|
|||||||
|
قبل الخوض في العلاقة بين الأخلاق والسياسة، من الضروري لفت الإنتباه إلى ما هو شائع عموماً عند الناس من نظرة سيئة للسياسة والسياسيين، وذلك بسبب معاناة معظم الأمم وخصوصاً المستضعفة، من الساسة والحكام. وبما أن السياسة كما هو معلوم، هي عملياً إدارة شؤون الناس العامة، والعمل للسلام والحرب بين الشعوب على مر التاريخ، وبدل أن يكون الانطباع عن السياسة إيجابياً، فقد كانت لسياسات معظم الساسة آثار سلبية ووخيمة، وأدت نتيجة المعاناة إلى انطباع تلك الصورة السيئة عن العامل بالسياسة. سبب ابتعاد الناس عن السياسة وإذا ما أضفنا طريقة تعاطي الكنيسة في أوروبا قبل عصر النهضة، والمآسي التي انعكست على حركة الناس العلمية والثقافية والاجتماعية، لصالح الملوك والأمراء الذين كانوا شركاء لكبار الإكليروس. كذلك فإن طريقة تعاطي من حكموا باسم الإسلام بعد انتهاء الخلافة الراشدة، وما شهده العالم الإسلامي من ظلم باسم الدين، وغير الإسلامي باسم الدعوة إلى الدين، أدت إلى الابتعاد من قبل المتدينين والمخلصين عن العمل السياسي، ومع مرور الزمن تكرست المطالبة بالفصل ما بين الدين والدولة، بحيث وصلت الأمور إلى حدِّ أن لا يصلي الناس خلف من يعمل بالسياسة، حتى ولو كان عمله لصالحهم في مواجهة الحاكم الظالم، وخلا بذلك الجو للساسة غير الملتزمين بقضايا الأمة بشكل عام، والدول الاستعمارية لتصنع من نخب المناطق الخاضعة لنفوذها، أشخاصاً يعملون لصالحها مقابل دعمهم كحكام، ونافذين في السلطات المحلية أو مسؤولين في المؤسسات الدولية. وفي عالمنا العربي، تعالت في العقود الماضية أصوات تنادي بالمجتمع المدني، وبفصل الدين عن السياسة، وإن كتب في الدساتير أن الإسلام منشأ الأحكام، فإن ذلك كان بمثابة ديكور يتحمل الإسلام تبعاته بسببهم، وخلت الساحة للعلمانيين، فنمت أحزاب قومية ووطنية في محاولة لتغيير الواقع المأزوم، ونعتت الحركات الإسلامية بالرجعية السوداء وبالظلامية. وبسبب فشل تلك الأحزاب، بالإضافة للتنظيمات التي عوَّل عليها الناس عملياً في تغيير الواقع، خصوصاً في القضية الأساس "فلسطين المحتلة"، فقد وصل معظم الناس إلى حالة اليأس والإحباط... وتركت الأمور للحكام الذين ذهبوا بالأمة إلى الاستسلام. نظرة تاريخية في الحركات التغييرية مع قليل تأمل، نرى أن أسباب كل ما ذكر، هي اعتماد الميكافيلية في العمل السياسي لصالح الأنظمة أو الحكام، حيث الغاية تبرر الوسيلة، مما دفع أصحاب المواقع في السلطة لخرق كل القيم الإنسانية ورميها، وذلك لحفظ مصالحهم الخاصة، وإن كان ذلك على حساب المصالح العامة. بينما مع نظرة في تاريخ الحركات أو الثورات ومنها بعثات الأنبياء، نجد أن كل حركة تغييرية كانت تعتمد القيم الإنسانية واحترام الإنسان، بمعزل عن انتمائه الديني أو العرقي، بقيت حية تلهم الناس ولو بعد قرون، وتمدهم بالعزيمة. وفي المقابل نرى حركة الحكام الذين تسلطوا على الناس، بعد ارتكاب مجازر وهتك للحرمات، اندثرت ولو دامت لفترة من الزمان. العلاقة بين السياسة والأخلاق يتفق العلمان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ، في العمل الاجتماعي العام والعلاقات الإنسانية، ويفترقان في أن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة، تختلف نوعياً عن التي تتناولها الأخلاق، وقد تصل إلى حد التناقض حسب المذهب الميكافيلي، الذي يغلب المصالح السياسية على الأخلاق، كما ورد في كتاب الأمير، بحيث يظهر التنكر بصراحة لجميع الفضائل الأخلاقية، بناءً على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة. لذلك نجد شكلين من أشكال العمل السياسي: الأول: العمل السياسي النظيف، الذي يعتمد على حفظ القيم الأخلاقية، حتى ولو كان الوصول عبرها للهدف مكلف أكثر. الثاني: العمل السياسي غير النظيف، الذي يعتمد على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، حيث أنه مع كون الهدف جيداً، فلا مانع من سلوك الطرق التي لا تراعي الأخلاق، ويبحث عن الطريق الأقصر والأقل كلفة، دون مراعاة للضحايا التي تسقط. ولنأخذ من التاريخ المعاصر أمثلة تظهر الفارق بين الشكلين: حركة المهاتما غاندي الذي انتفض في وجه الاستعمار البريطاني، ووصل إلى هدفه, فقد أخذت الهند استقلالها من خلال حركة سلمية بدأت صغيرة، إلى أن شملت كل الهند, مما اضطر البريطاني للرضوخ لمطالب الشعب الهندي. وبالمقابل حركة هتلر الذي كان مغرماً بكتاب الأمير لميكافيلي، بحيث أدخل العالم بحرب عالمية لتحقيق أحلامه، أدت إلى قتل الملايين من الناس وغيرت وجه العالم. وللأسف في عالمنا اليوم، حيث الاستبداد الغربي مهيمن على عالمنا، بسبب عمله بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وإن رغبة الغرب بالاستيلاء على مقدراتنا تؤدي إلى قلب المفاهيم، بحيث أصبح المقاوم مخرباً، وطالب الحق مجرماً فاجراً، وتارك الحق مطيعاً ومواطناً صالحاً، والمشتكي المعارض مفسداً، والمخلص الناشر للحقائق ملحداً. وهكذا تنقلب المفاهيم الأخلاقية بحيث يصبح النصح فضولاً، والغيرة عداوة والشهامة عتواً، والمحبة حماقة، والرحمة ضعفاً، والنفاق سياسة وذكاءً، والتحايل نباهة والدناءة لطفاً، والنذالة دماثة، وهذا ما يدفع إلى قتل البنية الأخلاقية في المجتمع. وكل هذه الإشكاليات أدت إلى طرح البعض للديمقراطية، كحل لمشاكل البشر باعتبار أن الحريات فيها مضمونة، ومن خلال هذه الحريات ينطلق الإنسان لتحقيق أهدافه بالطرق السياسية السلمية، حيث لا استبداد ولا ظلم. لكن ومن خلال قراءة الديمقراطية المعمول بها حالياً، نجد أن الممارسات من أكبر الدول المدعية للديمقراطية كالولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، ومعظم الدول الأوروبية التي استعمرت معظم دول العالم الفقيرة في شرق آسيا، ووسطها ومنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ودول أمريكا الجنوبية، لا تختلف بالمضمون عن الأنظمة المستبدة. ولا زال العالم تحت رحمة أصحاب القوة والنفوذ، بل وحتى في العمليات الانتخابية التي تحصل بالشكل، نجد أن المال والسلطة أساس في إنتاج السلطة، ولا مكان للفقراء دولاً وأفراداً، وإذا ما نظرنا إلى الهيئة المعنية بالسلام الدولي المعروفة بمجلس الأمن الدولي، الحاوي لأهم من يتحدث بالديمقراطية، نجدها ظالمة للشعوب المحكومة، ويكفي الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني، بسبب دعم تلك الدول من خلال استعمال الفيتو، لمنع أي قرار يدين أو يفرض على المحتل الإسرائيلي الالتزام بحقوق الشعب الفلسطيني، سواءً المشردين في أصقاع الأرض، لمنعهم من حق العودة، أو من هم في الداخل والظلم الذي يلحق بهم، فضلاً عن الجرائم والحروب التي تنال منهم، وكذلك ما لحق بدول الجوار مثل مصر والأردن وسوريا ولبنان. وإذا ما أضفنا الأراضي العربية المحتلة التي يضمن القانون الدولي الحق لأصحابها باسترجاعها بالسبل المشروعة وعلى رأسها المقاومة، نجد دعم تلك الدول الديمقراطية للمحتل ومنع صاحب الحق من أخذ حقه، بل ملاحقته ووصفه بالإرهاب. البحث عن سبل تحقق القيم إن الأقوياء اليوم لا زالوا في نواياهم وأعمالهم وسلوكهم، يمارسون القهر والظلم والقتل والإجرام، لكن بشعارات تختلف عن شعارات الديكتاتوريين والمستبدين، بل وجدوا في الديمقراطية شكلاً من أشكال العمل للوصول لنفس الأهداف، على الرغم من كونها تحمل بالظاهر والشكل، الأهداف التي يسعى إليها الضعفاء والفقراء المحكومين. لذلك كان لا بد من البحث عن السبل التي تفرض على السياسي العمل للقيم، وذلك لن يكون إلا إذا رجعنا إلى تعاليم السماء التي تفرض على أي عامل في الشأن العام، أن يكون عادلاً عاملاً لرفع حاجات الفقراء، وعاملاً على حمايتهم من الأقوياء المستبدين، حتى ولو كان ذلك من خلال اللجوء إلى استعمال القوة للدفاع عن النفس، خصوصاً عندما نعيش في مجتمع لا مكان فيه للضعفاء، على قاعدة أنت قوي إذن أنت موجود, وهنا قد يطرح البعض إشكالية أن الاستفادة من القوة لفرض القيم، يأخذنا إلى الديكتاتورية وفقاً لنظرية تولستوي الشهيرة، وهي "أن الشر لا يقتل الشر كما النار لا تطفئ النار"، ويستدلون بحركة نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي، حيث وصلا إلى أهدافهما من خلال حركة سلمية ديمقراطية. وهنا يمكن التعليق وباختصار، أن أركان النظام العنصري في أفريقيا الجنوبية، ما كانوا ليرضخوا لمطالب سكانها الأصليين، الذين عملوا تحت قيادة نيلسون مانديلا، إلا بعد أن رأوا أنهم لن يستطيعوا إيقاف تمرد أصحاب الأرض، وخافوا على أصل وجودهم، فكانت النتيجة الذهاب إلى الديمقراطية تحت الضغط، ولحفظ حقوقهم كأقلية ليس أكثر، وذلك بعد فشلهم في اعتماد القهر والظلم، حاولت من خلال ذلك الأقلية البيضاء الحاكمة إنهاء تمرد السكان الأصليين وإخضاعهم. وبخصوص حركة المهاتما غاندي، ما كان البريطاني ليرضخ للحراك الشعبي الذي عمّ الهند بقيادة غاندي، إلا بعد أن رأى أن الأفضل له إعطاء الهند الاستقلال، مع حفظ بعض مصالحه، كي لا يخسر كلياً ولم يكن ذلك منّة منه، وخوفاً من الاتساع لرقعة المقاومة التي كانت قد بدأت في بعض مناطق الهند. وبالعودة إلى الصراع مع الكيان الإسرائيلي، سواء مع الشعب الفلسطيني أو السوري أو اللبناني، نجد أن تلك الدول الديمقراطية تعتبر المقاوم مخرباً وإرهابياً، وكذلك الجهات الداعمة لها، ويلاحق تحت سقف القانون الدولي وبقرارات أممية، بينما المحتل يفعل كل ما يحلو له، ويعتبرونه واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. انقلاب المفاهيم قال البعض أن الأخلاق والسياسة مختلفتان بطبيعتهما، ومن المحال احتواء إحداها للأخرى، لكن يمكن دمجهما في تفاعل متبادل ترعاه أجواء الحرية والاعتدال، وذلك لأن الفضيلة السياسية لا يمكن أن تنمو في مناخات التطرف والعنف والغلو، ومع غياب حقوق المواطنة والعدالة والمساواة والمشاركة، وهذا ما تؤمنه الديمقراطية، خصوصاً مع ثورة الاتصالات ومواقع الاتصال الاجتماعي، حيث أدى ذلك إلى سرعة تبادل المعلومات والخبرات، وتنامى بذلك الشعور بالتضامن المشترك، حول القيم الأساسية العامة، ما يمكن أن يؤدي إلى الثقة بإمكانية نمو موقف عالمي، قادر على نصرة الشعوب وقيم الخير والحق، ورفض العنف والحروب، لتكريس نظام عالمي عادل يصون حقوق الناس بالتساوي، مع رعاية العلاقات بين الدول على أساس التنافس، الذي أدى إلى اتساع رقعة ما يعبر عنها بدول الحريات في العالم، حيث غزت الديمقراطية معظم الدول التي تفككت عنه. نعم قد تعطي الديمقراطية الغربية بعض الحقوق للمواطنين الرازحين تحتها، بينما في ما يعني الشعوب الأخرى المحكومة لهم، لا حقوق لهم، وتبقى مصالح الدول العظمى مقدمة على مصالح كل العالم الآخر المحكوم، وبذلك لا تكون الديمقراطية حلاً لشعوب العالم، على الأقل ما دامت هناك قوى تتحكم بهم وتقدم مصالحها على مصالحهم، وإن كانت تحمل شعارات مغرية للشعوب المستضعفة والمحرومة، لأن القوانين التي تحكم فيها هي من صنع مجموعة من الناس، عملت على تأمين مصالحها ومصالح شعبها دون الآخرين. خلاصة القول إن حق الإنسان بحياة كريمة عزيزة، في مجتمع يعيش فيه كامل حقوقه، يعلو فوق أي قيمة أخرى، مهما بدت سامية أو مقدسة عند البعض، وإذا ما كان الوصول لهذا الحق يتطلب الكفاح والنضال والجهاد، وفقاً لشرعة حقوق الإنسان المنصوص عليها في قوانين الأمم المتحدة، وإن أدى ذلك لاستعمال القوة لا يعني التنافي مع القيم الإنسانية، بل نقول إن استعمال القوة للوصول إلى الحقوق المشروعة هو قيمة أخلاقية بحد ذاتها، بل من أسماها وأرقاها، لأنها تؤسس للمجتمع العادل الذي يؤمن البيئة الحاضنة للقيم الإنسانية الأخرى. فالمقاومة اليوم، لتحرير الأرض والإنسان ولبناء المجتمع الإنساني، بذلك تعتبر من أشرف الأعمال الأخلاقية، لأنها تمنح للإنسان هامشاً واسعاً ليحيا بعزة وكرامة، وذهاب البعض إلى خلاف ذلك مخالف للمنطق، وإن لعب على الألفاظ، وأثّر على مشاعر الآخرين بشعارات مزيفة. وبالتالي يمكن الجمع بين العمل السياسي وبين الأخلاق، من خلال الالتزام بالقيم الأخلاقية التي يقرها العقل والشرائع السماوية، وبنفس الوقت الوصول إلى المصالح التي بني العمل السياسي على أساسها، ويكون بذلك العمل السياسي من أشرف الأعمال وأهمها لأنه من خلاله تؤسس المجتمعات الحافظة للحقوق والإنسان، (سواء الإنسان التابع للجهة أو الآخر)، وليس كما يعمل أصحاب الغاية تبرر الوسيلة، فتسقط الضحايا وتستعبد الناس وتضيع الحقوق والمهم تحقيق الغاية، والتي يمكن أن تكون نزوة حاكم أو حزب مسيطر. وأختم بالقول بضرورة العمل على توعية الناس للاهتمام بالسياسة ليعرفوا خفايا الأمور التي تحدث في العالم ومنطقتهم، كي لا يقعوا ضحايا حروب الآخرين أو كي لا يكونوا وقوداً. وما يشهده العالم العربي اليوم، على الرغم من أهمية الحراك الشعبي الذي بدأ لتحقيق مصالح الآخرين عام 2010 في تونس، إلا أن هذا الحراك الذي انتشر في أكثر من بلد أدى إلى وضع جديد غير واضح، ودخلت البلاد في تقسيمات عرقية، دينية، علمانية، يسارية وقومية، ونسى الجميع المشكلة الأساس وهي فلسطين المحتلة، ولم يلتفتوا إلى أن المستفيد الأكبر من هذه الفوضى هو العدو الإسرائيلي، في حين كان يمكن أن تكون هذه الحركات فرصة لتوحيد الجهود وللخلاص من سبب الشر الأساس في المنطقة، ألا وهو الغرب وعلى رأسه الأمريكي، وربيبته الدولة العنصرية الصهيونية، التي كانت سببا لمعظم مشاكلنا التي نعيشها اليوم، وما نواجهه من مشاريع التقسيم التي بدأت في سوريا وانتقلت إلى العراق، والله أعلم إلى أي حد تستمر، ليتم تبرير الدولة اليهودية التي يعمل عليها الإسرائيلي، بحيث يخلق دولة سنية، ودولة كردية، وليطالب الشيعة بدولة لهم فتأتي عندها الدولة اليهودية بشكل طبيعي. ويمكن القول إنه وللأسف يحصل باسم الإسلام ونبيه وكتابه، جرائم بحق الإنسانية بل بحق الدين نفسه وبحق المسلمين. وبكلمتين، فإن كل هذا يحصل بسبب عدم النضج وعدم الوعي السياسي، وهذا بسبب ابتعاد الناس عن السياسة لفترة طويلة، وبسبب عدم إيلاء الأخلاق أي أهمية من قبل المتصدين للمطالبة بالحقوق بحسب ادعائهم. وعندما جاؤوا تحت عنوان مواجهة المحتل والحاكم الظالم والقوى الغربية المساندة لأولئك، فإنهم دخلوا غير مؤهلين، (هذا لو أحسنا الظن بهم)، فاستفادت القوى المتربصة بالمنطقة وأخذتهم لمصالحها، دون أي كلفة تذكر، سواء كانت من الأنفس أو الأموال، وكان ما حصل منهم ويحصل من تدمير للممتلكات العامة والخاصة. |
||||||