فلسطين في مشهد "الربيع العربي"

السنة الثالثة عشر ـ العدد 151 ـ (شهر رمضان 1435 هـ) تموز ـ 2014 م)

بقلم: السيد جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن الذي يحاول أن يأخذ مسافةً عن المشهد العامّ لعالمنا العربي والإسلامي على أثر ما سمّي بالثورات العربيّة أو الربيع العربي، لا يحتاج إلى جهدٍ لكي يرى أنّ ثمّة وقائع غير مباشرة يتمّ صناعتها في المشهد الخلفي لمسرح العمليّات الجارية على الأرض.

إنّه مشهد تحويل الفلسطيني – بعنوانه – إلى أزمة للدول العربيّة والإسلاميّة ومجتمعاتها، وأهمّها دول الطوْق التي تحاصر – جغرافيّاً – الكيان الصهيوني الغاصب، وأوسع دائرةً منها الدول التي يُمكن أن تكون جزءاً من جيش تحرير فلسطين في حال توفّر الظروف الموضوعيّة لذلك. ويهمّنا هنا أن نشير إلى ثلاثة أمور نعتبرها أساسيّة في هذا المجال:

أولاً: التأزيم الشعبي

لو مررنا سريعاً على المشهد الآخذ بالتأزيم منذ سنوات؛ لوجدنا – عوضاً عن الأزمة الكامنة في الأردن، بين ما هو أردني وما هو فلسطيني، مروراً بطرح فكرة الوطن البديل الذي يؤسّس – في شكلٍ طبيعيّ – لتنافُر داخليّ، فهناك ما أفرزته الأزمة السوريّة، والذي شهدته بعض المخيّمات الفلسطينية التي أقحمت في أتون المواجهة المسلّحة للحكومة السوريّة؛ الأمر الذي أدّى إلى تعقيد النفوس ممّا هو فلسطيني؛ يكفينا في ذلك فقط أن يُقال إنّه خائنٌ لكرم الضيافة، أو أنّ أولويّاته مقلوبة تجاه قضيّته الكبرى، أو غير ذلك.

وأمّا في مصر، فواضحٌ أنّ الموضوع امتزج بالذهنيّة المصريّة العامّة تجاه الاعتزاز بالأنا أو النحن، ليتحوّل ما روّج له الإعلام من دخول الفلسطينيّين، وتحديداً حركة حماس، في دعم حكم الإخوان، بما صوّرهم في موقع المواجهة للشعب وللثورة، بل إلى حالة هجومٍ شديد يكاد يكون عنصريّاً، وبالتالي لحقهم أكثر ممّا لحق إخوانهم في سوريا من تأزيم في المشاعر الشعبيّة تجاههم.

ومن الواضح أنّ العراق، وإن كان أبعد جغرافيّاً، إلا أنّه يمثّل خزّانًا مهمّاً في أيّ معركة قادمة تجاه العدوّ الصهيوني، ومع ذلك أصبح في ذهن كثير من العراقيّين الربط بين الفلسطيني وبين التفجيرات التي كانت تحصد أرواح الأبرياء في المساجد والحسينيّات والأسواق وما إلى ذلك.. إنّه تأزيم بلغة الحديد والنار والدم، وهو الأسرع والأثبت في النفوس بطبيعة الحال.

ونصلُ إلى لبنان، الذي شهد أحداثاً أزّمت صورة الفلسطيني من خلال أحداث مخيّم نهر البارد سابقاً، وكذلك في ما يُشاع عن اضطلاع بعض المخيّمات الفلسطينيّة بأدوار لها علاقة بإيواء مرتكبين، أو بتقديم دعم للتفجيريّين، وما إلى ذلك؛ وليس يخفى على أحدٍ أنّ الخوف والترقّب أصبحا سيّديّ الموقف في كلّ منطقة تحتضن مخيّماً يأوي المهجّرين من أرضهم من الفلسطينيّين.

لا ننسى هنا، الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي – إلى وقتٍ قريبٍ – فعل فعله في داخل فلسطين، بما كان يشكّل أرضيّة لحالة العداوة والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد المفترض أن يكون متّحداً في وجه عدوّ يريد أن يقضي على ما تبقّى من إنسانه، ويحتلّ الباقي من أراضيه، ويصادر حقوقه ومستقبله.

ثانياً: التأزيم على مستوى حركات المقاومة

لا يخفى على أحدٍ أنّ من إفرازات ما سمّي بـ"الربيع العربي"، أن أوجد حالة تنافر في الموقف من الأزمة السوريّة، بين المقاومة في لبنان – التي حقّقت انتصارين مدوّيّين على العدوّ الصهيوني في لبنان في عامي 2000 و2006 – والمقاومة في فلسطين – التي قادت الانتفاضات والعمليّات الجهاديّة المتنوّعة وحرّرت غزّة، وأخيراً حقّقت نصراً بعنوان الصمود فيها في أواخر عام 2008 -؛ ومن دون شكٍّ لم يكن ذلك تنافراً مذهبيّاً، وإنّما تمّ على خلفيّة قراءة خلفيّات الأحداث المتسارعة.

هذا التأزيم، انعكس على طبيعة المحاور التي توزّعت المقاومتين: فهناك المحور الذي تقوده بعض الدول العربيّة التي تاريخُها التطبيع مع كيان العدوّ، وسياستها قائمة على الضغط على الفلسطينيّين لتقديم التنازلات تلو التنازلات، متماشية – بذلك – مع الوقائع التي كان يخلقها الاحتلال الصهيوني على الأرض؛ وهناك المحور الذي تقف في مقدّمته إيران، وتنخرط فيه سوريا وبعض الدول الأخرى، والذي يقوم تاريخه على دعم حركات المقاومة للاحتلال الصهيوني بالمال والسلاح، وعلى تخريب المشاريع الاستكباريّة الداعمة لهذا الكيان.

من الطبيعي أنّ سياستي المحورين المذكورين لا تلتقيان فيما يخصّ الموقف من العدوّ وتحرير فلسطين ومشاريع الاستكبار العالمي تجاه المنطقة، فكان حتماً أنّ الاقتراب من أحد المحورين يعني الابتعاد عن الآخر. وعندما تكون المسألة مرتبطة بمقاومة العدوّ الصهيوني، فإنّ نتيجة الاقتراب من المحور الأوّل هو الاقتراب من طبيعة السياسة التي تتحكّم بمواقفه تجاه مسألة المقاومة، وليست حرب تمّوز 2006 ببعيد!

طبعاً لا نستطيع أن نغفل مسألة مهمّة، وهي أنّ مخطّطات كانت تستهدف ضرب وحدة فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها؛ بل في صفوف الفصيل الواحد نفسه، بين ما هو الداخل وما هو الخارج..

بالطبع، لا نعتقد إلا أن الجميع مخلصون تجاه القضيّة، وهم الذين خبروا معنى "إسرائيل" في عدوانيّتها وتنكّرها لكلّ حق فلسطيني وعربي ومسلم، ولكنّ التعقيدات التي ترافقت مع الأحداث المتسارعة التي كانت عصيّة على ضبط أيّ قوّة في المنطقة، والتي أهمّها ما عُمل عليه من إذكاء للشعور المذهبي الذي حوّل المقاومة الإسلاميّة الفلسطينية – في أذهان الشعوب - إلى مقاومة سنّية بالمعنى العصبي للمسألة، والمقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة – في أذهان الشعوب – إلى مقاومة شيعية بالمعنى العصبي للمسألة، وبذلك تهيّأت الأرضيّة الثقافيّة لاستعادة لكلّ أزمات التاريخ التي تتنكّر – بطبيعتها – لكلّ إنجازات الحاضر، فكان أن أمكن – عبر خلق وقائع أخرى مأزومة – إلى تحويل العدوّ إلى صديق، والصديق إلى عدوّ شيطان! في الذهنيّة الشعبيّة العامّة التي ضغطت على كثير من القيادات، حتّى العقلاء منهم.

ثالثاً: اتّساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي

الثورة في عالم تقنيات التواصل هائلة، وتأثيراتها على ذهنيّة الشعوب، وطبيعة الظواهر التي أفرزتها، تحتاج إلى دراسات وأبحاث معمّقة لسنا هنا بصددها، ولكن يكفينا أن نذكر أنّه قد أصبح الفرد العربيّ والمسلم على الهواء الطلق وبشكل غير قابل للانضباط؛ بل نقول إنّ الفرد نفسه توزّع على لحظات اليوم، ليُصبح الانفعال في حجم الثانية الواحدة كفيلاً بتحوّله إلى مادّة إعلاميّة عامّة، بل عالميّة!

إذًا، أصبح بالمقدور – ببساطة فائقة – رفع وتيرة أي حالات انفعال نفسي لدى الأفراد، أو إيجاد حالات تنافر اجتماعي لدى الجماعات، أو استعادة للمشاعر المأزومة من أعماق الكتب الصفراء التي عفا عليها الزمن، وطوت تجارب حاضرة كثيرًا من مضامينها السلبيّة، عبر خطباء السوء ووعّاظ السلاطين، في ظلّ تغييب للعقل والحكمة (اللذين يتطلّبان – بطبيعتهما - بيئة باردة لا حارّة).

بناء على ما تقدّم

كلّ ما تقدّم، قد يمكّننا من أن نخلص إلى أنّ الخريطة الشعوريّة لدى شعوب المنطقة، يُراد لها أن تتحوّل إلى طبيعة "كارهة" للشعب الفلسطيني ولقضيّته، كما أنّ إشغال إنساننا العربيّ والمسلم بخاصّه الجغرافيّ عن طريق يُراد له أن يخلق المزيد من الأزمات الميدانية، والتي تقودها حركاتٌ الإفساد وإهلاك "الحرث والنسل" والتي تحمل لواء الإسلام والخلافة(!!)، سوف يحمله على الانكفاء عن أيّ قضيّة عامّة، ولاسيّما أنّه يرى أنّ صاحب القضيّة نفسه قد "تآمر" عليه، وربّما فجّر نفسه في أولاده أو أقربائه وأبناء وطنه.

لا نغفل هنا، نزوع النفس الإنسانية إلى التعميم والاختزال، حيث يتمّ تعميم أيّ فعل سلبي يقوم به فردٌ على الجماعة كلّها، وأيّ ظاهرة (هي بطبيعتها معقّدة من الناحية السوسيولوجية) يجدها لدى شعبٍ ما، يختزل بها كلّ المجتمع. ومن المهمّ الإشارة هنا إلى دور الإعلام في خلق صور نمطيّة، عبر التسميات التي يطلقها بشكل ممنهج ومدروس؛ إذ تكرار الربط بين مصطلحات (الفلسطيني) و(التفجير) و(التكفير) و(التطرّف) وغير ذلك ممّا شهدناه في أكثر من وسيلة عربيّة، يعمل على خلق صورة نمطيّة للفلسطيني، تقضي على كلّ التمايزات، وتختصر الشعب كلّه في سلوك مجموعة من المجرمين لا يخلو منهم أيّ شعب، أو جماعة قد تخطئ القراءة في لحظة تعقيد في المواقف، ليست بعيدة عن أيّ جماعة أخرى.

على هذا الأساس، فإنّ من غير البعيد؛ بل طبيعة التجارب تؤكّد ذلك، أنّ المستهدف الأوّل في كلّ هذا الحراك الذي جرى في المنطقة، سابقه ولاحقه، هو قضيّة فلسطين؛ هذا ما أكّدته التجارب في لبنان، حيث كانت الحرب اللبنانية الداخلية (1975-1989) محرقةً لقضيّة فلسطين بكلّ معنى الكلمة، وكان في الإمكان أن تؤسّس لتحوّلات دراماتيكية لمصلحة العدوّ يتمّ فيها الانتهاء تماماً من القضيّة، في ظلّ واقع العجز العربي، لولا أن منَّ الله على الأمّة بانطلاق مقاومةٍ إسلاميّة، أكملت طريق المقاومة الفلسطينيّة على خطّ التحرير، في الوقت الذي كانت المقاومة الفلسطينية تغادر المشهد اللبناني إلى بلدانٍ لا تشكّل احتكاكًا جغرافيًّا مع فلسطين.

من الطبيعي هنا، أن لا نستبعد عن المشهد برمّته، الأخطاء التي قد ينزلق إليها بعض الفلسطينيّين أنفسهم، فيسيئون إلى القضيّة وإلى أنفسهم، ولاسيّما في ظلّ قراءات ناقصة أو مجتزأة للمشهد، أو عبر تعقيد المشهد برمّته، بما يسرق عنوان القضيّة نحو عناوين جزئيّة وهامشيّة قياساً بها.

إلى هنا، نعتقد أنّ من المهمّ العمل على عدّة صُعُد:

الأوّل: إعادة قراءة دقيقة ومتأنّية للعوامل التي لعبت دورًا في تعقيد المشهد، وبالتالي دفع الأمور باتّجاه التأزيم، وهذا يتطلّب دراسات ميدانيّة تنزل إلى الأرض، وجلسات تفكّر يتمّ فيها استعادة التجارب الماضية مع كلّ اللاعبين الإقليميّين والدوليّين في المنطقة، وحوارات هادئة وصريحة لا تستهدف التخوين بقدر ما تتطلّب توضيح الرؤى والمنطلقات، بما يؤسّس لمواقف موحّدة أو متفهّمة – على الأقل – لا تجعل قضيّة فلسطين في مهبّ سوء إدارة الاختلاف في لحظة تاريخيّة شديدة الحساسيّة. وإنّنا نشدّد هنا على فكرة (العوامل) المتعدّدة؛ لأنّنا نعتقد أنّ من السذاجة تبسيط أيّ حدث أو ظاهرة مرتبطة بالفلسطينيّين أو بالقضيّة عبر ردّها إلى عامل واحدٍ.

الثاني: الابتعاد المطلق عن أيّ وصف مذهبيّ لأي مقاومة؛ لأنّ العدوّ المشترك، وهو الكيان الصهيوني الغاصب، غير معنيّ بالتمايزات؛ لأنّ هذا العدوّ لديه مشكلة مع تحرير بيت المقدس، سواء قاده عليٌّ بن أبي طالب والحسينُ بن عليّ أو قاده عمرُ بن الخطّاب وصلاح الدين الأيّوبيّ. وأكثر ما نرى الخطر في هذا الأمر هو استعادة مصطلحات من قبيل "رافضيّ" لوصف المقاومة الإسلاميّة في لبنان، أو الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ومن قبيل "ناصبي" لوصف المقاومة الإسلاميّة في فلسطين؛ لأنّ تحميل الحاضر – بعد كلّ الإنجازات – كلّ ذلك الركام التاريخي، يمثّل حالة استقالة جماعيّة من الحاضر لمصلحة الماضي وأزماته.

الثالث: إنّ التوعية السياسية بما يجري، لا ينبغي أن يقتصر على القيادات في أيّ خلاصات تتوصّل إليها من دراسة الواقع، بل لا بدّ أن تتحوّل إلى ثقافة شعبيّة عامّة، وإلى حركة إعلاميّة واضحة؛ وهذا ما من شأنه أن يخفّف من حدّة المواقف على مستوى الأطر العليا والقواعد الجماهيريّة، ويمنع المصطادين في الماء العكر من التأثير على مسارات الأحداث، عبر الضغط على القيادات من خلال القواعد الشعبيّة. ولعلّ من المهمّ هنا التأكيد على ضرورة التنظير مجدّدًا لقضيّة فلسطين، على ضوء الأزمات المستجدّة في الذهنيّة العامّة للأمّة، والتي أوجدت أسئلة وإشكالات لا بدّ من معالجتها على كلّ حال.

الرابع: الترويج لثقافة لا تقوم على التعميم والاختزال، وذلك عبر التدقيق في المصطلحات المستخدمة في اللغة الإعلامية والسياسية في التعبير عن الأحداث، أيّاً كانت، إضافة إلى إظهار الخصوصيّات الإنسانيّة للشعب الفلسطيني الأبي، وأوجه الإبداع المتميّز في المجالات كافّة.

الخامس: دراسة معمّقة لكيفيّة الجمع بين متطلّبات حقّ العودة وبين تحسين الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة للفلسطينيين في المخيّمات؛ لأنّه لا شكّ في أنّ لتأزيم الحياة داخل المخيّمات آثاراً سلبيّة على المستوى النفسي والاجتماعي، بما يهيّئ الأرض لكثير من المشكلات التي قد تتحوّل إلى ظواهر عصيّة على الضبط.

أخيراً: إنّ نقطة الارتكاز في المشروع التحرّر والنهوض لأمّتنا، والمشروع التحريري لفلسطين، هو الشعب الفلسطيني نفسه، وإنّ أي جهدٍ أو سياسة أو محورٍ، لن يكون لديه القوّة على التقدّم خطوةً في اتّجاه فلسطين، واستعادة الحقوق والأرض، إذا تمّ ضرب الاحتضان الشعبي الشعوري لفلسطين وشعبها الأبيّ والصامد صمود الجبّارين، في أرض الرسالات، ومهبط الأنبياء، أو إذا تمّ إقحام الفلسطينيّين في مشاريع جانبيّة، لا تستهدف – أوّلاً وأخيراً – شيئاً سواهم وسوى فلسطين الماضي والحاضر والمستقبل.  

اعلى الصفحة