|
|||||||
|
إن سؤال المشروعية هو سؤال فلسفي ـ ديني بامتياز، وتتأكد أهميته حين يتعلق الأمر بموضوع غاية في الأهمية كموضوع المقاومة ومواجهة الاحتلال. قد يبدو للوهلة الأولى أن سؤال المشروعية والدينية تحديداً في موضوع المقاومة، هو أقرب إلى الترف الفكري منه إلى العمل العلمي الجاد. لكن معاينة أكثر من جدل فكري ديني حول موضوع المقاومة، وخصوصاً في تجاربها المعاصرة، تظهر أن ما قد يبدو بديهياً في النظرة الأولى لن يبقى كذلك، عندما يصل المقام إلى بيان الأدلة ونقاشاتها ومواجهة سيل الإشكالات التي تطرح، ليس فقط على أصل الفكرة، وإنما أيضاً على القدرة على تسييلها، ما يؤدي - فيما لو سلمنا بتلك الإشكالات أو بعضها- إلى إفراغ فكرة المقاومة ومشروعيتها من محتواها، مما يحيلها إلى مجرد فكرة غير قادرة على إنتاج فعل مقاوم، يمكن البناء عليه على أكثر من مستوى اجتماعي وسياسي، فضلاً عن مستوياته الأخرى العسكرية وغيرها. هذا ولن يكون أمراً سهلاً مقاربة مفهوم معاصر يمتلك لغته وسماته، التي قد تختلف في العديد من مفرداتها عن اللغة الدينية ومصطلحاتها، حيث قد لا نجد في النصوص الدينية ذات الصلة مفردة "مقاومة" بما تحمله من دلالة معاصرة، وهو ما يتطلب العثور على رديفها في القاموس الاصطلاحي الديني والإسلامي تحديداً، لنجد أنها تقارب إلى حد المطابقة مفهوم الجهاد في بعده الدفاعي والجمعي حصراً، أي أنه عندما يكون الحديث عن المقاومة، فهذا يعني إننا نتحدث في الجهاد الدفاعي في صيغته الجمعية، التي تتصل بالعلاقة بين الأمم والجماعات والأوطان المختلفة. وعليه فإن الحديث في المشروعية الدينية للمقاومة، يقودنا إلى الحديث في المشروعية الدينية للجهاد الدفاعي في بعده العام، في أدلته الدينية من خلال المصادر الإسلامية الأساس أي القرآن والسنة، ومعالجة أهم الإشكاليات التي ترد على ذلك النوع من الجهاد، ولكن ذلك يتطلب منا بداية الحديث في مفهوم الجهاد وأهدافه، قبل الولوج في أدلته ومناقشات تلك الأدلة. مفهوم الجهاد يبدو أن المراد بالجهاد هو بذل الجهد والمشقة في قول أو فعل، أعم من أن يكون هذا الفعل في الإطار العسكري أو غيره، حيث لم تحصره العديد من مصادر اللغة العربية التي بينت المراد من مفردة الجهاد في إطار دون آخر(1). نعم يتعين مورد الجهاد هل هو في إطار النفس أو المال أو الكلمة أو التربية وغيرها بحسب متعلق الجهاد، ليتحدد بالتالي انه جهاد عسكري أم تربوي أم دعوتي أو غير ذلك؛ فقد ترد النصوص الدينية متضمنة الجهاد بالنفس والمال، يقول تعالى ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعلَمون﴾(2) فهو جهاد قتال في سبيل الله تعالى. وقد ترد تلك النصوص متضمنة جهاد المشركين بالقرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وجاهدهم به جهاداً كبيراً﴾(3) فالله تعالى يطلب من رسوله الكريم أن يجاهد المشركين بالقرآن الكريم، فهو جهاد دعوة إلى الله تعالى، وجهاد تفنيد لعقائدهم الباطلة. وقد ترد النصوص الدينية متضمنة لمعنى جهاد النفس - وليس بالنفس - كما ورد عن رسول الله عندما خاطب سرية عادت من غزوة لها، فقال(ص): "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل يا رسول الله: ما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس"(4)، وهو الجهاد التربوي، الذي يهدف إلى تزكية النفس، وتحليتها بالأخلاق الحسنة، وتطهيرها من الأخلاق السيئة. كما هناك جهاد في إطار الاجتماع الأسري في علاقة المرأة بزوجها، لما يتطلبه هذا المورد من المرأة من بذل جهد خاص للوصول إلى حياة سعيدة وعلاقة زوجية مستقيمة، حيث ورد عن رسول الله (ص): "جهاد المرأة حسن التبعل"(5). وكذلك أيضاً في الاجتماع العام، حيث يتطلب الأمر الحذر من مخالفة الحكمة، وإعمال المداراة وعدم الخوض في أمور تؤدي إلى إغراء الأعداء بالنيل من المؤمنين، وهو من موارد التقية، حيث ورد عن الإمام الصادق(ع): "... والمؤمن مجاهد، لأنه يجاهد أعداء الله تعالى في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف"(6). وعليه فإن مفهوم الجهاد هو ذو موارد متعددة عسكرية وتربوية ودعوية واجتماعية، وأيضاً إعلامية وتنموية واقتصادية وسياسية وغيرها(7)، فكل مورد يتطلب بذل الجهد والمشقة يعد العمل فيه جهاداً، وإن كان تحديد مصاديق الجهاد في الإطار الديني مرتبط بدلالة النص الإسلامي، وليس دلالة معاجم اللغة. نعم الجهاد العسكري هو من أبرز مصاديق الجهاد ومن أهمها رتبة، وهو ما دلت عليه نصوص دينية كثيرة(8)، لكن أهمية هذا المصداق أو ذاك، لا ينبغي أن تؤدي إلى حبس مفهوم الجهاد في مصداق بعينه، والحؤول دون شموله لبقية المصاديق ذات الصلة. وينبغي الالتفات هنا إلى أن تحديد أي مصداق من مصاديق الجهاد يتطلب تحديد العديد من مشخصاته، وهي: من أجاهد؟ بماذا أجاهد؟ ومن أجل من؟ سؤال من أجاهد مرتبط بالطرف الذي يقع عليه فعل الجهاد (النفس، المشركون، البغاة..)، وسؤال بماذا أجاهد، مرتبط بوسيلة الجهاد (القرآن الكريم، العلم، التنمية، التزكية، المقاومة..)، وسؤال من اجل مَن، مرتبط بهدف الجهاد، وفي سبيل من هو؟ هل هو في سبيل الله تعالى ام لا؟ انه لا يمكن الحديث عن أي مصداق من مصاديق الجهاد دون تحديد تلك المشخصات؛ ولا يصح مقاربة موضوعاته دون التباس، إذا لم نفصح عن كافة المتعلقات التي تبين في أي جهاد يقع الكلام. ولا بد من الالتفات إلى أن ما يميّز الجهاد بمعناه الديني والإسلامي تحديداً، هو كونه في سبيل الله تعالى، أي إن هدفه الأسمى هو الله تعالى، كما أن منطلقه هو الله تعالى، بمعنى أن تحديد مفهومه ومصاديقه وكل الأحكام المرتبطة به رهن النص الإسلامي ودلالته. وعليه يمكن الوصول إلى ما يلي: أولاً: إن مفهوم الجهاد يعني كل ما من شأنه بذل الجهد والمشقة في أمر أو آخر. ثانياً: إن هذا المفهوم عام يشمل موارد مختلفة عسكرية، وتربوية، ودعوية، واجتماعية وغيرها. ثالثاً: إن تحديد مصداق الجهاد بشكل أساس يرتبط بتحديد أمرين، الأول الجهاد بماذا، وثانياً جهاد من؟ الجهاد بماذا، يرتبط بوسيلة الجهاد؛ وجهاد من، يرتبط بالطرف الذي يقع عليه فعل الجهاد. رابعاً: يضاف إلى النقطة السابقة السؤال التالي: من اجل من؟ أي في أي سبيل؟ وهو ما يرتبط بالقصد وعالم النوايا، حيث أن الجهاد في الرؤية الإسلامية هو فقط وفقط في سبيل الله تعالى. خامساً: إن اختزال مفهوم الجهاد في بعده العسكري أدّى إلى إيجاد أكثر من عَوَر في رؤية العديد من الجماعات الإسلامية، فضلاً عن الإضرار بمشروعها العام من حيث القدرة على إيجاد التوازن بين مجالاته، أو مراعاة الأولويات، أو الاستجابة لمتطلبات المرحلة واحتياجات الواقع. سادساً: إن رتبة أي مصداق من مصاديق الجهاد رهن لدلالة النصوص الدينية، التي تجعل من هذا المصداق أو ذاك في هذه الرتبة أو تلك. سابعاً: إن الجهاد الدفاعي وتحديداً في إطاره الجمعي، هو من أهم مصاديق الجهاد ومن أفضلها رتبة، كما دلت عليه نصوص دينية عديدة. أهداف الجهاد هنا الحديث في أهداف الجهاد القتالي بحسب ما يفهم من القرآن الكريم، حيث وردت آيات عديدة تتحدث في الأهداف الأساسية للقتال. يقول الله تعالى: ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾(9). هنا تحدثت الآية في عناوين ثلاثة: الفتنة والدين والظلم، فالقتال هو لتحقيق أمرين؛ الأول: حتى لا تكون فتنة، والثاني: ليكون الدين لله؛ والمراد بالفتنة هنا تلك العوامل المختلفة التي تجعل عموم الناس تفتتن وتصرف عن دين لله تعالى، أي هناك من يعمل على إعاقة الناس عن الوصول إلى دين الله تعالى؛ فالقتال يهدف إلى إزالة تلك العوامل والعوائق التي تمنع الناس من تلمس دين الله تعالى، والتي تحول دون وصولهم إلى حقيقة الدين الإلهي. أما قوله تعالى: ﴿ويكون الدين لله﴾ فمعناه أن تكون الأطروحة الفكرية، التي يرتكز عليها الاجتماع الإنساني هي الأطروحة الإلهية، بما تحمله من قيم سامية، وبعد معنوي، وقدرة على صناعة إنسانية الإنسان، بما يجعل العلاقات الإنسانية في مختلف مجالات الاجتماع الإنساني علاقات قائمة على أساس العدل وبعيدة عن الظلم. ولعل قضية الظلم هي المبرر الأساس لفعل القتال، ويدل على ذلك العديد من الآيات القرآنية، التي تتحدث في أهداف القتال ومبرراته، حيث تستحضر تلك الآيات مفهوم الظلم، يقول الله تعالى: ﴿فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾ كما يقول تعالى: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير﴾(10)، وأيضاً قوله تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً﴾(11)، حيث يظهر من الآية الأولى أن العدوان أو القتال موجه فقط نحو الظالمين، في حين توضح الآية الثانية أن مبرر القتال هو الظلم الذي وقع على تلك الفئة المؤمنة، وهو ما أجاز لهم المبادرة آنئذٍ إلى القتال. أما الآية الثالثة فتبين أن الظلم الذي يتعرض له المستضعفون هو من الأسباب التي تدعو إلى القتال في سبيل الله تعالى. وليست الموارد الأخرى التي تحدث فيها القرآن الكريم مجيزاً القتال إلا من باب أنها من مصاديق الظلم، يقول تعالى ﴿فإن اعتدوا عليكم فاعتدوا عليهم بمثل ما اعتدوا عليكم﴾(12) حيث إن الاعتداء هو من أبرز مصاديق الظلم، وهو ما يبرر بالتالي معاملتهم بالمثل، والمبادرة إلى قتالهم، إذا ما كان اعتداؤهم اعتداء قتال وحرابة. وقد يطرح سؤال حول العلاقة ما بين أن يكون الدين لله وانتفاء الظلم، كما يبدو من الآية الكريمة؛ والجواب أن يكون الدين لله يعني أن منظومة من القيم الأخلاقية وغير الأخلاقية التي ترتكز على مفهوم العدل، هي التي تؤسس للعلاقات الإنسانية في الاجتماع الإنساني، ما يجعلها (أي تلك العلاقات) أقرب إلى العدل وابعد عن الظلم، في حين أن مجافاة دين الله، سوف يفقد ذلك الاجتماع الإنساني تلك المنظومة المرتكزة على العدل وإعماله، ما يؤدي إلى جنوح تلك المجتمعات نحو الظلم، وقيام علاقات مجتمعية ظالمة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية. لذا يوجد انسجام تام بين اعتبار أن الظلم هو المعيار الأساس الذي يبرر فعل القتال، وبين موارد أخرى ذكرها القرآن الكريم. حيث ينبغي النظر إليها من باب كونها من مصاديق الظلم، التي تبرر اللجوء إلى القتال من أجل العمل على استئصاله ورفعه. أما ذلك النقاش الذي احتدم بين الفقهاء سابقاً ـ وما زالت ارتداداته إلى الآن ـ أن سبب القتال هل هو الكفر أم الحرابة، فقد يكون من الصحيح النظر إليه من حيث المعيار الأساس الذي بيّنه القرآن الكريم وهو الظلم، لتكون الحرابة من مصاديق ذلك الظلم، بما هي اعتداء قتالي يستوجب دفعه والرد عليه. أما الكفر فمتى ما كانت متعلقاته وتعبيراته الاجتماعية تؤدي إلى الظلم، فهو ما يستوجب المبادرة إلى مواجهته من باب كونه ظلماً لا غير(13). وبناءً على ما تقدم سوف يكون واضحاً الموقف الديني من قضية المقاومة، فإذا كانت المقاومة فعل دفع للاحتلال وتحرير للأرض والفكر والإرادة، فإنها تصبح والحال هذا من أبرز مصاديق مواجهة الظلم ودفعه، لأن الاحتلال الذي قد يتعرض له شعب من الشعوب هو من أبشع مظاهر الظلم قديماً وحديثاً. وهو ما يبرر لذلك الشعب أن يستثمر جميع إمكانياته لتحرير أرضه وإنسانه وثرواته فضلاً عن فكره وقراره وإرادته(14). أدلة الجهاد وهنا الكلام في أدلة الجهاد الدفاعي، أي المقاومة، عندما تتعرض أمة ما، أو مجتمع ما إلى اعتداء من احتلال أو غيره، فعندها ما هو المبرر الشرعي للدفاع والمقاومة. ومع أن الحديث في أهداف هذا الجهاد ليس منفصلاً عن أدلته، حيث أنه عندما ننظر إلى موضوع الجهاد باعتبار الغايات التي يَطمح إلى تحقيقها، يُعنون البحث بالأهداف، أما عندما ننظر إليه باعتبار دلالته على مشروعية دينية ما، فيُعنون بالأدلة، لكن إفراد بحث لأهداف الجهاد، إنما هو لتبيان مقاصده العليا، وما يمكن أن يترتب على محصلة هذا البحث من نتائج، على أكثر من مستوى فكري واجتماعي وسياسي وغيره. أما فيما يرتبط بأدلة الجهاد، فلا بد من القول إنه توجد العديد من الأدلة القرآنية والروائية التي تتحدث في فضل الجهاد القتالي، والقتال في سبيل الله تعالى، وأجره وثوابه، والآثار التي تترتب عليه، والتي يمكن أن يستفاد منها للاستدلال على المشروعية الدينية للقتال الدفاعي (المقاومة)، باعتبار كونه من أبرز مصاديق الجهاد القتالي، والقتال في سبيل الله تعالى، وهو صحيح، وإن كنا سوف نعرض هنا لأهم الأدلة، وأشدها وضوحاً والتصاقاً بموضوع المقاومة تحديداً، بما هي دفاع عن الأرض والإنسان والسيادة وكرامة الأمم والأوطان. أما أهم تلك الأدلة التي وردت في القرآن الكريم فهي ما يلي: أ- يقول الله تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾(15). من الواضح في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى يأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين والمؤمنين، ثم يعطف الحديث مباشرة إلى النهي عن الاعتداء، ما يُشعِر أن قتال الذين لم يبادروا إلى قتال المسلمين والمؤمنين هو من الاعتداء الذي نهى عنه القرآن الكريم. ولذلك فإن من يبادر إلى قتال المؤمنين والاعتداء عليهم سواء بالاحتلال أم بغيره، فإن الواجب بحسب ظاهر الآية الكريمة هو قتاله، إذ أن الاحتلال وتحديداً في إطاره العسكري لا يخلو من فعل مبادرة إلى القتال، ولذلك سيكون أمراً واجباً مقابلته بالقتال الذي بادر إليه أولاً. ب- يقول الله تعالى ﴿إلا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة ..﴾(16). في هذه الآية الكريمة يحض الله تعالى المؤمنين على قتال أولئك القوم، لأنهم نكثوا إيمانهم (عهودهم) وبادروا إلى إخراج الرسول. وهم بدأوا بالقتال أولاً، وإلا فإنهم لو لم يبادروا إلى القتال والعدوان لما كان مطلوباً قتالهم. وبما أن الاحتلال هو من يبادر إلى الاعتداء، وهو من يبدأ أول مرة، فإن الواجب مواجهته بالقتال والمقاومة، وسيكون عندها مصداقاً للآية الكريمة، ومورداً للحض على مقابلته بما بدأ به أولاً. ج- يقول تعالى: ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين﴾(17). يبدو من هذه الآية الكريمة وبقرينة المقابلة في قوله تعالى(كما)، أن الأمر بقتال المشركين كافة، إنما كان بسبب قتالهم المؤمنين كافة، أي أنه لولا مبادرة المشركين إلى قتال المؤمنين، لما توجه الأمر إلى المؤمنين بقتال المشركين. وعليه، فإن الاحتلال بما يتضمنه من عدوان وقتال للمجتمعات المؤمنة، يستوجب أن يرد عليه بالمثل، أي بالقتال والجهاد الدفاعي، بما يعني وجوب المبادرة إلى فعل المقاومة، عندما يكون هناك احتلال، أو عدوان بهدف الاحتلال. د- يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله﴾(18). حيث أن الآية الكريمة تفيد بحصول الإذن بالقتال، لما حصل بحق المؤمنين من ظلم بقتالهم وإخراجهم من ديارهم بغير حق. ولذا عندما يكون هناك احتلال بما يتضمنه من عدوان وظلم، يكون من المشروع لمن يقع عليه ذلك العدوان والاحتلال أن يبادر إلى مواجهته بالمقاومة. هـ- جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين﴾(19). إن ما يفهم من الآية الكريمة، أن من يبادر إلى الاعتداء سواء من خلال الاحتلال أم غيره، فيجب أن يرد عليه بمثل الفعل الذي بادر إليه، وهذا يعني أن من يمارس العدوان والاحتلال، يجب أن يرد عليه بالقتال والمقاومة، بما يرتكز عليه هذا الفعل من مبدأ المعاملة بالمثل، والرد على القتال بقتال مثله. ومما يمكن أن يدل أيضاً على مشروعية الدفاع قوله تعالى: ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾، وقوله تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها﴾ وقد عرضنا لهذين الآيتين سابقاً. أما فيما يرتبط بالروايات الواردة عن رسول الله(ص) وأهل بيته(ع)، فنعرض إلى جملة من تلك الروايات ذات الصلة بالموضوع: جاء عن رسول الله(ص): "إن الله ليمقت العبد يُدخل عليه بيته فلا يقاتل"(20) وعن الإمام الصادق أنه قال: قال رسول الله(ص): "من قتل دون مظلمته فهو شهيد"(21) وفي رواية أخرى ينقل "أبو مريم" عن الإمام الباقر(ع) انه قال:" قال رسول الله(ص): "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" ثم قال (أي الإمام الباقر(ع)): يا أبا مريم، هل تدري ما دون مظلمته؟ قلت (أي أبو مريم): جعلت فداك، الرجل يقتل دون أهله ودون ماله وأشباه ذلك. فقال(أي الإمام الباقر(ع)): يا أبا مريم إن من الفقه عرفان الحق"(22). إن هذه الروايات تدعو إلى القتال دون البيت والمظلمة والأهل والمال وأشباه ذلك، أي هي تدعو إلى القتال والدفاع دون الأرض والأوطان والسيادة والاستقلال والكرامة وسوى ذلك، لأنه ليس معنى القتال دون البيت أن ينتظر كل منّا العدو حتى يصل إلى بيته فيقاتله، بل هي بمعنى قتال الاحتلال ومواجهة الاعتداء، سواء كان هذا الاعتداء على البيت أم القرية أم الوطن وغيره. بل يمكن أن يقال إنه إنْ كان الاعتداء على البيت يستوجب القتال والدفاع، فمن باب أولى انه يستوجبه أيضاً في حال الاعتداء على الأرض والوطن. وكذلك الأمر التعبير الوارد في الرواية، الذي يدعو إلى القتال دون الأهل والمال وأشباه ذلك، فليس المعنى الحقيقي للدفاع عن الأهل هو الاقتصار في الدفاع على الزوجة والأولاد فقط أو ما يشمل الرحم القريبة، بل هو يشمل أيضاً أهل قريته وأهل منطقته وأهل وطنه وأمته، وخصوصاً عندما نعضد هذا المعنى بكثير من النصوص التي تتحدث عن الجماعة المؤمنة كوحدة واحدة لها حقوقها وواجباتها، فضلاً عن النصوص القرآنية ذات الصلة. والكلام نفسه فيما يرتبط بالمال، إذ أن المراد من التعبير الوارد في الرواية لا يقتصر فقط على المال الشخصي لكل فرد، بل يشمل أيضاً المال العام والممتلكات العامة التي هي ملك للدولة والشعب. وعليه بما إن العدوان والاحتلال سوف يصيب الشعب وأهل الوطن والممتلكات العامة وغيرها، فهو يستوجب الدفاع عنها، ومواجهة ذاك الاحتلال بكافة السبل التي تؤدي إلى دفعه، وإلى حماية الوطن والأهل والكرامة. ولا بد من الالتفات إلى أنه ومن الواضح في رواية أبي مريم حرص الإمام الباقر(ع) على تفسير المظلمة لصاحبه، حيث ينبغي الإشارة إلى أمور: أولاً: إن المعنى ينسجم تماماً مع النصوص القرآنية التي تجعل من الظلم مبرراً للقتال والحرابة. ثانياً: إن عنوان المظلمة يستوعب مصاديق عديدة ذكرت الرواية جملة منها، لا على نحو الحصر. ثالثاً: ما يدل على أن الرواية لم تقفل المعنى على المصاديق التي ذكرت في الرواية، هو إرداف المصاديق المذكورة بتعبير (وأشباه ذلك)، مما يلفت إلى وجود مصاديق أخرى يمكن أن تدخل تحت المفهوم. رابعاً: إن مراد الرواية لا يقتصر على المصاديق الفردية المذكورة فيها، ولو سلمنا الاقتصار، سيكون من باب أولى شمول مفهوم المظلمة للمصاديق الجمعية التي تشمل مختلف الأفراد ومتعلقاتهم، أي هي تشمل الوطن بأسره والمال العام وعموم الشعب وغير ذلك. إشكاليات في المشروعية الدينية للمقاومة وجوابها توجد بعض النصوص والقضايا الدينية، التي استخدمت بشكل أو آخر للتشكيك في المشروعية الدينية لأي عمل سياسي تنظيمي أو جهادي يرتبط بالاجتماع العام، ما أدى إلى طرح جملة من الإشكاليات التي تتضمن موضوع المقاومة ومشروعيتها أو تختص بها. وهنا سوف نعرض لبعض من أهم تلك الإشكاليات، محاولين تقديم الإجابة عليها، بما ينسجم مع المنطق الديني في معالجة القضايا الدينية ذات الصلة، آخذين بعين الاعتبار الرؤية الإسلامية عامة في تلك القضايا، وخصوصاً في جانبها القرآني. الإشكالية الأولى: وتتصل ببعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت(ع)، والتي تبين الموقف من كل راية أو بيعة قبل ظهور القائم(ع)، حيث جاء عن الإمام الصادق(ع): "كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله"(23). كما ورد عنه(ع): "كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة لعن الله المبايِع لها والمبايَع"(24)، حيث قد يعمد البعض إلى تفسيرها بطريقة تشمل أي عمل سياسي أو فعل مقاوم، عندما يضحى ـ بناء على هذا التفسير ـ أي تنظيم سياسي أو حركة مقاومة، راية مرفوعة قبل ظهور القائم، أو بيعة معقودة قبل قيامه(ع). وقبل الولوج في الإجابة على هذه الإشكالية، لا بد من الالتفات إلى مسألة منهجية، وهي أنه لا بد من فهم الروايات الواردة عن المعصومين(ع) من خلال الرؤية القرآنية ذات الصلة، وعدم ممارسة أي فصل بين النص القرآني والنص الحديثي في عملية تشكيل فهمنا للنص الحديثي، وإلا فإن ممارسة هذا الفصل، سوف تؤدي إلى تكوين فهم يجافي حقيقة المراد من ذلك النص. وفي مقام الجواب، يمكن أن يكون المراد من هذه الروايات أحد أمور: الأول: أنها تتحدث على نحو القضية الخارجية، بمعنى أن مجمل الرايات التي سوف ترفع قبل قيام القائم هي رايات لا تعبر عن حقيقة الدين ولا تسعى إلى قيامه، أو أنها ترفع في مقابل راية القائم(ع) لا في طولها، ولذلك هي رايات طاغوتية؛ ولا تريد هذه الروايات أن تقول إنه يحرم العمل على رفع أية راية، حتى لو كانت تلك الراية التي تنصر الحق، وتعمل لإقامة العدل. الثاني: أنها تتحدث بصيغة الإنشاء، لكن دلالتها ليست على نحو القضية الكليّة الشاملة لجميع الأفراد، أي تريد أن تؤسس موقفاً شرعياً من تلك البيعة أو الراية التي لا تدعو بحق إلى الله تعالى، فهي تريد القول انه يحرم رفع تلك الراية التي تدعو إلى ما سوى الله تعالى، أما إذا ارتفعت راية تدعو بحق إلى الله تعالى وإلى إقامة العدل، فلا يحرم رفعها ولا نصرها، بل يجب ذلك. الثالث: أنها تتحدث فيمن يرفع راية الحق، ولا يكون أهلاً لحملها، ويدعو إلى البيعة باسم الدين، ولا يكون أهلاً لتحملها، وبالتالي هو لا يحمل مشروعيتها. أما إن كان من يحمل أهلية تلك البيعة وحمل الراية، فيجب عليه ذلك، عملاً بجميع الأدلة التي تدعو إلى إقامة الدين والعدل ومواجهة الظلم. وفي مجمل القول إن تلك الروايات لا تقصد تحريم رفع أية راية، حتى لو كانت تعمل بأهلية وصدق وبحق لإقامة العدل والدين ومواجهة الظلم والفساد؛ وإلا فإن هذا المعنى ـ فيما لو سلمنا به ـ يؤدي إلى لازمين لا يقول بهما أحد. الأول: تعطيل مجمل الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تدعو إلى إقامة العدل، ونصرة الحق، ورفع الظلم وجهاد الظالمين. أو انه في مرحلة ما قبل ظهور الإمام المهدي(ع) لا يجب العمل (أو يحرم) على إقامة الدين والعدل ومواجهة الظلم والفساد، وهذا الفهم غير صحيح. الثاني: أن يترك الميدان لأهل الظلم، وأن تخلى الساح لأهل الفساد، وان تصبح الجماعة المؤمنة قوة معطلة في الاجتماع العام، لا دور لها إلا أن تقف موقفاً سلبياً من مجمل الأوضاع القائمة والقضايا الواقعة، حتى لو كانت غارقة في الظلم والفساد؛ وهذا أيضاً غير صحيح، لأنه يخالف كل المضامين الدينية والقرآنية والروائية ذات العلاقة. الإشكالية الثانية: إن أئمة أهل البيت(ع) بعد الإمام الحسين(ع) قد قعدوا عن مواجهة السلطان، ولم يرفعوا راية، ولم يدعوا إلى بيعة، مما يؤشر إلى أن مرحلة ما بعد الإمام الحسين(ع) إلى ظهور القائم(عج) هي مرحلة قعود وانتظار، وليست مرحلة خروج وتغيير. وعليه يمكن للجماعة المؤمنة أن تقيم شعائرها وعباداتها، أما أن تسعى إلى تشكيل نفسها، بما يحيلها إلى قوة اجتماعية - سياسية ذات مشروع تغييري وإصلاحي، يهدف إلى إقامة العدل ومواجهة الظلم؛ فهذا غير مطلوب الآن! في مقام الجواب على هذه الإشكالية لا بد من القول إنه فرق بين أمرين: الأول الخروج على السلطان الظالم، والثاني أن يكون هناك مشروع إصلاحي يهدف إلى إقامة العدل ورفع الظلم..؛ ولا تلازم بين الأمرين، بمعنى انه ليس كل من خرج على السلطان ولو كان ظالماً، فمن منطلق انه يملك مشروعاً إصلاحياً؛ لان مشروعه قد يكون سلطوياً لا غير. وليس كل من لم يخرج على السلطان الظالم، معناه انه لا يملك مشروعاً إصلاحياً شاملاً، لأنه قد يكون لديه هذا المشروع، ويعمل على تحقيقه، لكن بمستويات وطرق لا تصل إلى حدود الخروج على السلطان الظالم؛ أما لماذا لا يعتمد هذا الطريق، فلأن مقدماته وشروطه قد تكون غير متوفرة، وفي هذا الحال قد يؤدي اعتماده إلى خلاف أهدافه، ولذا تعتمد طرق أخرى قد تكون شروطها أكثر توفراً، حتى تصرف التضحيات وتوظف الجهود بشكل صحيح وحكيم، مما يتيح تحقيق ذلك المشروع بأفضل مستوى ممكن، دون الدفع بالجماعة المؤمنة إلى تقديم تضحيات كبيرة في غير زمانها او مكانها، ومن دون توفر شروطها، مما يحيلها إلى تضحيات عقيمة غير موصلة إلى أهدافها، ليس بخلاً بالتضحية، وإنما لصرفها في شروطها الصحيحة، حتى تكون أكثر إنتاجاً وإيصالاً إلى أهدافها الحقة. وبناءً على ما تقدم، سيكون أمراً مفارقاً للحقيقة القول إن أئمة أهل البيت(ع) بعد الإمام الحسين(ع) لا يملكون مشروعاً في الإصلاح وإقامة العدل ومواجهة الفساد ومدافعة الظلم، أو أنهم لم يعملوا على تحقيقه؛ نعم اختيارهم للوسائل الموصلة إلى تحقيقه بشكل أفضل، كان رهناً للظروف الموضوعية القائمة في عصر كل إمام وملابساتها، حيث أن اختيار هذه الوسيلة أو تلك، كان مرتبطاً بشكل مباشر بتلك الظروف وطبيعتها. وهنا لا بد من القول: إن الشروط الموضوعية للأسلوب الثوري لم تكن موجودة في عهود أئمة أهل البيت(ع) بعد الإمام الحسين، وإلا لو كانت تلك الشروط موجودة، لما توانوا عن اختيار ذلك الأسلوب لتحقيق مشروعهم في إقامة العدل وتحقيق الإصلاح، إذا كان هو الأسلوب الأفضل إيصالاً إلى أهداف ذلك المشروع ومقاصده. وعندما نجد أنهم اعتمدوا أساليب مختلفة لتحقيق ذلك المشروع من تربوية أو اجتماعية وغير ذلك، فمن باب أنها الأساليب التي كانت متاحة آنذاك وكانت شروطها متوفرة، ولذلك اعتمدت من قبل الأئمة(ع). ومن يرجع إلى نصوص أئمة أهل البيت(ع) ذات الصلة بالموضوع، ويدرس طبيعة الظروف الموجودة في عهودهم، يصل إلى هذه النتيجة بشكل واضح، أن تلك الظروف لم تكن مساعدة على اعتماد الأسلوب الثوري في التغيير وإقامة العدل. الإشكالية الثالثة: وترتبط بعدم القدرة على مواجهة الظلم القائم والفساد المستشري، حيث أن موازين القوى لا تسمح بمواجهة معادلات دولية وإقليمية، قد تمارس استعماراً أو احتلالاً أو نفوذاً أو ما أشبه ذلك، وبالتالي لا يبقى على تلك الأمة التي وقع عليها الاحتلال، إلا أن تستوعب تداعياته، وأن تحاول مهادنة المحتل، دون مواجهته من خلال المقاومة والأساليب الثورية. وفي مقام الجواب، لا بد من القول إن منطق المقاومة يختلف عن منطق المواجهة التقليدية. إذ إن منطق المقاومة يهدف إلى أمور: 1- أن يكون الاحتلال ذا كلفة على المحتل، وكلما أمكن أن تكون كلفة الاحتلال أعلى فينبغي العمل على ذلك. 2- العمل بوسائل مختلفة على إفشال أهدافه التي أرادها من خلال احتلاله. 3- أن يوجِد حالة من الرفض للاحتلال، قد يأخذ بداية أبعاداً محدودة، لكن مع ديمومة العمل المقاوم تتسع حالة الرفض، لتشمل مختلف الأبعاد من سياسية واجتماعية ونفسية وثقافية وغير ذلك. 4- أن يراكم الانجازات، ويعمل على حسن توظيفها واستثمارها، بهدف دفع الاحتلال ولو بعد زمن إلى التراجع، عندما يرى انه لم يعد قادراً على تحمل كلفة احتلاله. وعليه قد لا تستطيع المقاومة إسقاط المعادلات الدولية والإقليمية التي تقف خلف الاحتلال وتسانده، لكنها تستطيع إسقاط الاحتلال نفسه، من خلال إفشال أهدافه، وتصعيد حالة الرفض له، وتعميمها، وزيادة كلفة احتلاله، ومراكمة الانجازات وحسن توظيفها، إلى حد دفعه إلى تلقي الهزيمة، والتراجع عن احتلاله أمام فعل المقاومة. ملاحظة: يمكن القول إن إشكاليات عديدة ذات أبعاد دينية وفكرية رافقت الفعل المقاوم في الوسط الإسلامي، خصوصاً مع بداياته، لكن يمكن القول أيضاً وإلى حدٍ بعيد، إن مجمل تلك الإشكاليات لم يعد له من اثر، أولاً لأنه لم يثبت في مقام الجدل الديني والفكري أمام منطق المقاومة ومشروعيتها الدينية، وثانياً لان هذا المنطق قد اثبت جدوائيته العملية في ميدان المواجهة والعمل الميداني. وعليه، وجدنا من المناسب الاقتصار على ما ذكرنا من إشكاليات، قد تطرح في مقام البحث في المشروعية الدينية للفعل المقاوم، لأنه قد لا يكون للإطالة تلك الجدوى التي ترجى، ومراعاة لأولويات البحث وحدوده، والتي تركز إلى حدّ بعيد على أدلة الجهاد وأهدافه. الخاتمة يتبين من جميع ما تقدم الأمور التالية: 1- إن قضية الجهاد الدفاعي (المقاومة) كانت محل اهتمام شديد من قبل النصوص الدينية الإسلامية، وتالياً من قبل علماء المسلمين ومفكريهم. 2- إن مسألة المشروعية الدينية للمقاومة هي من المسائل الواضحة والمحسومة في الموقف الديني والإسلامي تحديداً، بمعنى أن قوة الأدلة الدينية ووضوح دلالتها لا تترك كثير مجال للجدل العلمي في الموضوع. 3- بمقدار تتبعنا ـ سواء ما عرضناه في مطاوي البحث وغيره ـ لا يوجد أحد من علماء المسلمين ومفكريهم خالف في قضية المشروعية الدينية للمقاومة والجهاد الدفاعي. 4- صحيح أن جملة من الإشكاليات أثيرت حول مشروعية الفعل المقاوم وجدوائيته، لكن يمكن القول إن مجمل تلك الإشكاليات لم يصمد أمام المنطق الديني وأدلته، والخلاصات التي أفضت إليها التجربة الميدانية للمقاومة ومشروعيتها. 5- بمقدار ما يمكن أن تكون قضية المشروعية الدينية للمقاومة ذات أهمية كبيرة على مستوى الوعي الإسلامي والاجتماع العام، بمقدار ما ينبغي الالتفات إلى أن الأهم من ذلك، هو كيفية استثمار تلك المشروعية على مستوى إعادة تشكيل الوعي الإسلامي، بحيث يصبح أكثر حصانة أمام أساليب مختلفة من الاحتلال، تتجاوز احتلال الأرض إلى احتلال الوعي والإرادة والقرار، وهو اشد خطورة من الاحتلال التقليدي، لأنه ـ أي ذاك الاحتلال ـ هو احتلال شامل للبشر قبل الحجر، ثم هو احتلال مقنّع، يستطيع أن يمارس ضروباً مختلفة من الخداع والاحتيال، وهو اشد خطورة، لأنه أكثر عمقاً وتجذراً، فإن كان تطهير الأرض يحتاج إلى جهد أو آخر، فإن تطهير الوعي والإرادة يحتاج إلى جهود مضنية وعمل غير قليل. إن هذا النوع من الاحتلال هو الذي يعاني منه واقعنا الإسلامي اليوم، لان الاستعمار استطاع إيهامنا انه قد خرج من أرضنا، لكنه في واقع الحال ما زال يسكن في وعينا، ويقيم في فكرنا، ويحتل اقتصادنا وثرواتنا، ويصادر قرارنا السياسي، ويهيمن على مؤسساتنا وسيادتنا، ويتدخل في جميع شؤوننا، ويستغل هيمنته تلك لزرع الفتن والحروب بين مكونات أوطاننا من سنة وشيعة، عرب وكرد، مسلمين ومسيحيين.. حتى تبقى له الكلمة العليا، واليد الطولى في ربوعنا وبلادنا؛ ولذلك يجب أن تنصب جميع الجهود على مقاومة هذه الأنواع الخطيرة من الاحتلال وأهدافه ومشاريعه. هوامش 1- ابن منظور، لسان العرب، مؤسسة التاريخ العربي ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1992 م، ط 2، ج 2، ص 395-397. 2- سورة التوبة، الآية 41. 3- سورة الفرقان، الآية 52. 4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، بيروت، 1413 ه ق، ط 1، ج 15، ص 161. 5- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، بيروت، 1408 ه ق، ط 2، ج 8، ص8. 6- السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، منشورات مدينة العلم، قم، 1407 ه ق، ج 14، ص 512. 7- بالإضافة إلى ما ذكرنا من موارد استعمل فيها مفهوم الجهاد، فقد استعمل أيضاً في عدم الظلم، حيث ورد في وصية النبيّ(ص) لعلي(ع): "يا علي أفضل الجهاد من أصبح لا يهم بظلم أحد"(وسائل الشيعة، م س، ص 162)؛ وفي إقامة السنة، حيث ورد عن الصادق(ع): "..وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها.." (م س، ص 24)؛ وفي صبر الزوجة على زوجها، حيث ورد عن الإمام علي(ع): ".. وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته" (م س، ص 23)؛ وفي الكلمة أمام الجائر، فعن الإمام علي(ع): "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"(الديلمي، إرشاد القلوب، انتشارات الشريف الرضي، قم، 1415 ه ق، ط 2، ج 1، ص 98). 8- انظر مثلاً: الإمام علي(ع)، نهج البلاغة، دار الذخائر، قم، 1412 ه ق، ط 1، ص 67. 9- سورة البقرة، الآية 193. 10- سورة الحج، الآية 39. 11- سورة النساء، الآية 75. 12- سورة البقرة، الآية 194. 13- يرى الإمام شمس الدين رحمه الله أن وظيفة الجهاد تقتصر على الدفاع فقط. انظر: شمس الدين الشيخ محمد مهدي، فقه العنف المسلح في الإسلام، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت،2001 م، ط 1، ص 133. 14- يذهب الإمام شمس الدين رحمه الله إلى أن الدفاع لا يرتبط فقط بالبعد المادي في شخصية الإنسان، بل يشمل أيضاً أبعاده المعنوية كالكرامة والسيادة والحرية..أنظر: م ن، ص168-169. 15- سورة البقرة، الآية: 190. 16- سورة التوبة، الآية:13. 17- سورة التوبة، الآية: 36. 18- سورة الحج، الآية: 39-40. 19- سورة البقرة، الآية: 194. 20- الحر العاملي، وسائل الشيعة، م س، ص 119. 21- الحر العاملي، وسائل الشيعة، م س، ص 121. 22- م س. 23- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1362 ه ش، ط 4 تح الغفاري، ج 8، ص 295. 24- المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983 م، ط 3، ج 53، ص 8. |
||||||