ما بين ضبابية الخيارات ومعضلات التصعيد
إسرائيل وتحديات المخاطر والفرص المتاحة!

السنة الثالثة عشر ـ العدد 151 ـ (شهر رمضان 1435 هـ) تموز ـ 2014 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أضافت تطورات المشهد العراقي المفاجئة، وسيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على مناطق في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى، والتي من شأنها خلط أوراق كثيرة في مجمل الإقليم الذي يقف على فوهة بركان، أبعاداً جديدة إلى السجال الإسرائيلي المتصاعد حيال الخيارات المتاحة أمام كيان الاحتلال تحت ظلال التغيرات الجوهرية في المحيط الاستراتيجي المتلاطم..

وحول شكل وطبيعة سيناريوهات الحرب المقبلة المحتملة تحت وطأة معادلات القوة الخطرة التي ارتسمت في الميدان، وبدت جلية واضحة في إحباط الجيش السوري، على سبيل المثال، عملية إقامة "منطقة عازلة" في المناطق المحاذية للجولان المحتل وصولا إلى الحدود الأردنية، على غرار المنطقة التي أقامتها إسرائيل في جنوب لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك في تنفيذ "حزب الله" سلسلة عمليات نوعية "مشفَرة" في مزارع شبعا المحتلة والجولان.

ما يمكن رصده في الخطاب الإسرائيلي الذي ارتفعت نبرته في مؤتمر هرتسليا الأخير، بعد تنافس الساسة والعسكريين وممثلي أجهزة الاستخبارات، ليس فقط على توصيف الوضع الأمني الإسرائيلي والتحديات والأخطار التي تواجهه ومدى الاستعداد والجاهزية وحسب، وإنما كذلك على إطلاق التهديدات ضد سوريا وإيران و"حزب الله"، يمكن تكثيفه بالتالي: النفخ في قوة واستعدادات الجيش الإسرائيلي ومناوراته المتواصلة على مختلف الأصعدة؛ التركيز على ضرورة منع إيران، ولو بالقوة، من الوصول إلى "القدرة النووية"؛ الإصرار على ضرورة استمرار الحرب ضد سوريا لسنوات عدة، طالما (الرئيس) الأسد موجود في الحكم، وتجاهل الحديث عن المساعدات الوازنة التي تقدمها حكومة نتنياهو للمسلحين في سوريا الذين تقدَر شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي "أمان" عددهم بـ 120 ألف مسلح؛ تكرار الإشارة إلى تضاؤل احتمالات الحرب بين إسرائيل وأي من جاراتها، ولاسيما على الجبهة الشمالية، مع التركيز على التغيرات الوازنة في المحيطين الإقليمي والدولي، والمطالبة، ولأول مرة في تاريخ الكيان، بأخذ البعد الإقليمي وموازين القوى المتشكلة فيه بنظر الاعتبار في إطار مفهوم الأمن القومي حديث العهد، والذي عليه أن يتضمن عموم العناصر التي يعتمد عليها الأمن القومي، بما فيها الجيش، الاستخبارات، الديموغرافيا، البنى التحتية، المياه، استيعاب الهجرة، الاستيطان، الحدود وغيرها.

أضواء على قدرات "حزب الله"

غير أن المفارقة التي تستوقف، في هذا السياق، هي أن التقدير المتعلق  بمدى الاستعداد والجاهزية الإسرائيلية، وتضاؤل احتمالات الحرب، لم يحل دون تركيز أضواء عسكرية واستخبارية وإعلامية ساطعة على تنامي قدرات وتسليح "حزب الله" الذي اعتبر غانتس أنه بات يمتلك قوة نارية هائلة "تغطي كل نطاق دولة إسرائيل"، وفي مقدمها شبكة الصواريخ التي قدَر وزير الحرب موشي يعلون، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية إيتان بارون، عددها بنحو 170 ألف صاروخ موجهة "في هذه اللحظة نحو إسرائيل"، ناهيك عن بضعة آلاف من صواريخ قطاع غزة التي تتوزع بين قصيرة المدى (20 كلم) ومتوسطة المدى من 40- 80 كلم)، والتركيز كذلك على إمكانية استبدال الحزب إستراتيجيته القديمة (إستراتيجية الاستنزاف) التي ضمنت له "النصر عن طريق عدم الهزيمة"، حسب تعبير معلق الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل، في العام 2006، بأخرى ترتكز على احتلال منطقة الجليل التي سبق لأمين عام الحزب السيد حسن نصر الله أن أشار إلى إمكانية تحولها إلى المكان الملائم للمواجهة المقبلة أكثر من مرة، دون إغفال مبادئ حرب الاستنزاف التي تتضمن تحسين قدرة الاحتمال والصمود، وضرب الجبهة الداخلية المدنية الإسرائيلية، وبناء قدرة على عرقلة تقدم جيش الاحتلال (بعبوات ناسفة ومضادات الدروع وراجمات الصواريخ).

وفي هذا السياق، ينقل عاموس هارئيل في "هآرتس"، عن مقالة مهمة نشرت مؤخراً في المجلة العسكرية "معرخوت"، عرض فيها ضابط استخبارات، هو المقدم ن. (لم تنشر المجلة اسمه الكامل)، "سيناريو" بديلاً للحرب المقبلة، بأنه توجد دلائل على أن "حزب الله" يفكر بالعمل على تقصير مدة المعركة في المرة التالية بإجراءات برية في داخل إسرائيل، وذلك على الرغم من أن إستراتيجية "النصر بواسطة عدم الهزيمة"، حسب المقدم. ن، عبّرت عن فهم عميق لدى "حزب الله" عن حقيقة موازين القوى، ومواضع الضعف الإسرائيلي، بما في ذلك الخسائر البشرية، وعدم الرغبة في إطالة أمد المعركة، والحاجة إلى تحقيق نصر حاد واضح. ولذلك عملت المقاومة الإسلامية على إطالة القتال وإظهار صمودها حتى النهاية. وقد تُرجمت هذه الأفكار، وفق المقدم، بثلاثة مبادئ عملية: تحسين قدرة الاحتمال والصمود، وضرب الجبهة الداخلية، وبناء قدرة على عرقلة تقدم الجيش الإسرائيلي.

ويبدو أن أحد أبرز حيثيات هذا التحول الأساسية، بنظر كاتب المقالة، يتعلق بتجربة "حزب الله" في سوريا، والتي اصطدمت، فعلياً وعلى الأرض، بالتدخل الإسرائيلي المباشر إلى جانب الإرهابيين في مواجهة الجيش العربي السوري، ومحاولات هندسة منطقة عازلة تشكل قاعدة انطلاق لتكثيف العدوان ضد الدولة السورية. ولعل المواجهات الأكثر سطوعاً، في هذا المضمار، هي التصعيد العسكري، قبل أسابيع، في الجولان ومزارع شبعا المحتلين، بعد إصابة أربعة مظليين إسرائيليين في الهضبة المحتلة، وتفجير عبوة ناسفة ضد دورية للاحتلال في المزارع التي تسميها إسرائيل "هاردوف"، وتفكيك أخرى، وإطلاق قذائف صاروخية في منطقة جبل الشيخ، وهجوم سلاح الجو الإسرائيلي على ثلاثة مواقع للجيش السوري قرب القنيطرة. حيث اعتبر هذا المستجد، الذي تعانق مع رفع منسوب الدعم العسكري المباشر الذي تقدمه قوات الاحتلال لتنظيمات "جبهة النصرة" و"لواء الإسلام" وألوية أخرى من تنظيم القاعدة"، وفق تأكيد الكاتب الألماني كريستوف ليهمان، ترجمة فصيحة لقرار توسيع إطار ومدى المشاركة الفعلية الإسرائيلية في القتال الدائر في سوريا، والذي ربما يعتبر بمثابة تمهيد لاندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة. وعلى الرغم من أن القراءة الإعلامية الإسرائيلية للتطورات الأمنية الأخيرة في الجولان المحتل ومزارع شبعا لم تشذّ عن سياق تقديرات الجيش وأجهزة الاستخبارات التي ترى أن سوريا و"حزب الله"، ومن خلفهما إيران، غير معنيين بفتح جبهة مع إسرائيل بسبب انشغالهم بالأزمة السورية. إلا أن هذه القراءة لم تخف قلقها وخشيتها من توكئ حكومة نتنياهو "المرتبكة" على إغراء هذه التقديرات للخروج باستخلاصات خاطئة حيال طبيعة رد فعل سوريا و"حزب الله" في لبنان على الاعتداءات الإسرائيلية، وتالياً الاندفاع نحو تغيير "قواعد الاشتباك"، ولاسيما في ظل تراكم المؤشرات على نية تل أبيب استغلال الحرب على سوريا، وواقع التشظي وغياب الدور والتأثير العربيين، ودخول الحركات السلفية المتطرفة معادلة الصراع ضد محور سوريا – إيران - "حزب الله" في المنطقة، للقيام بمغامرة عسكرية واسعة ضد سوريا، وتسجيل ذلك في بورصة الصراع الروسي- الأمريكي المرشح للمزيد من التأزم، وربما إلى الوقوف على أعتاب "المنازلة الكبرى" التي يدعو إليها صقور واشنطن ونظراؤهم في الغرب وكييف وتل أبيب، والمرجح أن تكون منطقة المشرق العربي إحدى أهم ساحاتها.

الشمال.. ومصيدة التصعيد

هذا التقدير المتشائم حيال الحرب، عززته، على الأرض، جملة الإجراءات المتخذة من قبل قوات الاحتلال التي قامت بنشر فرقة عسكرية إسرائيلية جديدة في الجولان السوري المحتل، وإخضاع عديدها لتدريبات عسكرية مكثفة ومتواصلة في المنطقة، في مقابل نشر خمس فرق عسكرية سورية على جبهة جنوب دمشق المقابلة (المتاخمة للأردن والمواجهة لفلسطين المحتلة)، ما رفع من وتائر احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية بين الطرفين، من بوابة الجولان المحتل، انطلاقاً من تقديرين متناقضين: الأول، هو أن إسرائيل التي حاولت، وعلى مدى شهور طويلة، إخفاء صلتها بأحداث سوريا، وارتباطها ببعض المجموعات المسلحة، لم يعد باستطاعتها، وكما يؤكد مركز أبحاث مقرب من بنيامين نتنياهو، النأي بنفسها عن الشأن السوري، وإهدار فرصة فرض "المنطقة العازلة" المأمولة، ما يدفع هذا الكيان، ليس فقط إلى إشهار علاقته بمجموعات مسلحة واستخدامها في خدمة أطماعه التوسعية في الأراضي السورية، وإنما كذلك إلى توسيع إطار ومدى مشاركته الفعلية في القتال الدائر على الأرض. أما الثاني، فله علاقة بالتقدير بشعور دمشق وحلفائها بالثقة المتزايدة، بعد تقدم الجيش السوري في مناطق عديدة، وازدياد صلابة الدعم الروسي، في مقابل الانسحاب البطيء لأمريكا من المنطقة، وفق ما يقول ويؤكد وزير الحرب الإسرائيلي موشيه يعلون.

غير أن الأهم في المعطيات التي دفعت المعلقين العسكريين في الصحف العبرية إلى التحذير من وقوع إسرائيل في مصيدة التصعيد على جبهة الحدود الشمالية، لا تتعلق فقط بالخوف من الأضرار التي يمكن أن تلحق بالجبهة الداخلية المتداعية، وانفجار الفقاعة الأمنية التي أحاطت بالإسرائيليين في السنوات الأخيرة، أو بالخشية من انجرار المؤسسة العسكرية التي تعاني من صداع أمني في جبهة غزة، ومؤخراً في بعض مناطق الضفة الغربية بعد اختفاء ثلاثة مستوطنين بالقرب من مدينة الخليل، إلى حرب استنزاف تتناغم والإيقاع الذي تفرضه سوريا والمقاومة، وتذكر ببداية الأحداث في "المنطقة العازلة" على الحدود مع لبنان في الثمانينات والتسعينات، وإنما تستند أيضاً إلى تقدير موضوعي وواقعي لموازين القوى الجديدة في المنطقة والعالم، وعلى مختلف المستويات، وإلى قراءة دقيقة ومعمقة للرسائل الجدية القاطعة التي صدرت عن القيادة السورية وقيادة المقاومة.

ومع ذلك، وعقب امتداد عمليات الجيش السوري إلى الريفين الغربي والشمالي الغربي لمدينة درعا، علاوة على المدينة نفسها، والبدء بترجمة إستراتيجية قطع خطوط إمداد الإرهابيين، وحرمانهم من ربط مناطق سيطرتهم بين محافظتي درعا والقنيطرة ومناطق الجولان المحتل، وتأمين خطوط إمداد ومنطلقات للجيش نحو المعارك المقبلة التي من شأنها تحقيق اختراق لوجستي كبير، وإحداث تبدّل جذري في موازين القوى على كامل التراب السوري، وتوجيه ضربة معنوية قاصمة للإرهابيين ومشغّليهم الدوليين والإقليميين. مع ذلك عادت جبهة جنوب البلاد المعقّدة لتتصدر المشهد الميداني السوري، مرة أخرى، وتتحول إلى ساحة التجاذب العسكري مع إسرائيل التي رفعت من منسوب مساعداتها اللوجستية والعسكرية لمجموعات الإرهاب في الجنوب السوري، واستقدمت تعزيزات إلى تلال الجولان المحتل المحاذية لخط الفصل الممتد من وادي اليرموك جنوباً حتى مجدل شمس شمالاً، وقامت بتكثيف عملياتها الأمنية والاستخباراتية في مجمل منطقة الجولان بعد إعلانها "منطقة عسكرية مغلقة". وما منح هذه التطورات، المرشحة لمزيد من التصعيد في الأيام المقبلة، قيمة مضافة في سياق الانتصارات النوعية التي يحققها الجيش السوري في معظم أنحاء البلاد، لا يتعلق فقط بخصوصية وحساسية هذه الجبهة المتاخمة للأراضي المحتلة، وإمكانية تحولها إلى أكبر مستنقع للإرهابيين بعد "هجرة" العديد من المجموعات التي انسحبت من مناطق القلمون والزبداني إليها، وانضمامها إلى نظرائها من "جبهة النصرة" و"جبهة ثوار سوريا"، وسواها من الجماعات التكفيرية، وترجيح هروب إرهابيي الغوطة الشرقية إليها بعد سقوط المليحة وبقية البلدات المجاورة بيد الجيش السوري قريباً، وإنما يتصل أيضاً بتزامن هذه التطورات مع موعد المناورات العسكرية الأمريكية- الإسرائيلية التي جرت في أراضي فلسطين المحتلة، وكذلك مع التمرينات العسكرية المسماة "الأسد المتأهب" التي جرت في الأردن ما بين 25 أيار/مايو و10 حزيران/ يونيو، بمشاركة  13 ألف جندي، يمثلون الولايات المتحدة و24 دولة أخرى، من بينها دول الحلف الأطلسي وبعض الدول العربية.

ولأن هذه المناورات كانت تستهدف، بالأساس، شن حرب نفسية ضد السوريين وجيشهم الوطني، وتوجيه رسالة للقيادة السياسية تفيد بأن ثمة خيارات أخرى يمكن اللجوء إليها لوقف انهيار المجموعات الإرهابية، ومواصلة عملية الحرب المتواصلة منذ ثلاث سنوات ونيف على سوريا، وعدم سقوط الرهان على إمكانية ما يسمى "تعديل موازين القوى" في الميدان، ولو كان ذلك من خلال تجنيد تعزيزاتٍ كبيرة في جبهتي الجنوب والشمال وضخ دماء إضافية في شرايين الوهم الذي أسمته جماعات الإرهاب "اقترب الوصول يا شام الرسول"، أو شن عدوان مباشر عبر الأراضي الأردنية، فإن القيادة السورية اختارت أن يكون الرد على هذه الرسائل الأمريكية- الإسرائيلية بشكل عملي، وبالنار التي أثبتت، بالملموس، أنها الوحيدة القادرة على إلقاء كل هذه الرسائل في سلة المهملات، وإسقاط أهداف مخططات العدوان قبل البدء بعملية التنفيذ، على غرار ما شهدته مناورات "الأسد المتأهب" الماضية التي جرت في حزيران/ يونيو العام الماضي، بمشاركة ثمانية آلاف عسكري من 19 دولة، منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا والسعودية، والتي فشلت في تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي أو معنوي.

إرهاب "داعش" ومحاولات التوظيف

في موازاة ذلك، وعلى خلفية تطورات المشهد العراقي التي تبارى المعلقون الإسرائيليون في تفكيك رموزها على قاعدة تضخيم واقع الحدث الذي كانت الإدارة الأمريكية على علم مسبق بتفاصيله، وأبعاده الإستراتيجية التي لن تقف عند حدود إقامة كيان متطرف جديد في المنطقة، وإمكانية توظيف ذلك لمصلحة إسرائيل المصابة بالعمى العنصري، والجنون الاستيطاني، والتي تعيش ضد قوانين التاريخ، وضد المزاج الدولي المتغير، وضد مصالح الجميع، وتندفع أكثر وأكثر نحو الصدام العنيف، ونحو التفجير الشامل، يرتفع منسوب عملية صناعة القلق على "الأمن القومي الإسرائيلي" وضرورة توفير مقومات الدفاع عن هذا الأمن في خضم الأمواج العاتية التي تجتاح منطقة المشرق العربي برمتها. ويبدو أن الأضواء الإسرائيلية التي سلطت على المشهد المستجد في العراق بعد ما سمي "غزوة الموصل" قد تركزت على محورين أساسيين: ضرورة اجتياز أية خطوط حمراء عندما يتعلق الأمر بـ "الأمن القومي"، ومحاولة إيجاد ما تعتبره إسرائيل "أرضية مشتركة" للتعاون مع دول عربية، في محاربة "القوى الإسلامية المتطرفة"، دون إغفال أهمية إثارة النزعات المذهبية والنفخ في أتونها. ففي مقال نشره نشر في صحيفة "إسرائيل اليوم" المقربة من حكومة نتنياهو، اعتبر بوعاز بيسموت، محرر الشؤون الدولية في الصحيفة، أن "للإسلاميين مطامح كبيرة. وبموازاة صراعهم الوحشي في سوريا، يتطلعون لإسقاط النظام العراقي. ويصعب جدا اليوم التنبؤ كم هم بعيدون عن الوصول، لكنهم حققوا إنجازات مهمة: فهم يسيطرون على أرض شرقي سوريا (محافظة دير الزور)، وبفضل سيطرتهم على محافظة نينوى فتحوا لأنفسهم ممرا يربط بين الأنبار والموصل والحدود السورية. والمعبر الحدودي الذي يسيطرون عليه يسمح للجهاديين في سوريا بالتواصل مع الجهاديين في العراق، وبالعكس. وغدا تنقل السلاح والرجال والمال بين هاتين الدولتين ممكناً"، ليستنتج من ذلك أن "العراق يتفكك"، وأن سيناريو الكابوس عند الأمريكيين يتحقق. أما جاكي خوري، فكتب في "معاريف الأسبوع" تحت عنوان "عاصفة في الصحراء"، إن تنظيم "داعش" يهدف إلى "إقامة دولة شريعة"، وإن من أسماهم سكان "المحافظات السنية" مستعدون لأن يقبلوا إمرة الفصائل السلفية، على الرغم من أن الأخيرة تتبنى نمط حياة ديني متزمت.

وقبل الوقوف على الاستثمار الإسرائيلي المباشر في الحدث العراقي، لا بد من التذكير بأن تنظيم "داعش"، وكما هو حال كافة التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تتوزع على مختلف أرجاء الجغرافيا العربية، وبالأخص في سوريا التي شكلت سداً منيعاً أمام تفكيك دول المشرق العربي على أسس طائفية ومذهبية وإثنية وجهوية، لم يسجل أية محاولة لاستهداف إسرائيل أو مصالحها في كافة أنحاء العالم، لا بل إن إسرائيل تحولت، ولاسيما في العام الأخير، إلى شريك أساسي للإرهابيين في القنيطرة والجنوب السوري بشكل عام، فيما تقوم قيادات هؤلاء، ووفق تقارير استخبارية غربية، بزيارات إلى إسرائيل، وتقدم معلومات إلى استخبارات العدو تتعلق بالمؤسسات والمواقع العسكرية السورية، فضلاً عن إيفادها مرتزقة للتدرب في معسكرات صهيونية خاصة على المواد التفجيرية وتنفيذ الأعمال الإرهابية، وتتلقى من هذا العدو أجهزة ومعدات الكترونية تم ضبط بعضها من قبل الجيش السوري خلال المواجهات. وهو ما يتقاطع ويتكامل مع ما ذكرته مجلة "ذا ناشيونال إنترست" الأمريكية، قبل أسابيع، من أن إسرائيل تشتري المعلومات من مجموعات سورية مسلحة، وأن ثلاثة من قيادات هذه المجموعات، وفق أحد قادة الإرهابيين، على تواصل دائم مع مسؤولين في الاستخبارات الإسرائيلية، وأنهم تلقوا، أكثر من مرة، تمويلاً يقدر بمئات آلاف الدولارات.

خريطة الخلافة أم مخطط التقسيم؟!

ومع ذلك، وعلى خلفية قيام إرهابيي تنظيم "داعش" الذي بدأ، عملياً، بمحاولة تنفيذ مخطط تقسيم المنطقة وفق وثيقة "كيفونيم" التي قام بترجمتها ونشرها داعية السلام الإسرائيلي د. إسرائيل شاحاك في 13 حزيران/ يونيو 1982، بإزالة السواتر على الحدود السورية- العراقية في منطقة ربيعة- اليعربية، وتوزيعهم على وسائل الإعلام خريطة تضم ما يسمى "دولة الخلافة" في مراحل تأسيسها الأولى، والتي يلاحظ إغفالها لواء اسكندرون التي تحتله تركيا أو أية أراض سعودية،، علا الصراخ الإسرائيلي، واستنفر الكيان مختلف ماكيناته الإعلامية تحت ذريعة ارتفاع منسوب الأخطار الإستراتيجية التي تتهدد الدولة العبرية، كون الخريطة "الداعشية" تضم، إضافة إلى سوريا ولبنان والعراق والكويت، فلسطين المحتلة، حيث جرى تسويق هذه المعطيات على أنها مقدمات جدية لاقتراب حدود "داعش" من حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تتهددها تواجد الجبهات "الجهادية" في شبه جزيرة سيناء. وذلك على الرغم من إجماع المحللين الجادين بأن إضافة فلسطين المحتلة للخريطة مجرد احتيال لتضليل للرأي العام وليس أكثر.

ولأن الأردن الذي سيكون أي حكم إسلامي متطرف فيه كابوس فعلي لدى القادة السياسيين في إسرائيل، هو المرشح بأن يكون الهدف التالي لتنظيم "داعش"، بعد سوريا والعراق، وفق ما يرى رون بن يشاي في موقع "يديعوت أحرنوت" الإلكتروني، وعلى قاعدة بدء اقتراب إرهابيي "داعش" من الحدود الأردنية، وضبط القوات الأردنية سيارتين مفخختين حاولتا العبور إلى الأراضي الأردنية من جهة الشرق، فإن ثمة ضرورة للتصرف، إسرائيلياً، حالياً وفق قاعدتين، حسب ما يؤكد مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق الجنرال عوزي ديان، في صحيفة "إسرائيل اليوم": استعدّ وفق قدرات عدوك وليس وفق نياته، وحافظ بشدة على ذخائرك الإستراتيجية، خصوصاً حدود قابلة للدفاع". وفي رأيه، فإن مثل هذه الحدود هي التي "تمنح إسرائيل عمقاً استراتيجياً أساسياً، وحماية ضد مخاطر الهجوم التقليدي من الخارج ومكافحة فعالة للإرهاب". أي ، بكلام آخر، لا بد لإسرائيل التي تملك عمقاً استراتيجياً في سيناء وفي الجولان المحتل، بأن تحتفظ بالسيطرة على غور الأردن وعلى الضفة الغربية للنهر لمنع تسلل جهات إرهابية وإسلامية متطرفة إلى الضفة الغربية، وإلى داخل أراضي إسرائيل، لاسيما وأن هذه الحدود الشرقية هشة وغير قابلة للحماية، وفي حال الاحتفاظ بالغور فإن المسافة بين نهر الأردن والبحر المتوسط هي 64 كيلومتراً تمثل الحد الأدنى لأي عمق استراتيجي. ومن هذه النقطة انطلق ديان ليرسم سيناريوهات مفزعة لإسرائيل، وتبرر أهمية الطبوغرافيا والسيطرة على الأرض، وضرورة عدم التنازل عن السيطرة العسكرية التامة على نهر الأردن.

من كل ذلك، واستناداً إلى السعار الإسرائيلي المتعلق بتكثيف المناورات والتحشيد في المناطق المتاخمة لكل من سوريا ولبنان، واستدعاء الاحتياط ونشر بطاريات صواريخ القبة الفولاذية ومئات صواريخ أرض – أرض، وتحريك قوات من سلاح الدبابات والمدرعات، وحشد نحو 80 مقاتلة في المطارات الواقعة في شمال فلسطين المحتلة وأكثر من 200 مروحية ترابط في نقاط على الخط الأزرق، يمكن الاستخلاص بأن ثمة قلقاً وارتباكاً في أوساط صنَاع القرار الإسرائيليين الذين يعملون، بكل ما أوتوا من قوة، على التحضير للحرب المقبلة، وعلى خلق الظروف الملائمة للتخفيف من حجم تداعياتها من خلال المساهمة الفعَالة في تصعيد المعارك في سوريا، وتفجير مناطق التوتر القابلة للاشتعال في كافة أنحاء المنطقة, وهو ما يبدو اليوم جليا ناصعا في غزوات مسلحي "داعش" على مناطق شمالي العراق.

كاتب فلسطيني(*)

اعلى الصفحة