|
|||||
|
هشيم الوقت - إلى صاحبٍ ما- لم يكن شغفاً، كان شيئاً شبيهاً بصرخةٍ، وأنتَ تهرِّبُ الخياناتِ إلى المخادِعِ، والنورَ إلى شبهةِ الحياةِ، تهرِّبُ أشياءَ أخرى أيضاً من السفح الخانقِ إلى الوادي المذعور، تقابِلُهُم في الشارعِ الضالِ وعيونُهم مصوبةٌ على حتفِكَ!!.. الأصدقاءُ الجميلون الذين أحببتَهم، والحبيباتُ الخافيةُ قلوبَهن في الرَّيبةِ.. نعم.. هكذا صرتَ.. كبيراً مرة واحدة، وأشهرتَ قلبك على الجميع، دون أن تفقَهَ الفرحَ المدلَّلَ في ذاته، أو التيهَ المرتَّبَ هناك بلا مشيئةٍ، تمضي معهم إلى الحتف المضيء، وتهيئُ لهم موائدَ وقلقاً أقربَ إلى السماء، تمنحُهم الخيانةَ كأشهى ما يكون، ويداكَ مليئتانِ بالإثمِ والغفران، تعاندهم بصمتك وتقص حكايات بعيدة كالقمر. يا صاحِ.. ما زالَ الكثيرُ من الوحوش بانتظاركَ لإعدادِ وليمةٍ من رؤاكَ وطفولتِكَ.. هناك.. حيثُ أضعتَ الطريقَ بين البيتِ الأنسِ والزوجةِ والأولادِ وبين الخرافة.. وأضأتَ قناديلَ كثيرةً دون أن تفقه لغةَ الظلامِ والوجعِ، مباهجُ سمينةٌ تركتها خلفَكَ، وسلالُكَ مليئةٌ بالظن، انفَرَطَتْ مرةً أخرى في الوادي.. رأيت العشبَ الضارَ ومضغتَ أحلاماً مُرّةً، دون أن تفقه الحب. لكنّهم كانوا ملوكاً في الضيافات والتودّد، كانوا أكثرَ من وردةٍ مقدَّسةٍ توهَّجَتْ في روحَِك، ملأتَ لهم الجرارَ بالعَسَلِ، وصَبَرتَ ما يُقاربُ العشرينَ عاماً على ما يُقلِقُ هواهم فيكَ.. صبرتَ على ما يجمعُكَ بهمٍ من وهمٍ جميلٍ وأحلامٍ جميلة.. وعندما استفاقوا بعدَ انتفاضةِ جُرحِكَ.. قادوك للهلاكِ من جديد.. في الشارِعِ الكئيبِ الطالعِ من المطرِ، قرب شُجيراتِ الكينا والليمونِ المعرِّشِ في الذاكرةِ والزُقاقِ المُفضي إلى بيتِ الأحلامِ المؤجَّلةِ، تصادفهم وعيونهم مسدّدةٌ إليكَ.. وأنت قليلٌ وعليلٌ ولا هواءَ حولَكَ كي تهُشَّ المواجع والمحن، هواءٌ قليلٌ وحيلةْ.. تدرَّبتَ على السكوتِ وأنتَ مثلُهم، عيناكَ على البحر وقلبُك حجر. لا.. لا يا صاحبي.. لم يكن شغفاً.. لم تكن مودَّةً.. تُبادِرُهم بالمودةِ، وبضائعِ القلبِ النادرة، تبادرُهم بالحسرةِ والأناشيد المسنّنة، وهم يكنِّسون الشوارعَ بظلالهم الثقيلةِ، ويصبغون الحواري والبيوتَ بأسرارٍ فخمةٍ وضيافاتٍ وأحاديثَ عنكَ لم تكن منكَ.. ولم تسعى إليها.. تنحدر صوبهم أنت الصغيرُ في عيونِهم.. وعيونُك أكبر من فهمِكَ، أكبرُ كذلك من تصاريفِ الدهرِ ولثغةِ العالمِ الجديد، تحبُّ أن تعودَ إليهم، تحبُّ كذلكَ أن تخرُجَ من قميصكَ ناصعاً كشتاءاتٍ أولى، بريئاً كعصافير شباط، وفجرِ الغزلان ِالطافحة، لكنّهم لمّعوك بالجريمةِ، وأهالوا عليك الطعناتِ والخناجِرِ، سمّنوك بإرثهم الأسود، وبقيتَ وحيداً تحكُّ الليلَ بشرارِ عينيك، مختفياً في قبةٍ، والحياة مثلُ قطٍ مريض، بقيتَ وحيداً وجائعاً لهم، وهم الذين رتّبوا مدفَنَكَ ودفعوكَ إلى الحفرةِ الجَدَثْ.. وأهالوا عليك الحوافر واللعنات. أنت الصغيرُ اليومَ بنظرِهم، هدايةُ الوقتِ الضائعِ سدىً خلف أوهامٍ مضيَّعةٍ، وأنتَ قربانُ الأبد.. مرّنوك على النسيان بأكمل حيلةٍ، وبأجمل ما تمنحه الدسيسة وهي طافحة ورنانة. وأنتَ ما كنتَ لتنسى.. أردتَ الهروبَ من شغفِهمِ المسنونِ بزيتِ الأنانيةِ والتملُّكِ والإيثارِ.. سحبوكَ مرّة أخرى من الساحلِ.. وكأنك "الأحشاءُ التالفةُ للبحر".. قادوك لمذبح الشهواتِ، ملَكاً صغيراً في تابوت، منزوعاً من الهواءِ والشَّهقةِ، منزوعاً كذلكَ من صمتكَ العابِرَ، خلفَكَ الحُلُمُ باردٌ وشفّاف، وأمامكَ القيظُ والهجيرُ، سلخوكَ من الأصدافِ والوهَجِ، ورموكَ في حضرةِ المكيدةِ.. لا أحَدَ سواكَ، ولا أحد قبلكَ ولا بعدكَ، وحيداً وصغيراً.. هائماً في ملكوت الندم. يداكَ أقصرُ من أن تطالَ وَهَجَ القمر، وقلبُك في غيمِ السواحِلِ أسمر. الشفّافونَ الجميلونَ الذين قادوكَ إلى ذهبِ المغاورِ والمعابرِ، ها هم الآن مرتَّبونَ في الذاكرة، مثلَ تماثيلِ الملحِ المهشّمةِ، ها هم ذريعةُ الأيامِ الفارغةِ، يحتسونَ دمَكَ الجميلَ، وبراءتَكَ الهالكةَ.. وجوهُهُم، أصواتُهُم، طاقاتُهم الباذخةُ.. وأحداقُهُم.. ها هي كلُّها تافهةٌ وصغيرةٌ، وأنت أكبرُهُم، عالياً مرّةً واحدة، فوق دُكنةِ الحياةِ وغروبِ العالَمِ.. عالياً ومتكّسراً في الأفْقِ، لا أحد قبلكَ.. ولا بعدكَ.. لا أحد يُشبِهُكَ ولا أوجاعَ تُشبهُ أوجاعكَ المُرَّة، أنت فقط واهبُ الحنين، ووارث الألم. صدِّقني.. لم يكن شغفاً.. ولم يكنْ مودةً أو رحمةً، كانت حياةٌ بأكملها مرميةً في الخساراتِ، وأزقةِ الروحِ القاحلة هناكَ حيث عشقكَ الفريدُ المدهونُ بالأسى، وبيتُك المفتوحُ في أفق الذئابْ.. لم يكن شيئاً مما رتَّبْتَ لهم من أنسٍ وهواءٍ طازجٍ كطعمِ الملاكِ يعبرُ فضاء الروحِ صوب القلبِ المُتعبْ.. كانت حياتُكَ أسىً مؤجلاً إلى يومٍ تتكالبُ فيه صغارُ الذئاب على قصعةِ روحِك.. كانت حياةٌ بأكملها مرميةً في الخساراتِ، وأزقةِ الروحِ القاحلة هناكَ حيث عشقكَ الفريدُ المدهونُ بالأسى، وبيتُك المفتوحُ في أفق الذئابْ. أخالُ غدَكَ يا صاحِ كما الأمسِ كما اليوم.. وأنتَ كما أنت.. قدَمُ تَذْوي.. يَدُ تَهْتَزُّ كالعُشبةِ، عَيْنٌ تَغْرَقُ.. كَبْوَة أُخْرى.. ظَلامٌ، بروزاك.. وحبةٌ زهريةٌ في الجيب خوف الانهيار.. صَرْخَةٌ في الخَنْدَقِ المَهْجورِ، صَدْرٌ يَشَهْقُ.. وَمْضةُ ما بينَ لَيلَينِ أَرَقتَ حَوْلها العُمْرَ لِتَنْموَ.. ذَهَبَ العُمْرُ يا صاحِ وفاضَ الغَسَقُ.. بَعُدَ الشاطئُ، والبَحَّارَةُ الحَمْقى يهيمونَ بَأَحلامِ العَصافيرِ إزاءَ المَوْجِ واللُّؤْلؤِ. يا صاحِ.. كُنْتَ وَحْدكَ ولا تزالُ ماذا استجدَّ؟؟.. تطأُ الشوَّكَ لِكَيلا تجرَحَ الوَرْدَ ، فَيَبْكي الحَبَقُ.. كُنْتَ تقْتَصُّ بصوتكَ لِقطيعٍ حَظُّهُ فَيْضُ سَرابٍ وَرِقابٌ كرِقابِ العيرِ تُقْتادُ إلى الجَدْب..ِ وسَيْفٌ نَزِقٌ.. بَيْنَ نارينِ.. وما زالَ رُغاءُ النُّوقِ يَرْتَدُّ من الصَّحْراءِ في قلبكَ ولَحْنٌ سَرَّبَتْهُ الرَّيحُ من ثُقْبِ جِدارْ.. كانَ ذاكَ اللَّحْنُ ظِلَّكَ.. لَسْتَ تدْري، أينَ وَلَّى عندما غابَ النَّهارْ. لستَ تدري أتُرَى تُمسِكَ ظلَكَ، أم تُرَى تنْفُذُ مِثْلَ الظِلَّ من هذا الحِصارْ.. كنتَ وحدَكَ وها أنتَ ترجِعُ وحيداً بعد حينٍ من العشقِ الكاذبِ، ها أنتَ تعودُ وحيداً لتُزاولَ طقوسَ وحشتكَ واندلاعِكَ في الليالي الأرقيةِ.. ها أنتَ تحترِقُ بناركَ ونارِ الآخرين، لم تكن هذي النارُ كما وَعَدتْكَ الأحلامُ ذاتَ زمانٍ.. لم تكنْ هذي الحياةُ حياةً.. لا ولمْ يكنْ عمرُكَ سوى نشيجٍ من ذكرياتِ الألمِ والوجدِ المعذِّبِ.. وبعضٍ من الأمنياتِ تموتُ قبلَ أن تقومَ من مقامِكَ.. وكثيرٍ من الدمعِ يجري على الخدِّ لتهجُرَكَ الأحلامْ.. ويسلوكَ المنامْ.
|
||||