|
|||||||
|
لم يجد نتنياهو إجابات شافية لحجم التساؤلات التي تعرض لها حول الأهداف التي أحرزها من خلال العدوان على غزة وعن عدم تقدم قواته براً في عمق غزة، لذلك نجد أن نتنياهو قد اتخذ قراراً بالانسحاب من جانب واحد لقطع الطريق أمام تلك التساؤلات وتبريره الانسحاب بتدمير الأنفاق في غزة وتدمير البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية والتي ما زالت صامدة في وجه الترسانة الإسرائيلية ومواصلتها قصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ.. ولكن من ناحية إحراز انجازات سياسية فإن نتنياهو قد حقق مكاسب سياسية تتلخص في عدم تأثر العلاقات الإسرائيلية العربية بفعل العدوان على غزة بل زادت متانة ودليل على ذلك صمت الدول العربية على جرائم الاحتلال وبالمقابل تدهور العلاقات الدبلوماسية مع معظم دول أمريكا اللاتينية التي قررت سحب سفرائها وطردت السفراء الإسرائيليين من بلدانها. إن قرار "الكابينت" الانسحاب من طرف واحد مراد منه تفويت الفرصة على المقاومة من إعلان النصر على الجيش الذي لا يقهر، ومن ناحية أخرى أرادت إسرائيل توجيه رسالة إلى العالم والأمم المتحدة بأنها صاحبة القرار في الميدان وهي التي تحدد متى يمكن أن تقف المعركة وهذا ما لاحظناه بعد أن خرقت الهدنة التي تم الاتفاق عليها من جميع الأطراف بقرار أممي أعلنه بان كي مون وجون كيري، حيث شنت هجومها المسعور على محافظة رفح متحججة باختطاف ضابط إسرائيلي وما نفته المقاومة على الفور وارتكبت على أثرها مجازر بشعة بحق سكان رفح لم يتم حصر أعدادهم حتى اللحظة، باعتقادي ومن المنظور السياسي للنتائج المرتقبة للعدوان فإن نتنياهو يخشى من مصير سياسي سيء بل كارثة سياسية ربما تصل إلى فقدانه منصبه كرئيس للحكومة الإسرائيلية ناهيك عن المساءلات حول تحقيق الأهداف التي شن العدوان لإحرازها. الفشل هو العنوان الأبرز ذكر موقع "nrg" الإسرائيلي إن توتراً شديداً ساد العلاقات بين قيادة الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي على خلفية العدوان على قطاع غزة، واتهم المستوى السياسي الجيش بأنه لم ينجح في تنفيذ المهمات الملقاة على عاتقه. ونقل الموقع عن مصادر وصفتها بأنها قريبة من دائرة صنع القرار أن قرار سحب القوات اتخذه المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية (الكابينيت)، منتصف الأسبوع المنصرم وليس ليلة السبت كما هو متداول في الإعلام. وأضافت أنه في ختام مداولات طويلة ليلة الأربعاء قرر الوزراء تخويل رئيس الحكومة ووزير الأمن باتخاذ قرار بإعادة انتشار الجيش. ونقل عن مصادر سياسية قولها إن الثمن الاقتصادي والرغبة في التقليل من خسائر الجيش قادت قرار الانسحاب. مشيرة إلى أن خيار احتلال قطاع غزة لم يستبعد نهائياً، لكن في هذه الفترة ينبغي منح فرصة للعملية السياسية. مضيفة: حينما يتضح أنه لا طريق لإعادة الهدوء بالوسائل السياسية، لن يكون مناص من احتلال قطاع غزة، على الرغم من ذلك فإن قراراً من هذا النوع يتطلب جهوداً دبلوماسية هائلة. وأضاف الموقع: باتخاذ القرار بالانسحاب يكون الكابينيت قد تبنى توصيات المنظومة الأمنية التي قدمها رئيس هيئة الأركان. فبعد أن عرض الجيش الخيارات والإمكانات قدم توصياته. وبحث الوزراء كافة الخيارات وقرروا في نهاية المطاف تبني توصيات المنظومة الأمنية. وأشارت إلى أن تصريحات أحد كبار الضباط وقوله إنه يتطلب للجيش أسبوعاً واحداً لاحتلال قطاع غزة وتقويض سلطة حماس، أثارت غضباً شديداً في أوساط المستوى السياسي. ووصف مسؤول سياسي هذه التصريحات بأنه "مضللة" وقال إن تقدير الموقف الذي عرضه قادة الجيش على الكابينيت كان مختلفا تماما عما يشير إليه الضابط المذكور، حيث تحدث مسؤولو الجيش أن السيطرة على قطاع غزة وتقويض حماس على غرار حملة السور الواقي تتطلب شهوراً طويلة، قد تمتد لسنة أو سنتين. ويقول المسؤولون السياسيون: "السؤال الذي يجب أن يطرح؛ كيف فشل الجيش في تنفيذ المهمة المحدودة التي ألقاها على عاتقه المستوى السياسي، وهي استعادة الهدوء. في اختبار النتيجة ينسى الجيش أنه أوكل إليه استعادة الهدوء". وأشاروا إلى أن "رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو غير راض من النتائج التي حققها الجيش". يقولون في العالم إن إسرائيل لها سلاح ذري، ويتفاخرون في إسرائيل بأن الجيش الإسرائيلي هو أقوى جيش في الشرق الأوسط وبأن سلاح الجو هو الأفضل في العالم كله. وسواء أكان ذلك أسطورة أم واقعاً فإنه لا تأثير مباشراً لكل ذلك في عملية "الجرف الصامد" على حماس في غزة. فالذي يحدد هناك هو فقط القوة التي تبتغي هدفاً، وهي ذلك المقدار من القوة من الاحتياطي الضخم الذي تختاره إسرائيل أو تضطر إلى استعماله بقدر ما من النجاعة. وهذا صحيح في المسائل الكبرى من سياسة استعمال القوة وفي المواد النقطية للصدام الحربي. فلا يهم عدد المركبات المدرعة للفرق العسكرية وفي وحدات مستودعات الطوارئ؛ بل المهم أنه في لحظة مصيرية واحدة تُرسل ناقلة جنود مدرعة قابلة للإصابة إلى خطر تحقق. إن الشريك الصامت للآلة العسكرية الهادرة هو جهاز الأمن العام "الشاباك". فـ"الشاباك" هو جهاز استخباري وقائي. وعلة وجوده الأمن الفعال الذي توجهه المعلومات الاستخبارية. وقد اختل هذا الهدف الأساسي على مر الزمن وحول "الشاباك" إلى مشرف على الاحتلال. تقع عليه مسؤولية زائدة هي التحذير في المناطق التي يفترض وجود السلطة الفلسطينية فيها على اختلاف مناطقها – الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس. وهي ليست كيانات مستقلة من جهة أمنية لا من جهة سكانية فقط. وتعمل فيها وخارج البلاد في مواجهة إسرائيل نفس المنظمات مع نفس القيادات ونفس الجماهير المستهدفة. وليس "الشاباك" وحده هو الذي يتابع ما يجري في الساحة الفلسطينية، فهناك تجتمع أيضاً "أمان" وقيادة منطقة الوسط، ومنسق العمليات في المناطق، وقيادة المنطقة الجنوبية، والموساد والشرطة. لكن له أسبقية يشتد حرصه على حفظها. كان نجاح "الشاباك" معقولاً وإن يكن بعيداً عن الكمال في الظروف القاسية في العقدين السابقين ما بقي من الواجب عليه أن يسبق إلى التعرف على تنظيمات للتخطيط لعمليات وتنفيذها، والتحذير واستصراخ قوات الأمن الأخرى كي تفسد التدبيرات. لكن "الشاباك" أضاع المعنى الحقيقي للتطورات في غزة منذ 2005 - 2007 وهي الفترة المشكلة للواقع الجديد، وكان فيها جلاء الجيش الإسرائيلي عن تلك المنطقة، وفوز حماس في الانتخابات وسيطرتها على غزة. فلم تعد حماس منظمة إرهابية تنفذ عمليات بل أصبحت تعمل كجيش صغير في دولة صغيرة. ولم تعد الأنفاق التي تفضي عشرات منها إلى إسرائيل في التوجه المُحدث، لم تعد مجرد شق في الجدار تحت الأرض بل ما أصبح من المعتاد تسميته في الجيش الإسرائيلي "شق مجال"، وهذا بُعدٌ جديد في القتال يشبه غواصات برية لكونها وسيلة لنقل قوة مقاتلة للهجوم على خط تماس الجيش الإسرائيلي من الخلف مثل وسائل ملاحة تحت البحر خفية أو مثل المروحيات المصرية التي أُرسلت لإنزال قوات شرقي قناة السويس في حرب يوم الغفران. فهذا تسلل وحدات لا أفراد؛ وهذه قوة صاعقة لا عصابة مسلحة. في مواجهة هذا العدو الذي يعمل على هذا النحو يُحتاج إلى قدرات استخبارية تعوز المنظمة التي تفخر باستعمال عملاء لإحباط عمليات. إن رجال هذا الجهاز مخلصون ويعرضون أنفسهم للخطر، لكن ليس "للشباك" أي ميزة نسبية في إنتاج المعلومات الاستخبارية الحربية وقت القتال الذي يحتاج إلى مهارات (واتصال) مختلفين. وليس مسار التقدم من دور مُركّز إلى رئيس منطقة ورئيس جهاز من نوع القضية التي نبحثها هنا؛ بل يُحتاج كما هي الحال في "أمان" إلى قائد يأتي من واقع العمليات ويكون مصغيا إلى حاجاته. وإن رئيس "الشاباك" يورام كوهين بخلاف الحال في "أمان" حيث يخضع رئيسها لثلاثة منهم رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع، ليس له، وهو الذي يتحصن في قلعته، إلا خضوع مباشر لبنيامين نتنياهو وحده. فكلاهما، أي كوهين ونتنياهو، مسؤول عن فشل "الشاباك" في غزة. غياب الزهو العسكري في المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير حربه موشيه يعالون - ليل السبت ٢ آب/ أغسطس ٢٠١٤. لاحظ المحللون للغة وإشارات الجسد أن إشارات قوية لغياب التوافق بين المنطوق والواقع، قد تخللت المؤتمر الصحفي الذي تجرّد تماماً من التقاليد السياسية - العسكرية الإسرائيلية في إظهار الزهو العسكري. لقد تحدث نتنياهو ويعالون بعيون خفيضة، وكشفت طريقة خروج كليهما من المنصة عن مشاعر إحباط أو هزيمة. إنّ ارتكاز نتنياهو بذراعيه على المنصّة أتاح له إظهار التماسك، وضبط انفعالات يديه بما حيّدها عن أن تبعث بتعبيرات كاشفة لحالته المعنوية. لكنّ ذلك وحده ليس كافياً. فقد ظهر نتنياهو في حالة من الحيرة وعدم اليقين بشأن مآلات الأيام القادمة، وهو ما عبّرت عنه حركات رأسه السريعة وتقلّباته البصرية المتلاحقة. تُضاف إلى ذلك مبالغته في رفّ الرموش بما تنبئ عنه من تردد وإحجام وربما هيمنة الوجدان الانسحابي عليه. يمكن فهم ذلك على أنه نوع من القلق أو افتقار إلى الطمأنينة. والدلالة الأخرى لذلك هي العجز عن مواجهة الجمهور، لأنّ ما يقوله نتنياهو يتباين مع الواقع الذي يراه. وما يعزِّز هذا أنّ نتنياهو نجح في تثبيت نظره وحركاته في مقطعين من مؤتمره الصحفي أساساً، أولهما حديثه عن الألم وثانيهما إظهاره الوعيد. ففي حديثه عن الألم ومشاطرته ذلك مع أسر قتلى جيشه، توافق نتنياهو مع مشاعره الحقيقية ونجح بالتالي في ضبط حركة الرأس والعيون. فقد استطاع بهذا أن يواجه الجمهور بشكل ثابت لثوانٍ وحسب وهو يتحدث عن ألم أسر القتلى من قواته. المقطع الثاني من الثبات النسبي جاء خلال حديثه عن "استمرار العملية"، وهنا انتقل نتنياهو إلى أسلوب مغاير تماماً في الظهور على المنصّة مستدعياً خبراته في الأداء الخطابي منذ عمله الدبلوماسي واحتكاكه الوثيق بالبيئة الأمريكية. هنا حاول نتنياهو إظهار التصميم من خلال حركة اليد بطريقة آليّة مفتعلة لم تأتِ منسجمة مع السياق العام لظهوره في المؤتمر الصحفي. برزت في السياق ثلاث إشارات فائقة الدلالة في ظهور نتنياهو الليلة. الإشارة الأولى أنّ عيونه كانت دامعة بعض الشيء وإن لم يكن هذا بادياً من بعيد. والإشارة الثانية جاءت عندما وصف أداء قواته بأنه"مثير للإعجاب" لكنه اضطرّ مباشرة إلى حكّ وجهه، وهي إشارة لم تحضر سوى في هذه اللحظة بالذات، بما يمثل تعزيزاً لوضعية الافتقار إلى المصداقية. وثالثاً أنه تحدث عن أنّ جيشه يُبدي "بطولة وجرأة" لكنه لم يتمالك نفسه فاندفع تلقائياً إلى الضغط على الشفاه، وهو ما يُسفر عن حالة ألم وإحباط وحسرة. كما أن يعالون بدا متجهماً مثل نتنياهو، لكنه محدود الانفعالات بطبعه من واقع تجربته العسكرية. وتكفي ملاحظة خروجه من منصّة الحديث مطأطئ الرأس في حالة من التقلص التي تشي بالانكسار. وما يلفت الانتباه بصفة خاصة أنّ يعالون تحدث عن "الإعجاب" بجنوده، فجاءت تعبيراته فاترة للغاية ومشبّعة بإشارات الألم المستتر، مع خفض رأسه موارياً نظرة منكسرة. لقد أكد ظهور يعالون بعد حديث نتنياهو أنّ الغائب الأول عن هذا المؤتمر الصحفي هو الزهو العسكري في أيّ من أشكاله وتعبيراته. إلى ذلك أكد "عودي بلانغا" الخبير الإسرائيلي في شؤون الشرق الأوسط، أنه من غير المعقول استمرار العملية العسكرية على قطاع غزة، واصفاً ذلك بالوهم الذي ترغب به حركة حماس من أجل إثبات قدراتها على مواصلة القتال وجر الجيش الإسرائيلي وتكبيد القوات المزيد من الخسائر. وأضاف: "بقاء الجيش في قطاع غزة نقطة ضعف ويؤثر سلباً على الجمهور الإسرائيلي"، وقال: "لا أرى منطقاً للبقاء هناك أو حتى إنشاء حزام أمني على حدود القطاع لأن القوت ستصبح هدفاً للمقاومة، وستستغل حركة حماس ذلك من أجل مواصلة القتال". وبشأن نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، قال الخبير الإسرائيلي: إن "نزع السلاح مطلب غير منطقي لأن حماس لن توافق عليه ولن تعترف بإسرائيل"، وأضاف يائساً: "كنا نرغب برؤية ربيع عربي في غزة". وأوضح أن الشعب المصري يتضامن ويرغب بمساعدة ودعم الشعب الفلسطيني ولكن النظام المصري الحالي يكره حماس ويرغب بالقضاء عليها لكنه لا يمتلك القوة للقيام بذلك ويتمنى أن تقوم إسرائيل بهذه المهمة. وبدوره قال العميد في الجيش الإسرائيلي "نيتسان أورئيل": أنه لا يوجد حقيقة، إنشاء لحزام أمني من قبل الجيش الإسرائيلي على حدود غزة، ولكن ما قام به الجيش خلال المرحلة السابقة كان عبارة عن عملية دفاع أمامية لحماية القوات التي تعمل على تدمير الأنفاق. وأشار الضابط الإسرائيلي إلى أنه بعد انتهاء العملية العسكرية من خلال سحب كامل للقوات سيكون هناك إعادة ترتيب للأوضاع على الجدار الحدود مع القطاع وتكثيف تواجد القوات من أجل طمأنة الإسرائيليين في المناطق الجنوبية. وفي حديث ذات صلة استبعد "ألون بيتار" مستشار سابق لمنسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق، إمكانية زرع خلاف بين المقاومة والمجتمع الفلسطيني، قائلاً: إن هذه عملية معقدة ولا أعتقد أن هناك امكانية لتحريك احتجاجات شعبية ضد حركة حماس في غزة. اليوم التالي للعدوان إن ما أرادته حكومة نتنياهو من حربها على غزة في مجمل أهدافها "المعلنة" توفير الهدوء لسكان منطقة النقب الغربي والمركزي ومحيط غزة. على الجيش القيام بكل مهمة تحقق هذا الهدف. لكن الهدف المركزي هو تدمير حركة المقاومة الفلسطينية بكل ثمن، ومهما كانت كلفة ذلك، لفرض أجندة سياسية إسرائيلية على القيادات الفلسطينية، للتوقيع على مزيد من التنازلات عن الأرض وامتيازات لصالح "إسرائيل" ومشروعها التوسعي. إن حكومة "إسرائيل" تعدُّ قطاع غزة منطقة تؤوي "إرهابيين" وفقاً لرؤيتها. وبالتالي فإنها تشكل خطراً على مستعمراتها المحيطة بالقطاع. وترى في غزة لعنة يجب التخلص منها. إن ما احتاجت إليه "إسرائيل" هو ذريعة، مع العلم أنه لا ينقصها اصطناع الذرائع. لكنها اختارت ذريعة الأنفاق واعتبرتها خطراً محدقاً بها. وتصر على تصفية الأنفاق بكل ثمن، حتى خلال الحديث عن اتفاقات التهدئة/الهدنة تصر "إسرائيل" على جعل موضوع تصفيتها وتدميرها للأنفاق، خارج أي اتفاق. والأنفاق معروفة لـ"إسرائيل" من فترة طويلة، وهذا ليس بالسر بالمطلق. وبالتالي فإن كل القطاع هو عبارة عن شبكة أنفاق، وهذا يعني تدمير كل القطاع، مجازياً. ولكن فعلياً هذا ما تقوم به "إسرائيل"، على الأقل في المناطق الشرقية من القطاع بموازاة الحدود مع "إسرائيل". وبالتالي إيجاد منطقة أو نطاق فارغ بعد تدمير آلاف البيوت وجرف الأرض، كجزء من محاولة ضمان عدم تحرك أي فلسطيني في هذه المنطقة. لكن هذه المنطقة المفرغة كلياً من الفلسطينيين لن تضمن أي أمن واستقرار لسكان المستعمرات المحيطة بالقطاع. إن صمود المقاومة في غزة لفترة طويلة، لم يكن متوقعاً من قبل المستويين السياسي والعسكري، وبالتالي فقد خلط الأوراق في المحافل السياسية في "إسرائيل"، وبخاصة لدى أوساط صناع القرار. لذلك انقسم صناع القرار، وهم ما يطلق عليه في "إسرائيل" بـ"الكابينيت"(مجلس الوزراء المصغر)، والذي يضم رئيس الحكومة ووزير الجيش ووزير الخارجية ووزراء آخرين من الائتلاف الحكومي، إلى معسكرين: الأول يقوده نتنياهو ووزير جيشه، والثاني يقوده ليبرمان وزير خارجية "إسرائيل" ووزير الصناعة بينيت من البيت اليهودي. وهذا يعني صراعاً داخلياً في الكابينيت بين اليمين (نتنياهو وحزب الليكود)، وبين اليمين المتطرف (ليبرمان وحزبي إسرائيل بيتنا والبيت اليهودي). وكذلك فإن حكومة نتنياهو منقسمة على نفسها جوهرياً وضمنياً ولكنها تحاول حتى الآن ألا تُظهر هذا الأمر علناً، وإن كان سيأتي اليوم الذي تظهره. إن نتنياهو لا يريد توسيع العملية الحربية أكثر مما هو مخطط لها مسبقاً. لكنه أسير حزبين يمينيين متطرفين جداً يرغبان في أن يحتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة من جديد ويقضي نهائياً على المقاومة. خلال مجريات الحرب على غزة ومن بعدها ستظهر الشقوق في أرضية الائتلاف الحكومي، وذلك على خلفية "لعنة غزة". وستتسع هذه الشقوق وتشهر السيوف بين أعضاء الائتلاف من الأحزاب السياسية التي تُكونه. وبالتالي سيؤدي هذا إلى: تفكك الحكومة والتوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة، أو عرقلة سير أعمال الحكومة الإسرائيلية على يد معارضة اليمين المتطرف. قد يستغل نتنياهو مكانة الجيش كغطاء لضمان استمرارية حياته السياسية، بحيث يؤكد على أهمية دور الجيش في الحفاظ على الكيان، وأنه أي الجيش فوق كل الاعتبارات وأنه هو قد عمل بالتنسيق مع الجيش. لكن في "إسرائيل" السياسة تأخذ مجراها المختلف في حالة اللا حرب. بمعنى أن معارضي نتنياهو قد دعموه في الحرب، ولكن بعد الحرب سوف يشهرون سيوفهم وخناجرهم عليه. وعلى الرغم مما سبق فإن نتنياهو سيواجه عقبات كثيرة في متابعة مسيرته السياسية. ولن يكون من السهل عليه مواجهتها. فقد بدأت ترتفع أصوات كثيرة في الأيام الأخيرة قبل إعلانه عن وقف العمليات الحربية من طرف واحد، تشير إلى إخفاق إسرائيلي في معالجة الأنفاق والصواريخ وسلاح المقاومة، وخاصة سؤال إخفاق المخابرات بكل مستوياتها في معرفة ما يجري بالتمام والتفاصيل في غزة. وهذا عامل مفاجأة لـ"إسرائيل" وجانب لم يتوقعه مخططو هذه الحرب. ويبقى السؤال: كيف سيدفع نتنياهو الثمن؟ ويمكن القول بكثير من الثقة إن المشهد الإسرائيلي يعيش مخاضاً صعباً، تتجاذبه جملة من التناقضات ناجمة عن قراءة كل فريق لنتائج الحرب المسعورة على قطاع غزة، التي تنهش النخب السياسية حتى داخل مكونات حكومة الائتلاف الحاكم، وبين الحكومة والمعارضة، وحتى بينها وبين قطعان المستوطنين، وفي أوساط الكنيست والشارع الإسرائيلي عموما. رئيس الحكومة ووزير حربه يحاولا الإيحاء من خلال مؤتمراتهما الصحفية، التي يجريانها تباعا، بأنهما "حققا" أهداف الحرب الهمجية، التي أعلنوها على محافظات الجنوب الفلسطينية منذ 28 يوما خلت؛ وبالتالي بات بيبي المنتصر، والممسك بزمام الأمور في الحرب الهمجية، حين يدعي أن حرب حكومته "حققت" أهدافها في تدمير الأنفاق، و"تمكنها" من "إيقاع" هزيمة بفصائل المقاومة، وبرفضها التوجه للقاهرة للبحث في مبادرة الهدنة المصرية، التي وافقت عليها مع الإعلان عنها في مطلع الثلث الثاني من يوليو الماضي، وبطرحها هدف "التخلص" من سلاح المقاومة. لكن المراقب للمواقف المعلنة من وزراء وأعضاء كنيست وقادة عسكريين وأمنيين سابقين وفي أوساط الرأي العام الإسرائيلي من جهة، وبدء الإعداد للجان تحقيق إسرائيلية لمساءلة رئيس الوزراء ووزير حربه ورئيس أركانه وجهاز استخباراته؛ وما تقوم به اذرع المقاومة من عمليات وإطلاق صواريخ من داخل الأنفاق، واتساع دائرة العزلة الإقليمية والدولية لدولة التطهير العرقي الإسرائيلية، وما يعد من استعدادات لمحاكمة قادة الجيش الإسرائيلي والحكومة على حد سواء أمام محاكم دول العالم والمحاكم الأممية، يلحظ أن ما أعلنه بيبي وبوغي لا يمت للحقيقة بصلة. ويؤكد أن الحكومة تعيش مأزقا خطيراً يهدد بقاءها، ويشير إلى أن مستقبل نتنياهو، لن يكون أفضل حالاً من مستقبل بيغن بعد اجتياح إسرائيل للبنان في حزيران 1982. بعض المراقبين، يفترض عكس ما يخلص له المرء، نتيجة قراءته للمزاج العام الإسرائيلي، الذي ينحو نحو المزيد من اليمين والتطرف. معتقدا هذا الميل، بأنه سيعزز من مكانة أركان الحكومة عموماً والليكود خاصة، معتمدين على بعض استطلاعات الرأي، التي تقول ان تجمع الليكود سيحصل على 30 مقعدا في حال جرت الانتخابات الإسرائيلية في أعقاب الحرب. وتناسى هذا البعض أن أركان الائتلاف الحاكم أخذوا في التفكك منذ فرط ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" عقد تحالف "الليكود بيتنا" مطلع يوليو الماضي، حين أعلن انسحابه من التحالف مع نتنياهو نتيجة اختلاف وجهات النظر في معالجة اختطاف المستوطنين الثلاثة في ال11 من حزيران الماضي. وكانت تلك الخطوة إيذانا بالاستعداد لخلافة زعيم الليكود، واستعدادا للانتخابات المبكرة؛ كما أن البيت اليهودي يقف على أقصى يمين الليكود؛ ويتناقض مع سياسات رئيس الحكومة قبل الدخول في الحرب على القطاع وبعد ذلك؛ حتى داخل الليكود نفسه هناك صراع قوي سابق للحرب ولاحق لمجرياتها ونتائجها، ويمثل هذا الاتجاه فايغلن وداني دانون وحوطبيلي وما يمثلونه من توجهات اقصوية على يمين رئيس الحزب. أضف إلى أن أصحاب وجهة النظر المذكورة، لم يميزوا بين مكونات اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل والتوجهات، التي تحكم ممثليه، فاليمين ليس لوناً واحداً، بل مجموعة ألوان، الاتجاه المتسيد فيها، هو اليمين الديني المتطرف، الذي رفض سياسات واليات عمل رئيس الوزراء ووزير حربه في الحرب المجنونة على قطاع غزة. ومازال أصحاب هذا الاتجاه، ينادون بمواصلة الحرب حتى تتحقق الأهداف الإسرائيلية السياسية والعسكرية. الفشل المريع لنتنياهو في حربه على غزة، واستشعار قوى واتجاهات وتيارات داخل الليكود والائتلاف الحاكم وفي الشارع الإسرائيلي بالهزيمة، وعدم تمكن نتنياهو ووزير حربه من تدارك عوامل الهزيمة لأسباب داخلية وعوامل دولية ضاغطة، يفتح الأفق أمام سقوط نتنياهو وحكومته في مستنقع العزلة، وعلى ورثته من داخل الليكود وخارجه الاستعداد للانتخابات المبكرة في أعقاب فرط عقد الائتلاف الحاكم. وقادم الأيام كفيلة بإعطاء الجواب. |
||||||