذريته وأهل بيته(ع)، من علوم نهلوها منه، وأحكام حوتها رسالته. إن من يعود إلى التاريخ البعيد وغيره، يجد أن ما نتحدث فيه ليس نسجاً من خيال، وليس بدعاً من قيل وقال، بل إن شواهد التاريخ عليه كثيرة، وأدلته على ما نقول وفيرة، يكفي أن نعود إلى سياسات الأمويين والعباسيين بحق أتباع الإمام علي(ع) وأصحابه، من قتلٍ على التهمة، وتعقبٍ لهم خلف كل حجرٍ ومدر. يكفي أن نعود إلى ما حصل مع حفيد رسول الله(ص) الإمام الحسين(ع) وأهل بيته(ع) من مظالم ومآسي، يندى لها جبين التاريخ، ويتفطر لها القلب شجى، حتى يدرك العاتب عما نتحدث، وإلى أي بلاء ابتليت به الأمة نشير.

وإذا ما طرح السؤال عن السبب الذي يستدعي من السلطة الأموية - أو غير الأموية - أن تبادر إلى استهداف أهل البيت(ع) وشيعتهم إلى هذا المستوى، وهل أن الأمر يرتبط بأفعال محددة، أم أنه يرتبط بمشروع أبعد مدى؟ وإذا كان هناك من مشروع فما هي عناوينه، وما هي خلفية السعي إليه؟.. فهذا ما سنحاول الإجابة عليه أو بعضه في العدد القادم.. تحت العنوان التالي: المشروع الأموي.. تدوير المصطلح وأسبابه التاريخية.

هوامش

(1)- قم، مؤسسة النشر الإسلامي،1414 هـ  ق ، ط 1 ، ص 320 .

(2)- نشر أدب الحوزة، 1405 هـ ، مج7، ص 156.

(3)- يوجد اختلاف بين مجمل المصادر ذات العلاقة فيما يرتبط باسم الرافضة وذلك في عدّة موارد:

1- في سبب التسمية ( لرفض الشيخين، أو لرفض زيد والجهاد معه، أو لرفض المغيرة بن سعيد الذي قال بإمامة محمد بن عبدالله بن الحسن...) وستجد لاحقاً أن روايات أهل البيت (ع) تجعل متعلق الرفض أمراً آخر، أي رفض الشر والباطل أو رفض فرعون...

يعرض ابن جرير الطبري لسبب التسمية فيذكر رواية عن الإمام علي (ع) عن رسول الله (ص) أنه لما أسري به إلى السملء رأى قصوراً يصفها ويصف ما فيها، فيسأل عنها جبرائيل، فيجيبه : هي لشيعة أخيك علي بن أبي طالب (ع) وخليفتك من بعدك على أمتك وهم يُدعون في آخر الزمان باسم يراد به غيرهم، الرافضة، وانما هو زين لهم، لأنهم رفضوا الباطل وتمسكوا بالحق. ( أنوار المعجزات، مؤسسة الإمام المهدي (عج)، قم، 1410 هـ ق، ط1، ص11).

2- في من اطلقها (أصحاب زيد، زيد نفسه، المغيرة بن سعيد...)

3- في من يراد بها، وهنا يمكن تصنيف آراء الذين تبنوا هذه التسمية إلى فئات ثلاث:

1- هناك من يطلقه على جميع محبي أهل البيت (ع)، شيعياً كان أم غير شيعي.

2- وهناك من يطلقه على عموم شيعة أهل البيت (ع)، من كان منهم إمامياً اثنا عشرياً، أم غير اثني عشري.

3- وفئة تطلق التسمية على خصوص الشيعة الإثني عشرية من شيعة أهل البيت(ع)، أي التي تعتقد بإثني عشر وصياً بعد رسول الله (ص)؛ وهي الأكثر رواجاً.

وأنت تلاحظ - عزيزي القارئ - أن القاسم المشترك بين الفئات الثلاث هو أهل بيت رسول الله (ص)، فتدبر جيداً وتأمل!

(4)- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت، ج 2، ص 184.

(5)- ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، مؤسسة قرطبة، 1406 هـ، ط1، ج 1، ص 35.

(6)- توجد نصوص تؤكد أن استعمال هذا المصطلح كان متداولاً قبل ثورة زيد بن علي بسنوات، وإنه كان يُطلق على شيعة أهل البيت (ع) قبل ثورة زيد بوقت ليس بقصير، فقد ذُكِر هذا المصطلح على لسان الإمام محمد الباقر (ع)، والذي توفي قبل ثورة زيد بثماني سنوات، أي في سنة 114 هـ ق، في حين أنّ ثورة زيد حصلت سنة 122 هـ ق. حيث قال له أحد أصحابه :" إنَّ فلاناً سمانا بإسم، قال : وما ذاك الإسم؟ قال سمانا الرافضة. فقال الإمام – مشيراً بيده إلى صدره - : وأنا من الرافضة وهو مني، قالها ثلاثاً". (البرقي، المحاسن، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1370 هـ ق، ج 1، ص 157م).

(7)- تجد العديد من المصادر والمراجع تقدم تفسيراً مشوهاً وغير صحيح لمعنى الرفض وحقيقته. فتقدمه على أنه سب وشتم للشيخين أبي بكر وعمر، أو طعن في الصحابة وسوى ذلك؛ في حين أنّ تفسير الرفض بالسباب والشتائم يُجافي الحقيقة، ولا يرتقي إلى المعالجات العلمية والموضوعية للقضايا الخلافية بين مختلف الأديان أو المذاهب الإسلامية.

وإن النظر إلى حقيقة الرفض من زاوية الصحابة والطعن فيهم، ينطوي على الكثير من تقزيم الحقائق واجتزائها.

صحيح أنّه يوجد اختلاف فكري حول مواضيع مختلفة، لكن الصحيح أيضاً أن يمارس هذا الاختلاف من خلال أدب القرآن الكريم ومفاهيمه، في إدارة الاختلاف وثقافته، بعيداً عن الإيغال في المذهبية و العصبية، أو ممارسة الإرهاب الديني والمذهبي؛ والعمل على إبقاء هذه الاختلافات ضمن حدودها الفكرية، وعدم اتخاذها ذريعة للتعصب المذهبي، أو ممارسة أي اضطهاد ديني، أو الانجرار إلى أي سلوك عنصري.

(8)-الشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1419 هـ ق، ص171.

(9)-المفيد، الإختصاص، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1993م، ص 104.

(10)-الجلالي السيد محمد رضا، جهاد الإمام السجاد، مؤسسة دار الحديث الثقافية، 1418 هـ، ط 1، ص 216 ( عن : المحاسن والمساوي للبيهقي، ص 212 – 213).

(11)- ابن عبد البر، الإنتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 91.

(12)- القندوزي، ينابيع المودة لذوي القربى، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1416 هـ ق، ج 2، ص 373.

(13)-  السيد محمد الكثيري، السلفية بين أهل السنة والإمامية، الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، 1418 هـ - 1997 م، ط1، ص 122 (عن تاريخ بغداد، ج 15، ص 260).

(14)- ابن قتيبة الدينوري، تأويل مختلف الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، ص77.

(15)- الأميني، الغدير، دار الكتاب العربي، بيروت، 1977م، ج1، ص 329.

(16)- أحمد بن حجر الهيتمي، الصواعق الحرقة..، شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة، 1965م، ص 5.

(17)- ما تلحظه في هذا الأحاديث ومضمونها أنهم سطروها بألسنة شتى، القاسم المشترك بينها هو تحديد المستهدف منها وهو الرافضة، والهدف الذي يراد منها وهو إصدار الفتوى بالقتل.

وهم ينسبون بعضها إلى علي (ع)، وآخر إلى فاطمة (ع) وآخر إلى أم سلمة... وهل يمكن أن يتصور منصف أنّ رسول الله يأمر بقتل من أطاع كلامه في أهل بيته فأحبهم ولزمهم، أو أنّ علياً (ع) يحدث بقتل شيعته ومواليه! أو أنّ فاطمة (ع) تحدث بقتل شيعتها ومحبيها! وبعضها يذكرون في متنه أنهم: قوم من بعدي، وآخر: قوم في آخر الزمان، وغيره: قوم من أمتي، فضلاً عن اختلافات أخرى عديدة في متنها والتعابير الواردة فيها.

وبعضها يكتفي بتعبير الرافضة، وبعضها يذهب أبعد من ذلك في إسقاطه على شيعة أهل البيت(ع) وإلباسه لهم، فيضيف سماتٍ للرافضة منها: حب أهل البيت(ع)، أو ممن يحب علياً... وبعضها يفصح صراحة عن مكنون قصده، فيقول إنهم قوم من شيعة علي(ع)، وبعضها يضيف قيوداً أخرى؛ حتى ليدرك أقل لبيب، أنها فصلت على مقاس شيعة أهل البيت(ع)، لتوظف ضدهم دون سواهم.

لكن ما يريح المرء أنّ أمهات الكتب الست، أي مصادر الحديث الأساسية لدى اهل السنة، تخلو من هذه الأحاديث وألسنتها (أنظر محمد بن عقيل العلوي، تقوية الإيمان، دار البيان العربي، بيروت، ط1، ص 53).

(18)-  القرآن الكريم، سورة الشورى، الآية 23

(19)- دار إحياء الكتب العربية، 1961م، ج 11، ص 44.

(20)- الشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، م س، ج 4، ص 171.

(21)- م س.

(22)- لا نحتاج إلى ذكر الشواهد على هذا الموضوع، إذ تكفي أية مراجعة لجملة من كتب التراجم وغيرها، لتجد هذا المضمون فاشياً فيها، بأنّه رافضي تُردّ روايته، أو لأنه رُمي بالتشيع، أو نحوها من التعابير.

(23) - يعرض الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه "الاجتهاد في مقابل النص" لهذه القضية، ويذكر بكل مرارة كيف يتم الإعراض عن مدرسة أهل البيت(ع) وعلومهم، من قبل الكثير من المسلمين وعلمائهم ورواتهم، فيقول: "...فلم يعنوا بأقوالهم في أصول الدين وفروعه بالمرة، ولم يرجعوا إليهم في تفسير القرآن العزيز – وهو شقيقهم – إلا دون ما يرجعون إلى مقاتل بن سليمان المجسم المرجئ الدجال، ولم يحتجوا بحديثهم إلا دون ما يحتجون بالخوارج والمشبّهة والمرجئة والقدرية، وأنكى من هذا كله، عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق، والكاظم، والرضا، والجواد، والزكي العسكري – وكان معاصراً له – ولا روي عن الحسن بن الحسن، ولا عن زيد بن علي بن الحسين، ولا عن يحي بن زيد، ولا عن النفس الزكية محمد بن عبد الله الكامل بن الحسن الرضا بن الحسن السبط، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبد الله، ولا عن الحسين الفخّي بن علي ابن الحسن بن الحسن، ولا عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، ولا عن أخيه إدريس بن عبد الله، ولا عن محمد بن جعفر الصادق، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا، ولا عن أخيه القاسم الرسي، ولا عن محمد بن محمد بن زيد بن علي، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زين العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري.  ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة، وأغصان الشجرة الزاهرة، كعبد الله بن الحسن، وعلي بن جعفر العريضي، وغيرهما من ثقل رسول الله وبقيته في أمته(ص)، حتى أنه لم يرو شيئاً من حديث سبطه الأكبر، وريحانته من الدنيا، أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة، مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدهم عداوة لأهل البيت – عمران بن حطان – القائل في ابن ملجم، وضربته لأمير المؤمنين عليه السلام:

يا ضربة من تقي ما أراد بها           إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوماً فأحسبه                أوفى البرية عند الله ميزانا

أما ورب الكعبة، وباعث النبيين، لقد وقفت هنا وقفة المدهوش، وقمت مقام المذعور، وما كنت أحسب أن الأمر يبلغ هذه الغاية." (بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1408هـ - 1988م، ط 10، ص 377- 378).

(24)- الإمام شرف الدين، المراجعات، 1982م، ط2، ص 15.

(25)- يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في كتابه "شرح نهج البلاغة" أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عماله يقول: ".. فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد في أبي تراب، إلا واتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحب إليّ وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها،...حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن.." (م س، ج11، ص 45).

(26)- من باب المثال، انظر في الحكم بكفر الرافضة: ابن عابدين، حاشية رد المحتار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1995م، ج 4، ص 238؛ وفي أنّه لا يصلى خلف الرافضي ولا يُصلى عليه: عبد الله بن قدامه، المغني، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت، ج 2، ص 22 وص 419.

اعلى الصفحة