التاريخ الإسلامي بين السكون والحركة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 151 ـ (شهر رمضان 1435 هـ) تموز ـ 2014 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

التاريخ عموماً هو ساحة الأحداث والذكريات، وميدان الأحداث والوقائع، وسجل توثيقات الأفعال والأدوار والوظائف، وتعتبر دراسة التاريخ الإسلامي على وجه الخصوص، وهو التاريخ الذي يتحدث عن أحداث وتحولات وسير وتراجم لمسلمين انتموا إلى الدائرة الحضارية الإسلامية..

تعتبر دراسة هذا التاريخ – على اختلاف مواقعه وامتداداته- بتقنية علمية وموضوعية من المسائل الشائكة والصعبة وغير السهلة على الكثيرين.. وهي لا تتوفر إلا للقلة من الباحثين نظراً لطبيعة المادة التاريخية التي قد تتشابك نصوصها، وتتضارب أحداثها ووقائعها، وتتلون تحليلات أصحابها بمختلف ألوان الاتجاهات السياسية والمذهبية المتبناة من قبل هذا المؤرخ أو ذاك.

وإذا كان التاريخ الإسلامي لا يزال مصدراً أساسياً من مصادر الفكر والمعرفة الإسلامية فإن المنطق العقلي والعلمي يلزمنا جميعاً -كمفكرين وباحثين- أن نقوم بدراسة مواقع (ومواضع) هذا التاريخ دراسة نقدية واعية لا تكتفي بنقل مخزوننا التراثي التاريخي كما هو إلى عصرنا الراهن، ولكنها تنفذ إلى عمق حركة هذا التاريخ لتبحث عن وقائعه ورموزه ومواقعه، وتقوم بتوثيقه من حيث رواته، ومضامينه ومحتوياته، وتحلل أحداثه وفق معايير المنطق والعقل، وتدرس إمكانية انسجامها أو عدم انسجامها مع حقائق الأشياء، والظروف الموضوعية التي تحيط بهذه الواقعة أو تلك الشخصية التاريخية.

وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في ضرورة أن نتعاطى مع التاريخ من موقع العبرة والدرس والعظة والاستذكار الإيجابي الفعال، ليغدو –هذا التاريخ- مدرسةً نعرف نتائجها في حجم التجربة، ولنصنع التاريخ في مدرسة نحرك نتائجها في المستقبل.. يقول تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الأعراف: من الآية 176).. وهذا أيضاً ما تؤكد عليه نصوص السنة من خلال ضرورة "عقل الخبر عقل رعاية لا عقل رواية.. فرواة العلم كثيرون ورعاته قليلون" (كما يشير الحديث الشريف المنسوب للإمام علي"ع"). 

بناءً على ذلك لا بد لأي باحث في قضايا التاريخ -التي تتمثل في كل هذه الذكريات والأحداث المتعلقة برموز التاريخ الإسلامي العظام من الرسول الكريم(ص) والأئمة الأطهار(ع) الذين غادرونا بأجسادهم وبقوا معنا أحياء بأفكارهم ومبادئهم ورسالتهم، ليقدموا لنا في كل يوم جديد ما يمكن أن يبقى حياً ونابضاً بالحيوية والنشاط في علاقتنا بالله وبالحياة - أقول: لا بد  للباحث التاريخي في تلك الذكريات من الوقوف المتأني أمامها ليستخلص منها العبرة التي تبقى، والفكرة التي تمتد مع امتداد الحياة والإنسان.

ونحن عندما نتحدث تاريخياً عن فكرة أو رمز أو موقف تاريخي ماضي فإننا نريد لبحثنا التاريخي أن يدخل إلى العمق الروحي والفكري للرمز والقيمة والمفهوم، وأن نستقدم من التاريخ الماضي للشخصية التاريخية المدروسة – التي ابتعدنا عنها كثيراً في حساب الزمن - كل المبادئ والقيم الروحية والعملية مما كان يتحدث عنه، أو يوجه إليه، أو يعظ به.. من خلال ما كانت تمثله من صورة مضيئة ومشرقة للإسلام كله على مستوى الفعل والقول والحركة والموقف.. وهذا يضعنا أمام مدخلية فكرية منهجية أراها ضرورية للبحث في أي مادة تاريخية.. وهي مسألة كيفية دراسة المادة التاريخية، والأدوات الواجب استخدامها، وضبطها في سياقها الطبيعي. 

والمتابع أو المراجع لتاريخنا الحضاري العربي والإسلامي لا يمكن إلا وأن يلاحظ وجود إشكالية مهمة يثيرها الأسلوب المنهجي والعملي في طبيعة التعاطي مع قضايا (ورموز وشخصيات وأحداث) هذا التاريخ في كثير من مفاصلة الهامة، من خلال أنه ينطلق ضمن أجواء ضاغطة تتأسس على رؤية ضبابية مختنقة في الجانب الذاتي من التاريخ النظري والعملي.. فيما هو الاستغراق (المنتفخ) –إذا صح التعبير– في داخل الساحة التاريخية، والمعبأ بكل ذاتيات هذا التاريخ الزاهي والمتألق، في التركيز على الصيغة التاريخية الميكانيكية الخطابية الجامدة التي لا تنتج إلا الانحراف والتحريف في الفكر والممارسة، والفقر في الاغتناء المعرفي الحضاري والإنساني.

وعندما يقوم أصحاب تلك الطريقة  بدراسة الظاهرة أو الحدث البشري أو الطبيعي - في محطيه الإنسان والتاريخي- فإنهم ينظرون إلى إنسان التاريخ (أو الحدث) ككائن ينتمي إلى بعد ذاتي واحد، ينفصل عن الزمان والمكان، ويعيش في مركزيته الشخصية بعيداً عن التأثير أو التفاعل مع حركة الأحداث التي يعايشها، ويمكن أن يؤثر (أو يتأثر) بها فتغتني منه، ويغتني منها.

إننا نطلق على هذه الطريقة - في أسلوب معالجتنا (ومواجهتنا) لقضايا التاريخ (والفكر والسياسة) المتصلة بحركة الأهداف الكبيرة والعالية في الحياة - طريقة "المتغير الذاتي"، أو الطريقة المثالية التي ترتبط بحركة الهدف النوعي المباشر بشكل ارتجالي عاطفي وانفعالي ساذج غارق في ضباب الأحلام الساحرة، ومتاهات المجهول، وفضاءات الخيال المستغرق في المثال والتجريد.

إنها الطريقة التبسيطية التبريرية التي تواجه المشكلة أو الهدف بشكل حماسي يتميز بوجود كمّ هائل من ركام الشعارات المنتفخة والمثيرة، والمهرجانات الصاخبة "غوغائية التقديس المفتعل" الخالية من المحتوى الفكري، والمضمون الاعتقادي الهادف والفاعل الذي يخطط للمستقبل بوعي وإيمان، ويرسم حدوده وتفاصيل تحركه بكل تركيز وتخطيط وثبات.

وقد لمسنا هذا الاتجاه في معظم الدراسات التاريخية التي تناولت حياة الرسول(ص) أو الأئمة(ع)، والتي تركزت جهودها الفكرية على بعد واحد نمطي تقليدي هو الجانب الشخصي في امتداده التقديسي المطلق الذي يتعامل مثلاً مع المعصوم كرمز مقدس مزروع في دائرته الخاصة (أو في فضائه السحيق) بعيداً عن تفاصيل الحركة الحياتية والبشرية.

لذلك إننا نعتقد – من خلال وعينا لطبيعة الظروف الموضوعية والمتغيرات الخطيرة الراهنة - أنه قد بات من الواجب علينا مراجعة كثير من حساباتنا الثقافية، وموروثاتنا الفكرية، خصوصاً ما يتعلق منها بضرورة تنقية أجوائنا التاريخية من كل هذا التراكم الكمي والتضخم الذاتي النخبوي، على ضوء فهمنا للطريقة الواقعية التي أسميها بطريقة "الثابت الموضوعي" التي تتميز بالخصائص التالية:

أ- تتعامل هذه الطريقة مع حركة الأهداف العليا والطموحة بمنطق العقل والواقع، من خلال أن لكل ظاهرة أو حادثة تاريخية معينة أسبابها (وعلتها) الطبيعية المباشرة، ومفاعيلها المتحركة في الواقع.

ب- تتعامل هذه الطريقة مع الواقع أيضاً بظروفه الموضوعية العملية المؤكدة بسنن إلهية كونية، على أساس أن الله تعالى لا يريد للمسلم أن يركز قواعده في الواقع -ويؤكد وجوده في الحياة - من خلال البعد الغيبي على الرغم من أن الإيمان بالغيب هو أحد صفات المؤمنين.. ولكنه دعاه إلى بناء أسس وشرائط تعمير الحياة وبناء أساسيات وجوده بالوسائل الإنسانية الواقعية، وأن يصل إلى أهدافه ونتائجه العملية في الحياة من خلال إنتاجه وفكره النظري والتطبيقي، في مستوى بحثه واستقصائه عن القوانين والسنن الطبيعية التي أودعها الله في أرجاء الكون الفسيح، فيما يعنيه ذلك من ضرورة قصوى في أن يخوض الدين - بكل فكره ووجوده ورموزه- التجربة الإنسانية بعمق امتدادها في حركة الواقع.

ولا يعني هذا الكلام أبداً استبعاد الغيب – بأبعاده وتجلياته الواقعية والعملية المختلفة - عن ساحة الفكر والواقع والحياة فيما قد يمتلكه هذا الجانب المرتبط بالعبادة من قدرة هائلة على تحويل الإيمان بالغيب إلى طاقة عمل إنتاجية (وقوة محركة) إبداعية هائلة في الواقع.. بل نحن نؤمن بالغيب كقاعدة ثابتة في خط الإرادة الإلهية وأسرارها الغيبية من حالات الخلق والإبداع والرعاية والحفظ والنجاح والنصر.. وما إلى ذلك، في الجانب الخفي عن قدراتنا ووسائلنا القاصرة ومما لا نملك له تفسيراً مادياً.

ج- التحليل الدقيق للأشخاص والوقائع والأفكار، والبحث المعمق في طبيعة نشأتها، وتركيبتها وخصائصها العامة.. وبالتالي مواجهة الأخطار والمواقف السلبية بروح مسؤولة واعية، تمتاز بالصبر والشجاعة والهدوء، تنقد بجرأة وطموح ووعي كجزء من الخطة العملية الشاملة للمسيرة التكاملية الهادفة، لا كحالة مزاجية طارئة على ساحة الفكر والشعور.

د- التعامل مع التاريخ بلغته العلمية التحليلية الموضوعية في الاتجاه الذي تتحول فيه وقائع هذا التاريخ وحوادثه العامة - التي عاشها البشر في الماضي- إلى فعل حي متحرك تستنبط من خلاله جملة القواعد والسنن الإلهية المهيمنة على مجريات الأحداث، والوقائع التاريخية المتنوعة، على صعيد ملاحظتها ودراستها وتحليلها وتركيبها واكتشاف خصائصها وطبائعها المميزة، وروابطها العلية والمعلولية، واستنتاج ضوابطها العامة الحاكمة, ثم نشر القانون وتعميم قاعدتة على الحاضر والمستقبل كمرحلة من مراحل المسيرة الإنسانية نحو أهدافها الكبيرة في الحياة.. ويمكننا هنا أن نضرب المثال التاريخي التالي عن كيفية هذا الاستخدام الفعال في تحليل حركة التاريخ، والاستفادة منها في حركة الحاضر والمستقبل.. فقد روى ابن كثير في تاريخه أن معاوية بن أبي سفيان لما زار المدينة المنورة لأول مرة (بعد أن استقر له الملك في الشام) "توجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل، فسكن عائشةَ بنت عثمان، وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخي، إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا، وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا"(راجع بهذا الخصوص كتاب: البداية والنهاية لابن كثير، ج8/ص132، مكتبة المعارف، بيروت)..

ولعل هذا النص يقدم لنا صورة حقيقية وبالغة الأهمية والدلالة عن طبيعة المشكلات والصراعات التي حدثت في داخل مجتمعنا الديني العربي الإسلامي في عمقها التاريخي، وأسبابها الاجتماعية والسياسية.

واليوم تبدو ظروفنا وتحدياتنا مشابهة كثيراً لتلك التي عانت منها أمتنا في سابق عهدها، وبخاصة بعد أن استولى معاوية – وغيره من فراعنة التاريخ - على الحكم، وفرض نفسه بقوة الحديد والنار على صدر هذه الأمة.. فهناك:                                  

• مجتمعات عربية وإسلامية ممزقة، وتعيش صراعاً وتدافعاً طائفياً واستقطاباً مذهبياً محتقناً مريراً حول معاني ووظائف وأدوار، وحول قضايا وإشكاليات الحكم والسيادة، لا تقترب فيه أبداً من تحكيم لغة الحوار، ومنطق التراضي والتدافع السلمي.

• فشل ذريع للسلطات السياسية الرسمية الحاكمة في إدارة قضايا الوطن المحلية (تحقيق التنمية الشاملة، توفير الحريات، القضاء على الفقر والبطالة ... الخ)، إضافة إلى فشلها في قضايا الوطن الخارجية مثل قضية فلسطين.

• وجود بون شاسع وانقطاع واسع بين حاكم غير شرعي (فرض نفسه بالقوة والقهر، واعتبر أن السلطة حق طبيعي له ولذريته وحاشيته) وبين محكوم مستضعف (مطارد وملاحق وعاجز عن تحقيق الحد الأدنى من متطلبات وجوده الإنساني الطبيعي)، فقد الثقة في نظمه وأجهزته الحاكمة، لأنها لم تقم لخياره وزناً، وتجاوزت حدود العدل في الحكم والقسط.

• خوف تلك القيادات الدائم من شعوبها، مما يجعلها تتحسب للثورات والانتفاضات في كل وقت.. أو بتعبير معاوية نفسه: "فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا".. أي سيادة ثقافة الخوف والخوف المتبادل.

• سيادة العلاقات النفاقية والتملقية – إذا صح التعبير- بين الحاكم والمحكوم، وإظهار كل منهما للآخر غير ما يبطن، نظراً لانسداد أبواب التعاون الحر، وانعدام التناصح النزيه. 

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن مجمل الأساليب وآليات العمل السياسي والاجتماعي ذات الطابع العنفي والدموي -التي سبق أن استخدمها معاوية في تثبيت أسس ملكه العضوض- لا تزال سائدة حتى الآن لدى كثير من أنظمة الحكم العربي والإسلامي خاصة التقليدية والنمطية منها، بحيث باتت السلطة السياسية (النظام السياسي القطري) غريبة بالمعنى السياسي والثقافي عن محيطها الشعبي.

والمقصود بـ "غربة" السلطة السياسية – كما يعبر أحد الباحثين- هو وجود التباعد (وربما التعارض الكلي) ما بين الانتماء الثقافي والأيديولوجي للشعب وللأمة، وما بين الانتماء الثقافي والأيديولوجي للسلطة الحاكمة.. فالشعب يغلب عليه الانتماء الحضاري العربي والإسلامي، في حين أن السلطة السياسية يغلب عليها الانتماء الثقافي الغربي.. من هنا يكون استخدام تلك السلطات للعنف والقسر في تثبيت حكمها ونفوذها بديلاً وتعويضاً عن شرعيتها الضائعة، وتغطية للأشكال المتنوعة من الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي المفروضة على مجتمعاتها، واحتواءً لأجواء الصراعات والمشكلات الداخلية.

وطالما أننا نتحدث عن التاريخ الذي يختزن الماضي في أحد أبعاده، فإننا نعتقد أن الحديث عن الماضي, والبحث العلمي الموضوعي في حيثياته ومضامينه الواقعية, لا يعني مطلقاً أننا نريد أن نسحب تجربة الماضي إلى الحاضر, بل المسألة ترتبط بحركة الثابت والمتغير في بعده الزماني الذي هو كلٌ متفاعل ومتكامل مع حركة كل الموجودات الأخرى.. على أساس أننا نريد أن نحلل التاريخ الماضي بحسب قضاياه وأهدافه وإنجازاته ليكون لنا كسبنا العاقل الهادف وتاريخنا الفاعل ـ في إشارة إلى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة:134) ـ الذي ينبغي علينا أن ندرسه بوعي متفتح، وذهنية متبصرة.. ونحاول إخراجه من دائرة الجمود في قوالبه الجاهزة والمعدة مسبقاً في إطارات معينة, ونطلقه في الدائرة الموضوعية الثابتة كأساس من أسس بناء وإنجاز مشروعنا(ووعينا) الحضاري الإسلامي.

من هذا المنطلق تتحدد أمامنا مسألة مهمة جداً وهي أننا عندما نريد دراسة سيرة الأئمة(ع) فإنه يجب علينا أن نتفهم الزمن الثقافي الذي كانت تعاصره تجربتهم، وطبيعة ممارساتهم وأعمالهم وإنجازاتهم وذلك بهدف الاستفادة المباشرة منها في الحاضر والمستقبل.. الأمر الذي يلزمنا مسبقاً بضرورة التعاطي مع هذا البعد بحس موضوعي هادف بما يجعلنا ننفتح على الأئمة(ع) لا على أساس أنهم رجال معصومون على المستوى السياسي والفكري والاجتماعي فحسب (تماماً كما يفعل الكثيرون من خلال تقديس الأشخاص وتضخيمهم من جهة، وتغييب منهجهم ورسالتهم وأفكارهم من جهة أخرى) ولكن أيضاً على أساس أنهم رجال رساليون وعمليون، أصحاب منهج عمل وتنظيم رائد، وأطروحة قيادية أصيلة سياسياً واجتماعياً وفكرياً.. حيث أننا نريد أن نستفيد من الأئمة(ع) - ونستلهم رسالتهم المقدسة، وأدوارهم، وفكرهم الرسالي الإنساني العظيم - في حجم الأبد والإنسانية كلها، لا في حجم اللحظة الآنية الزائلة.

ولذلك فإن أية رؤية للتاريخ لا تتأسس – في داخل بنيتها الذاتية- على قاعدة النقد، وجب الشك فيها مباشرة، وهذا ما نجده واضحاً في القرآن الكريم الذي مارس عملية النقد الموضوعي البناء لكل تجارب الماضين.. وخاصة الماضي الذي كانت تعيشه الأمة التي نزل فيها القرآن الكريم.. وهو تركيز على الحقائق الجديدة، وتوجيه للإنسان من أجل أن يبقى في حالة الانفتاح الفكري المسؤول، وتأكيد لكل الناس بأن الجيل الحاضر لا تقع على كاهله أية مسؤولية عن أعمال وكسب الجيل الماضي، كما أن على كل جيل – كما تتحدث (وتوحي) الآية الكريمة السابقة - أن يكسب فكره وعمله بنفسه.

وهذا الأمر لا يعني أننا نريد مصادرة التراث كأولئك الذين انبهروا بالحضارة المتقدمة (بكلماتهم الفضفاضة عديمة القيمة والمعنى في حركة الواقع والمسؤولية في الحياة)، كما وإننا لا نريد أن نستغرق في هذا التراث الهائل، لنقدسه في كثير من مواقع تخلفه وضعفه التي تحكم ممارسات وتوجهات الكثيرين حالياً، ونغفل عما قد حفلت به تطورات وإنجازات الإنسانية المعاصرة.. ولكننا نريد أن نساهم - ولو بشكل جزئي– في إنماء بواعث الحركة الفكرية والحضارية الفاعلة لأمتنا في حركتها الراهنة في دائرة الصراع الحضاري، فيما يمكن أن يقدمه (تراثنا وفكرنا الإسلامي النقي والأصيل الذي تجب صياغته كمشروع استنهاض حضاري إنساني متكامل ومتفاعل مع باقي الحضارات الإنسانية) من إضاءات متنوعة في خط الرسالة والفعل الثقافي الإنساني المنفتح والمنتج.

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة