التأسيس للجبهة الشعبية التونسية
بدلالة الدور الصاعد  للطبقة المتوسطة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 149 ـ (رجب 1435 هـ) أيار ـ 2014 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يجمع المحللون الملمون بالشأن السياسي التونسي أن "الجبهة الشعبية"،تريد أن تكون خياراً انتخابياً ثالثاً في تونس التي تشهد حالياً استقطاباً كبيراً بين الإسلاميين ممثلين في "حزب  النهضة"، وحزب "نداء تونس"، لاسيما أن هناك عوامل عديدة تدفع بقوى اليسار لتوحيد صفوفها، في ضوء الهزيمة التي منيت بها الأحزاب اليسارية والقومية في الانتخابات الماضية، والتي جعلت العديد من قواعد هذه الأحزاب تدفع  نحو رص الصفوف لمواجهة ما تواجهه الساحة.

إضافة إلى حجم التحديات التي برزت خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس، بما يهدد طبيعة المجتمع التونسي، وضغط الشارع الشعبي من أجل أن تتجاوز الأحزاب اليسارية و القومية انقساماتها غير المبررة، وغير المجدية، والتي أسهمت في تشويهها، وفي عزلها عن الحراك السياسي القائم في تونس.

غير أن "الجبهة الشعبية" ينتظرها عمل كبير، لجهة توحيد أكثر ما يمكن من الرؤى بين أطرافها اليسارية والقومية،إضافة إلى تعميق فكرة العمل الجبهوي واللقاء السياسي، ثمّ بلورة رؤاها وبرامجها البديلة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوجيه رسائل واضحة للمجتمع التونسي، وتقديم خطاب يطمئن القوى الداخلية صاحبة المصلحة في الثورة. فهذا العمل وحده هو الذي يفسح في المجال لتشكيل تكتل انتخابي يبرز قوّة هذا التيار الثالث ويعطيه أيضاً فرص النجاح في الانتخابات القادمة.

وعلى الرغم من بروز هذه الرؤية التفاؤلية، في ضوء التجاذبات السياسية الحادة التي ظهرت حول صياغة الدستور، والتي بدأت تطرح من جديد موضوعة التحالفات سواء في شكل انصهارات أو أطر جبهوية، فإن العديد من المحللين يرون أن ولادة جبهة تضم الأحزاب اليسارية والقومية تبدو صعبة ومترددة، من جراء عدم قدرة العديد من القيادات اليسارية والقومية  على إجراء قراءة نقدية على مسارها السابق سواء ما قبل الثورة أو بعدها مما أنتج تغيرات في المواقف لم يصحبها بلورة لأفكار جديدة تؤِصل ما يمكن أن يكون قد حدث من تطور في أفكارها وبرامجها. وعدم إدراك البعض من قيادات اليسار إلى أن مهمة العمل الجبهوي في المرحلة التي ستسبق الاستحقاق القادم تتمثل في بناء جبهة ديمقراطية عريضة سياسياً وطبقياً على أرضية منع قوى اليمين من الانحراف بالثورة إلى بناء نظام يتناقض مع مقومات ومفاهيم الحداثة. فضلاً عن عدم إدراك بعض القيادات اليسارية التي لا تزال سجينة الأطروحات الماركسية التقليدية إلى أن المهمة المركزية لليسار تتمثل في توفير مقومات بناء جبهة ديمقراطية واسعة، - لا "جبهة شعبية" ذات طابع يساري ضيق-، تشكل نوعاً من الكتلة التاريخية التي تهدف إلى منع اليمين من الهيمنة على مقدرات البلد و دفع البلاد نحو ثنائية موهومة لن تنتهي إلا بتحالف جديد بين التيار الديني والتشكيلة التجمعية الجديدة.

1-في نقد مفهوم "الجبهة الشعبية"

يحيل استخدام مصطلح "الجبهة الشعبية"،إلى أن اليسار التونسي الراديكالي (حركة الوطنيين الديمقراطيين في شتّى تنظيماتها ومدارسها، وحزب العمال التونسي) اختار ثورة أكتوبر البلشفيّة في 1917 كأهمّ لحظاته التأسيسيّة. فأمام الثورة الروسيّة يتساوى الشيوعيّ "الرسميّ" واليساريّ "الجديد" والتروتسكيّ والماويّ تسليماً بتلك المرجعيّة. وهذا ما يؤكد لنا أن مختلف التنظيمات والأحزاب اليسارية  في تونس لا تزال تسيطر عليها الأيديولوجيا الستالينية التي ترفعها إلى مرتبة المقدّس، الأمر الذي يجعل هذا اليسار يتحمّل جزءاً من المسؤوليّة في تعثّر علاقته مع عصرنا الراهن - عصر ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر السوفيتي- ومسائله، لاسيّما منها موضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويرفض وعلى نحو متّصل، القيام بالمراجعة النقدية  الصارمة لذاك "السلف الصالح" الذي عطّل إنتاج السياسة في صلب المجتمع، وقمع حرية  التعبير، وأنشأ إحدى أهمّ التوتاليتاريّات المعاصرة وأشرسها.

ودأبت الأيديولوجية السائدة في الغرب على نقد ووصف النظام الشيوعي الذي كان سائداً في روسيا و دول أوروبا الشرقية بالنظام التوتاليتاري. وقد كان لمفهوم التوتاليتارية، الذي يعرف بالشمولية، دور كبير في إسقاط التجربة التاريخية للشيوعية. ومن أهم خصائص هذه التوتاليتارية، تميزها بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة: الحزب الشمولي الواحد، الدور المركزي للأيديولوجيا، إلغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دولة السلطة على سلطة الدولة، تضخم أجهزة القمع و افتراسها المجتمع، نفي مشروعية الصراعات الداخلية و تقديس مبدأ الانصهارية.

فلماذا يختار اليسار التونسي الراهن موروث الحرب الباردة للحظته التأسيسيّة لما يسمى بالجبهة الشعبية، لاسيما أنّ المقولات الأيديولوجية والسياسية التي ارتبطت بالاشتراكية العلمية، والاتحاد السوفيتي، وأطروحات الثورات الوطنية الديمقراطية في العالم الثالث، خلال زمن الحرب الباردة، صارت خبراً للتاريخ مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية؟ فما هي مهمة المرحلة الجديدة وما هي خصائصها؟

فها هي الليبرالية الجديدة في زمن العولمة تزعزع أسس الحياة الاجتماعية في مختلف أنحاء المعمورة شمالاً وجنوباً، وهي تقوم على المرتكزات التالية: الدعوة المتطرفة إلى الحرية الاقتصادية، وإنكار دور الدولة في ضبط آليات وحركة النظام الرأسمالي و التخفيف من شروره الاجتماعية ( تحديداً في مجال التوزيع والعدالة الاجتماعية)، والهيمنة على المنظمات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، والتعامل مع البلدان النامية من منطلق التكيف وضرورته مع السوق الرأسمالي العالمي، وإبعاد الدولة وإضعافها، وترك آليات السوق لكي تعمل طليقة. وبالمقابل برزت  في العالم الغربي أيديولوجيا نقدية هي الأكثر شيوعاً اليوم، أيديولوجيا مضادة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، تصف الليبرالية الجديدة أو الليبرالية المتوحشة، بإيديولوجيا كاملة لإدارة الأزمة في النظام الرأسمالي العالمي.

فهناك اليوم في صفوف مناهضي العولمة، من يرى أن الليبرالية الجديدة تعبير عن توتاليتارية الأسواق، وعن توتاليتارية تقنيات الإعلام الجديدة، وأن الذي شجعها على اكتساحها في التطبيق مختلف مواقع الساحة العالمية، ضعف قوى اليسار، وهو الضعف الذي بلغ ذروته بانهيار دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي. ويترافق مع ازدهار الليبرالية الجديدة هذا، وحتى في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما،انحسار مهم لدور السلطات العامة بدءا بالبرلمان، وتخريب بيئي وتصاعد انعدام المساواة، وتسارع الفقر و البطالة،أي كل  ما يمثل نقيض الدولة الحديثة والمواطنية. ونشهد أيضاً فصلاً جذرياً بين تطور تقنيات الإعلام الجديدة من جهة، ومفهوم تقدم المجتمع من جهة أخرى.

لقد جاءت الليبرالية الجديدة بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في زمن العولمة. وقد كشفت عن عدد من الحقائق أهمها:

1- استقطاب العولمة الرأسمالية المتوحشة الحالية للرساميل والتدفقات الاستثمارية، وبالتالي تركيز الثروة والرأسمال في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة، خاصة في الولايات المتحدة.

2- ازدياد إفقار العالم الثالث وتهميشه واتخاذ عمليات نهبه السافرة والمقنعة طابعاً همجياً.

3- لعب الولايات المتحدة الأمريكية دوراً رئيساً في صياغة هياكل القوة الاقتصادية من خلال قوتها السياسية والعسكرية. فالسلطة السياسية في زمن العولمة، أو التوتاليتارية الليبرالية الجديدة تحولت إلى مجرد خادم أو مجرد نادل في مقهى الأسواق المالية التي آلت إليها السيادة الفعلية على العالم، لأن الحاكم الفعلي في عالم اليوم، هو الرأسمال المالي، وتوتاليتارية الأسواق، وتوتاليتارية تقنيات الإعلام الجماهيري.

إن التوتاليتارية لم تعد صفة للدولة بل صفة للاقتصاد، والتوتاليتارية الاقتصادية، بعكس التوتاليتارية السياسية، توتاليتارية مغلفة ولا منظورة، وتبسط هيمنتها "السرية" على العالم بأسره. فمن خلال البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والشركات المتعددة الجنسيات تمارس الحكومة العالمية اللامنظورة المتوسطة كسلطة شبه مطلقة على كبريات المجموعات الإعلامية المتخصصة في إنتاج وتوزيع السلع الثقافية، وفي التحكم بالرأسمال الرمزي، وفي فبركة رؤية للعالم توافق إلى حد بعيد المصالح الاقتصادية والمالية لسادة العالم الجديد.

ومنذ نهاية الحرب الباردة في نوفمبر 1989 التي توافقت مع انهيار جدار برلين، وبعد انتهاء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ديسمبر 1991 التي توافقت مع زوال الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية، بلغت الولايات المتحدة الأمريكية قمماً في السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية لطالما كانت غير قابلة للتخيل، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تطمح وحدها إلى تحديد قواعدالحياة الدولية من خلال تبوئها مركز قيادة النظام الدولي الجديد أحادي القطبية.

2- الطبقة المتوسطة وتطلعاتها إلى الديمقراطية في تونس

فإلى جانب الثروات التي جلبتها العولمة الليبرالية، التي انخرطت فيها تونس منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، والتي استفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، حلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق.

ففي كتاب نيقولا بو وكاترين غراسييه: "الوصية على قرطاج" الصادر في باريس سنة 2009، جاء فيه أن  نظام بن علي البوليسي كان يفاخر دائماً بأن الطبقة المتوسطة تبلغ 80% من مجموع الشعب التونسي. فيرد الكاتبان بمرجعية دراسة للبنك الدولي تتحدث عن 47 إلى 48% باعتبارها نسبة الطبقة المتوسطة من مجموع الشعب. وهذا الرقم (47 – 48%) ليس رقماً سلبياً على أي حال.

ويأتي توسع وتضخم هذه الطبقة المتوسطة الاستهلاكية التي تمثل نصف البيئة الاجتماعية التونسية، في سياق انخراط  تونس في إطار العولمة الليبرالية، والدعم الغربي القوي للتجربة التونسية من خلال تدفق القروض على تونس من بنك الاتحاد الأوروبي، وكذلك تسارع رؤوس الأموال الغربية والخليجية على الاستثمار في تونس، الأمر الذي أسهم في زيادة معدلات التنمية في تونس أعلى نسبياً مما هي عليه في البلدان العربية المجاورة.

وباستثناء الدول الخليجية النفطية، تعتبر تونس أغنى دولة عربية، إذ يبلغ الدخل الفردي فيها نحو4300 دولار. كما تعتبر تونس الرائدة من بين هذه الدول في مجال التعليم، فنسبة المتعلمين فيها تتخطى مصر والمغرب بكثير، وهي تعد من أكثر الدول العربية إنفاقاً على التعليم، إذ بلغت فيها حصة الثقافة من الدخل القومي نحو 7.2%، في وقت تنفق مصر نصف هذه النسبة، والمغرب 5.7%. كما أنّ تونس هي الدولة الأكثر تمدّناً من بين دول المغرب العربي الأفريقية، حيث يقطن 67% من سكّانها في المدن، في مقابل 56% في المغرب و43% في مصر. ويملك80% من الشعب التونسي بيتاً.

أمّا انخراط تونس في العولمة، فيمكن قياسه عبر حصّة الصادرات من الدخل القومي. وفي حين لا تشكّل هذه النسبة أكثر من 15 و24% من الدخل القومي المغربي والمصري على التوالي، تقترب النسبة في تونس إلى معدّلات الدول الأوروبية مع حوالي 40%. ومع هذه الأرقام والنسب، يمكن لكارل ماكس أن يصفق تقديراً وبهجةً، وهو يصرح "كنت على حقّ!". وهو بذلك يعني تحديداً مسألة "حتمية الصراع" بين النظام وبين الطبقات الصاعدة، أي بين البنية السلطوية المتصلبة للدولة البوليسية التونسية و الطبقة المتوسطة الصاعدة.

 وعلى الرغم من النجاحات التي سمحت بها التنمية الاقتصادية السريعة بتحسين شروط حياة السكان وتعظيم الأمل في المستقبل وتعزيز شرعية النظام،فإن الرئيس المخلوع بن علي الذي كان مدعوماً من حلفائه الغربيين، قام بتطبيق النموذج الصيني على تونس،والذي يتمثل في تأمين لقمة العيش للشعب مقابل الحرية، ومقايضة السياسة نهائيا بالاقتصاد، وتفضيل الوجود أو البقاء على قيد الحياة على الهوية والمعنى. وكانت هذه الطبقة المتوسطة النابض الرئيسي، والمستفيدة من النمو، الذي نادراً ما نزل أدناه إلى أقل من 4 إلى 5%. إنه أداء رائع من شأنه أن يثير الحسد والغيرة من قبل جيران تونس، والذي كان في أصل  العقد الاجتماعي مع عشيرة زين العابدين بن علي: في مقابل إبادة الحريات السياسية،يضمن النظام  النجاح الاقتصادي لهذه الطبقة المتوسطة. إنه نوع من الاتفاق على الطريقة "الصينية" إذا جاز التعبير.

وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، سواء كان عملاً سياسياً مباشراً أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء أجاء على صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية.

لكي نفهم العلاقة بين معدلات النمو الجيدة في تونس، التي تعتبرالأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج، و نجاح حكم بن  علي في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسية كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع، والتطلعات المشروعة للطبقة التونسية إلى بناء ديمقراطية فعلية وحقيقة في تونس، علينا العودة إلى صاموئيل هانتنغتون، ولكن ليس من خلال نظريته الشهيرة "صدام الحضارات"، وإنما من خلال الكتاب الذي نشره عام 1991 تحت عنوان "الموجة الثالثة: إرساء الديمقراطية في القرن العشرين".

قد لا يكون ممكناً عرض مفهوم هانتنغتون بكل تشعباته المعقّدة، لكن الرسالة الأساسية التي يمكن اعتمادها تقوم على فكرة يمكن استخلاصها من الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عام 1992: "إنه الاقتصاد، يا غبي!"، بالإضافة إلى عوامل أخرى، من بينها الثقافة والتمدّن والعولمة، تدخل جميعها في إطار "تشكّل الطبقة الوسطى".

كل هذه العناصر تتوافر في تونس، التي ظهرت كمخلب دموي نافر في قوس عربي جامد سياسيّاً من الرباط إلى دمشق، حيث تمضي معدّلات الولادة في تحجيم النمو الاقتصادي، ويتجسّد ظلم الحكم في قائد أو ملك. وتتناسب الثورة التونسية مع النموذج الذي وضعه هانتنغتون في كتابه الذي تناول فيه موجات الديمقراطية بين العامين 1974 و1989. وقد وجد المؤلف أن الثروة المتزايدة نذير شؤم على الحكم التسلّطي. أمّا الرقم السحري لفهم هذه المعادلة، فيتراوح بين ألف وثلاثة آلاف دولار كمعدّل للدخل الفردي(مع ضرورة تعديله في أيامنا هذه ليناسب حجم التضخّم.(ولتسليط الضوء على هذه الظاهرة، عمد هانتنغتون إلى التذكير بكلام وزير مالية إسباني سابق، تنبأ عام 1960 بتحوّل بلاده نحو الديمقراطية بمجرّد وصول الدخل الفردي إلى ألفي دولار، لافتاً إلى أنّ "هذا ما حصل" عام 1975. ولكن ماذا عن تونس اليوم؟ يبلغ معدّل الدخل الفردي في البلاد 4 آلاف و300 دولار أمريكي، وهو ما يعادل ألف دولار آنذاك. ولمصادفة الأرقام الغريبة، بلغت القوة الشرائية التونسية عند انفجار الثورة 9 آلاف دولار، وهو ما يعادل 2200 دولار عام 1975، زمن تحوّل إسبانيا نحو الديمقراطية.. ويبقى السؤال، هل تصبح تونس الديمقراطية الأولى في القوس العربي؟

بالعودة إلى هانتنغتون، تزامنت المرحلة الانتقالية في إسبانيا مع موت الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو عام 1975، وذلك بعد 40 عاماً في الحكم. ولو لم يدعم الملك خوان كارلوس هذا الانتقال،لكان"الاستقطاب أدّى إلى العنف الاجتماعي". وعلى الرغم من فرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فإن ليس هناك من "خوان كارلوس" في اللعبة التونسية – أي شخصية محدّدة ممثلة للسلطة والشرعية. وخلافاً لما حدث في إسبانيا، بدأت تونس تشهد أحداث عنف، بين أنصار الثورة وجماعة النظام البوليسي البائد.. وهكذا يبدو أن أي مجتمع عربي من المحيط إلى الخليج لم يبلغ نقطة "الحضيض الإسباني"، ويبدو أنه لن يبلغها قبل عمر طويل.. ما يعني أن تونس تبقى استثناء.

لقد انخرطت الطبقة المتوسطة التونسية في العولمة الليبرالية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث جنت البلاد ثروات جلبتها تلك العولمة، واستفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، حلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق. وتجاهل النظام الديكتاتوري السابق وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي يحمل شهادات جامعية إلى مستويات غير مسبوقة، وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب، وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة، وأهمل أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيوليبرالية من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر الخ... ولم يفعل وزراؤه الكثير للتعامل مع هذه الأزمات.  

كان النظام السابق يفاخر دائماً بأن الطبقة المتوسطة تبلغ 80% من مجموع الشعب التونسي، غير أن دراسة للبنك الدولي تتحدث عن 47 إلى 48%، باعتبارها نسبة الطبقة المتوسطة من مجموع الشعب التونسي. وهذا الرقم (47 – 48%) ليس رقماً سلبياً على أي حال. ويأتي توسع وتضخم هذه الطبقة المتوسطة الاستهلاكية التي تمثل نصف البيئة الاجتماعية التونسية، في سياق انخراط تونس في إطار العولمة الليبرالية، والدعم الغربي القوي للتجربة التونسية من خلال تدفق القروض على تونس من بنك الاتحاد الأوروبي، وكذلك تسارع رؤوس الأموال الغربية والخليجية على الاستثمار في تونس، الأمر الذي أسهم في زيادة معدلات التنمية في تونس أعلى نسبياً مما هي عليه في البلدان العربية المجاورة.

وباستثناء الدول الخليجية النفطية، تعتبر تونس أغنى دولة عربية، إذ يبلغ الدخل الفردي فيها نحو4300 دولار. كما تعتبر تونس الرائدة من بين هذه الدول في مجال التعليم، فنسبة المتعلمين فيها تتخطى مصر والمغرب بكثير، وهي تعد من أكثر الدول العربية إنفاقاً على التعليم، إذ بلغت فيها حصة الثقافة من الدخل القومي نحو 7.2%، في وقت تنفق مصر نصف هذه النسبة، والمغرب 5.7%. كما أنّ تونس هي الدولة الأكثر تمدّناً من بين دول المغرب العربي الأفريقية، حيث يقطن 67% من سكّانها في المدن، في مقابل 56% في المغرب و43% في مصر. ويملك 80% من الشعب التونسي بيتاً.

أمّا انخراط تونس في العولمة، فيمكن قياسه عبر حصّة الصادرات من الدخل القومي. وفي حين لا تشكّل هذه النسبة أكثر من 15 و24% من الدخل القومي المغربي والمصري على التوالي، تقترب النسبة في تونس إلى معدّلات الدول الأوروبية مع حوالي 40%. ومع هذه الأرقام والنسب، يمكن لكارل ماكس أن يصفق تقديراً وبهجةً، وهو يصرح "كنت على حقّ!". وهو بذلك يعني تحديداً مسألة "حتمية الصراع" بين النظام وبين الطبقات الصاعدة، أي بين البنية السلطوية المتصلبة للدولة البوليسية التونسية والطبقة المتوسطة الصاعدة. لكن النظام الديكتاتوري السابق المدعوم من حلفائه  الغربيين، قام بتأمين لقمة العيش للشعب مقابل الحرية، وبمقايضة السياسة نهائياً بالاقتصاد، وتفضيل الوجود أو البقاء على قيد الحياة على الهوية والمعنى. وكانت هذه الطبقة المتوسطة النابض الرئيسي، والمستفيدة من النمو، الذي نادراً ما نزل أدناه إلى أقل من 4 إلى 5%. إنه أداء رائع من شأنه أن يثير الحسد والغيرة من قبل جيران تونس، والذي كان في أصل العقد الاجتماعي مع عشيرة زين العابدين بن علي: في مقابل إبادة الحريات السياسية، يضمن النظام  النجاح الاقتصادي لهذه الطبقة المتوسطة.

إنه نوع من الاتفاق على الطريقة "الصينية" إذا جاز التعبير. وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة كان، سواء كان عملاً سياسياً مباشراً أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء جاء على صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية.

وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة من الصور، سواء كان عملاً سياسياً مباشراً أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء أجاء على صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثروة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية.

انطلاقاً من هذا التحليل، فإن مصطلح الجبهة الشعبية كإطار أيديولوجي وسياسي يعبر عن تطلعات الفئات الكادحة، لا يستقيم علمياً وسوسيولجياً في المجتمع التونسي في مرحلة ما بعد الثورة، لأنه يتجاهل أن تونس كانت معدلات النمو الجيدة فيها في مرحلة ما قبل الثورة، تعتبر الأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج، و نجح النظام الديكتاتوري السابق نسبياً في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسية كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع، وهذه العوامل الثقافة والتمدّن والعولمة، تدخل جميعها في إطار "تشكّل الطبقة الوسطى، الأمر الذي يجعل من التطلعات المشروعة للطبقة التونسية إلى بناء ديمقراطية فعلية و حقيقة في تونس، مسألة في غاية من الأهمية.

لكي نفهم العلاقة بين معدلات النمو الجيدة في تونس، التي تعتبر الأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج، ونجاح حكم بن علي في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسية كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع، والتطلعات المشروعة للطبقة التونسية إلى بناء ديمقراطية فعلية وحقيقة في تونس، علينا العودة إلى صاموئيل هانتنغتون، ولكن ليس من خلال نظريته الشهيرة "صدام الحضارات"، وإنما من خلال الكتاب الذي نشره عام 1991 تحت عنوان "الموجة الثالثة: إرساء الديمقراطية في القرن العشرين".

قد لا يكون ممكناً عرض مفهوم هانتنغتون بكل تشعباته المعقّدة، لكن الرسالة الأساسية التي يمكن اعتمادها تقوم على فكرة يمكن استخلاصها من الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عام 1992: "إنه الاقتصاد، يا غبي!"، بالإضافة إلى عوامل أخرى، من بينها الثقافة والتمدّن والعولمة، تدخل جميعها في إطار "تشكّل الطبقة الوسطى".

وهكذا يبدو أننا في تونس، في حاجة ماسة إلى بناء جبهة ديمقراطية حقيقية، تتكون من مختلف أطياف المعارضة التونسية اليسارية والقومية والليبرالية، لمساعدة الشعب التونسي على تحقيق طموحاته في الديمقراطية و العدالة الاجتماعية، ومن أجل بناء نظام ديمقراطي جديد، هذا مع احترام السيادة التونسية. إن التمسك بمصطلح الجبهة الشعبية الذي يعود إلى مرحلة  الحرب الباردة، والذي يتمسك بمرجعية الفكر الماركسي التقليدي لم يعد مقبولاً ولا مناسباً في زمن العولمة الليبرالية الذي بلغ من الانتشار مبلغاً جعله يغطي أشد أنواع النظريات والمصالح الاجتماعية، تبايناً، فهو يغطي الطيف السياسي من اليمين إلى اليسار، وهو مقبول في شتى العلوم – الاقتصاد – الاجتماع – الدراسة الثقافية - والسياسات الدولية – وهو مطروح أيضاً على لسان المجددين والتقليديين في الحقل النظري. 

اعلى الصفحة