|
|||||||
|
في الاجتماع الذي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع مجلس الأمن القومي الروسي بعد أحداث أوكرانيا وقبل ضم القرم، أبلغ الحضور أن ما يحدث في أوكرانيا هو نتيجة لرفض بلاده مقايضة أوكرانيا بسوريا طبقا للعرض الأمريكي الغربي. وقال بوتين إنه بعد فشل مؤتمر جنيف 2 حاولت واشنطن وأوروبا ابتزاز روسيا بتحريك الأحداث في أوكرانيا, لكن روسيا رفضت الابتزاز وأضاف أنه أرسل نائب وزير الخارجية لمؤتمر جنيف 2 على أمل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه مسبقا مع واشنطن حول سير العملية السلمية في سوريا حيث اتفق على وقف إطلاق النار ومكافحة الإرهاب تم تشكيل حكومة انتقالية’، لكن الوزير الأمريكي جون كيري أراد الالتفاف على هذا الاتفاق وألح على ضرورة تشكيل حكومة انتقالية أولاً، وهو ما رفضته روسيا لأنه كان يريد التنصل من الشروط الأخرى كوقف إطلاق النار ومكافحة الإرهاب ثم الذهاب إلى الأمم المتحدة لطلب الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية، وبالتالي إخراج النظام السوري عن الشرعية. وأكد بوتين أن إسقاط النظام السوري أصبح من الماضي وأن الجيش السوري يحقق تقدماً على الأرض وتحاول واشنطن بشتى الطرق دعم المعارضة لكنها فشلت وستفشل. وقال إن العالم بعد أوكرانيا ليس هو العالم قبلها وإن الشعب الأوكراني سيكتشف لاحقاً أن لا بديل عن شقيقه الشعب الروسي وأن أوروبا لا تستطيع تحمل أعباء الديون والاقتصاد الأوكراني. وقال إنها كانت مؤامرة غربية شارك فيها الجميع حيث رصدت المخابرات تدفق أموال ومسؤولين غربيين وأمريكيين بكثرة إلى أوكرانيا لتحريك المؤامرة. إعادة رسم الخريطة الدولية لإعادة التذكير نقول: إن المدينة الأشهر عالمياً "يالطا"، والتي سجلت اسمها في التاريخ مع نهاية الحرب العالمية الثانية عندما التقى الزعيم السوفيتي آنذاك، جوزيف ستالين وقادة الحلفاء، الرئيس الأمريكي روزفلت والبريطاني تشرشل والفرنسي ديغول، مدينة ارتبط اسمها باتفاق لوضع ترتيبات سياسية لما بعد هزيمة الفاشية، واعتبرها مؤرخون أنها كانت اتفاقية لتقاسم "النفوذ السياسي" دولياً.. هذه المدينة تعود اليوم في مظهر عسكري جديد، قد يصل إلى حافة الهاوية كون المعركة تدور على "رقعة إستراتيجية" لمفهوم السيطرة العسكرية القادمة خلال السنوات المقبلة على "شبه جزيرة القرم"، التي كانت جزءا من الدولة الروسية بقرار ستاليني، وضمها خورتشوف إلى أوكرانيا في منتصف القرن الماضي لتعزيز "عرى الأخوّة السوفيتية"، ولم يخطر بخلده يوماً أن تلك الرابطة الأخوية ستتبخر في لحظة سياسية، لتنتقل مشاعر بعض "الرفاق" نحو الغرب الاستعماري.. واليوم يمكن القول بأن روسيا الاتحادية وبقيادة فلاديمير بوتين نصبت "كميناً سياسياً تاريخياً" للإدارة الأمريكية وتحالفها الغربي، عندما أظهرت وكأنها تخلت عن أوكرانيا كساحة خلفية، حتى سارع بعض كتاب وساسة عرب وعجم، باعتبار ما حدث يشكل "ضربة قاصمة" للطموح الروسي، بل أن بعض صغار كتاب عرب ممن هم مصابون بهوس العداء التاريخي لروسيا، ولكراهية موقفها من المسألة السورية، رأوا أن تلك صفعة كبرى وجهه أوباما على وجه "القيصر" تعويضا عن صفعة سوريا.. سريعاً وقعوا في مهزلة القراءة السياسية لتطورات أوكرانيا.. فات البعض أن المندوب الروسي لم يوقع اتفاق فبراير الذي حدث قبل أيام، وشهد عليه الغرب لحل الأزمة الداخلية في أوكرانيا، اتفاق لم تحترمه المعارضة التي استندت للغرب في معارضتها، وأخلت بكل شروطه وأسقطته عملياً، وسارعت واشنطن بتأييد المعارضة فيما أقدمت عليه، وخانت الاتفاق، واعتبرت أن ذلك حق لها، معارضة لم تكن تشكل غالبية كبيرة لكن واشنطن رأتها كذلك. المناورة الروسية حول الأزمة في أوكرانيا بدأت مع عدم توقيع مندوبها على الاتفاق المذكور، كون المسألة الجوهرية التي تهم الدولة الروسية ليس من سيكون رئيس أوكرانيا، ولا طبيعة الحكم بها، ولكن القضية المركزية هي المصلحة الاستراتيجية الروسية في "شبه جزيرة القرم"، خاصة التواجد البحري والقاعدة العسكرية لروسيا بتلك المنطقة، والتي لم يبق لها من الزمن سوى بضع سنوات لتنتهي اتفاقية حق الروس بالتواجد فيها، وفقاً لاتفاقية عام 1991 وتنتهي عام 2017.. من هنا تبدأ المعركة الكبرى، روسيا تدرك أن مستقبل أوكرانيا السياسي ليس مضموناً ولن يكون في إطار "عرى الإخوة" الذي بحث عنه خورتشوف عام 1954، بل قد يمثل تهديد استراتيجياً على روسيا، لو أن الحكم الأوكراني لم يجدد لروسيا المعاهدة التي تمنحها حق التواجد العسكري – البحري على شواطئ تلك الجزيرة، ما قد يمهد استبدالها بقوات من حلف الأطلسي، لتصبح تلك البقعة قاعدة إطلاق معادية للدولة الروسية وتبدأ رحلة من حصار عسكري في ظل تنامي الدور الروسي.. ويعود للتاريخ العدواني المنطلق من تلك البوابة حضوره. المناورة الروسية والدخول إلى حافة الهاوية، ليست لعبة، تنتهي بهاتف أو تهديد بمضايقة تجارية أو أزمة سياسية دبلوماسية، بل هي خطوة لحماية "الأمن القومي الروسي" والمصالح الإستراتيجية بتلك المنطقة التي يشكل السكان الروس بها غالبية، يطالبون بالتدخل العسكري الروسي لحمايتهم من أخطار "القوميين المتطرفين" الأوكرانيين، التي استخدمها بوتين في سجاله السياسي – الإعلامي مع قادة دول الغرب، وهم الذين يعلمون تماماً أن جوهر الحقيقة ليس حماية سكان فحسب، بل حماية مصالح روسيا الدولة والتي تستحق منها "المغامرة" حتى لو وصلت إلى "مواجهة بعضها عسكري أو سياسي".. المعركة في أوكرانيا بالنسبة لروسيا ليس سوى معركة "القرم"، وليذهب غيرها إلى "جحيم الغرب"، فتلك لم تعد قضية تثير اهتمام روسيا، خاصة مع أزماتها المالية والاقتصادية الكبرى، بل أنها قد تصبح معضلة للغرب الراكض خلفها لاحقاً.. معركة القرم الراهنة هي معركة لتحديد ملامح "الخريطة السياسية الدولية".. فانتصار روسيا سيعيد مجددا أن "يالطا جديدة" ولكن بشكل مختلف من حيث القوى والأهداف قد تحضر.. روسيا يمكنها أن تدخل حرباً عسكرية شاملة قبل أن تسمح لأحد أن يعبث بمصالحها الإستراتيجية في تلك المنطقة.. المسألة بالنسبة لها ليست "معارضة وموالاة" وطبيعة نظام حكم سياسي، وليس بحثا عن هذا النظام أم ذاك، فهي تبتعد كثيرا عن تلك المناورة الغربية.. لكنها قضية مصلحة تخليها عنها يعني بداية لإعادتها إلى مجال السيطرة الغربية الاستعمارية عليها! هل نصب بوتين كميناً جديداً للرئيس الأمريكي في "مصيدة أوكرانيا"..المؤشرات تقول نعم.. ويبدو أن أوباما تحول إلى "لعبة" بيد "الدب الروسي" أو "القيصر العصري".. من سوريا إلى أوكرانيا أظهرت السياسة الغربية في كل من أوكرانيا وسوريا بشكل واضح أنها أرادت استغلال الموقف في كل من أوكرانيا وسوريا، ولكن ها هي الألعاب الاولمبية في سوتشي قد انتهت، وتحرر بوتين من سياسة التهدئة وبات بإمكانه أن يتوجه بسياسة انتقامية عقابية في القضايا التي يعتبر أنه حصل فيها تعدٍ على مصالح روسيا خلال تلك الفترة. في أوكرانيا، تطورت الأمور الميدانية بشكل دراماتيكي ما دفع بالرئيس الأوكراني إلى صدام مع المحتجّين، وبالتالي قبول تسوية سرعان ما التف عليها الغرب دافعاً أنصاره إلى التهديد بانقلاب عسكري، أدّى إلى هروب الرئيس الأوكراني من البلاد وعزله من قبل البرلمان الأوكراني، الذي دفع الأمور إلى تحدي الروس بشكل مباشر من خلال الاجتماع يوم الأحد - في استعجال غير مبرر- ليصوّت على قرار يلغي بموجبه وضع اللغة الروسية في أوكرانيا باعتبارها لغة وطنية ثانية في نصف البلاد تقريبًا، كما يمنع بث القنوات غير الناطقة باللغة الأوكرانية، مما يؤشر إلى محاولة تضييق على المواطنين الروس الذين يعدّون أغلبية في جنوب وشرق البلاد، وحرمانهم من حقوقهم الثقافية كمجموعات. أما في سوريا، فقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الأوروبيين أن يدفعوا بقرار جديد في مجلس الأمن، مستغلّين توقيت انشغال بوتين لتمرير قرار "إنساني" في مجلس الأمن أرادوا منه أن يكون نافذة لتدخل عسكري في سوريا، أو لتمرير السلاح إلى المسلحين وفك الحصار عنهم في بعض المناطق المحاصرة، إلا أنهم فشلوا في ذلك، فتمّ إقرار القرار 2139 في مجلس الأمن بدون عقوبات تلقائية أو تدابير تلقائية ضد الحكومة السورية في حال عدم تنفيذه. وبالتزامن، سرت أخبار وتقارير تمّ تسريبها إلى الصحافة عن الاستعداد لفتح جبهة جديدة في الجنوب السوري على الحدود المشتركة مع الأردن، لشنّ حرب نفسية على سورية والقول إن موازين القوى الميدانية ما زالت لصالح المعارضة السورية المدعومة من الغرب الذي سيستغل انشغال بوتين بهجوم على دمشق وإطاحة النظام السوري كما أطاح بالرئيس الأوكراني. لكن، ما لم يحسب له الغرب حساب، هو أنه استطاع أن يربح جولة في أوكرانيا ولكنه لا يستطيع أن يربح الحرب؛ فالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا تجعل من أوكرانيا امتداد طبيعي لروسيا، ويمتلك الروس مفاتيح عدّة للتأثير والضغط على أوكرانيا، وبيدهم القدرة على انتشال أوكرانيا من الهاوية الاقتصادية، أو التسريع في انهيارها كليًا لتصبح دولة مفلسة بكل معنى الكلمة علما أن الاتحاد الأوروبي يبدو عاجزاً أو غير قادر على إنقاذ أوكرانيا إلا بواسطة صندوق النقد الدولي الذي سيدفع السلطات الأوكرانية إلى اعتماد سياسات تقشفية مؤلمة في الداخل، قد تدفع إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي. بالإضافة إلى الاقتصاد، يمتلك الروس الكثير من القدرات السياسية والجغرافية والديموغرافية التي تسمح بالحفاظ على وحدة أوكرانيا أو تفكيكها. وكما في أوكرانيا، كذلك في باقي بلدان العالم تغلب السمة الارتجالية على سياسات الغرب والأمريكيين، فهم يكتفون بما يحصدونه إعلامياً أو بما يستطيعون أن يسببوه من عدم استقرار في المناطق التي يتدخلون فيها، ولكن التجارب أثبت أنهم باتوا أعجز من أن يستطيعوا تقديم حلول متكاملة والسير بالبلدان التي يتدخلون فيها إلى تأسيس مؤسسات ديمقراطية فاعلة ومستقرة، فها هو العراق تركه الاحتلال فريسة للإرهاب وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والفساد، وها هي أفغانستان ستُترك لمصيرها يتنازعها الفقر والعوز والإرهاب وقد يؤدي إلى عودة طالبان إلى الحكم، وها هي ليبيا ومصر.... أما في سوريا، فحدث ولا حرج، دخل الغرب و"العرب" في حرب على سوريا لا يستطيعون الانتصار فيها، ولا يعرفون كيف ينهونها، ومجرد الحديث الغربي بأن السيناريو الأوكراني يمكن أن ينسحب على سوريا، يدل على جهل قائله، وعدم معرفته بخصوصيات منطقة الشرق الأوسط، وتشعبات الإرهاب فيه. تحديات إقليمية ودولية مما لا شك فيه أن السياسة الأمريكية تواجه تحدياً غير عادي في مسالة الهيمنة على مجرى الصراعات الدولية فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي واختفاء المنظومة الاشتراكية النقيض الموضوعي للمعسكر الغربي الرأسمالي أصبح العالم محكوماً بهيمنة القطب الأمريكي وبذلك انتهت الحرب الباردة بين الشرق والغرب واختل التوازن الذي كان يحكم الصراع الدولي وتوفرت أرضيه سياسية للسياسة الإستراتيجية الأمريكية لكي ترسم خرائطها على المستويين الإقليمي والدولي لكن حدثت بعد ذلك عدة أزمات دوليه على طريق إعادة بناء العلاقات الدولية فيما يخص الصراع الدولي وقد اتضح بشكل واضح من خلال هذه الأزمات مدى الأهمية التي تتبوأ وتتمتع بها روسيا الاتحادية باعتبارها وريثة الاتحاد السوفيتي السابق حيث القدرة النووية والتعداد السكاني والموقع الجغرافي في وسط وشرق أوروبا وعلى تخوم آسيا مما يؤهلها كل تلك الخصائص لتصبح قطباً دولياً رئيسياً في مواجهة هيمنة القطب الأوحد الأمريكي . أحداث كثيرة جرت على طريق إعادة المعادلة التقليدية في موضوع الصراع الدولي بين روسيا والغرب وكان ذلك بداية بتفكك الاتحاد اليوغسلافي وتحمل روسيا مسؤولية الدفاع عن طموحات جمهورية صربيا القومية بسبب توافق العامل العرقي السلافي والعامل الديني المذهبي الأرثوذكسي وانتهاء الآن بتفجر الأزمتين السورية والأوكرانية أي أن كلتا الأزمتين التي لهما تداعياتهما على المستوى الإقليمي والدولي قد أسهمتا في بروز معادلة سياسيه جديدة لم يعد فيها القطب الأمريكي الأكثر هيمنه على مجرى الصراعات الدولية ومع أن هذه الهيمنة قد ارتبطت بانهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي إلا أن الطموحات القومية الإستراتيجية أتاح لدول كبرى في العالم أن تسعى إلى منازعة الولايات المتحدة على أسلوب الهيمنة على مجرى الصراعات الإقليمية والدولية. إن روسيا بضمها شبه جزيرة القرم إلى ترابها الوطني بهدف حماية مصالحها القومية فإنها بذلك تثبت قدرتها على مواجهة الغرب الذي يسعى منذ انتهاء الحرب الباردة عن طريق حلف شمال الأطلسي إلى محاصرتها وتطويقها وضرب مصالحها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق إلى تتواجد فيها أقليات روسية كبيرة وقد كان هذا القرار الروسي جريئا على الرغم ما يتبعه من فرض عقوبات سياسيه واقتصاديه غربيه وهي عقوبات لن تحول دون تحقيق الطموحات القومية الروسية. في المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً فإن هناك رغبة جامحة لدى السياسة الأمريكية في أن تتعاظم هيمنة الولايات المتحدة على سياسات تلك الأنظمة وهي تسعى بكل فاعلية دبلوماسيه في هذه المرحلة لتصفية القضية الفلسطينية ووضع حد لمسالة الصراع العربي الصهيوني وتعتبر أن الفرصة سانحة لتحقيق هذا المسعى الذي من شانه أن يفضي إلى ترتيب الأوضاع لصالح المشروع الأمريكي وتحقيق المطالب السياسية والأمنية الإسرائيلية وذلك بسبب الخلل في موازين القوى من ناحية وانشغال شعوب المنطقة وأنظمتها في الصراعات الداخلية من ناحية أخرى ولكن هذا الهدف الاستراتيجي ما زال أمام تحقيقه بشكل كامل صعوبات وعراقيل كبيره لن تتمكن أية إدارة أمريكية من تجاوزها. إجمالاً نقول إن السياسة الأمريكية حتى الآن لم تحقق أية نجاحات استراتيجيه هامة عل صعيد ترتيب أوضاع المنطقة لصالح المشروع الأمريكي, وان حالة من اليقظة عموما تتسع كل يوم وتتعمق في مواجهة سياسة الهيمنة الأمريكية والغطرسة الامبريالية الصهيونية مدعومة بقوى إقليميه ودوليه كبرى ومؤثره في السياسة الدولية وفي مقدمة هذه القوى الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية روسيا الاتحادية التي أعادت التوازن إلى الصراع الدولي. هزة في النظام الدولي لقد أحدث ضم روسيا لشبه جزيرة القرم هزة في النظام الأوروبي ومخلخلاً للنظام الدولي بأسره، مستلزماً من الأمريكيين والأوروبيين تنديداً وتهديداً واجتماعات متتالية ولكن وهناً أيضاً وضعفاً في صياغة إستراتيجية واضحة المعالم ومؤثرة على السياسة والاقتصاد الروسيين. فكل الاتفاقيات الدولية التي وقعت مع روسيا، بما فيها تلك المتعلقة باحتواء أسلحة الدمار الشامل والشراكات التجارية والاقتصادية قد تعتريها اهتزازات مدوية ولكن ليس بالدرجة المتوقعة كما يمكن أن تحدثه العقوبات على عراق صدام أو على إيران، لأن روسيا قوة عسكرية كبيرة، وكانت أحد طرفي الصراع الرئيسيين في الحرب الباردة، ولها حضور في السياسة الخارجية الدولية وصوت مؤثر في مجلس الأمن، كما أن لها أوراقاً إستراتيجية يمكن أن تستعملها ضد الغرب في سوريا وإيران وغيرهما. ويمكن أن نستخلص من أزمة شبه جزيرة القرم ثلاثة دروس رئيسة: أولاً: البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً من أي وقت مضى، ويكفي الرجوع إلى الكتاب القيم الذي ألفه منظر العلاقات الدولية الفرنسي برتران بادي لتمثل ذلك، إذ طور نظرية اختزلها في كلمتين "وهن القوة" واعتمادا على نظريات لإيميل دوركايم وهيغو كروتيوس أكد أن القوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة... فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي بل وحتى الثقافي كما كان عندها في السابق. ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصادات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري الدولي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية. وكثيرة هي الأسئلة التي نطرحها معه ومع المنظر الأوروبي فريدريك شاريون، ويمكن أن نختزلها في سؤالين اثنين: أما السؤال الأول فيرتبط بقدراتنا الخاصة على قراءة العلاقات الدولية التي أصبحت معقدة جداً. وأما السؤال الثاني فيخص التمييز الذي أضحى أكثر فأكثر غموضاً بين ما قد يرتبط بالمجال العقلاني والمجال اللاعقلاني. ثانياً: روسيا في ظل هذه البيئة الدولية المعقدة ظهرت على شكل قوة تثق في نفسها وتستعمل في براهينها وتفسيراتها أدبيات الديمقراطية الغربية الاستفتاء، تصريحات سكان القرم في وسائل الإعلام المختلفة، وهناك حوالي ثلاثة ملايين من السكان يعيشون في القرم) في مقابل دول أوروبية غربية تعتبرها روسيا ضعيفة في الساحة الدولية وضعيفة عسكرياً... والبعض باستحضار هذه الوقائع يتحدث عن حرب باردة جديدة... والحقيقة أننا أبعد ما نكون عن تواجد كتلتين رئيسيتين أو أكثر تمثل أو بإمكانها أن تمثل أطراف هذه الحرب الباردة... بل إن روسيا تفوقت على المعسكر الغربي في غياب هذه الحرب واستفادت من تواجد فراغ استراتيجي في لعبة شطرنج الحرب الباردة السالفة... ثم إن الدول الغربية لا يمكنها أن تعلن الحرب على روسيا أو أن ترسل صواريخها إلى موسكو وإلا شهدنا قيام حرب عالمية جديدة. ثالثاً: الرئيس الروسي يعي جيداً مفهوم القوة، وبالضبط المفهوم الذي أعطاه المحلل والمنظر الاستراتيجي الأمريكي الكبير جوزيف ناي، أي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء، وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات، فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وتجارة سبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها ممن سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم بثورة فتية في تكنولوجيا المعلومات والعولمة... وفي هذه الحالة فإن الاحتواء الاقتصادي والسياسي هو أخطر ما يمكن أن تعاني منه دولة مثل روسيا اقتصادياً وتجارياً وعسكرياً وتواجداً في الساحة الدولية. ولنتذكر بعض ما قيل في يوم 9 فبراير 1990، حين وعد وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر (في عهد إدارة بوش الأب) ميخائيل جورباتشوف في قاعة كاترين 2، القاعة التاريخية للكرملين، بأن التحالف الغربي لن يضم ولن يزحف نحو الدول الشرقية إذا قبلت روسيا انضمام ألمانيا الموحدة إلى قلب الحلف الأطلسي. وبدوره وزير الخارجية الألماني آنذاك هانز ديتريش جينشر قال كلاماً أكثر طمأنة من نظيره الأمريكي لوزير الخارجية السوفييتي آنذاك أدوارد شيفرنادزة مؤداه أن الحلف الأطلسي لن يضم أية دولة من الدول الشرقية. والبولونديون والتشيكيون والهنغاريون انضموا إلى الحلف الأطلسي سنة 1999 والبلغاريون والرومانيون والسلوفاكيون انضموا إلى هذا الحلف العسكري سنة 2004 وكانت أوكرانيا أيضاً على وشك الانضمام إلى الحلف الأطلسي... روسيا تعرضت لحصار ولازالت تتعرض للحصار الغربي بعد أكثر من عقدين من التعاون مع الغرب، فروسيا هي محل استهداف دائم من الغرب، وهذا ما تيقن له بوتين، وعندما وقف صبيحة هذا اليوم متحدياً للغرب ومحذراً له من الإضرار بمصالح المواطنين الروس المتبقيين في جنوب أوكرانيا. بلا شك أن سوريا كانت محطة هامة لتثبت فيها روسيا بأنها قادرة على درئ المخاطر التي تواجهها، ومن هنا كان القائد ورجل المخابرات بوتين والعنيد له قراراته الثابتة في سوريا التي لم تتأثر بالضغوط الغربية، فسوريا بالنسبة لموسكو هي حدود روسيا، بالنسبة للإرهاب الدولي المدعوم أمريكياً وغربياً. ما زالت روسيا يمكن أن تواجه أحكاماً وقوانين غربية إذا تم تفجير روسيا من الداخل، ومن هنا روسيا معنية بعدم نجاح تجربة تفجير سوريا من الداخل كتجربة يمكن أن يعاد صياغتها في موسكو. نجحت الدبلوماسية والقوة العسكرية والأمنية الروسية في مساندة الجيش العربي السوري ومده بالدعم اللوجستي في قطاعات متعددة، حيث فشل ما يسمى الربيع العربي في سوريا، بل كان للموقف الروسي مؤثرات كبيرة على تغيير المناهج السياسية والدبلوماسية لدول عربية أمدت العصابات والمتطرفين والإرهابيين، والتي ساعدتهم بالمال والرجال لتغيير نظام الحكم في سوريا، فها هي نفس تلك الدول وعندما بدأت تتيقن في خريطة ما يسمى الربيع العربي وتغلغله في آسيا من دمشق إلى حلب إلى تركيا إلى بوادر في السعودية ودول الخليج، حيث اصدر الملك عبد الله ملك السعودية قراراً باعتبار أن جبهة النصرة وداعش وبعض الفصائل الأخرى هي فصائل إرهابية، وكل من يدعمها معرض للمسألة والقانون الجنائي. انقلاب في نظرية "الربيع العربي" وأهدافه، وهذا لم يأت إلا بصمود الجيش العربي السوري والشعب العربي السوري وقيادته وبدعم مباشراً من الدب الروسي الذي لا يكل ولا يمل في إيقاف مسلسل التخريب والفوضى والقتل الذي يمكن أن يمتد إلى موسكو ودول الاتحاد السوفييتي سابقاً. أما المحطة الأخرى التي حاول أن يضرب فيها الغرب خصر روسيا وهي أوكرانيا، متجاوزاً الإيقاع الطبيعي في مسلسل الربيع والعربي وخريطته ليعمل اختلالاً في السياسة الروسية وفي ثلاث ملفات أساسية الملف السوري والملف الإيراني، حيث ظهر الملف الأوكراني الذي جرى عليه عدت محاولات لتنفيذه من قبل الغرب من عام 2004. قرار بوتين والمؤسسة الحاكمة في روسيا كان قراراً جريئا وحازماً في استعادة القرم إلى الموطن الرئيسي للأراضي الروسية، ولكن لا اعتقد أن روسيا ستقف عند هذا الحد في ظل إنذارات بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وما كان للقرار الروسي بضم القرم ليس فقط الناحية التاريخية للسكان، بل كان لروسيا أن تهدد في البحر الأسود بأساطيل الناتو في خاصرتها الغربية والجنوبية، أما ما يوجد من سكان روس في جنوب أوكرانيا فلقد حذر بوتين من المساس بحقوقهم المدنية، ومن هنا فإن روسيا من الممكن أن تستكمل مشروعها لضم مناطق في جنوب أوكرانيا. إذاً، استيقظ الدب الروسي في دمشق وكشر عن أنيابه في أوكرانيا وربما يستخدم الدب الروسي مخالبه لتغيير خريطة أوروبا الشرقية وإعادتها إلى عهدها السابق ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي أو جزء منها. باحث في القضايا الإقليمية(*) |
||||||