|
|||||
|
"التصوف الإسلامي".. ينفذ إلى القلب فيفيض إشراقاً
عن دار المواسم صدر مؤخراً كتاب التصوف الإسلامي لمؤلفه الدكتور حسن عاصي. يقع هذا الكتاب في 368 صفحة من القطع العادي ويرمي إلى التعريف بالتصوف الإسلامي: مفهومه، نشأته، وتطوره، ومكانته من الدين والحياة. يُعد الكتاب مصباحاً منيراً وسراجاً وهاجاً في بابه، عالج موضوعاً عزّ فيه الكاتبون وقلّ فيه الناصحون، تعدّدت الفرق والأتباع، وقل الآخذون بعلم القوم، فكثر الدجل والانحراف، والشعوذة والتخرّص، فجاء الكتاب ليكشف الغطاء، ويزيل الالتباس، ويظهر ما خفي وغاب من حقائق التصوف، فقرب المورد من المريدين، وسلك بهم سبيل المتقين، وكان توفيقاً من الله على المؤلف أن يكتب في مثل هذا الموضوع، ويقتحمه بعزيمة السالكين، فذلل الصعب، ووطئ السهل، فكان الكتاب تحفة. قدّم المؤلف ذلك في أسلوب واضح كل الوضوح، لا ترى فيه عوجاً ولا أمتا، لا غموض فيه ولا تلغيز، شأن بعض الكتابات الصوفية التي تغرقك في الرمز والإشارة، وإيجاز العبارة، وغياب البيان، فتحتاج إلى شارح لن تعثر عليه، وإلى مفهم لن تتعرف إليه، فتنصرف عنه ولم يحصل لك المراد، وهذا ما لم يرده المؤلف، فتقرأ الكتاب وأنت عاض عليه بالنواجذ، فيه من العلم ما لم تألفه، ومن البيان ما لا تستطيع أن تجاريه فيه، ينفذ إلى قلبك فيفيض إشراقاً، وإلى ذهنك فيزداد انفتاحاً، يسحرك بوضوحه ويقنعك بحججه، فيه من الآيات والأحاديث ما يبهرك، وفيه من النصوص ما يعزز فهمه، ومن الشواهد ما يؤيد دعواه، ومن الإحالات ما يؤكد تحليله، ومن الإشارات ما يزيل الالتباس ويقرب من أفهام الناس، فتقرأ وتقرأ وتعيد وأنت في لهفة لما تعيد، وتحدث نفسك، إذا كان التصوف بهذا الجمال ومعانيه بهذا الجلال، يقربك من المعبود ويطهِّرًك لتكون أهلاً للشهود، فمرحى مرحى، إنه كتاب يحبّب إليك التصوف حتى تجد نفسك راغباً فيه مقبلاً عليه مندمجاً فيه، فأنت إذن تعشق التصوف أليس كذلك؟ وتحب أن تكون من زمرة المتصوفة دون أن تحس كيف حدث ذلك، ولا كيف تسلل إلى قلبك، فأخذ بمجامع روحك ويصبح همك أن تتطهر بماء التوبة لتشرب من عين التسنيم لعلك تجد لنفسك مكاناً في مقام أمين، وتتلفع ببرد اليقين لتحصل لك السكينة والاطمئنان والتمكين، بعد المحو والتجريد، فها أنت في درب السالكين في مقعد صدق مع ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191). الكتاب يحيلنا على ثلة من المصادر الأصلية لتزداد معرفة بأسرار التصوف وكيف تعرج في أبوابه وتتفهم معانيه لتنتقل من المدارسة إلى الممارسة، فلا تقنع بالدون بل تجتهد بالمعرفة والعبادة، لأنهما السبيل الوحيد إلى ما تريد، وليس مجرد الإتباع، والكتاب يضع أمامك خططاً وسبلاً إلى الوصول، كما يضع أمامك نماذج من رجاله فلا بد لك أولاً وأخيراً من أن تعرف - حتى لا تزلّ قدمك- المدارسة والممارسة. ولتعرفهما حتماً يجب أن تنظر في ذاتك، أن تنظر إلى نفسك من داخل نفسك لتظهر لك العيوب والأمراض التي تحول بينك وبين ما تريد من رفع الحجاب، وانفتاح الأبواب، فكل سالك أولا في قلبه مرض، ومعرفة ذلك والإقرار به مع التوبة النصوح بداية الطريق، لذا يجب أن تحدد: ماذا تريد من التصوف؟ وماذا تقصد من وراء الأخذ بأسبابه؟ وهل أنت مستعد لتهجر دار التخلي وتستوطن دار التحلي؟ هنا الغفلة والعجب والرياء! وهنا التردد والحيرة والشك! وهنا الميل والشهوات والخواطر وحديث النفس!.. هذه بعض أمراضك.. والإشارة غير كافية ولا شافية، لأنها منطلق المدارسة ونقطة البدء، ونقطة البدء تكون من الفقه، فلا يلج أحد على القوم وهو جاهل مما يعرف من الدين بالضرورة، وقد قال قائلهم: من تفقه ولم يتحقق فقد تفسق، ومن تحقق ولم يتفقه فقد تزندق... ومن جمع بينهما فقد تحقق. ومن ثم يجاهد السالك نفسه ليعرج المقامات وقد تسلح بالأذكار- ولكل مقام أذكاره، كما ذَكر الساحلي في بغيته- ليسلك سبيل المحسنين عله يكون من المقربين ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً﴾(المدثر: من الآية31). صدَّر المؤلف كتابه بفصل عن مفهوم التصوف ـ وهنا كانت ملاحظتنا له في هذا الفصل ـ فقد عرض للمفهوم الذي تساوت من خلاله هذه النزعة الروحية الإنسانية جمعاء في الماضي والحاضر، في الشرق والغرب، وفي سائر الأجيال وشتى الأنحاء والأرجاء. نلاحظُ في الصفحة 25 من كتابه أن الكاتب قد أدرج عنواناً للتصوف والعمليات الانتحارية تضمن شرحاً لظاهرة العمليات الانتحارية مستفيداً من: "اعتقاد الانتحاري بأنه يقوم بعمل جليل يتقرب به إلى الله تعالى ويرتقي من خلاله إلى عالم الملكوت.... إلخ". إلا أنه وقع في إشكالية الإسقاط لمفهوم الانتحار على أنه نزعة صوفية وهذا فيه خلطٌ والتباس. إذا أن الاعتقاد بوجود عالم الملكوت واليقين ببلوغ ذلك العالم وإدراك ما فيه من الملذات والمغريات لا يمت للتصوف بصلة حتى وإن شابه التوصيف العام ببعض النقاط.. لأن إدراك المرء لوجود هذا العالم في الملكوت الأعلى ليس عملاً تصوفياً.. ذلك لأن التصوف سلوكٌ عملي له ما يشبه الطقوس والأعمال العبادية بعيداً عن قتل النفس حتى ولو كان عملاً استشهادياً بمنظور الشرع كالعمليات الاستشهادية ضد العدو الصهيوني الغاصب ـ على سبيل المثال ـ. لأن الاستشهادي ربما يكون سالكاً للعروج إلى رحمة الله والتقرب إليه ببذل الدم ولكنه أبداً ليس عملاً تصوفياً وفق المدارس والمناهج التي تحدث عنها الدكتور حسن بإسهاب وسلط الضوء على مكامن قد تكون خافيةً عن الكثيرين ـ ومنهم أنا ـ. كان حرياً به أن لا يُدخل هذا العنوان: "التصوف والعمليات الاستشهادية" مع شرحه لظاهرة العمليات الانتحارية نهائياً، ليكون بذلك كتاباً لا تشوبه شائبة من النواحي كافة. إذ لا معنى لوجود هذه الشوكة في خاصرة الكتاب تستنزف القارئ قبل أن يشرع في إتمام قراءته. لأنه وحسب اعتقادنا سيحكم على الكتاب من خلال هذه المقدمة وهذا ما يبخس من قيمته وجودته. ولولا إدراكنا أن هذا الكتاب قيِّمٌ جداً لكنا توقفنا عند الصفحة 25 منه. لكننا ومع متابعتنا له وشغفنا في القراءة لهذا النوع من الكتابة القيم وجدناه كتاباً يحمل الكثير من الفائدة والتشويق ويستحق القراءة لأكثر من مرة. فهو يميط اللثام عن حقيقة غائبة عن الأذهان وهي أن الثقافة الإسلامية متداخلة، متشابكة، متكاملة، يرتبط بعضها ببعض، ومن ثم يصبح التصوف حاضراً في كل العلوم، مرتبطاً بها، مكملاً لها، مستمداً منها ليس مستقلاً بعلم، لأن الصوفي وهو باحث دارس بامتياز، يمتلك كل الأدوات الإجرائية التي تمكنه من تحليل النصوص المعتمدة، والتي تقدم له معنى يراه أحيانا غير موصل للمطلوب، لكي يصل إلى المعنى المطلوب فإنه يستفت قلبه - والقلب في لغة المتصوفة هو موطن العلم اللدني أو الفتح الرباني- ويستبطن ذاته (ونفخت فيه من روحي) عله يصل إلى عالم الأسرار الذي يفتح له نافذة من التجليات تنبهر لها النفوس، وتقصر عنها العقول، لعله يرى بعضا من آيات ربه، إنه يستجلي المعنى الغائب، ونلحظ هذا في تفسيرهم لآيات من القرآن والأحاديث، فنراه يستخلص معنى غير الذي تقدمه تلك العلوم التي هي في نظرهم ليست وسيلة كافية لاستحضار الغائب، وإنما هي أداة لمجرد الوقوف على المعنى الظاهر السليم، بعيداً عن التأويل المشبوه، والرأي السقيم. يقع الكتاب في بابين، يضم الأول وعنوانه: "التصوف بين أيدي الباحثين"، سبعة فصول. ويضم الثاني نصوصاً من التراث الصوفي يستفيد منها القارئ ويتيح له الوقوف على الأفكار ومتابعتها ما يغنيه عن مراجعة المصادر والمراجع الأخرى.
|
||||