|
|||||||
|
منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني على قطاع غزة أعلنت إسرائيل جملة أهداف له من أهمها: توجيه ضربة قاسية للمقاومة الفلسطينية، ووقف إطلاق الصواريخ، وضرب شبكة الأنفاق، واستعادة الهدوء لسكان الجنوب الإسرائيلي. إلا أنها وبعد مرور قرابة الشهر على هذا العدوان, حُرمت من الإعلان عن تحقيق تلك الأهداف المعلنة، على الرغم من نجاحها بتحقيق هدف آخر تمثل بارتكاب مجازر بشرية بحق المدنيين الفلسطينيين، حيث زاد العدد حتى الآن عن 1800 شهيد معظمهم من الأطفال والنساء والمسنين. جاء الإخفاق الإسرائيلي في تحقيق تلك الأهداف مستندا لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية، يمكن تركيزها فيما واجهه الجيش الإسرائيلي من مقاومة عنيدة في غزة، كبحت جماح تقدمه نحو القطاع، وقد خرجت العديد من التسريبات الإسرائيلية، والتأكيدات الفلسطينية على ضراوة المقاومة على مشارف غزة الشرقية. إنّ المعنى الاستراتيجي لما حدث هو أن السيادة الإسرائيلية قد انتُهكت، وأن الجيش لا يستطيع إسكات النار التي تُطلق على المستوطنات، مع عدم القدرة على إحراز حسم واضح في معارك التماس، وأنّ قوة إسرائيل الإقليميّة لم تنجح بالتغلب بشكل حاسم على المقاومة. أسئلة كثيرة تبادرت إلى ذهن الكثيرين وهم يشاهدون المجازر البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة. ما هو سر الحقد والعداء الصهيوني لقطاع غزة؟ ما هو سر صمودها ومقاومتها للاحتلال؟ ولماذا تستهدف إسرائيل غزة أكثر من المناطق الفلسطينية الأخرى؟. ثاني مدن فلسطين على الرغم من أن كل مدن وقرى وربوع فلسطين متساوية من حيث الانتماء والمشاركة في النضال الوطني، إلا أن منطقتين استقطبتا الاهتمام المحلي والدولي أكثر من غيرهما من المناطق، وكل منهما تميزت برمزيتها وخصوصيتها التاريخية والنضالية: مدينة القدس بما لها من رمزية دينية ولكونها عاصمة دولة فلسطين، كما تزعم إسرائيل إنها عاصمتها الأبدية، وقطاع غزة لرمزيته الوطنية ولما شهده من أحداث وحالات عدوان لم تشهد مثيلا لها بقية مناطق فلسطين. كان الموقف مما يجري في هاتين المنطقتين بمثابة ترمومتر يؤشر على سخونة الأحداث أو هدوئها، كما كان الموقف العربي والدولي مما يجري في هاتين المنطقتين يُقاس عليه للحكم على الموقف من القضية الفلسطينية بشكل عام. تعتبر مدينة غزة ثاني أكبر مدن فلسطين بعد مدينة القدس حيث تُذكر غزة في أقدم الوثائق التاريخية الفرعونية التي تعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولا ينفصل صمود غزة وتاريخها النضالي المعاصر عن تاريخها القديم في مواجهة الغزو العبراني الأول، حيث جاء في أحد الكتب الدينية اليهودية وهو (سفر الملوك الأول) الذي يعود لعهد سليمان: إن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبدا ضمن مملكة اليهود، وظلت بعد ذلك ملكا للفلسطينيين (الملوك الأول 4 : 24) ومنذ ذلك التاريخ وغزة ملعونة عند اليهود. غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين والفقيرة وشبه الصحراوية، لم تتميز فقط من خلال دورها النضالي بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 – كانت آنذاك تحت الإدارة المصرية - بل كان دورها النضالي قبل الاحتلال لا يقل أهمية عن دورها بعد الاحتلال. فقطاع غزة حافظ على الهوية الفلسطينية بعد النكبة وفي سنوات التيه والضياع بعد أن فرضت إسرائيل جنسيتها وقوانينها على فلسطينيي الخط الأخضر، ومنح الأردن جنسيته وقوانينه لفلسطينيي الضفتين، فيما كان فلسطينيو الشتات يعيشون أوضاعا صعبة. خلال سنوات التيه والضياع استمر فلسطينيو القطاع في حمل راية الهوية الوطنية والحفاظ على الشخصية الوطنية، وخصوصاً أنه بعد نكبة 1948 تغيرت التركيبة الجغرافية والسكانية، حيث رسمت اتفاقية الهدنة – اتفاقية رودس 1949 بين مصر وإسرائيل - حدوداً جديدة لقطاع غزة. قطاع غزة الذي كان تعداده حوالي (80000) ثمانين ألف استقبل مع النكبة حوالي (200000) مائتي ألف من اللاجئين الفلسطينيين، مما غير من تركيبته الديموغرافية والسوسيولوجية، وأصبح ثلاثة أرباع القطاع اليوم من اللاجئين الذين كانت الغربة وحياة اللجوء دافعاً قوياً عندهم لرفض واقع اللجوء وإصرارهم على النضال من أجل العودة لأراضيهم التي هُجروا منها عنوة، ولاجئو القطاع جسدوا وعبروا عن خصوصية كل قرية ومدينة فلسطينية بملابسها ولهجاتها ومأكولاتها وتجاربها النضالية وذاكرتها التاريخية. في قطاع غزة تشكلت أولى خلايا المقاومة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي، وأبناء القطاع رفدوا الثورة الفلسطينية، عندما كانت في الخارج، بخيرة القيادات والمقاتلين، ومن قطاع غزة انطلقت شعلة الانتفاضة الأولى 1987، وقطاع غزة احتضن اللبنات الأولى لمؤسسات كان يؤمَل منها تجسيد حلم الدولة ولو في إطار تسوية مشكوك بنجاحها، فكان المطار ومقر الرئاسة (المنتدى) ومقرات وزارية والمجلس التشريعي والبدء بمشروع ميناء غزة، بالإضافة إلى الممثليات الأجنبية ومشاريع تنموية واعدة الخ. إن كانت غزة بالنسبة إلى الفلسطينيين تمثل جنوب فلسطين أو منطقة من فلسطين يحبونها كما يحبون فلسطين، فإنها بالنسبة لأهل غزة تمثل مسقط الرأس أو الوطن الصغير وخصوصا بالنسبة لمن لم ير أية منطقة أخرى من فلسطين. ولكن وطن الذاكرة أو وطن مسقط الرأس مجرد إثبات مكان مولد أو ذكريات جميلة عن مرحلة الطفولة والمراهقة، إنه حب إضافي لفلسطين الوطن الكبير، كما هو الحال لحب ابن الخليل لمدينته وحب أبن القدس لمدينته وابن يافا لمدينته. لكن لا يمكن لمسقط الرأس أن يشكل وطنا ودولة، ولا يمكن لأي منطقة تتميز بدور أو بخصوصية نضالية أن تشكل دولة أو كيانا خاصا ، فلكل مدينة في فلسطين تاريخها النضالي وبطولاتها المُشرفة، ومقابر شهداء فلسطين في الأردن وسوريا ولبنان لا تميز بين شهداء مدينة ومدينة، فالشهداء قضوا في سبيل الله والوطن وليس دفاعاً عن مدينة بعينها، وزنازين الاحتلال لا تميز بين معتقل من غزة وآخر من الضفة. صمود وتضحيات أهل غزة ومقاومتهم للاحتلال ولكل موجات العدوان وخصوصا الأخير يعبر ويعكس صمود ونضال كل الشعب الفلسطيني. كل الشعب الفلسطيني تصدى للعدوان وعانى من العدوان. دافع وضحى في هذه الحرب أبناء غزة الأصليون، أحفاد شعب غزة الذي واجه الغزو العبري قبل ثلاثة آلاف عام قاتلوا ودافعوا عن مدينتهم في: الشجاعية، التفاح، بيت حانون، بيت لاهيا، جباليا، خانيونس، ورفح. دافع وضحى في غزة أبناء وأحفاد أهالي: يافا، حيفا، اللد، المجدل، الجورة ، حمامه، زرنوقه، عاقر، دير سنيد، الرملة، دمرة، سمسم، هربيا، بيت جرجا، السبع، صفد، يبنا، بيت دراس، المغار، الفالوجا، صرفند، النعاني، المسمية، الخ.. أبناء الجيل الذي تم تشريده من أرضه، ويريد ابناؤهم وأحفادهم الانتقام من عدو لم يكتفِ بتهجيرهم من مدنهم وقراهم بل يلاحقهم حتى في اماكن اللجوء، ويرفض حق عودتهم لأراضيهم، وحقهم في دولة مستقلة، ولو على جزء من ارض فلسطين. لأن غزة كل هذا الماضي والحاضر، ولأن غزة أيضا الواجهة البحرية الوحيدة للدولة الفلسطينية في حالة قيامها، واحتمال وجود نفط وغاز في مياهها، فالعدو يستهدفها. إلا أن غزة ستبقى عصية على الانكسار والخضوع، وستستمر غزة حاضنة الوطنية الفلسطينية، وجزءا من الدولة الفلسطينية التي ستقوم لا محالة. إذا ما تم نزع غزة من سياقها الوطني ستفقد كينونتها وتميزها وسر صمودها ومقاومتها. المقاومة قلبت الطاولة بعد مرور 29 يوماً على العدوان البري والجوي والبحري على قطاع غزة؛ وقصفه بآلاف الأطنان من مختلف أنواع المتفجرات المحرمة دولياً، وقتل واستشهاد قرابة 450 طفل من بين قرابة 1850 شهيداً؛ استطاعت المقاومة الفلسطينية من كتائب القسام وسرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى وألوية الناصر صلاح الدين ومن معها من قوى المقاومة؛ أن تصمد وتقلب الطاولة؛ بل وتهاجم جيش الاحتلال من خلف خطوطه؛ لتحقق انجازات على المستوى الاستراتيجي نجملها فيما يلي: - مرغت أنف الجيش الذي لا يقهر في التراب، وكشفت هشاشته وأنه جيش يمكن قهره بعشرات ومئات من المقاومين الأشداء، وهو ما اعترف به "نتنياهو" وقائد جيشه يعلون بأنهم يواجهون عدواً شرساً وعدواً لم يعرفوه من قبل، وان دولة الاحتلال تواجه أيام صعبة. - فضحت أخلاقية الجيش الأكثر أخلاقية في العالم كما زعم "نتنياهو"؛ وتحول إلى جيش أكثر وحشية في العالم؛ حيث أن صور الأطفال القتلى والنساء وقصف المدنيين العزل والمنازل والمستشفيات والمساجد؛ بدت واضحة للعيان وبثتها كافة وسائل الإعلام العالمية. - جعلت كل فرد في دولة الاحتلال يشعر بعدم الأمان، فصواريخ المقاومة دكت كل نقطة إستراتيجية في دولة الاحتلال؛ وهو ما انعكس بشكل سريع بهجرة آلاف الصهاينة للخارج؛ وهو أيضاً ما سينعكس بعد أن تضع الحر أوزارها على الهجرة العكسية، لتبدو دولة الاحتلال فارغة في الحرب القادمة؛ فعدم الشعور بالأمن الشخصي والجماعي أحد أهم أسباب الهجرة. - عملت المقاومة على زعزعة المشروع الغربي الذي أقام دولة "اسرائيل" ولذلك سارع بقوة لطرح نزع سلاح المقاومة في بادية العدوان ولكنه تراجع لاحقا لصلابة وصمود المقاومة؛ وهو ما سيعمل على اهتزاز الصورة النمطية لفكرة زرع الكيان في قلب العالم العربي والإسلامي مما سيتسبب بتراجعه والإقرار بالحقوق الفلسطينية مكرهين ومجبرين لا مخيرين أمام قوة الحق المتمثلة بالمقاومة المشروعة التي تقرها القوانين الدولية. - أعادت المقاومة تصويب بعض الخلل في العلاقات الدولية، وكشفت ضعف الامم المتحدة بتصريحات "بان كي مون" في حادثة خطف الجندي وفي تحيزه الفاضح للاحتلال. - عملت على تغيير نظرة العالم الخارجي للإنسان الفلسطيني الذليل المحبط الفاقد ثقته بنفسه والمستجدي لحقوقه من اللئام؛ وقلبت النظرة إلى الإنسان الفلسطيني المحترم، القادر على التغيير وتحدي الظروف الصعبة، وتحدي رابع اكبر قوة جيش في العالم، وتحقيق الانتصارات عليه، وتطوير الذات على الرغم من شح الإمكانيات. - ستتجرأ من الآن فصاعداً قوى المقاومة وكل من يعادي دولة الاحتلال عليها؛ كيف لا وهي لم تستطع مواجهة عشرات أو قل مئات من المقاومين رغم حصارهم وتجويعهم لسنوات طوال ودون عمق عربي آو خطوط إمداد؛ بل ومحاربتهم ومحاصرتهم ممن أطلق عليهم البعض الصهاينة العرب. - خرجت مظاهرات ضخمة في كافة مدن وعواصم العالم تأييداً للمقاومة في غزة وضد العدوان؛ وهو ما يشير إلى أن الفلسطينيين كسبوا الرأي العام العالمي وهو ما قاله "أوباما" لـ"نتنياهو" في رسالته الأخيرة، وهو ما سينعكس لاحقا في كشف حقيقة الكيان ووحشيته وتراجعه على المستوى الدولي. - عملت المقاومة وصمود غزة على توحيد العالم الإسلامي، وإضعاف مقولة سني وشيعي، التي حاول الغرب من خلالها خلق فتنة تأكل الأخضر واليابس في العالم العربي والإسلامي وتمزيقه شر ممزق؛ بفعل جهالة الجهلاء أو بقصد من العملاء والحكام الظلمة. - أبرزت المقاومة طهارة السلاح المقاوم والذي لا يقتل إلا من قاتله من الجنود، ولم يقتل طفلاً واحداً أو امرأة؛ بعكس جيش الاحتلال الذي أوغل في إجرامه باستهداف الأطفال والنساء، وهو ما سينعكس لاحقاً على السمعة الجيدة للمقاومة والسمعة السيئة للاحتلال. - كشفت عن علاقات ومحاور إقليمية سلبية على العالم العربي لم تكن لتكشف بسرعة لولا صمود المقاومة الباسلة وانتقالها من حالة الدفاع لحالة الهجوم واستنزاف الاحتلال. - سرعت من حالة الاستنهاض للعالم العربي؛ ونقلتها من حالة الجمود والرضوخ للأمر الواقع إلى آفاق العمل والإبداع وتحقيق الانجازات؛ بفعل الصمود الأسطوري والبطولي لمقاومة محاصرة براً وبحراً وجواً. - طوت المقاومة حالة الانقسام وتشتيت وبعثرة الطاقات الفلسطينية إلى غير رجعة؛ ووحدت الكل الفلسطيني في بوتقة المقاومة وجعلت مطالب المقاومة هي مطالب الجميع في القاهرة، وهو ما سينعكس لاحقاً ويبقي على حالة من الوحدة والقوة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال. شهادات حية من المقاومة منذ بداية العدوان الصهيوني على قطاع غزة في السابع من يوليو/تموز الماضي، قبّل مجاهدو القسام من وحدة النخبة رؤوس ذويهم وخرجوا مودعين الأهل والولد، تحفهم دعوات الأمهات بأن يعودوا سالمين، وعلى الباب يلوح الصغير أن عّد يا أبي ولا تتركنا أيتاماً، فيما يردد المجاهدون "اللهم نسألك الشهادة مقبلين غير مدبرين". كل شخص في هذه الوحدة، هو شهيد حي، وهب روحه للجهاد، خصوصا وأن القيادة الميدانية اصطفتهم من بين سرايا القسام المختلفة، ليخوضوا المهمة الأعقد والأهم في معركة كانت ولازالت هي الأشرس على مستوى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وذلك بناء على كفاءاتهم القتالية وقدرتهم على تحمل قسوة المواجهة. مجموعة من هؤلاء النخّب وعدد أفرادها أربعة، توجهت إلى شاطئ بحر ما يعرف بمنطقة "السودانية" شمال غرب مدينة غزة. ويشرح أحد المجاهدين وهو ملثم الوجه، كيف أن هذه المجموعة وغيرها من المجموعات القسامية في وحدة النخبة، قد تدربوا على قطع مسافة طويلة تزيد عن ثلاثة كيلومترات، حتى وصلوا إلى هذه النقطة (السودانية) المحاذية إلى ساحل البحر. هناك يشير المجاهد إلى أنه نصبت أربعة كمائن دوارة، اثنين باتجاه الشاطئ غرباً وآخرَيْن باتجاه الشمال، وذلك كخطة لتطويق رجال الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي وإيقاعهم في الفخ. بعد خمسة أيام ورجال المجموعة ثابتون في مكمنهم، ضاقت نفوس بعضهم لطول الانتظار، فاستأذن أحدهم للقيام إلى الصلاة، هناك سمع أفراد المجموعة زميلهم يلح على الله بالدعاء أن يمن عليهم بالشهادة وألا يضيع عليهم أجر الجهاد في شهر رمضان. بعد نحو ثلاث ساعات تقريباً، أي مع حدود الساعة الواحدة واثنتي عشرة دقيقة، لوحظ أن الزوارق الحربية الإسرائيلية المطاطية بدأت تتحرك باتجاه الشاطئ، وهي تقل على متنها وحدة كوماندوز بحري عرفت بـ(شييتت 13). يقول المجاهد الذي قضى 25 يوماً خلال الحرب غائباً عن أسرته، أخذنا إشارة البدء، فباشرنا بإطلاق النار مباشرة على وحدة الكوماندوس مستخدمين في ذلك البنادق الهجومية والرشاشات من نوع B.K.C وقذائف مضادة للدروع". ويشير رجل القسام إلى أن الكمائن القائمة كادت تأسر أحد أفراد الوحدة الإسرائيلية، لولا أن تدخل الطيران الحربي وكذلك البوارج في عرض البحر، حتى توفر غطاء لانسحاب القوة، مؤكدا أنهم ومع الساعة الثالثة فجراً، انسحب المجاهدون مكبدين الكوماندوس الإسرائيلي خسائر فادحة. وعند تلك اللحظة يقول المجاهد "لقد هللنا وكبرنا، فرحاً بالانتصار، وإبطال دخول وحدة الكوماندوس البحري، خصوصاً وأن دخولها كان سيكون سبباً في السيطرة على ما يعرف بمنطقة "العطاطرة" غرب بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة. وأكد على أن هذه العملية وقوة النيران أثرت بشكل كبير على إمكانية الدخول البري لهذه المنطقة، وأقسم أنه لو دخلت القوات على المنطقة الشمالية لأوقع فيها خسائر بالمئات، نظراً لحجم الأعداد الكبير في تلك المنطقة التي جرى استهدافها في الحربين السابقتين على غزة، وكانت فيما سبق تشكل خاصرة ضعيفة بالنسبة لغزة فجرى تدعيمها بأعداد ضخمة جداً. أما عن الهيئة التي خرج عليها رجال نخبة القسام من بيوتهم، فأكد المجاهد أنهم تخفوا تماما عن الأنظار، وكل شخص خرج من بيته يصطحب معه كيساً من التمر وقارورتين من الماء. فيما أن التزود بالسلاح كان يتمثل بمخازن الرصاص (8 مخازن)، وقاذف (B.K.C) ومناظير ليلية. ويقول أحد أفراد النخبة الذي رفض الكشف عن اسمه أو كنيته "لقد توضأنا وصلينا ركعتين قبل وداع الأهل والولد، وذهبنا فرادى، حتى وصلنا المكان الذي يبدو خالياً تماماً من البشر، وهو ما عقد الوصول إلى الكمائن المعدة سلفاً، لكننا كنا قد تدربنا في وقت سابق على كيفية الوصول إليها حتى في أحلك الظروف ضراوة". ويلفت إلى أن بعض المعدات العسكرية التي كانت لازمة لإدارة المعركة عبر الكمائن، استوجبت وعورة المكان، نقلها بطرق خاصة تتمثل في الأنفاق الأرضية، مبينا أن بعضا من رجال النخبة كانوا يتمركزون على مقربة منهم ويتخذون من الشجر غطاءً. ويبين أن اشتداد وطيس المعركة، صعب من عملية إمدادهم بالمأكل، غير أن احدهم في الخطوط الخلفية تمكن من دخول أحد المنازل وجلب منه طعاماً، ووضع ملصقا يشير إلى أصحاب البيت الذين نزحوا عنه بفعل القصف، أن هناك مجاهدين دخلوا المنزل وتدبروا طعامهم على قدر حاجتهم، وأن عليهم أن يسامحوهم على هذا. وعن طبيعة الأجواء داخل الكمائن يوضح المجاهد الملثم، أنهم كانوا يقضون أيامهم يتبادلون الأدوار، بين النوم واليقظة، غير أن معظم الوقت يصبرون أنفسهم بالدعاء وترديد الأناشيد الروحانية. ويقول "إن حالف أحدنا الحظ فكان ينام على سجادة الصلاة، ولكن معظم الوقت كنا ننام القرفصاء على الأرض"، مشيرا إلى أنهم لم يؤدوا الصلاة جماعة في أغلب الأوقات وذلك حفاظاً على أرواحهم وضرورة ألا يغفلوا عن مراقبة الميدان. وأضاف "كل شخص منا كان لديه مصحف في جيبه، يستغل بعض الأوقات في قراءة القران، على ضوء انقطاعنا عن العالم وعدم اصطحابنا أجهزة اتصال أو راديو(..) فقط كنا نتواصل عبر الاتصالات الأرضية الخاصة بالمقاومة". ويذكر المجاهد أن جغرافية المكان كانت تحول دون تحرك أفراد الكمين، وهذا ما جعلهم يقضون خمسة أيام بدون أي إمداد في الطعام والشراب، وأمضوا أيامهم على قليل من التمر والماء"، مبيناً أنهم كانوا يستعينون على الانتظار بالدعاء، "والله ينزل السكينة علينا". ويقول المجاهد الذي عاد بيته سراً، "لقد غادرنا الكمائن بعد 25 يوماً وحل مكاننا مجاهدين آخرين بطريقة سرية"، مؤكداً أن أسرته التي كانت قد ظنت أنه قد فارق الحياة، استقبلته بحرارة الدموع والعناق الشديد، لكنها لم تسمع صوت فرحتها أحداً من الجيران، في إطار الحس الأمني العالي الذي اتبعوه. هذه الشهادات الحية منقولة عن صحيفة الرسالة الصادرة في غزة بتاريخ 2\8\2014. "الجرف الصامد" و"العصف المأكول" لأول مرة منذ قيامها، تصل الدولة العبرية إلى هذا المستوى من الضعف على الرغم من الدعم الإقليمي والدولي الذي تحظى به. إسرائيل التي لا تقهر، باتت عاجزة عن الفعل والمبادرة، وهي بانتظار الحلول السياسية للخروج من تورطها الميداني. المقاومة الفلسطينية وضعت الآلة العسكرية الإسرائيلية في خانة العجز عن حماية أمن الدولة العبرية. بعد هذه الحرب، ستكون إسرائيل غير تلك التي نعرفها. على الأرجح، سنكون أمام إسرائيل المصابة بـ"فوبيا" الحروب. على غرار حرب لبنان 2006، واصل العدوّ حربه على غزة لا لينجز ميدانياً، بل لأنه ليس لديه من خيار سوى الاستمرار بالعدوان.هذه المرّة، بدأ الإسرائيلي الحرب تحت عنوان: "الجرف الصامد" لينتهي إلى انسداد الأفق وعقم الخيارات تحت وطأة "العصف المأكول". الاستمرار في العدوان سيكشف المزيد من الخيبات، فيما التراجع عنه سيضع إسرائيل أمام اعتراف ضمني بعدم التفوق والقدرة على المواجهة. الحرب على غزة كشفت عن تحول العدو من لاعب يكسب استراتيجياً بالضربة القاضية، إلى لاعب يريد الخروج من الحلبة. هل هي "لعنة تموز" تلاحق الإسرائيلي في غزة؟. فإسرائيل التي كانت دوماً توظف معاركها للكسب سياسياً، باتت اليوم بانتظار مبادرات الأصدقاء لإنزالها عن الشجرة. وهي التي كانت دوماً ترفض وقف إطلاق النار قبل تلبية شروطها، تدرس جدياً وقف العدوان من جانب واحد. والنتيجة أننا أمام كيان تراجع من القدرة على التفوق في أي عدوان، إلى كيان بات مشكوكاً في قدرته على البقاء. إذاً، غزة تنتصر والضفة تنتفض دعماً لها، وإسرائيل على مشارف هزيمة مدوية. القبة الحديدية العسكرية لم تفعل فعلها، فيما القبة الدبلوماسية ما زالت تدور في حلقة مفرغة. الدولة العبرية لم تعد قادرة على توظيف قوتها بغير قتل المدنيين واستهداف المدارس والمستشفيات. إخفاق الإسرائيليين في غزة، واضطرابهم أمام الحراك الشعبي في الضفة، يفتحان الأبواب أمام انتصارات فلسطينية مقبلة. إسرائيل غير المنتصرة مهزومة، فكيف بإسرائيل المهزومة؟ الكثير الذي تمتلكه من قوة لم يعد يجدي في لجم أعدائها، بينما القليل الذي بحوزة هؤلاء، بات قادراً على وضعها قريبا من النهاية. الفاجعة في غزة كبيرة لكن المنجز أكبر. ما يصيب غزّة من قتل، اعتاد عليه الفلسطينيون. ولكن ما يصيب كيان العدو من عجز، هو غير مألوف لدى الإسرائيليين. لم تكن الانتهاكات الإنسانية يوماً عاملاً رادعاً لإسرائيل عن الاستمرار في حروبها. كما لم يكن القتل والتشريد طوال مرحلة الصراع سبباً لهزيمة الفلسطينيين وتخليهم عن حقوقهم. انعدام المعايير الأخلاقية في الحروب سمة لا تنفك عن ممارسات إسرائيل العدوانية. والقدرة على تحمل الضحايا وتقبل القتل باتت من شيم الشعب الفلسطيني. بإمكان إسرائيل أن تمارس عنفها، لكنها لا تستطيع الانتصار. وبإمكان الفلسطينيين المزيد من الصبر والمقاومة، ولكن ليس بإمكانهم الهزيمة والانكسار. البعض يرى في العدوان الحالي مؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية، على قاعدة التمهيد لإلحاق غزة بمصر والضفة الغربية بالأردن. والواقع أن هذه الحرب باتت، ولأول مرة، "مؤامرة" على إسرائيل تمهيداً لاسترجاع سائر فلسطين إلى غزة. في البدايات تصرّف المجتمع الإسرائيلي "كعائلة" تكاتف جميع أفرادها وتبادلوا جرعات الدعم من أجل المحافظة على روحهم المعنوية وصمودهم في وجه عدوّهم الخارجي. اليوم، وبعد مقتل العشرات من جنود الاحتلال، بدأنا نسمع أصواتاً تنتقد فشل الحكومة الإسرائيلية وعدم اتخاذها لاحتياطات أمنية ضرورية، ساعة كانت هنالك فرص لذلك، فما دامت الأنفاق هي مصادر الإزعاج والتهديد الأمني فلماذا لم تعالجها الحكومة في السنوات الخالية؟ وكيف من الممكن تفسير نجاح المقاومة الفلسطينية بإمطار المدن والبلدات الإسرائيلية بهذه الأعداد من الصواريخ، ولم يفلح الجيش ومعداته في منع ذلك وإفشاله. غزة اليوم رسّخت حقيقتين بارزتين: مخزون إسرائيل المعنوي الاستراتيجي قد مُسّ بشكل ملحوظ، وما كان بديهياً في وجدان شعب تعوّد على انتصاراته السريعة والرخيصة، تصدّع. وكذلك، لم يعد ممكناً ومقبولاً الاستمرار في الترويج للقدرات العسكرية الأسطورية الإسرائيلية القادرة على كل دمار، والعاجزة عن تحقيق نصر حاسم. لأن القوي إذا لم ينتصر فهو المهزوم، وأما الضعيف، فإذا لم يهزم فهو المنتصر. في طليعة ما استهدفه العدوان على غزة كان مشروع إفشال مسيرة الوحدة الفلسطينية التي بدأت تبرعم، وكادت أن تزهر لولا ما حصل. صمود غزة كلّها في وجه العدوان كان وسيبقى مفخرة لكلّ حرّ وشريف على هذه المعمورة، لكنّه لن يكفي لتحقيق نصر فارق مميّز إن بقي يتيماً، ولم يرافقه نصر للدبلوماسية الفلسطينية الواحدة الموحّدة، ففي غزة النصر لن يكون إلا لكلّ فلسطين، وهكذا ستكون الخسارة أيضاً. |
||||||