|
|||||||
|
"أتمنى أن أعيش كما يعيش جميع أطفال العالم".."أتمنى أن تنتهي الحرب لكي نتمكن من العودة إلى المدرسة".. "كنتُ في بيت جدي، وسمعت صوت قنابل فركضتُ بعيداً.. رأيت البيت وهو يُقصف، وتحطمت النوافذ والباب.. لقد ذهب كل شيء، ولم يعد هناك منزل".. بهذه الجمل المعبرة يتحدث أطفال غزة على شاشات الفضائيات عن مشاعرهم.. عن حكاياتهم المأساوية وأمنياتهم الإنسانية العديدة والصغيرة حيث أصيب الأطفال -حسب تقارير منظمة "اليونيسيف"- بصدمات نفسية إلى درجة أنهم لم يعودوا قادرين على الكلام. وعند النظر إلى الأبحاث التي جرت أثناء الحصار الصهيوني للقطاع، نجد أن ممارسات الاحتلال القمعية كان لها الأثر البالغ في ظهور العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية، الناجمة عن زيادة وتيرة العنف، وارتفاع معدل البطالة، والمشكلات النفسية المختلفة لدى الأطفال والنساء والرجال على حد سواء، ومنها زيادة معدلات القلق والاكتئاب وكرب ما بعد الصدمة والمشكلات السلوكية والانفعالية لدى الأطفال حتى أصبحت البيئة الفلسطينية خليطاً من الحرمان والفقر والعنف والشعور بالعجز واليأس، وقد أدت هذه المشاعر إلى مزيد من العنف والتحدي والتطرف والشعور بالتهميش، التي من المتوقع أن تترك نتائج كارثية على الصحة النفسية للأجيال القادمة من الشعب الفلسطيني فماذا يُنتظر من صغار وجدوا آباءهم وأمهاتهم قد تحولوا إلى أشلاء ممزقة، وبيوتهم ومزارعهم قد صارت خراباً؟ ماذا يُنتظر من هؤلاء الأبرياء؟ وما شعورهم بعد أن شاهدوا موت أهليهم من الجوع والعطش، وجيرانهم من الحرائق والدخان؟ وما وقع انفجار القنابل الهائلة حين قُذِفت، وزلزلت البيوت حين هُدمت على عقولهم ونفوسهم؟ ما تأثير كل ذلك عليهم؟ وما حجم ردود أفعالهم بعد أن صاروا بلا بيت، ولا أهل، ولا حضن، ولا طعام، ولا مدرسة، ولا لعبة، ولا كرة، ولا كتاب؟ بعد أن هدم العدو كل أحلامهم الصغيرة، ودهس كل أفكارهم عن الحياة، وبقيت رائحة الموت والدم والعرق تزكم أنوفهم الدقيقة والصغيرة؟! هذه الأسئلة وغيرها الكثير تحتاج إلى دراسة دقيقة وبحث مستفيض للوقوف على حجم تلك المآسى، وإيجاد حلول عاجلة لها قبل أن تتفاقم وتتحول إلى كارثة إنسانية يتحمل نتائجها العالمُ أجمع. أنماط حياة جديدة بينت دراسة حديثة أجراها د. سمير قوته رئيس قسم علم النفس بالجامعة الإسلامية في غزة، حول الحصار وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية وعلاقتها بجودة حياة الأسرة الفلسطينية، أن تأثيرات الحصار السلبية طالت مختلف نواحي الحياة، وأثرت على المجتمع بصورة بالغة، فقد أجبر الحصار الصهيوني نحو 84% من الأُسَر الفلسطينية على تغيير أنماط حياتها، فيما تنازل 93% منهم عن المتطلبات المعيشية اليومية، وعبّر 95% من أفراد الأُسَر في غزة عن استيائهم البالغ لتحويل القطاع إلى "سجن كبير" يقيمون فيه طوال الليل والنهار! فمستقبل الأسرة الفلسطينية - حسب الدراسة - في خطر حقيقي في ظل استمرار الحصار الذي تسبّب في رفع درجة التوتر واليأس وعدم الاطمئنان للمستقبل لدى المواطنين، كما سجلت الدراسة مؤشرات سلبية خاصة على الأطفال والمرضى والطلبة والعاطلين عن العمل بما انعكس على سلوكهم. تبين الدراسة أن للأطفال نصيبهم الوافر جراء هذا الحصار؛ ولكن بصورته السلبية على أوضاعهم الصحية والاجتماعية والنفسية، فقد أظهرت النتائج أن 51% من الأطفال لم تعد لديهم الرغبة في المشاركة في أية نشاطات تُذكر، كما أن 47% منهم لم يعودوا قادرين على أداء الواجبات المدرسية والعائلية، فيما بدأت الأوجاع تغزو أجساد 41%، وأصبح 48% منهم يعانون من انخفاض الطاقة لسوء التغذية، ولم تتوقف حدود معاناة الأطفال جراء الحصار عند هذا الحد، فبدت علامات الخوف على 61% منهم، أما مشكلات النوم فيشتكي منها 43% من الأطفال، وكذلك أصبح 63% منهم لديهم أعراض القلق، وبسبب أوضاع الحصار القاسية على الأطفال بلغت نسبة التغيُّب عن المقاعد الدراسية 40%، بينما يعاني 50% من الطلبة غير المتغيِّبين من مشكلات في التركيز خلال الدراسة. وفي نفس المجال، قدم البروفيسور فضل أبو هين من جامعة الأقصى في غزة دراسة علمية أخرى حول المشكلات السلوكية والعاطفية في ظل الحصار، أُجريت على 2286 طفلاً من محافظات غزة، تتراوح أعمارهم بين 8 و14 عاماً؛ حيث أظهرت أن ثلثَيْ الأهل يعانون من الضغط النفسي ويتعاملون بعنف فيما بينهم ومع أبنائهم، كما أظهرت ارتفاع معدلات القلق والتوتر ومشكلات الدراسة، والمشكلات السلوكية، والشعور بالإحباط لدى الأطفال. وفي بحث آخر عن تأثير هدم البيوت على الصحة النفسية للأطفال الذكور في القطاع، أشار الدكاترة ثابت وأبو طواحينة والسراج إلى التأثير المباشر على تطور كرب ما بعد الصدمة والمخاوف.. وقد توصلت الدراسة إلى أن متوسط التعرض للأحداث الصادمة عند الأطفال تبلغ نسبته 9.4%. ولوحظ أن أكثر أحداث تعرض لها الأطفال هي مشاهدة مناظر وصور الجرحى والشهداء في التلفزيون وسماع القصف المدفعي للمناطق المختلفة من قطاع غزة بنسبة 95.6% وأظهرت الدراسة أن ثلث الأطفال تعرضوا لصدمة نفسية شديدة، و60% منهم تعرضوا لصدمة نفسية متوسطة، و7% تعرضوا لصدمة نفسية بسيطة، أما بالنسبة لكرب ما بعد الصدمة فقد تبين أن ثلثي الأطفال يعانون بدرجة متوسطة، و15.6% يعانون بدرجة خفيفة، و20% يعانون بدرجة شديدة، واتضح أن أكثر المخاوف شيوعاً هي الشعور بالخوف عندما تتكلم المعلمة بصوت عالٍ بنسبة 66.7%, ويليه الفزع والصراخ عند مشاهدة أو سماع صوت طائرة في الجو بنسبة 64.4%. بعد ذلك تبرز عدة تساؤلات مهمة تطرح نفسها في هذا الإطار: ماذا عن جيل الأطفال الذي يعاقب جماعياً؟ وكيف ستكون علاقتهم بالمجتمع الخارجي حين يصبحون شباباً ورجالاً صناعاً للقرار في مجتمعهم؟ وكيف سيخاطبون وينظرون إلى العالم الذي تخلى عنهم وزادهم غربة وانعزالاً؟ وكيف سيعاملون عدوهم الذي أذاقهم الويلات؟ إن ما حدث صرخة مدوية لعلها توقظ الضمير العالمي الغافل وتثير شعوره بالعار لسكوته على الجرائم الصهيونية التي لم يسبق لها مثيل. الرسم لمواجهة الصدمة عندما يطلب من طفل من أطفال غزة رسم شيء ما، يمكن أن تكون النتيجة صورة منزل تقصفه طائرة إسرائيلية. في قطاع غزة، يحاول آلاف الأطفال التغلب على صدمات الحرب، لكن الموارد تبدو شحيحة. في مدرسة في جباليا، شمال القطاع، تحولت إلى ملجأ للنازحين توزع المعلمات المختصات أقلام تلوين، وأوراقا على مجموعة من الأطفال الخائفين ويطلبن منهم رسم ما يدور في خيالهم. جمال دياب (9 سنوات) رسم صورة لجده الذي قتل وكتب تحتها "أنا حزين بسبب الشهداء". يقول الطفل الخجول وهو يعرض رسمه، "قبل أيام قصفت الطائرات منزلنا، اضطررنا للذهاب، بسرعة وترك كل شيء". الطفل براء معروف (7سنوات) رسم أيضا جده بلا ساقين إثر إصابته في غارة إسرائيلية. وفي الغرفة، تتكرر نفس الصور، الجميع رسم طائرة في السماء تقصف منزلا وكلها كتب عليها "أريد العودة إلى بيتي". وتسأل المعلمة الأطفال الجالسين على حصيرة "من يخاف من الطائرات؟: فتتعالى الأصوات وترتفع الأيادي ليقول الجميع: "أنا، أنا، أنا". تقول الطفلة اعتماد صبح (11 عاما) "أخاف من الصواريخ والطائرات، أكثر من نصف منزلنا تهدم فتركناه وجئنا إلى هنا". تقدر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) بنحو 300 عدد الأطفال الذين قتلوا منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة في 8 من يوليو الماضي. الذين ما يزالون على قيد الحياة يحاولون استيعاب الأمور وعدم كتمان خوفهم من أعمال العنف التي عاشوها أو سمعوا بها. في جباليا، يتوالى الأطفال على ورش الرسم هذه لمدة نصف ساعة حيث تطلب منهم المعلمات القفز في مكانهم مع إطلاق صرخة وضرب اليدين لمطاردة الأفكار السوداء والإحباط والتوتر المتراكم. ويشرح الطبيب النفسي إياد زقوت الذي يدير البرامج المجتمعية للصحة النفسية التابعة للأمم المتحدة في غزة أن "هؤلاء الأطفال يعيشون تجربة قاسية.. من الصعب عليهم حقا أن يفهموا ماذا يحدث ولماذا اضطروا للهروب من منازلهم والعثور على مكان آخر ليعيشوا فيه، ولماذا شاهدوا تلك المشاهد المؤلمة.. لذلك نتركهم يعبرون عن مشاعرهم". وأضاف "كثيرا ما تسبب الأحداث الصادمة تشويها معرفيا. الطريقة التي يرون بها ما حدث قد تكون مجتزأة.. يمكن مثلا أن يلوموا أنفسهم أو جيرانهم وهذا ما يمكن أن يكون مضرا للغاية بهم... لذلك نحاول منع هذه الأفكار السلبية"، مؤكدا أنه تم تشخيص حالات من متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة وحالات اكتئاب مراهقة. ولكن من الصعب المضي قدما في العلاج النفسي في قطاع غزة حيث فر نحو ربع السكان أي نحو 460 ألف شخص من منازلهم ولجأوا إلى منازل أقاربهم أو إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). إذ لا يوجد سوى أقل من مئة معلم لـ “معالجة” مئات الآلاف من الأطفال. وباستثناء الحالات الخطيرة، فإن الأطفال لا يستطيعون الحصول على لقاءات خاصة مع الأطباء النفسيين وعلماء النفس للحصول على مساعدتهم ناهيك عن المتابعة. وكانت إسرائيل شنت عمليات عسكرية سابقة في القطاع عامي 2008-2009 وفي العام 2012 لكن الآثار الناجمة عن هذه المواجهة الأخيرة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية قد تكون أخطر. وبحسب اليونيسيف فإن 326 ألف قاصر وطفل بحاجة إلى الرعاية النفسية في قطاع غزة. وبينما يستطيع أطفال ومراهقون من الذين نزحوا إلى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة مواصلة حضور ورشات عمل جماعية، فإن هناك مئات آلاف غيرهم من الأطفال الذين تأثروا بالحرب ما يزالون يهيمون على وجوههم في الشوارع والأحياء المتضررة. سن البراءة والشفافية مهما كان الإنسان قاسياً وعنيفاً ومتهوراً فإنه يقف أمام الطفولة مستسلماً ووديعاً، لا يمكن أن يعتدي عليه أو يسبب له الألم أو الأذى. إلا أن هذه اللغة لا يفهمها جيش العدو الصهيوني، فهو يضع كل قوته لقتل براءة الأطفال. فلا يتورع طياروه عن قصف أطفال أربعة يلعبون ببراءتهم على شاطئ البحر غير عابئين بالحرب التي تجري حولهم، فيقوم هذا الطيار الجبان بوضع إصبعه على زر إطلاق صاروخ أحمق ليقتل براءة الأطفال ليغيض بقتلهم أمهاتهم وآباءهم. يقتلون الأطفال لإجبار الآباء على الاستسلام، في عمل دنيء لا يقوم به عسكري شريف لان قانون العسكرية يمنع ذلك. ويأتي طيار صهيوني آخر فلا يجد تحته من هدف عسكري إلا أطفالاً يلعبون بأرجوحة العيد وضحكاتهم البريئة تشق عنان سماء غزة، فإذا بهذا الطيار العسكري عديم الإنسانية يوجه صواريخ طائرته إلى مرجوحة الأطفال ليقتل ابتسامة الطفولة البريئة ويمزق أشلاءهم الصغيرة إلى أجزاء اصغر واصغر . هؤلاء الأطفال بضحكاتهم البريئة هزموا اكبر جيوش المنطقة، وبضحكاتهم قزموا جيشاً أهدافه أجسادهم. وببراءتهم قهروا جيشاً كان يدعي انه لا يقهر. أما طيارو العدو الأرفع رتبة فإن عملهم العسكري الذي دربوهم عليه هو استهداف المستشفيات وقتل المرضى، وقصف دور العبادة من المساجد والكنائس، لقتل المصلين الذين يتجهون بدعواتهم إلى رب رحيم وإله غفور، لا يعرفه هؤلاء الطيارون، وهو عمل يخجل أي عسكري شريف من ارتكابه. أما جنرالاتهم الكبار فإن دورهم إعلان الهدنة لساعات معينة، وفي أثنائها يأتون بطائراتهم لقصف المتسوقين من النساء والأطفال والرجال دون تمييز. هذه هي غزة هاشم التي يقف أطفالها ببراءتهم أمام جيش "بيت العنكبوت"، ليحجموه أمام أنظار العالم. وليحقروه أمام قيادات جيوش الدنيا كلها التي لا ترى في الموازين العسكرية عمل الصهاينة إلا هزيمة معنوية وخسارة أخلاقية. فمع موت كل طفل فلسطيني يثبت جيش العدو أنه أضعف من الأطفال، وفي كل أعراف الجيوش ضرب المدنيين وبالأخص الأطفال عار على من يحمل سلاحاً لا يستحقه. فهذا أحد الأطفال يبحث عن الأمان فيجده في كيس نفايات فارغ، ربطه على صدره وبطنه، ليكون الدرع الواقي الخاص به ويشعره بالأمان ويقوم بدوره الصحفي كما يحلم، أسوة بالصحفيين الذين يلبسون الستر الواقية، لينقل للعالم مدى وحشية المجازر التي ترتكب في غزة بحق أمثاله من الأطفال. وقال الطفل مخاطبا مراسل الإذاعة السويدية يوهان ماتياس سومارستروم في المكان: "انظر. أنا صحفي وسوف أعدّ تقريراً عن الأحداث هنا، وهذه سترتي الواقية"، ما دفع الصحفي سومارستروم ليلبسه خوذته الواقية، ويلتقط له صورة ويرسلها بتغريدة لتصبح من أكثر الصور المتعلقة بأزمة غزة انتشارا، وتظهر مدى قوة الطفولة الفلسطينية أمام بطش العدوان. وقال سومارستروم في تغريدته "إن العمل في مناطق الحرب والنزاع يتضمن رؤية الكثير من الأمور التي لا يريد المرء أن يراها عادة، كالأطفال القتلى، والأشلاء التي لا يمكن تعريفها، وأولياء الأمور وهم في حالات من الأسى والضياع، والحزن العميق، والبيوت المدمرة". وأضاف "لقد تحركت مشاعري كما لم تتحرك من قبل. إنهم أطفال مثله الذين يُقتلون.. إنه يبحث عن القليل من الأمان". أطفال غزة يبحثون عن الأمان في أي شيء حولهم، يريدون أن يعيشوا طفولتهم رغم عدم وجود أي شيء من مقوماتها، لا مكان ولا أمان، ولا بعض الحاجيات البسيطة أيضاً، في ظل الخوف الدائم. وقال عايد أبو قطيش من "الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال" إن أطفال غزة في بحث دائم عن الأمان والتوازن والدفاعية من قصف مكثف، وفي ظل التهجير والتشريد الذي يعيشونه. هؤلاء أطفال القوة بالفعل، يتحملون رؤية إخوانهم وأصدقائهم أشلاء تدفن أمام أعينهم، ومصابين ومبتوري الأطراف، لا يملكون سريرا آمناً يلجئون إليه وقت النوم، لتباغتهم أحلام الخوف والقصف. وأشار أبو قطيش إلى أن أكثر من 200 ألف طفل فلسطيني داخل قطاع غزة يعانون من الصدمة نتاج الكم الهائل من الاعتداءات، وعمليات التهجير وفقدانهم للأمن والأمان، وهذا سيترتب عليه آثار نفسية على المدى القريب والبعيد، ستؤثر على حياتهم. وقال: ما يجري انتهاك صارخ لكافة حقوق الأطفال، في الحياة والسلامة البدنية واللعب والشعور بالأمن، وغيره، فالأطفال هناك متشوقون للعب والمرح الذي اغتالته الاحتلال. وطالب جميع المنظمات الحقوقية والمجتمع الدولي بالوقوف إلى جانب أطفال غزة ومساعدتهم. وأشار الصحفي محمد عثمان من غزة إلى صعوبة ضبط الأطفال داخل مسكن ومنعهم من الخروج فترة طويلة تقترب من الشهر. الأطفال حياتهم اللعب، وهو كل شيء بالنسبة لهم. بعضهم يتسلل إلى مناطق يظن أنها آمنة للعب كرة قدم في أماكن ضيقة، وبعض الألعاب كألعاب الحرب والانتصار، فهم يقلدون في ألعابهم ما يعيشونه في الواقع. وأضاف: فقدنا الأمان كما الأطفال حتى داخل منازلنا. نتوقع هبوط القذائف علينا في أية لحظة. وحصد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خلال أربعة أسابيع أرواح 400 طفل، وأدى إلى إصابة ثلاثة آلاف آخرين. كما تم استهداف 167 مدرسة وأصبحت غير صالحة للاستخدام ما يهدد حق الأطفال بالتعليم أيضاً. وخلال 28 يوماً من العدوان قضى الاحتلال الإسرائيلي على مقومات الحياة للأطفال الفلسطينيين. وحتى من ابتعدوا عن أصوات التفجيرات ومناظر الدمار ورائحة الدماء في كل مكان من المصابين الأطفال، ابتعدوا عن منازلهم وبعضهم عن ذويهم، هم الآن في مستشفيات الضفة الغربية، أمثال شذى وعبد الرحمن، اللذين يظهر الجلد على معالم وجهيهما على الرغم من براءتهما، ومع ذلك فشعور الخوف لا يفارقهما. الصحة النفسية للأطفال عندما وصل عدد ضحايا حرب الكيان الإسرائيلي المفتوحة على قطاع غزة إلى أكثر من 1400 شهيد، وفاق عدد الجرحى الـ8000 جريح، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، أطلّ علينا مشهد الحرب في غزة من نافذة أخرى، إذ أصبحت خليطاً عجيباً من الفقر والشعور بالعجز واليأس والفقدان والألم، ما يشير إلى نتائج كارثية في القطاع وعموم فلسطين على الصحة النفسية للأطفال والأجيال المتلاحقة. صحيح أن آثار الحرب الجسدية والمادية أكبر بكثير من أن يتخيّلها عقل بشري بعدد كلمات مقال، لكن الأخطر والأكثر إلحاحاً هو الوضع النفسي لأطفال غزة أثناء الحرب وما بعدها، فأطفال غزة يعيشون لحظة بلحظة صدمات ستظهر نتائجها فعلياً في المستقبل القريب والبعيد. فبعد مشاهد الجرحى والشهداء وأصوات القصف المدفعي والجوي للبيوت والمدارس والمستشفيات والشوارع، عدا قصف الكيان "الإسرائيلي" بيت الطفل الذي يشكل أساس الأمان في نظره وفقدان أهم ملامح تكوين شخصيته بأغراضه الشخصية وملابسه وكتب دراسته وألعابه، أو فقدان أحد والديه أو كليهما، بالإضافة الى شعوره الدائم بالحرمان من الكثير، وخاصة الأمان والحاجات الإنسانية البسيطة من مسكن وسواه. كبر أطفال غزة في هذه الحرب قبل أوانهم، ونحتاج بجهود حثيثة إلى سنين طويلة لترميم هذه الفجوة النفسية العميقة، ففي دراسة أولية بلغ عدد شهداء غزة أكثر من 1400 شهيد، وبينهم ما يزيد على 220 شهيداً من الأطفال، وأكثر من 8000 جريح، أي أن خمس الشهداء والجرحى هم من الأطفال، ما يشكل اكتمالاً لعناصر الصدمة النفسية في المشهد الدامي في غزة، بحسب اختصاصيين نفسيين يعملون في القطاع. ويؤكد عبد الكريم عادل المتخصص في علم النفس من غزة، إن حال الصدمة مركبة إذ تشمل أصوات تفجيرات وطائرات حربية ومشاهد دماء ودمار، وجرح أحد الوالدين أو وفاته وفقدان صديق أو تهدم المنزل أو الإصابة الذاتية بأذى، وهذا بحسب عبد الكريم عادل مشهد مركب ومتكرّر على مدى أيام متتالية أثناء الحرب الهمجية التي يشنّها كيان الاحتلال على غزة. ويوضح عادل أن الصدمة النفسية التي تصيب أطفال غزة تترافق مع اضطرابات صعوبة التأقلم النابعة من عدة ظروف، مثل فقدان الأهل والمدرسة وفقدان الأمان، ما يعني للصدمة تبعاتها القريبة جداً، ولن تنتهي بوقف الحرب، وهذا يدلّ على صعوبة الموقف وضرورة التدخل الإنساني العاجل في القطاع، فذاكرة الطفل ستظهر بعد فترة قصيرة من الزمن على شكل رهابات أو خوف أو اضطراب في الشخصية، أو اضطرابات في السلوك وعدوانية شديدة. ويرى عادل أن أطفال غزة الآن في حالة ارتباك شديدة بعد انكسار مفهوم الموت الذي كان سائداً في أذهانهم، مبيناً أن الأطفال في الفئة العمرية من خمس إلى عشر سنوات يعتقدون أن الموت لا يصيبهم ولا يصيب الأطفال في عمرهم ولا يصيب أحباءهم، ما يستدعي تدخلاً نفسياً عاجلاً من خلال برنامج نفسي لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة ومن أنشطة التفريغ النفسي، إذ تبين من خلال المقابلات الإرشادية والجلسات مع الفئة المستهدفة بالدعم النفسي أن ثمة تراجعاً عاماً في معدل الصحة النفسية لدى الأفراد من مختلف الأعمار، وأن الناس مصابون بحالة من الاكتئاب واليأس النفسي إلى درجة متقدمة إذ لا يستخدمون مدلولات الحياة اليومية، الناس هنا لا يعيشون، بل ينتظرون فحسب دورهم موتاً، استناداً إلى أقوالهم في إحدى الجلسات الإرشادية في مراكز الإيواء. ويستشهد عادل بإحدى الأمهات إذ تقول "فقدت جميع أولادي، وأنتظر الالتحاق بهم". ونتيجة لذلك، يشير عادل إلى دراسة تُظهر أن أكثر من 95% من الأطفال في مراكز الإيواء يحتاجون إلى علاج ورعاية نفسية متقدمة، إذ لديهم مفاهيم عدوانية خطيرة. بينما تشير دراسة أخرى إلى أن أكثر من90% من الأطفال، وبخاصة الإناث، لديهم حالات تبوّل لا إرادي ليلي، وهذا ناتج من حالات الخوف الشديد والرعب التي يعيشونها ليلاً، وتؤكد دراسة ثالثة أن أكثر من 30% من الأفراد يرفضون تناول الحاجات الأساسية داخل المراكز مثل وجبات الطعام اليومية، ما يدلّ على خطورة الحالة النفسية لديهم. فيما يعاني عدد كبير من الأطفال حالات من شرود الذهن العام وهذا منتشر لدى ألوف من الأطفال، فالأطفال لا يظهرون بقدراتهم العادية خلال الأنشطة اليومية. ويناشد عبد الكريم عادل المنظمات الدولية والإنسانية التدخل السريع في غزة، عن طريق أفراد وطواقم مدرّبين ومجهزين علمياً، كون الأفراد عامة، وفي مراكز الإيواء خاصة، يحتاجون إلى علاج نفسي على أيدي اختصاصيين نفسيين ماهرين للخروج من حالة الاكتئاب النفسي وحالة الدمار الشعوري، كي يتمكنوا من استئناف حياتهم على نحو شبه طبيعي، إذ من المؤكد أنهم لن يستأنفوها البتة على نحو طبيعي. باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) |
||||||