أردوغان في الرئاسة ومخاوف من حكم شمولي 

السنة الثالثة عشر ـ العدد 153 ـ (ذو القعدة 1435 هـ) أيلول ـ 2014 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يطرح فوز رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسة التركية ووصوله إلى قصر شنقاي الرئاسي، أسئلة كثيرة عن طبيعة النظام السياسي التركي والسياسة التركية في المرحلة المقبلة، خصوصاً وأن فوزه بأول انتخابات رئاسية جرت بالاقتراع المباشر يشكل محطة مفصلية في تاريخ الجمهورية التركية على أبواب مرور قرن على انهيار الدولة العثمانية وقبل نحو عقد من تأسيس الجمهورية التركية على مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.

حيث يطمح أردوغان إلى الاستمرار في الحكم إلى ذلك الموعد، ليؤسس الجمهورية الثانية ويقارن اسمه بكبار القادة الأتراك المؤسسين ولاسيما أتاتورك وإن بدت أيديولوجية أردوغان نسفاً لما بنى عليه أتاتورك أسس الجمهورية التي قامت على إقصاء الهوية الإسلامية لتركيا وإنكار التعدد القومي والطائفي والديني في البلاد. ولعل حساسية ما يصبو أردوغان إليه هو التوقيت لجهة التطورات والمتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وموقع تركيا من هذه التطورات التي قسمت تركيا على أساس الهوية الطائفية بعدما كان الانقسام فيها طوال العقود الماضية على أساس الصراع التقليدي بين الإسلام السياسي والعلمانية. نعم، لقد حقق أردوغان أخيرا حلمه في الوصول إلى قصر شنقاي الرئاسي ومن الجولة الأولى بعد أن حصل على نسبة 52% تقريباً من الأصوات، وهو حلم راوده طويلاً وعمل من أجله منذ انخراطه في العمل السياسي مبكراً.

في خطاب الفوز، أطلق أردوغان رؤيته عندما تحدث عن تركيا جديدة التي سيعمل من أجلها، والسؤال الذي يطرحه الجميع هنا، كيف ستكون شكل تركيا في المرحلة المقبلة؟ وماذا عن المشهد السياسي التركي داخلياً وخارجياً؟ وما هي الخطوات التي سيتخذها أردوغان لتحقيق رؤيته لتركيا المستقبل؟

مخاوف كثيرة

 دون شك، فوز أردوغان من الجولة الأولى حرره من العقبات الكثيرة التي كانت يمكن أن تعترض طريقه في إطلاق مشروعه السياسي لإعادة ترتيب البيت الداخلي التركي، والذي يتلخص في الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي عبر دستور جديد يضع في يده صلاحيات مطلقه تجعل منه حاكما مطلقا على طريقة السلاطين ، حيث سار أردوغان على طريقتهم فور فوزه، إذ ذهب للصلاة في مسجد ( أبو سلطان ) الذي أقيم بجوار ضريح الصحابي أيوب الأنصاري الذي قتل خلال إحدى محاولات المسلمين فتح القسطنطينية ( اسطنبول ) حيث جرت العادة أن يذهب السلاطين إليه للصلاة فيه قبل تتويجهم عند استلام الخلافة في عهد الدولة العثمانية. خريطة الطريق التي سيتبعها أردوغان للوصول إلى متبغاه تمر عبر مجموعة من الخطوات العملية، لعل أهمها:

1- قضية تعيين رئيس للوزراء وزعيم لحزب العدالة والتنمية الذي سيستقيل أردوغان منه وفقا للدستور التركي. ومن الواضح أن الشخص الذي سيشغل المنصبين سيكون من المقربين من أردوغان سياسيا وأيديولوجيا وعلى توافق معه في إدارة الحكم في المرحلة المقبلة، لكن من الواضح أن هذه القضية ستكون لها تداعيات على حزب العدالة والتنمية في ظل حالة الاستقطاب داخل الحزب، وإعلان الرئيس عبد الله غل الرغبة في العودة إليه وسط صراعات قد تؤدي إلى حصول انشقاقات في الحزب، خاصة في ظل الاستقطاب الحاصل بين أنصار قطبي الحزب أي أردوغان وغل.

2- مع أن رئيس الجمهورية في تركيا ينبغي أن لا يكون منتمياً إلى أي حزب سياسي حين شغل منصبه إلا أن أردوغان رتب الأمور بحيث يبقى زعيماً فعلياً لحزب العدالة والتنمية ولو بشكل غير رسمي، فهو يخشى في العمق من انهيار الحزب دونه بعد أن ربط كل شيء بشخصه، ويستحضره هنا مصير حزب الوطن الأم بزعامة الرئيس الراحل تورغوت وحزب الطريق القويم بزعامة الرئيس السابق سليمان ديميريل، وتكرار سيناريو انهيار الحزبين مع الرئيسين تورغوت أوزال وسليمان ديميريل عندما وصلا إلى سدة الرئاسة. وعليه فان أردوغان الذي يعد الأب الروحي لحزب العدالة والتنمية عندما أسسه مع الرئيس غل عام 2001 أن ينهار أمامه وهو في سدة الرئاسة ، لأن ذلك سيكون بمثابة انهيار الحلم الذي عمل من أجله طوال حياته.

3- السعي لإعادة إطلاق حزب العدالة والتنمية من جديد قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة حيث سيعقد الحزب مؤتمره الاستثنائي في السابع والعشرين من شهر آب / أغسطس، ومن المقرر أن يخرج أكثر من سبعين قيادياً حزبياً من مناصبهم الحكومية والبرلمانية وفقا لقوانين حزب العدالة والتنمية التي تمنع أي عضو من شغل منصبه لأكثر من ثلاث دورات متتالية. وعليه فان هدف أردوغان الأساسي من هذا المؤتمر الطارئ استباق الأمور وترتيب الوضع الداخلي للحزب في المرحلة المقبلة كي تجري الأمور وفق المخطط الذي وضعه والذي يدور حول بقاء سيطرته على الحزب وكيفية معالجة الفراغ الذي يمكن أن يتركه خروج قيادات حزبية أساسية.

4- بحسب مقربين من أردوغان فإن السيناريو الذي سيتبعه الرجل لدفع مشروعه إلى حيز التنفيذ وتحقيق الخطوات المتتالية، سيكون من خلال تشكيل ما يشبه (مجلس حكماء – حكومة ظل) يتألف من مقربين منه في مجلس الوزراء إضافة إلى مستشارين له، للمساهمة في الأشراف على عمل الحكومة في المجالات الاقتصادية والسياسية ولاسيما السياسة الخارجية، وهو ما يعني أن أردوغان سيلجأ إلى تفعيل السلطات الخاملة لرئيس الجمهورية حيث من صلاحياته وفق الدستور سلطة تعيين رئيس الوزراء وترؤس اجتماعات الحكومة ورئاسة مجلس الأمن القومي ومجلس الإشراف على الدولة الذي يتولى تدقيق الهيئات العامة، وبالتالي فإن مجمل الإجراءات التي سيتخذها أردوغان ستكون كافية لإحكام سيطرته على الحكومة والحزب والجيش ومجمل مرافق الدولة التركية.

5- وضع دستور جديد للبلاد، بحيث يجري من خلاله الانتقال من النظام البرلماني المتوزع الصلاحيات إلى نظام رئاسي مطلق الصلاحيات،وهذا يتطلب من أردوغان انتظار معرفة نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة في صيف العام المقبل، حيث يطمح أردوغان حصول حزبه على أكثر من ثلثي الأصوات كي يتمكن من تمرير الدستور الجديد، لأن دون ذلك فان مشروعه في إقرار دستور جديد من داخل البرلمان لن يرى النور، ليبقى أمامه تمرير الدستور عبر استفتاء شعبي، وهذا الأمر قد يواجه أيضا صعوبات كثيرة، ووقتها ربما يبقى أمام أردوغان خيار وحيد، وهو إجراء تعديل دستوري محدود يزيد من صلاحياته وليس دستور جديد كما يريد أردوغان.

في انتظار هذه الخطوات، واتضاح المشهد السياسي الذي ينوي أردوغان ترتيبه، فإن ثمة مخاوف في الساحة التركية تتعلق بطبيعة بنيان النظام السياسي وهوية البلاد والسياسة الخارجية التركية في المرحلة المقبلة، وتدور هذه المخاوف حول نقاط أساسية، لعل أهمها:

الأولى: أن أردوغان - كما قلنا - يطمح إلى إقامة نظام رئاسي مطلق الصلاحيات بدلاً من البرلماني، بما يمهد لحكم شمولي، يقوم فيه أردوغان بدور الحاكم المطلق، وطبيعي مثل هذا الأمر يثير الكثير من المخاوف في الشارع التركي، بما يشكل خطرا على التعددية السياسية والحريات العامة ووضع الأقليات الطائفية والمذهبية والدينية ، ولعل ما يثير مثل هذه المخاوف هو السياسية التي اتبعها أردوغان ضد التظاهرات التي جرت خلال انتفاضة تقسيم في اسطنبول وطريقة تعاطيه مع المعارضين والخصوم ولاسيما من حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليجدار أوغلو وزعيم حركة الخدمة بزعامة فتح الله غولين ، فجل سياسة أردوغان تجاه هؤلاء هو الإقصاء والتهميش والتضييق للقضاء على وجودهم وإبعادهم عن المشهد السياسي التركي في المرحلة المقبلة.

الثاني: الانتقال من معادلة الصراع التقليدي والانقسام الحاصل بين القوى العلمانية والإسلام السياسي في تركيا، إلى صراع على الهوية والانقسام الطائفي والعرقي، أي وضع السني في مواجهة العلوي والشيعي، والتركي في مواجهة الكردي، والمسلم في مواجهة الأرمني... وهكذا، ومن شأن هذا التحول تفجير صراعات داخلية على الهوية ودفع البلاد إلى حروب طائفية بما يشكل من جهة خطرا على الأقليات الدينية والطائفية والمذهبية، وفي الوقت نفسه تحويل الدولة إلى هوية سياسية لصالح بقاء حكم حزب العدالة والتنمية على حساب الديمقراطية ومعادلة تداول السلطة وفقاً لقواعدها على أساس المواطنة والتعددية وليس الهوية الطائفية.

الثالث: الخوف من زيادة التورط  التركي في الشؤون الداخلية لدول المنطقة ولاسيما سورية والعراق ومصر وغيرها من الدول التي تشهد تطورات وأزمات كثيرة، فمعروف عن أردوغان وبحكم أيديولوجيته السياسية جعل من تركيا طرفاً في الأحداث الجارية في هذه الدول، من خلال دعم المجموعات المسلحة وتبني تيارات سياسية وحزبية انطلاقا من البعد الإيديولوجي، وهو ما أدى إلى توتير العلاقات التركية بالعديد من دول المنطقة وزاد من الصراع الطائفي السني – الشيعي على مستوى منطقة الشرق الأوسط والخليج ومصر ، حيث تشهد العلاقات التركية – المصرية المزيد من التوتر على خلفية ما تقوله القاهرة ان تركيا تدعم جماعة الأخوان المسلمين بغية إسقاط نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي.

في الواقع، في ظل الشرعية الانتخابية لأردوغان، فإن أحد المخاوف الكبرى في الداخل من وصول أردوغان إلى الرئاسة هو أن ينتهج الرجل ممارسة إيديولوجية للسياسة تؤثر على التعدد والتنوع والحريات والإعلام والقضاء والنمو الاقتصادي، كرئيس يمثل الذين انتخبوه فقط، أي أكثر بقليل من 50% من الشعب التركي، وإلغاء نصف المجتمع الأخر سياسياً، على حساب الديمقراطية كممارسة ومفاهيم ومواطنة، ولعل ما يرجح مثل هذا التوقع هو الحرب التي يقودها أردوغان شخصياً ضد خصومه من أمثال فتح الله غولن وكمال كليجدار أوغلو الذي لا يتوقف أردوغان عن نعته بالطائفي، بما يعني كل ذلك ان المعارضة التركية ستكون في وضع صعب جدا لجهة كيفية إدارة العلاقة مع الحكم في المرحلة المقبلة من جهة، ومن جهة ثانية نظرا لان المعارضة نفسها باتت تعاني من مشكلات كثيرة وفقدان للمصداقية في الشارع التركي بعد سلسلة الهزائم الانتخابية التي منيت بها خلال العقد الماضي.

معارك ما بعد الرئاسة

ما إن وصل أردوغان إلى الرئاسة حتى قفزت العديد من التحديات المزمنة إلى سدة المشهد السياسي، وهي تحديات يريد أردوغان حلها وفقاً لرؤيته في الحكم خلال المرحلة المقبلة لتوطيد دعائم حكمه وسلطته، ولعل من أهم التحديات.

الأول: القضية الكردية التي تتعاظم نفوذها في المشهد السياسي التركي، وهذا ما تجلى في عدد الأصوات التي حصل عليها المرشح الكردي للرئاسة التركية صلاح الدين ديمترطاش عندما حصل على قرابة 10% من الأصوات، وما نسبته نحو 65% من الأصوات في المناطق الكردية فيما حصل أردوغان على نحو 30% من الأصوات في هذه المناطق. وعليه فإن القضية الكردية ستكون من أهم التحديات التي ستواجه أردوغان في المرحلة المقبلة. جوهر المشكلة هنا، هو أن أردوغان يبحث عن إدماج الأكراد في البنيان السياسي من خلال اعتراف ثقافي ولغوي بالهوية وليس من خلال اعتراف دستوري يقضي إلى الاعتراف بالأكراد كقومية مختلفة عن القومية التركية، وما يترتب على ذلك من حقوق سياسية وحكم محلي ذاتي كما يطالب حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي الذي يعد الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، ولعل إستراتيجية أردوغان في حل هذه المعضلة ستكون من خلال تكثيف الحوار والتواصل مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المعتقل في سجن ايمرالي منذ خمسة عشر عاماً، نظراً لمكانته ودوره الحاسم في إقرار سياسة الحزب.

الثاني: تقويض النفوذ العسكري، فأردوغان يدرك أنه وعلى الرغم من كل الخطوات والإجراءات التي اتخذها لتقليص دور المؤسسة العسكرية التركية التي هي أهم مؤسسة في البلاد تاريخيا، فان هذه المؤسسة مازالت قوية وتشكل خطرا على طموحات أردوغان الكثيرة، خاصة وان تركيا هي من أكثر دول المنطقة التي اكتوت بنار الانقلابات العسكرية خلال القرن الماضي (4 انقلاب عسكرية – بمعدل انقلاب كل عشر سنوات) ولعل أمام أردوغان مجموعة من الخطوات الجديدة لوضع نهاية لنفوذ الجيش ودوره في الحياة السياسي للبلاد، ومن أهم هذه الخطوات:

1- التخلص من بعض المواد في دستور 1982 والتي أعطت للجيش حق التدخل في الحياة السياسية تحت عنوان حراسة المبادئ العلمانية للجمهورية التركية، ومن أهم هذه المواد، المادة 35 التي تقول: إن وظيفة القوات المسلحة هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية التركية، في حين هناك ثمة تشريع يسعى لجعل هذه المادة تنص على ان مهمة الجيش هي حماية الوطن وحدوده ، بمعنى إبعاد الجيش عن الوضع الداخلي ، فهذه المادة هي التي اعتمد الجيش عليها في إضفاء المشروعية على الانقلابات العسكرية السابقة التي قام بها.

2- تقليص نفوذ المجلس العسكري الأعلى والذي يتألف من 14 عضوا ، وهم رئيس الوزراء ووزير الدفاع (مدنيان) في حين 12 الباقيين هم من كبار جنرالات قادة الجيش ، ويتخذ القرار فيه بالأغلبية، وتتلخص مهام المجلس العسكري الأعلى في مناقشة المواضيع المتعلقة بالشأن العسكري والتصديق على قرارات ترقية العسكريين واتخاذ القرارات بشأن طردهم لأسباب مختلفة، وإستراتيجية أردوغان للحد من نفوذ الجيش في المجلس العسكري هي زيادة عدد المدنيين فيه من وزراء وخبراء واستشاريين ، بالإضافة إلى تحويل تبعية المجلس من رئاسة الوزراء إلى وزارة الدفاع، وتحويل قيادات أفرع القوات المسلحة إلى وحدات داخل وزارة الدفاع ، وربما تحويل المجلس العسكري إلى هيئة استشارية.

3- تمدين مؤسسة الأمن العام: وذلك من خلال نقل قيادة الأمن العام في رئاسة الأركان حاليا إلى وزارة الداخلية ، لتتحول تدريجيا إلى مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيش، وتقوم بحفظ الأمن والنظام العام تحت ظلة وزارة الداخلية. إلى جانب هذا الأمر فان قضية إلغاء المحاكم العسكرية الإدارية العليا، تحظى بأهمية كبرى بحيث يبقى مهام القضاء العسكري النظر في قضايا الإخلال بالنظام العسكري، وكذلك إجراء تغيرات في الجهات الإدارية للميزانية العسكرية بحيث تصبح كل نفقاتها خاضعة لإشراف الجهاز المركزي للمحاسبات، بما يعني سحب العديد من الصلاحيات والمهام من المؤسسة العسكرية لصالح الحكومة.

الثالث: قضية الفساد وإقصاء الخصوم، مع أن أردوغان نجح في تحويل فضيحة الفساد الكبرى التي هزت البلاد، ووصلت تداعياتها إلى عائلته، إلى معركة سياسية ضد الخصوم، فإن هذه القضية تبقى ماثلة أمام أردوغان وتشكل تحدياً ومصدراً للخوف له، لطالما أن زعيم حركة الخدمة فتح الله غولن، يتمتع بالنفوذ والقوة المالية والأتباع المتغلغين في بنية المجتمع والدولة التركيين، ولعل هذا ما يفسر سر إصرار أردوغان القوي على إقصاء أتباع غولن من كل مرافق الدولة وأجهزتها، وتجفيف المنابع المالية للحركة وصولاً إلى محاولة الوصول إلى محاكمة غولن عبر مطالبة واشنطن بتسليمه إلى الحكومة التركية للمحاكمة.

في الواقع، من الواضح أن المرحلة المقبلة في تركيا تبدو وكأنها مرحلة لتأسيس تركيا من جديد، وفي ظل وجود أردوغان في الرئاسة حيث ثمة مخاوف كثيرة تدور حول انتقال تركيا إلى مرحلة جديدة على شكل حكم شمولي يسيطر فيه أردوغان على كل شيء، وهو الرجل الذي توعد مرارا بنقل تركيا من مرحلة الحكم البرلماني إلى الرئاسي في عملية سياسية تنتج نظاماً رئاسياً مطلقاً.

وبموازاة هذا البعد التنفيذي في السيطرة على الحكم وممارسة السلطة، ثمة مخاوف من الانغماس في البعد الأيديولوجي حيث النزعة العثمانية التي تحكم شخصية أردوغان إلى درجة أن لقب السلطان الجديد أصبح مرافقا لأسمه في كثير من الأحيان، فالرجل لا يتوقف في خطاباته عن التذكير الدائم بمحمد الفاتح، ومن بعده السلاطين العثمانيون، ومحاولة القول إنه الرجل الذي سيعيد أمجاد هؤلاء على أبواب مرور قرن على انهيار الدولة العثمانية، في وقت لا يتوقف فيه عن طرح نفسه خليفة لأتاتورك مع أن أيديولوجيته تعد نسفاً لما أقام عليه الأخير جمهوريته. وكل ما سبق يعمق المخاوف من أن تكون طموحات أردوغان السلطوية جسراً سياسياً للقضاء على التعددية والتنوع والحريات والإعلام والقضاء، فهو كثيراً ما ينطلق من الشرعية الانتخابية للعملية الديمقراطية لا من ممارسة الديمقراطية كمفاهيم.

مهما يكن، فإن تركيا مع وصول أردوغان إلى رئاسة الجمهورية ستدخل مرحلة جديدة، وتداعياتها لن تقتصر على الداخل التركي فقط، بل مجمل المحيط الإقليمي والدولي الذي يعيش تطورات عاصفة على وقع العدوان الإسرائيلي على غزة وما يجري في العراق وسوريا ومصر وليبيا وأوكرانيا ومجمل منطقة الشرق الأوسط، وعلى المستوى الإقليمي ، وتحديدا في ما يخص السياسة التركية تجاه الأزمات الجارية في مصر وسوريا والعراق، ثمة من يرى أن أردوغان سيستمر في نهجه الجاري، بل وسيصعد من وتيرة هذا النهج من خلال تفعيل دور الدبلوماسية التركية في هذه الدوائر بعد أن وصلت العلاقة التركية مع أنظمة هذه الدول إلى مرحلة القطيعة وإن بدرجات متفاوتة ، لكن في المقابل، هناك من يرى أن موقع الرئاسة سيتطلب من أردوغان نوعا من التوازن والدقة حفاظا على مصالح تركيا وصورة سياستها الإقليمية، ولعل التحدي هنا أمام أردوغان في كيفية إزالة الخلط الحاصل في العالم العربي لجهة ربط سياسة تركيا بدعم الإخوان المسلمين فقط انطلاقا من البعد الأيديولوجي لحزب العدالة والتنمية وبرنامجه السياسي. وهنا يتحدث بعض الساسة الأتراك عن ما يسمونه تصحيح مسار السياسة الخارجية التركية، بعد المتغيرات والتطورات العديدة التي حدثت في المنطقة، خاصة بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الكبير وما يشكل هذا الصعود من تهديد ليس للعراق وسورية فقط، بل مجمل دول المنطقة حيث لا يعترف داعش بالحدود الجغرافية بين الدول، ولا بالتعدد السياسي والقومي والإيديولوجي، وإنما هدفه الوحيد هو فرض إيديولوجيته على الجميع عبر سياسة تقوم على القتل والتدمير وإقصاء كل من يخالف هذه الإيديولوجية.

لا شك أن المتغيرات في مرحلة رئاسة أردوغان قد تطال السياسة الخارجية، بعد التحولات التاريخية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، حيث وجدت تركيا نفسها في وضع جديد لا تحسد عليه، كونه يفرض على مهندسي سياستها الخارجية، تحديات وتبعات جديدة، تأخذ بالحسبان مختلف التطورات، ومختلف اللاعبين الجدد، وخاصة بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وتحجيم دورهم في معظم الدول العربية، إلى جانب إرهاصات الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، والعلاقة مع إيران بوصفها دولة إقليمية قوية في المنطقة.

يضاف إلى ذلك، أن مستجدات الأوضاع في العراق، وفي سوريا، وسواهما، تتطلب من الساسة الأتراك اتخاذ مواقف جديدة، والقيام بمبادرات لم يعهدها الموقف التركي مما يجري في هذا البلدان، وهي مواقف تتعلق بالعلاقات الإقليمية، ومصالح تركيا الاقتصادية والحيوية، فضلاً عن الجيوسياسية، إلى جانب كون كل من العراق وسوريا جزءاً من الفضاء الحيوي للمصالح الإقليمية المتشابكة في وقت باتت هذه المصالح مهددة كما قلنا بفعل صعود داعش.

باختصار تركيا مع أردوغان في قصر شنقاي الرئاسي دخلت مرحلة جديدة من التشكل السياسي، نظاما وهوية، وهذا أمر يعني المحيط الجغرافي المجاور لتركيا أيضاً، بقدر ما يعني الداخل التركي الذي يترقب خطوات أردوغان لحظة بلحظة.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة