بعد 66 عاماً على النكبة الفلسطينية
إسرائيل: ما بين تضخم هواجس الوجود وهرطقة "يهودية الدولة"!

السنة الثالثة عشر ـ العدد 150 ـ ( شعبان 1435 هـ)حزيران ـ 2014 م)

بقلم: مأمون الحسيني*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا مناص من الاعتراف بأن النكبة الفلسطينية الكبرى التي حلّت ذكراها السادسة والستين قبل أيام، كانت الحدث المؤسس للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني الذي تحوّل بمعظمه إلى لاجئين خارج الوطن وداخله، وهي لم تتوقف عملياً طوال السنوات والعقود الماضية، وما زالت، وإسقاطاتها التي تدب على الأرض، تلقي بظلالها الثقيلة على مجمل المشهد الفلسطيني- العربي المفتوح على احتمالات شتى.

غير أن الملمح الأبرز للذكرى، هذه المرة، هو تنامي قوة الجذب التي تعمل على دفع قضايا الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وتشعباتها باتجاه بؤرة الحراك العربي والإقليمي والدولي الذي يغذ الخطى باتجاه صياغة خريطة سياسية وإستراتيجية جديدة في المنطقة والعالم، من أهم مفارقاتها، على صعيد القضية الفلسطينية، انهيار عملية المفاوضات، والبدء بإنجاز خطوات المصالحة الفتحاوية- الحمساوية، في مقابل ارتفاع منسوب الخطوات الإسرائيلية الهادفة إلى وضع حد حاسم ونهائي للحقوق الفلسطينية، من خلال استخدام كافة وسائل الضغط والإكراه لانتزاع اعتراف فلسطيني وعربي ودولي بـ "يهودية إسرائيل"، في مقابل تبلور جبهة مواجهة إستراتيجية أعادت إنتاج هواجس الوجود لدى الكيان الإسرائيلي الذي تطفو على سطحه أسئلة الأمن والمخاطر المحدقة، وتعشعش في جنباته الخشية من تآكل وفقدان شرعية وجوده في العالم.

ومع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي تحوَل إلى ممثل شرعي لكافة أحزاب وقوى اليمين المتطرف الذي بات يهيمن على الساحة السياسية الإسرائيلية، سبق وأن استشعر مخاطر الاتجاه الذي تتدحرج نحوه الأوضاع الإقليمية والدولية، وحاول استثماره لمصلحة كيانه الاستيطاني الإحلالي من خلال وضع مسألة الاعتراف بـ"يهودية إسرائيل"، والتي لم يجرؤ على التمسك بها أي رئيس وزراء إسرائيلي سابق، كشرط مسبق أمام الفلسطينيين لـ"إنجاح" المفاوضات، وهو ما يعني برأي أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية والخبير في الحركات الفاشية، زئيف شتيرنهيل، أن على الفلسطينيين أن "يعترفوا بهزيمتهم التاريخية وأن يعترفوا بملكية حصرية لليهود على البلاد، أي أن يتنكروا لهويتهم وأن يقبلوا بهزيمة ثقافية تاريخية قبل الهزيمة السياسية"، إلا أنه (نتنياهو) يعود هذه الأيام، وبعد فشل العملية التفاوضية، إلى إعلان عزمه المضي قدماً في سن قانون جديد يصنّف هذه الدولة الاستيطانية الكولونيالية التي قامت على أنقاض أصحاب الأرض الأصليين، على أنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، قاطعاً بذلك الطريق أمام محاولات بعض الإسرائيليين تكرار مطالبتهم ما يسمى "المحكمة العليا" الإسرائيلية الاعتراف بأنهم ينتمون إلى ما أسموه "قومية إسرائيلية" ومن ثم، تغيير صفتهم في سجل السكان من "يهودي" إلى "إسرائيلي"، بعد أن رفضت هذه المحكمة، قبل نصف سنة تقريباً، هذا الطلب، بدعوى أنه لم يثبت، قضائياً، وجود قومية إسرائيلية.. ومن غير المناسب تشجيع نشوء "شظايا" قومية جديدة.

رواية النكبة.. مرة أخرى

وقبل التصدي لمقاربة هذا المسعى القديم- الجديد الذي بات يحتل موقع الصدارة في أجندة نتنياهو وائتلافه الحكومي، لا بد من إعادة تسليط الضوء على رواية النكبة التي حظرت إسرائيل إحياء ذكراها، انطلاقاً من حجم التحديات وخطورة المرحلة وواقع الهجوم الإمبريالي- الإسرائيلي- الرجعي- التكفيري على منظومة المقاومة في المنطقة، وفي القلب منها سوريا، وارتفاع منسوب علاقات التطبيع الصهيوني- العربي، والتي وصلت إلى حد التحالف المعلن لدى بعض الأنظمة ومنظمات الإرهاب، ولاسيما في ظل تواري الرواية الفلسطينية والعربية الذي أفسح المجال، عالمياً، أمام هيمنة الرواية الرسمية الصهيونية التي تتمسك بتحميل القادة العرب والفلسطينيين أنفسهم مسؤولية ذلك، بزعم أن من أخرج الجزء الأكبر من الفلسطينيين من أراضيهم هي الجيوش العربية، أما الجزء الآخر فقد خرج طواعية! ولعل الاختراق الأهم، على هذا الصعيد، هو ما جرى في مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما بدأت تظهر في ميدان الدراسات الأكاديمية الخاصة بالصراع العربي- الإسرائيلي أبحاث من أطلق عليهم اسم المؤرخين الجدد، الذين قدّموا، استناداً إلى وثائق الأرشيف الإسرائيلي التي كشف عنها في العام 1988، أي بعد أربعين سنة على إنشاء إسرائيل، رؤية غير رسمية لقضايا مركزية وأساسية رافقت إقامة دولة الاحتلال عام 1948، مثل قضية اللاجئين الفلسطينيين، وطبيعة إسرائيل كدولة عدوانية، وقضايا أخرى تمس الصراع الطويل والممتد.

وعلى الرغم من الجدل الواسع الذي أثارته ظاهرة المؤرخين الجدد، حينذاك، إلا أن الكثير مما كشفه هؤلاء أماط اللثام أمام العالم عن جوانب مهمة عن كيفية تنفيذ اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، بطريقة مبرمجة ووفق منهج معدّ بدقة بشكل مسبق، وما رافق ذلك من مجازر وحشية وأعمال إرهابية ترويعية لأبناء المدن والقرى الفلسطينية، حيث يلخص المؤرخ اليهودي إيلان بابيه في كتاب صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وحمل عنوان التطهير العرقي في فلسطين، حقائق هذا الاقتلاع بالتأكيد على أن التاريخ الحقيقي لعمليات طرد الفلسطينيين بدأ في 1/ 2/ 948، وأن دخول الجيوش العربية استغل سلبا من قبل العسكريين الصهاينة ضد القضية والشعب الفلسطيني، على الرغم من أن هذه الجيوش لم تدخل الأراضي التي حددت لليهود في قرار التقسيم، وكان أبرز من استغل ذلك، وفق الوثائق التي أفرج عنها، دافيد بن غوريون الذي اعتمد إستراتيجية عسكرية جديدة تقول إن عملية الطرد التي بدأها يمكن أن تطال منذ الآن ما بعد حدود الدولة اليهودية المقررة في قرار التقسيم، لأنه وبدخول تلك الجيوش أصبحت الحرب مفتوحة على مصراعيها مع العرب، ويضيف بابيه أنه وجد في الأرشيف العسكري الصهيوني، أن القيادة العسكرية والسياسية كانت تجتمع أسبوعياً لمتابعة عمليات الطرد، وهذه الاجتماعات كانت تتابع العمليات أولا بأول وتطَلع على حاجة كل جبهة، وما تحتاجه لتنفيذ ما خطط له، ومن ضمن هذه الخطط كيفية الإعداد للتطهير العرقي في كل قرية فلسطينية على حدة، وكل حي من أحياء المدن. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار ما كشفه المؤرخون الجدد أنه أضاف جديداً للشعب الفلسطيني الذي أريد عزله عن روايته وذاكرته، بدليل استمرار وتواصل مقاومته على مدى أكثر من قرن كامل، ورفضه كافة البدائل التي تطل برأسها بقوة هذه الأيام: التوطين والتعويض وسواها، وذلك على الرغم من اتساع حجم الجرائم الإسرائيلية التي وصلت إلى حد الإبادة والتطهير العرقي وإعادة إنتاج عمليات الطرد الجماعي، وتصعيد الحصار على قطاع غزة. ولكن دون أن يعفي هذا الصمود وهذه المقاومة من العمل الأكاديمي الجاد والدؤوب لإعادة توثيق الذاكرة الفلسطينية للنكبة، وزجها في أتون الصراع مع العدو الذي يعيش مأزقاً وجودياً غير مسبوق، على الرغم من فائض القوة المتراكمة لديه، ودعم الأمريكيين والأوروبيين غير المحدود.

رؤى سياسية وأخرى أيديولوجية

على أية حال، وبخلاف بعض الآراء التي تحيل إصرار حكومة نتنياهو، ومن خلفها كافة ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، على طرح شرط ضرورة اعتراف الجانب الفلسطيني بـ "يهودية إسرائيل" إلى أسباب سياسية لها علاقة بتعثر عملية التفاوض، وإقلاع عملية المصالحة الفلسطينية، فإن ثمة رؤى ذات طبيعة أيديولوجية دوغمائية، وأهدافا قديمة، ومعطيات مستجدة تقف خلف تمسك الإسرائيليين بتثبيت دعائم كيانهم الغاصب بأوتاد الدين والوعد الإلهي، ودمج مفهوم "الأسرلة" في إطار ما يسمى "الهوية اليهودية". فنتانياهو الناطق بلسان قوى اليمين الصهيوني والحريدي، ومثلما كانت تردد غولدا مائير، لا يعترف، في الأساس، بوجود الشعب الفلسطيني. وبالنسبة له، وكما ينقل عكيفا ألدار في صحيفة "هآرتس" العبرية، عن خطابه في مؤتمر "إيباك" الأخير، فإن الخليل هي فقط المدينة التي "اشترى فيها إبراهيم مغارة الماكفيلا"، و"بيت ايل" هي المكان الذي "حلم يعقوب فيها حلمه"، أما القدس، فهي "صخرة وجودنا. حكم داود مملكته" منها. ولأنه "توجد فقط حقيقة تاريخية واحدة"، وفق ما يؤمن ويردد، فقد استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي، على سبيل المثال، الجلسة الخاصة للكنيست بكامل هيئتها على شرف نظيره البريطاني دافيد كاميرون كي يقول، "كانت عودة اليهود إلى صهيون هي التي أدت إلى هجرة عربية مكثفة إلى بلاد إسرائيل من الدول المجاورة للبلاد التي تبنى من جديد". ولم يكتفِ نتنياهو بالطلب بأن يعترف الفلسطينيون بأن دولة إسرائيل هي اليوم الدولة القومية للشعب اليهودي وهكذا ستبقى في المستقبل؛ بل قضى بأن "الفلسطينيين ملزمون بالاعتراف بالصلة التاريخية للشعب اليهودي بوطنه في بلاد إسرائيل وحقوقه فيها". لا بل وقرر بأنه "لا توجد هنا مسألة روايات، توجد هنا حقيقة تاريخية واحدة".

أما بخصوص الأهداف الإسرائيلية، فيمكن القول إن الاعتراف الفلسطيني بأن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي" سيكون له معان سياسية - قانونية بعيدة الأثر، تتجاوز انتزاع إقرار بحق اليهود التاريخي في فلسطين، والتنازل عن "حق العودة"، ووضع فلسطينيي 1948 في مهب الترانسفير بعد فتح باب التطهير العرقي، أو إقامة دولة دينية، تكون سبباً في شن الحروب الدينية في المنطقة، إلى إدانة الفلسطينيين لتاريخهم الكفاحي الوطني خلال العقود الماضية، وتبنّي الرواية الصهيونية التي قادت لطرد أغلبية أصحاب الأرض من وطنهم. فيما تتعلق المعطيات المستجدة التي بدأت تفرض نفسها على الأرض وفي الميدان، بانحسار قدرة إسرائيل، ليس فقط على الردع كما بيّنت حرب تموز/ يوليو 2006، وإنما على أداء الحد الأدنى من وظيفتها في المنطقة، وتحوّل هذا الكيان، تالياً، من رصيد إلى عبء استراتيجي، دون أن يمس ذلك من قيمته الاعتبارية كعضو متمم في النسيج الأمريكي الكلي، وذلك تحت وطأة ضعف الولايات المتحدة الذي بدا عارياً جلياً حين تم التراجع عن شن الحرب على سوريا في 3 أيلول/ سبتمبر الماضي، ما يعني أن إصرار الإسرائيليين على اعتراف الفلسطينيين والعرب، وبقية العالم، بـ"يهودية" دولتهم، له علاقة بتضخم الهواجس الوجودية لديهم، وارتفاع منسوب الخوف من الاحتمالات المفتوحة في المنطقة، ولاسيما في ظل تطورات الميدان السوري، ومتغيرات المشهد المصري، والبدء بتلمس تداعيات وارتدادات هذه التطورات على مجمل الخريطة الإقليمية.

وكما هو حال كافة العناوين والتفاصيل المتعلقة بهذا الكيان الشاذ- الطفرة الذي أقيم بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعبر استنساخ الصهيونية وعصاباتها (الهاغانا وليحي وأرغون وشتيرن) تجربة إبادة الهنود الحمر في أمريكا، وقيامها بترتيب عمليات طرد جماعي للفلسطينيين، من خلال العمليات العسكرية وجرائم الإبادة والمجازر المنظمة، والاستيلاء على أرضهم ووطنهم، ومصادرة تاريخهم وجغرافيتهم، يرشح مشروع قانون "يهودية إسرائيل" بالمفارقات والمتناقضات الفاقعة، لعل الأبرز فيها هو محاولة الجمع المصطنع، ومن خلال رزمة من الذرائع والفبركات والفذلكات القانونية والدستورية والسياسية، بين مفهوم "اليهودية" المؤدلج كـ "قومية" في عرف الصهاينة، والذي يعني أن تكون إسرائيل ليست دولة كل إسرائيلييها، بل "دولة الشعب اليهودي"، ومفهوم الديمقراطية ذات الطابع الملتبس في الكيان العنصري، وتحويل مهمة الدولة من أداة سياسية ووسيط بين الحكم والمحكومين، كما يرى رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ، إلى مجرد مرحلة أولى في خطة إيديولوجية "خلاصية مسيحانية".

ووفق المرئي، لا يمكن إغفال الأهداف السياسية لإعلان نتنياهو ذات العلاقة بفشل العملية التفاوضية والمصالحة الفلسطينية، ومحاولة تعديل ائتلافه الحكومي القلق، غير أن حيثيات وتعقيدات وتداعيات هذا المطلب المدعوم تكثيف عمليات الاستيطان والضم، تتجاوز هذه العناوين السياسية، نحو محاولة الإطباق على كافة أجزاء فلسطين التاريخية، وذلك من خلال السيطرة على الأراضي المحتلة عام 1967 بقوة الاحتلال والاستيطان والضم، وعلى فلسطينيي 1948 بقانون "يهودية الدولة"، وإشهار الوجه الحقيقي للدولة الفاشية التي لم يعد بوسعها، وتحت وطأة المتغيرات الصاخبة التي تضج بها المنطقة والعالم، تحمَل أية قيود "ديمقراطية" على مستوى الداخل، ولاسيما من جانب الجهاز القضائي الذي يحاول التعويض عن غياب الدستور، أو إخفاء البعد الأسطوري الخلاصي التلفيقي لـ"التجمع الصهيوني" الذي يرفض الآخر، ويعتبر الأرض، كل الأرض الفلسطينية وجوارها، حق تاريخي لليهود! أي، بكلام آخر، وكما يؤكد د. شتيرنهيل، أنه و"بعد 66 عاما من قيام إسرائيل، تتعزز في الفكر الصهيوني رؤية  فلاديمير جابوتنسكي، التي تعطي إسرائيل دور الشعب المختار، وهي فكرة محورها الأساسي (Erez Israele)  أي "أرض إسرائيل" بدلا من (Medinat Israele) أي "دولة إسرائيل"، وفي  هذه الرؤيا لا وجود لدولة تضمن الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، أو حتى حياة كريمة للجميع؛ بل لدولة تضمن الهيمنة اليهودية على أرض إسرائيل، والتأكد من عدم قيام كيان سياسي إضافي هنا".

أساطير ومزاعم "الحق الديني"

وعلى الرغم من أن طيفاً غير واسع من الشخصيات "المدنية والعلمانية" الإسرائيلية وبعض وسائل الإعلام العبرية، عبّر عن رفضه لهذه الهرطقة المسكونة بمزاعم "الحق الديني" ومقولات "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد" و"الهيكل" وسوى ذلك من الأساطير التي عملت على تغطية سياسة الابتزاز الرخيص لما يسمى "الهولوكوست"، وممارسة أبشع إشكال العنصرية، والممارسات العدوانية ضد الفلسطينيين والعرب، والتي من شأنها تسريع عملية "نزع الشرعية" الدولية عن دولة الأبارتايد الإسرائيلية بعد تكثيفها عمليات الضم والاستيطان والتهويد، وخلخلة الواقع الديمغرافي في القدس وكافة أنحاء الضفة الغربية، ومواصلة تشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، وإطلاق التهديدات بالحرب ضد لبنان وسوريا وإيران، إلا أن واقع الحال في دولة الاحتلال، وبحكم هيمنة الأحزاب اليمينية الفاشية على الكنيست والحكومة، يتجه نحو إقرار القانون الذي لن يشكل خطراً ماثلاً على حق العودة" الفلسطيني، وسيفاً مسلطاً فوق رؤوس فلسطينيي 1948 (نحو 21% من عدد السكان) المهددين بالترحيل فقط، وإنما كذلك على كافة مناحي الحياة في الدولة العبرية التي ستتحكم المرجعية التوراتية بكافة تشريعاتها وقوانينها ومؤسساتها.

ومنعا لأي التباس حيال طبيعة الكيان الإسرائيلي وجوهره المتوكئ على البعد الديني، والذي بدأت تتضح ملامح استهدافاته ودوره المركزي في ترجمة مخطط تقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية، وبالأخص بعد دخول الكيان المباشر والعلني على خط دعم المجموعات الإرهابية في سوريا ضد الدولة والجيش العربي السوري، لا بد من العودة إلى ما جاء في ما أطلق عليه "بيان الاستقلال الإسرائيلي" الذي أعلن مساء الرابع عشر من أيار/ مايو 1948، والذي قال بالحرف: ".. لهذا اجتمعنا، نحن أعضاء مجلس الشعب، ممثلي الحاضرة العبرية والحركة الصهيونية، في يوم انتهاء الانتداب البريطاني على بلاد إسرائيل، وبحكم حقنا الطبيعي والتاريخي وعلى أساس قرار جمعية الأمم المتحدة فإننا نعلن بذلك إقامة دولة يهودية في بلاد إسرائيل، هي دولة إسرائيل". ولعل من المهم الإشارة إلى أنه من بين السبعة والثلاثين الموقعين على هذا الإعلان، كان هناك ليس فقط قادة وأعضاء المؤسسة الصهيونية، بل وأيضاً الخارجون عن هذه المؤسسة، كالإصلاحيين والشيوعيين ورجال "أغودات يسرائيل" وغيرهم من الذين وافقوا على شطب كلمة "ديمقراطية" التي وردت في الصيغة الأولية للبيان. ولذا لم يكن غريبا أن يعتبر أهرون باراك في كتابه "قاض في مجتمع ديمقراطي" أن "قيم إسرائيل كدولة يهودية هي ذات مكانة دستورية فوق قانونية. فهي تؤثر على تفسير كل القوانين الأساس وتؤثر بذلك على دستورية كل القوانين. وهي تؤثر على تفسير كل النصوص القانونية، وذلك لأنه يجب أن نرى فيها جزءاً من القيم الأساس لدولة إسرائيل، وبذلك أيضاً الجزء من الغاية العامة القابعة في أساس كل نص قانوني في إسرائيل. وهكذا مثلاً فإن كل قانون للكنيست وكل مرسوم للحكومة يستهدف تطبيق قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية".

ما بين حسابات الحقل.. والبيدر

انطلاقاً من ذلك، وعلى هذه الأسس، بات الاضطهاد والقمع المستند إلى طبيعة الكيان وجوهره ووظيفته، يطال إلى جانب الفلسطينيين، العديد من المواطنين الذين يصنّفون كعلمانيين في كافة مناحي ومفاصل حياتهم، سواء في الزواج والطلاق والنقل العام وأحكام الحلال والدفن، وتحولت الحاخامية، وبرعاية الدولة، إلى محتكرة مستبدة ومبتزة للأموال، وإلى سيف مسلط على رؤوس الجميع، بما فيهم يهود متدينين من تيارات أخرى كالإصلاحيين، محدثة بذلك شعورا بالاغتراب عند طوائف يهودية في الولايات المتحدة والعالم نحو الكيان الإسرائيلي، ما جعل من الطبيعي، تحت ظلال هذه الهيمنة الحريدية العنصرية، ارتفاع جرائم عصابات ما يسمى "دفع الثمن" التي أسمى أعضاءها الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز "النازيين الجدد العبريين"، إلى ما نسبته 200% ضد المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية، في الفترة الأخيرة، دون أن تحرك السلطات الرسمية الإسرائيلية التي ترفض توصيف هذه العصابات بـ"الإرهابية"، أي ساكن، كون أقطاب حكومة نتنياهو، يعرفون أصلاً أن هذه الجماعات هي امتداد لأحزابهم وأفكارهم... لا بل هي جزء من تنظيمهم السياسي، وكون هذه الجرائم هي "التجسيد العميق للفعل اليهودي الخالص".

في كل الأحوال، ما يهم في الأساس، وبصرف النظر عن حقيقة الموقف العربية الرخوة حيال مسألة "يهودية إسرائيل"، والتي ما زالت تكتفي بالرفض اللفظي لهذا التطور الشاخص، وبعيدا عن الخيارات الفلسطينية التي لا يبدو أنها بصدد القطع مع نهج المفاوضات، وكذلك عن محاولة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري "فبركة" مقايضة في هذا الإطار، يعدّل بموجبها البند المتعلق بـ"يهودية إسرائيل" في أي اتفاق مستقبلي ليصبح كالتالي: إسرائيل هي "الوطن القومي لليهود"، في مقابل موافقة الجانب الفلسطيني على البند المتعلق بالقدس، والذي ينص على إقامة عاصمة في جزء من القدس الشرقية وليس في كل القدس الشرقية. ما يهم، حقيقة، هو أن إسرائيل ماضية في الدفع قدماً بالمزيد من مشاريع القوانين والمبادرات الرامية إلى ترسيخ الصهيونية داخل الكيان وخارجه، وتعزيز الطابع اليهودي للدولة، وتهيئة التربة المناسبة لترجمة فكرة تبادل السكان التي ينادي بها وزير خارجيتها أفيغدور ليبرمان، منذ زمن طويل. والتي تقوم على أساس أن أي تسوية سياسية مستقبلية مع السلطة الفلسطينية ينبغي أن تأخذ بالحسبان محاولة تفريغ الدولة العبرية من قسم من سكانها الفلسطينيين، وإلحاقهم بالدولة الفلسطينية المأمولة.

غير أن حسابات الحقل الإسرائيلي هذه دونها حسابات أخرى لها علاقة بما يحمله مفهوم "الدولة اليهودية" من فيروسات قاتلة في أحشائه، وكذلك بالبيدر الإقليمي والدولي، ناهيك عن الفلسطيني الذي تتراكم في أرجائه نذر انتفاضة جديدة من طراز غير مسبوق، فالدولة اليهودية، وكما يرى عنار شيلو في "هآرتس"، محكوم عليها بالتلاشي انطلاقا من أنها "نظام الإبادة الذاتية لدولة إسرائيل والزمان يعمل في مصلحتها"، ذلك أن "أكثر من نصف الأطفال في إسرائيل الآن يولدون لعائلات حريدية أو متدينة. وفي غضون جيل أو اثنين لن يكون هنا أكثرية متدينة فقط بل أكثرية حريدية تعارض الدولة والعمل"، ما يفرض التساؤل عن إمكانية تحولها إلى دولة شريعة يهودية، أو الاختفاء في غضون جيل أو اثنين عن الخريطة بصفتها كياناً سياسياً". أما بخصوص الواقع الإقليمي والأممي الذي يعيش مخاض التموضع في إطار نظام دولي جديد، فلا بد من التذكير بأن المشروع الصهيوني الذي بدأ تنظيميا، أواخر القرن التاسع عشر، وتجلَى كيانه السياسي (إسرائيل) في أواسط القرن العشرين، كان التعبير الأبرز عن شكل وطبيعة عملية الانتقال إلى مرحلة التمدد الرأسمالي- الإمبريالي خارج الحدود القومية، وحاجة مراكز القوة الإمبريالية إلى إقامة ثكنة متقدمة مسلحة في منطقتنا العربية، وظيفتها الأساسية منع كل أسباب الوحدة والتنمية والتقدم، وإبقاء الأمة العربية مجرد أشتات وجماعات إثنية وطائفية وجهوية، تحت مسمى دول، ترتبط ارتباطا وثيقا، ومن موقع التبعية المطلقة، بمراكز رأس المال ومصالحه الحيوية التي لا تعرف أية حدود. ولأن إطار ومتن هذا النظام بدأ بالاهتزاز والترنح على إيقاع تبلور وتقدم منظومة المقاومة في المشرق العربي، ومبادرة روسيا وحلفائها في "البريكس" إلى الهجوم في أكثر من موقع لصياغة نظام عالمي جديد يسقط نظام الأحادية القطبية، ويعيد للقانون الدولي هيبته ومكانته وتأثيره، فإن الاستنتاج المنطقي الذي سيظهَره الواقع في الآتي من الأيام، هو أن تكون إسرائيل بمثابة المرآة التي تعكس صور تصدَع النظام الآيل للأفول، وملامح نظيره الغائم خلف غبار المعارك والحروب المتنقلة في أكثر من مكان. 

كاتب فلسطيني(*)

اعلى الصفحة