|
|||||||
|
ذكرنا في المقالة السابقة حول الصراع بين النبي(ص) واليهود في المدينة، ولاسيما بداية الصراع الذي كان مع يهود بني قينقاع الذين بدؤوا قبل غيرهم من يهود المدينة بتدبير المؤامرات، وإيذاء المسلمين، والقيام بالحرب الإعلامية ضدهم، وذلك عبر نشر الأكاذيب وإطلاق الشائعات والشعارات القبيحة، وإنشاد القصائد التي من شأنها تحقير المسلمين وإضعاف معنوياتهم. وبهذا يكون اليهود قد بدؤوا عملياً بنقض معاهدة التعايش السلمي التي عقدها الرسول(ص) معهم إبّان قدومه إلى المدينة. إن المواجهة بين النبي(ص) واليهود ابتدأت بعدما هاجر من مكة إلى المدينة، حيث تعامل الرسول(ص) مع اليهود في البداية على أساس أنهم أهل كتاب موحدون يؤمنون بنبوة موسى(ع) ويرفضون عبادة الأوثان، ولاسيما أن النبي(ص) كان يضع في أولوياته القضاء على العدو الأساس الذي أعلن الحرب على الإسلام والمسلمين، ومارس بحقهم أشد أنواع التنكيل، وهم كفار قريش ومشركوها، ولم يكن يطمح أبداً إلى فتح جبهة أخرى مع اليهود، ولكن ممارسات اليهود التخريبية جعلت خطرهم يتفاقم على الإسلام والمسلمين، ومع ذلك فقد صبر النبي(ص) في البداية على مؤامراتهم وخياناتهم الكبيرة حتى طفح الكيل، ولم تكن قريش بعيدة عن ساحة المواجهة، بل كانت تحرِّض اليهود على نقض العهد، ونحن نستغرب أن يكون اليهود قد أجمعوا على الغدر، وأن يكون بنو قينقاع هم أول من استجاب لطلب قريش، حيث صعَّدوا من تحدياتهم وأصبحوا يشكلون خطراً حقيقياً، فهم يعيشون في قلب المجتمع الإسلامي، ويعرفون كل مواقع الضعف والقوة فيه، فواجههم النبي(ص) بأسلوب الاغتيالات المنظمة بدايةً، ولما لم ينفع معهم هذا الأسلوب اضطر لإتباع أسلوب الحرب الشاملة. وفي هذا السياق تم ذكر وجهات نظر إستشراقية والرد عليها بطريقة علمية استناداً إلى قرائن تاريخية، وقراءة منطقية لسياق الأحداث. أولاً-بنو قينقاع هم أول المتآمرين لم يكتف بنو قينقاع بذلك، بل عملوا على تصعيد التحدي؛ لأنّهم كانوا أشجع وأكثر اليهود أموالاً(1)، وأشدَّهم بغياً، وكانوا حلفاء لعبد الله بن أُبي(2)، وعبادة بن الصامت، الذي كلِّفه النبي(ص) بعد أن انتهى من بناء المسجد بعد هجرته إلى المدينة بأن يعلِّم الفقراء والمهاجرين المحرومين الكتابة وقراءة القرآن، كما كلَّفه بإجلاء بني قينقاع من حصونهم وترحيلهم بعد أن تم قبض أموالهم وأسلحتهم. أما فيما يتعلق بالسبب المباشر والشرارة الأولى التي أجَّجت صراع المسلمين مع يهود بني قينقاع، فهو تعديهم السافر على امرأة مسلمة، وهتك حرمتها، قال ابن هشام: "كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يراودونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد يهودي إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا عليها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الفاعل فقتله، فشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستنصر أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون. فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع"(3). وقال(ص): "ما على هذا أقررناهم"، فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وقال: "يا رسول الله، أتولى الله ورسوله، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار". وتمسك ابن أُبي بالحلف، وأصر على الرسول(ص) بتركهم، فجمعهم النبي(ص) في سوقهم، وقال لهم: "يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم". فردوا عليه قائلين: "يا محمد، إنك ترى أنّا قومك ؟! ولا يغرَّنَّك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله، لو حاربناك، لتعلمنَّ أنَّا نحن الناس"(4). فأنزل الله تعالى قوله:﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾(5). كما أنزل أيضاً: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾(6)، وتشجع هذه الآية على الحرب الاستباقية في حال تأكد النبي من خيانتهم، ونواياهم العدائية تجاه الإسلام والمسلمين. لقد تحصن بنو قينقاع في حصونهم، فاستخلف(ص) على المدينة أبا لبابة، وسار النبي(ص) إليهم ولواؤه راية العقاب السوداء يحمله أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(ع). وحاصرهم النبي(ص) خمس عشرة ليلة، ابتداءً من النصف من شوال السنة الثانية للهجرة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله(ص) أن يخلي سبيلهم، ويجليهم عن المدينة، وأن لهم نساءهم والذرية، ولـه الأموال والسلاح. فقبل(ص) منهم، وفعل بهم ذلك، فأخذ أموالهم وأسلحتهم، وفرقها بين المسلمين بعد أن أخرج منها الخمس، وأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات(7). ويقال: إنه لم يَدُرْ عليهم الحول حتى هلكوا. وفي نص آخر: أنهم أُنزلوا من حصونهم وكُتِّفوا، وأراد(ص) قتلهم، فأصرَّ ابن أُبي على النبي(ص) أن يتركهم لـه بحجة أنه امرؤ يخشى الدوائر فلا يستطيع أن يتركهم، وهم أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوه من الأحمر والأسود، على حد تعبيره، فاستجاب النبي(ص) إلى طلبه وإصراره، وأجلاهم. وأما استجابة النبي(ص) لابن أُبي في بني قينقاع، فكانت تهدف إلى الحفاظ على الجبهة الداخلية من التصدع، كي لا ينتهي الأمر إلى النزاعات المكشوفة، والمواجهات العلنية، الأمر الذي لم يكن في صالح الإسلام والمسلمين في تلك المرحلة، فإن الإبقاء على العلاقات الحسنة مع المنافقين في تلك الظروف كان أمراً ضرورياً، لكسب أكبر عدد منهم ومن أبنائهم في المستقبل، عن طريق التأليف والترغيب، ثم توفير الطاقات لعدو أشدُّ وأعتى. أضف أن إجلاء بني قينقاع يعتبر ضربة روحية ونفسية لغيرهم من اليهود، وإضعافاً لابن أُبي ومن معه من المنافقين. ثانياً-أهداف ونتائج الحرب مع بني قينقاع أما على مستوى أهداف ونتائج الحرب مع بني قينقاع، وهم أشجع اليهود وأكثرهم مالاً، فالقضاء عليهم معناه: 1- أن النبي(ص) لا يريد أن يفسح المجال لهم لأن يطمعوا به، ويكتِّلوا المنافقين والأعراب ضدَّه؛ لأنّ صبر النبي(ص) عليهم، وأمره للمسلمين بالتحمل ما أمكن، جعل اليهود يظنون أن هذا ناتج عن ضعف وخور، فاستمروا في تحرشاتهم. 2- أن يسهِّل القضاء على الآخرين من الأعداء، ممن هم أقلَّ من بني قينقاع قوةً وعدداً، وعدةً ومالاً، لأنهم إذا رأوا: أن أصحاب الشوكة أي بني قينقاع لم يستطيعوا أن يأتوا بشيء، فإنهم سوف يقتنعون بأنهم، وهم الأضعف، أولى بأن لا يأتوا بشيء أيضاً. 3- أن ما غنمه المسلمون من بني قينقاع، من شأنه أن يزيد من طموحهم للقضاء على أعدائهم، ويسهِّل عليهم الوقوف في وجههم، حيث يرتاح بالهم من جهة معاشهم. 4- كما أن ذلك يعني التخلُّص من عدو داخلي، يعرف مواضع الضعف والقوة، وربما يكون أخطر من العدو الخارجي بكثير. 5- ثم إن القضاء على اليهود المعادين للإسلام والمسلمين كان يتم على مراحل، وذلك بطبيعة الحال أسهل وأيسر من القضاء عليهم فيما لو كانوا مجتمعين دفعة واحدة، وفي صعيد واحد، يعين بعضهم بعضاً، ويشد بعضهم أزر بعض. 6- المسلمون أيضاً، إذا رأوا أنهم قد استطاعوا القضاء على أشجع اليهود، وأكثرهم قوة ونفوذاً، فإنهم سوف يتشجعون للقضاء على من سواهم، ولا يبقى مجال للخوف ولا للتردد. أما لماذا تجرأ بنو قينقاع على نقض العهد، فالظاهر أن ذلك يرجع إلى الآتي: 1. غرورهم واعتدادهم بشجاعتهم وبكثرتهم، كما يظهر من قولهم له(ص): "لتعلمن أنا نحن الناس". 2. ثم هناك اعتمادهم على ما يملكونه من خبرة عسكرية ومعرفة بالحرب، وقد عبَّروا عن ذلك أيضاً بقولهم لـه(ص): لا يَغُرَّنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب. ولكن كثرتهم وخبرتهم الحربية لم تغنِ عنهم من الله شيئاً. 3. ولعلَّهم كانوا يتوقعون نصر حلفائهم من الخزرج لهم، وإلاّ فلا مبرر لأن تعلن قبيلة واحدة الحرب على كثير من القبائل في المدينة، إن كانت لا تملك الكثير من مقومات النصر المحتمل، إلا أن حلفاءهم من الخزرج لم يفعلوا لهم شيئاً؛ لأنّ المسلمين من الخزرج تخلوا عنهم، لأن الوفاء لليهود خيانة لعقيدتهم الإسلامية وإيمانهم، الذي يبذلون أرواحهم في سبيل الحفاظ عليه . 4. لم يتمكن المنافقون من نصرهم بسبب ما قذف الله في قلوبهم من الرُّعب، وكون ذلك سوف يتسبب لهم بانشقاقات وخلافات داخلية. وأقصى ما استطاع ابن أُبي أن يقدِّمه لهم، هو أن يمنع من استئصالهم، مع الاكتفاء بإجلائهم إلى مناطق بعيدة لن يمكنهم الصمود فيها أكثر من سنة، وليواجهوا من ثمَّ الفناء والهلاك. 5. وأما لماذا لم يهبّ اليهود لنصرة بني قينقاع، فإن ذلك يرجع إلى أنه قد كان بينهم وبين سائر اليهود عداوة، وذلك لأن اليهود كما قال ابن اسحاق: "كانوا فريقين، منهم بنو قينقاع ولفّهم(8) حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة ولفّهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس، يُظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنةً، ولا ناراً، ولا بعثاً، ولا قيامةً، ولا كتاباً، ولا حلالاً، ولا حراماً. فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقاً لما في التوراة، وأخذ به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم من أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوه من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم"(9). وكانوا بذلك مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾(10). ثالثاً-المستشرقون وأسباب الصراع بين المسلمين وبني قينقاع 1- أسباب البدء بمحاربة بني قينقاع بنظر ولفنسون يستعرض ولفنسون(11) النواحي التي تعامل معها الرسول(ص) بذكاء مع اليهود، أو الفرص التي اغتنمها للقضاء على أعدائه، كقوله مثلاً: إنّ النبي(ص) صبر على اليهود ولم يدخل معهم في حرب دموية حتى صارت الظروف ملائمة(12)، أو كقوله إنّ الأسباب التي حملت النبي(ص) على البدء بمحاربة بني قينقاع من بين جميع اليهود عديدة، وهي: أ. إنّ بني قينقاع كانوا يسكنون داخل المدينة في حي واحد من أحياء الأقوام العربية. ب. إنّ بني قينقاع كانوا أغنى طوائف اليهود في مدينة يثرب، فكانت بيوتهم تحتوي على الأموال الطائلة والحلي الكثيرة من الفضة والذهب، وكان العرب يطمعون في ذلك. ج. إنّ بني قينقاع لم يكونوا كثرة، فكان من السهل مقاتلتهم واستئصال شأفتهم. د. كانت هناك عداوة بين بني قينقاع وبقية اليهود، سببها أن بني قينقاع كانوا قد اشتركوا مع بني الخزرج في يوم بعاث، وقد أثخن بنو النضير وبنو قريظة في بني قينقاع ومزقوهم كل ممزَّق، وقد استمرت هذه العداوة بين البطون اليهودية بعد يوم بعاث حتى وقعت الحرب بين الأنصار وبين بني قينقاع فلم ينهض أحد من اليهود في محاربة الأنصار. ويظهر أيضاً أن بني قينقاع كانوا أصحاب مزارع فأخرجهم أبناء جلدتهم منها وأرغموهم على الالتجاء إلى حي واحد في داخل المدينة . هـ . إنّ بني قينقاع كانوا من موالي بني الخزرج وكانت أغلب بطون بني الخزرج قد دخلت في الإسلام ما عدا بطن عبد الله بن أُبي الذي كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فقد كانت بطون بني الخزرج توافق على مشروعات النبي(ص) بدون معارضة(13). والجواب عليه كالآتي: 1. إنّ جزءاً من هذا الكلام جزاف من الكاتب، والحق أن الرسول(ص) بدأ بحرب بني قينقاع؛ لأنهم أول من نقض العهد من اليهود وحاربوا، وسبب ذلك المرأة المسلمة التي حاولوا كشف وجهها فأبت ذلك، ثم دبروا حيلتهم الخبيثة حتى كشفوا عورتها، وقتلوا الرجل المسلم الذي حاول الدفاع عنها. 2. ولم يكتفوا بذلك، بل هددوا الرسول(ص) واستفزوه بقولهم إنهم هم الرجال عند الحرب. 3. أضف إلى ذلك أن اغتنام الرسول(ص) للفرص في مواجهة أعدائه سواء كانوا من كفار قريش، أو من اليهود، أو من المنافقين، أمر طبيعي وبديهي، فالتوقيت الزمني الصحيح، والظروف الملائمة، والعوامل المساعدة، كلها أمور يأخذها بعين الاعتبار كل إنسان واعٍ وحاذق ومتدبر ينظر إلى عواقب الأمور، ولاسيما إذا كان محاطاً بالأعداء من كل حدبٍ وصوب، والمؤمن كيِّس فطِن، فكيف بالرسول(ص) الذي يحمل همَّ الأمة، بل البشرية جمعاء، وهمَّ نشر الرسالة الخاتمة. لقد واجه الرسول(ص) اليهود بعدما وجد أنه لم تعد تنفع معهم سياسة الرحمة والعفو والوعظ والإرشاد، فكان لا بد من سياسة العين بالعين والسِّن بالسِّن التي أتت أُكُلها. ويعترف ولفنسون بذلك حيث يقول: "يظهر أن أمر إجلاء بني قينقاع كان لـه وقع عظيم في نفوس اليهود، فقد امتنعوا بعد ذلك عن المجادلة الدينية، وكفوا عن رمي المسلمين بقوارص الكلم، ودخلت هيبة المسلمين في قلوب البطون العربية التي لم تكن دخلت في الإسلام، فانفسح المجال أمام النبي(ص) لنشر دعوته"(14). 2- آرمسترونغ: سلوك محمد(ص) والتقاليد العربية القديمة تتفهَّم آرمسترونغ سلوك محمد(ص) تجاه اليهود عموماً وبني قينقاع بالتحديد، ولاسيما أن موقف محمد(ص) أخذ يتحسن بعد معركة بدر، لكن عقلاء المسلمين كانوا يعلمون جيداً أنه قد لا يكون من السهل إلحاق الهزيمة بقريش في مرة قادمة، وأن القبائل اليهودية كان لديها مقاتلون كثر ومقدرتها القتالية مؤثرة، وفي حالة هجوم مكي محتمل كان بالإمكان إقناع اليهود بالانضمام إلى قريش من أجل الخلاص من هذا الذي قالوا عنه أنه مدعي. وتصرح كارين آرمسترونغ أن القبائل اليهودية كانت تدعم ابن أُبي الذي أعلن أنه على استعداد لإطاعة الوحي، لكنه رفض أن يطيع محمداً شخصياً. وطبعاً فإن في ذلك محاولة لتضليل الناس، ولاسيما بسطاء العقول، فهل هناك فرق بين إطاعة محمد وإطاعة الوحي؟ ألم يأمر الله تعالى بإطاعة كل الأنبياء والرسل، وعلى رأسهم خاتمهم وأعظمهم وأكرمهم محمد بن عبد الله(ص)؟ وخير دليل على ذلك قول الله تعالى فيه: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(15). وقال أيضاً: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(16). وتزيد آرمسترونغ أن محمداً كان يعرف، طبقاً للتقاليد العربية القديمة، أنه يملك حق قتل أفراد القبيلة كلها، لكنه أبقى على حياتهم شرط أن يغادروا الواحة حالاً، وهذا ما فعلوه، حيث غادروا الواحة دون احتجاج؛ لأنهم كانوا مدركين أن الحظ حالفهم؛ لأنهم نجوا بأرواحهم. فأثناء الحروب كانت القبائل قبل الإسلام تُطرد من الواحة، فجميع سكان المدينة كانوا يعرفون هذا العقاب، ولا بد أن بني قينقاع قد توقعوا الرحيل(17). وتضيف آرمسترونغ أن محمداً لم يكن لديه رغبة في جعل المدينة خالية من اليهود، فقد كان صراعه مع بني قينقاع صراعاً سياسياً محضاً، ولم ينتقل إلى عشائر يهودية أخرى في المدينة، حيث بقي وفياً لهم؛ لأنهم بقوا في تلك المرحلة أوفياء للمعاهدة، وعاشوا مع المسلمين في سلام. وتكمل آرمسترونغ توصيفها، حيث تقول: إنّ محمداً لم يكن بوسعه التستر على عدو في الداخل، في تلك المرحلة الزمنية التي كانت شديدة الخطورة على الأمة، حيث كان أفرادها يتوقعون هجوماً كبيراً من مكة، وأن إخراج بني قينقاع كان تحذيراً للمنشقين البارزين مثل ابن أُبي، وبني النضير(18). رابعاً-الصراع بين المسلمين وبني النضير 1- نقض العهد والمؤامرة إن الأساس التشريعي القانوني للمجتمع السياسي الجديد في يثرب هو الإسلام. فالمسلمون هم الذين قاموا بمبادرة تأسيس مجتمع سياسي متنوع في دولة واحدة يتمتع الجميع فيها بحق المواطنة الكاملة دون تمييز عنصري أو ديني. وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون التابعون هم اليهود والمتبوعون هم المسلمون، ولاسيما أن الصحيفة أو المعاهدة التي عقدها الرسول(ص) مع يهود المدينة تقرُّ بأن المرجعية السياسية هي للرسول الأكرم(ص) على مستوى المسلمين واليهود معاً. وصحيح أن الأمة مسؤولة عن نفسها من باب وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن لا بد للرعية من راع وقاض، وللأمة من مرجع وقائد، يحسم النزاع إن وقع، ويُشَخِّص المصلحة العامة إن تعددت الآراء والاجتهادات، ويصون الدستور ويشرف على تطبيقه، ويقرر الحرب والسلم، ويقود الجيوش، ويحرص على استتباب الأمن، ويعقد الاتفاقات، ويوقع المعاهدات والمواثيق، ويحمي الشريعة، ويصون المجتمع من الانحراف. كما تركِّز المعاهدة على الأمن الاجتماعي بين الناس، فالأفرقاء في المدينة يحملون الدية ويتعاونون عليها، ويعينون المفرح ، ويشجعون على الأمر بالمعروف والنهي عن الإثم والعدوان، ويحمِّلون نفس الظالم مسؤولية فعله القبيح، ويعدونه بالمعاقبة والاقتصاص منه دون مراعاة القرابة أو الصداقة، لأن تطبيق القانون يجب أن يجري دون تمايز وعلى الجميع. وقد ورد في الصحيفة: "وأن أيديهم جميعاً عليه ولو كان ولد أحدهم"، وهو ما يعبِّر عن مسؤولية الأمة عن تنفيذ القانون، ويلغي تقليد الثأر الجاهلي عبر تشريع القِصاص الإسلامي، فيحرِّم على ذوي القاتل والمقتول أن يدخلا في اقتتال بسبب هذه الجريمة، وهذا تأكيد على حفظ النظام العام للمجتمع، في مقابل الفوضى، والإفساد، وإحياء قيم الجاهلية. ولم يكن بنو النضير أكثر وفاءً من بني قينقاع، فقد عملوا هم أيضاً على نقض العهد مع الرسول(ص)، فقد نقل الطبري عن ابن إسحاق أنه قال: "خرج رسول الله(ص) إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتلهما عمرو بن أُميّة الضمري، للجوار الذي كان رسول الله(ص) عقد لهما.. وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعقد، فلما أتاهم رسول الله(ص) يستعينهم في دية القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا هذا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله(ص) إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فقالوا: مَن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله فيريحنا منه.. فأتى رسول الله(ص) الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وقال لأصحابه لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة. ولما رجع أصحاب رسول الله (ص) انتهوا إليه وهو جالس في المسجد، فقالوا: يا رسول الله (ص) انتظرناك ومضيت، فقال: همت يهود بقتلي وأخبرنيه الله عزَّ وجلَّ، ادعوا إليَّ محمد بن مسلمة، قال: فأتى محمد بن مسلمة، فقال: اذهب إلى يهود فقل لهم: أخرجوا من بلادي ولا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر.. فقالوا: نتحمل، قال: فأرسل إليهم عبد الله بن أُبي يقول: لا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إليّ من قومي ألفين فهم يدخلون معكم وقريظة تدخل معكم.. فقال سلام بن مشكم لحيي بن أخطب: يا حيي إقبل هذا الذي قال محمد، فإنما شرفنا على قومنا بأموالنا قبل أن تقبل ما هو شر منه، قال وما هو شر منه؟ قال أخذ الأموال وسبي الذراري وقتل المقاتلة، فأبى حيي، وأرسل إلى رسول الله(ص): إنا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك، قال: فكبّر رسول الله(ص) وكبر المسلمون معه، وقال: حاربت يهود"(19). لقد توقَّع اليهود أن يواجه النبي(ص) والمسلمون نقض بني النضير للعهد، وقد عاش بعض المسلمين حالة من القلق وعدم الارتياح، بل وحتى الخوف والارتباك والتزلزل. ولكن النبي(ص) وغالبية المسلمين معه قابلوا ذلك بموقف الحازم العاقل المصمِّم على التصدي وبسرعة غير متوقعة، لمكر يهود بني النضير ونقضهم للعهد، ما أضعف من قدرة اليهود والمنافقين على التأثير في خلخلة الوضع الداخلي. ونجد أن النبي(ص) قد اعتبر تآمرهم على حياته ومحاولتهم اغتياله، وإن لم ينجحوا في مجال تنفيذ ذلك، نقضاً للعهد يُسوّغ مواجهتهم بالموقف الصارم والحازم. وواضح أن اغتيال القيادة الإسلامية هو أجلى مظاهر الخيانة وأخطرها، ويجب أن لا ننتظر من الخائنين إعلانهم للحرب. ونلفت إلى أن اليهود في نقضهم لعهودهم كانوا يزِنون الأمور بموازين الربح والخسارة في الدنيا، كما كانوا واقعين تحت تأثير التصورات والأمور الآتية: أ- إنهم يرون أن الخطر الذي يتهددهم من جهة المسلمين، عظيم وشديد وحتمي، وأن الحرب عليهم كانت تخضع لاحتمالات إيجابية بالنسبة إليهم لاحتمال مساعدة المشركين والمنافقين لهم. كما أنهم كانوا يرون أن الوضع العام للمسلمين لا يسمح لهم باتخاذ قرار الحرب، الأمر الذي يجعل ارتكاب أخطار الحرب أهون عليهم. ب- كانوا مصداقاً لقوله تعالى:﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ﴾(20)، حيث إنّ المسلمين لم يثبتوا بعد أن لديهم قدرات وكفاءات عسكرية لمواجهة حصون اليهود. ج- إنّ اليهود يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، ومعنى ذلك هو أن دعوة محمد(ص) سوف تصبح خطراً أكيداً على امتيازاتهم. باحث في الشريعة والقانون الدولي(*) هوامش: (1) كانوا صاغة أغنياء. (2) إن ابن أُبي كان زعيماً في المدينة قبل هجرة الرسول(ص) إليها، وكان معروفاً بنفاقه عند الرسول(ص) والمسلمين، وكان منبوذاً فيهم، ولاسيما بعد أن ترك النبي(ص) ومن معه في معركة أُحُد ورجع وجماعته من منتصف الطريق، حيث كانوا يشكلون ثلث الجيش تقريباً، فأرادوا أن ينهزم الرسول(ص) وأن تتضعضع معنويات جيشه. زد على ذلك أن ابن أُبي كان يتدخل لصالح اليهود بعد أن تصل الأمور إلى حد السيف، كما حصل وتوسط لبني قينقاع عند النبي(ص) طالباً منه أن لا يقتلهم بالرغم من فعلتهم القبيحة وجريمتهم النكراء. (3) الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، ط1، بيروت، مؤسسة المعارف، 1425هـ - 2004م، ص: 403. (4) المصدر السابق، ص: 402. (5) سورة آل عمران، الآية: 12- 13. (6) سورة الأنفال، الآية: 58. (7) بلد بالشام. (8) لفِّهم: أي من يُعدُّ فيهم. (9) الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، ص: 276. (10) سورة البقرة، الآية: 84-85. (11) إسرائيل ولفنسون مؤرخ يهودي معاصر، وهو يعتبر مؤرخ اليهود في العصر الحديث. لقد أخذ كتابه "تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام" حظه من الشهرة، فهو رسالة حصل مؤلفه بها على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية، وكان المشرف على الرسالة الدكتور طه حسين الذي له شهرته الأدبية المعروفة، ما أضفى على الكتاب صبغة زادته قيمة وجعلته في مصاف المؤلفات التي يشار إليها، ويحرص القراء والباحثون وذوي الثقافة العالية أن يقتنوا مثله. ومن يقرأ مقدمة الدكتور طه حسين للكتاب، يعتقد أن الكتاب مبرأ من العيوب والمآخذ التاريخية، والحق أن المؤلف أنصف الحقيقة في مواضع مختلفة من الكتاب، ولكنه لم ينصف الحقيقة في مواضع أخرى، حيث كانت كتاباته مليئة بالمغالطات وتحريف الكلم عن مواضعه. (12) ولفنسون، إسرائيل، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، تحقيق وتعليق، د. محمد السيد الوكيل، مصر - الجيزة، دار قطر الندى، 1415هــــ - 1995م، ص: 169. (13) المرجع نفسه، ص: 171. (14) المرجع نفسه، ص: 173. (15) سورة النجم، الآيات: 1-5. (16) سورة المجادلة، الآية: 13. (17) آرمسترونغ، كارين، الإسلام في مرآة الغرب، محاولة جديدة في فهم الإسلام، ط2، ترجمة محمد الجورا، سورية - دمشق، دار الحصاد 2002 م، ص: 212- 215. (18) المرجع نفسه، ص: 216. (19) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ط 4، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1403 - 1983م، ج2، ص: 223-224 . (20) سورة الحشر، الآية: 2. |
||||||