يتقاتلون.. يضعفون.. ونقوى
إسرائيل تستثمر في الفتنة المذهبية بين المسلمين

السنة الثالثة عشر ـ العدد 149 ـ (رجب 1435 هـ) أيار ـ 2014 م)

بقلم: ابتسام الشامي

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ما بين الوجود الإسرائيلي الغاصب لفلسطين المحتلة وفكرة التقسيم والتجزئة للعالم العربي والإسلامي ارتباط عضوي دلت عليه على مدى السنوات الطويلة الماضية إلى الأيدي الإسرائيلية العابثة في أكثر من بلد عربي وإسلامي أفكار ورؤى لكبار القادة الصهاينة الذين رسموا خطة إقامة الدولة الغاصبة وإلى جانبها حددوا عوامل بقائها واستمرارها في محيط معاد لها.

هذه الرؤى والأفكار لم تبق حبيسة الوثائق السرية التي صنفت تحتها وإنما تحولت إلى سياسات عمل تعاقبت الحكومات الإسرائيلية على تطبيقها.

الفتنة المذهبية في العالم العربي والإسلامي واحدة من أهم الأدوات التي يستخدمها الكيان الغاصب في إطار تحقيق مشاريعه وتثبيت أقدامه الغاصبة في هذه الأرض, ومع الهزائم العسكرية لجيش العدو في لبنان وفلسطين بدءاً من العام 2000 بدا أن هناك تركيزاً إسرائيلياً على ضرب عوامل قوة المقاومة وإضعاف منظومتها الداخلية من خلال الاستثمار في الفتنة المذهبية بين المسلمين وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح لا لبس فيه في الأداء الإسرائيلي منذ بداية الأزمة السورية قبل ثلاثة أعوام وحجم الرهان المعقود على تأجيج الفتنة المذهبية انطلاقا مما يجري في سوريا لضرب المقاومة وكل داعميها وعلى رأسهم الجمهورية الإسلامية في إيران والدولة السورية.

وثيقة كامبل والدور الوظيفي لإسرائيل

وقبل الحديث عن المكاسب التي يسعى العدو الصهيوني إلى تحقيقها جراء اللعب على التناقضات المذهبية لابد من التذكير بداية بالدور الوظيفي الذي أنشئت لتأديته الدولة الغاصب وإلى نظرتها إلى نفسها وآفاق استمرارها في محيط معاد لها.وفي هذا الإطار أول ما يجب استحضاره هو المؤتمر الذي دعا إليه حزب المحافظين البريطاني عام 1905 الدول الاستعمارية, والذي يعد اللبنة الأولى في مشروع تأسيس "إسرائيل",استمرت مناقشات المؤتمر عامين قبل أن يخرج بوثيقة سرية عرفت لاحقاً باسم "وثيقة كامبل" نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الحين "هنري كامبل بنرمان" وخلاصة هذه الوثيقة تقول التالي: "إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي لتلك الدول لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الأسيوية والأفريقية وملتقى طرق العالم أيضاً ومهد الحضارات والأديان, والإشكالية في هذا الشريان أن على شواطئه الجنوبية والشرقية يعيش شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان".وأوصى المؤتمرون بالعمل على تفكيك وحدة شعوب المنطقة وإقامة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي قريب من قناة السويس يفصل القسم الأسيوي من المنطقة عن القسم الإفريقي.

تأسيس الكيان الغاصب عام 1948 كان جزءاً من هذا المخطط التفكيكي للمنطقة ليستكمل بعدها الكيان الوليد وبرعاية دول الاستعمار المهمة في ضرب كل عوامل قوة الدول المحيطة, وهذا ما قامت عليه نظرية مؤسس الكيان الغاصب ديفيد بن غوريون القائلة بأنه: "لا مجال لدولة إسرائيل أو لتفاهم سلام في المنطقة إلا بتفتيت دول هذه المنطقة إلى دويلات طائفية تتناحر بينها إلى أبد الآبدين".

وفي الإطار نفسه جاءت العديد من المخططات التقسيمية أيضاً ومن بينها إستراتيجية الموظف في الخارجية الإسرائيلية "أودي دينون" التي قدمها إلى الحكومة الإسرائيلية مطلع العام 1982 والتي تقوم على تقسيم العالم العربي إلى مجموعة من الكانتونات الطائفية والمذهبية والعرقية, وهو المشروع نفسه الذي تبناه الكونغرس الأمريكي عام 1983 وعرف بمشروع "برنار لويس" اليهودي البريطاني- الأمريكي الذي كان من أبرز الخبراء الغربيين المعنيين بملف المنطقة.

الاستثمار الإسرائيلي في الفتنة المذهبية.. توصيات مركز الأبحاث

وفي هذا الإطار الوظيفي لدولة الكيان الغاصب المحدد من قبل الاستعمار العالمي فإن سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة صبت كلها في خدمة هذا الدور المرسوم بعناية فأينما وجدت في العالم العربي والإسلامي فتناً وحروباً وتقاتلاً فلابد أن تجد أصابع إسرائيلية أو تأهباً إسرائيلياً للاستفادة من فرص ذلك.

اليوم يبدو الجهد الإسرائيلي منصباً على الاستثمار في الفتنة المذهبية بين المسلمين ولم يعد هذا الأمر مجرد تنظير سياسي وإنما بات سياسات عمل تعكف كبريات مراكز الدراسات والأبحاث على قراءة الفوائد الإستراتيجية له والتي يمكن لتل أبيب تحقيقها من خلال العمل على تحويل العالم العربي والإسلامي إلى عالم تُرفع فيه الحراب المذهبية ويتقاتل أبناؤه على أسس مذهبية. وفي هذا الإطار جاءت توصيات مؤتمر هرتسيليا- وهو واحد من أهم المؤتمرات الإستراتيجية الإسرائيلية يعقد سنوياً بمشاركة مستويات عالية من السياسيين والأكاديميين الإسرائيليين والغربيين الذين يدرسون تطورات البيئة الإستراتيجية لدولة الاحتلال ويضعون سيناريوهات لكيفية مواجهة التحديات- في دورته الثالثة عشرة التي انعقدت بتاريخ الحادي عشر من آذار من العام 2013 حيث أكد المؤتمر على: "ضرورة تكريس الصراع السني الشيعي من خلال السعي إلى تشكيل محور سني من دول المنطقة أساسه دول الخليج ومصر وتركيا والأردن ليكون حليفا لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ضد محور الشر الذي تقوده إيران ويضم سوريا وحزب الله محور الشيعة".

 وفي المؤتمر نفسه يقول "اليوت ابرامز" أحد أهم الشخصيات الأمريكية المعروفة بتأييدها للكيان الإسرائيلي - شغل في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن منصب المسؤول عن ملف الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي- في جلسة حملت عنوان "توازن القوى الإقليمية- هل هناك محور سني يتبلور"يقول" في اللحظة التي سيسقط فيها الأسد ستظهر صراعات ذات طابع مذهبي داخل سوريا نفسها وهو الأمر الذي يخدم مصلحتنا المشتركة".

أما في التقدير الاستراتيجي الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي- وهو من أهم مراكز الدراسات الإسرائيلية التي تشارك في صناعة القرار الإسرائيلي- فقد جاء في توصيات المؤتمر السنوي للمعهد  المنعقد في آذار من العام 2014 "إن الفرص الإستراتيجية لإسرائيل والكامنة في التطورات التي يشهدها العالم العربي هي أكثر من الأخطار, وتتمثل هذه الفرص في تفاقم الصراع بين المحور السني الذي تتزعمه المملكة العربية السعودية والمحور الشيعي الذي تتزعمه إيران", وللتوضيح أكثر يشرح مدير المعهد الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية عاموس يدلين الفرصة الإسرائيلية الكامنة في هذا الصراع فيقول: "إن تفاقم الصراع بين المحور السني والمحور الشيعي وخاصة بعد الحرب الدائرة في سوريا وسّعا هامش المناورة لدى إسرائيل في الشرق الأوسط وأنتجا فرصاً لتوسيع التعاون بينها وبين دول المحور السني".

الإعلام الإسرائيلي ولغة الفتنة

توصيات مراكز الأبحاث والدراسات الإسرائيلية لصانع القرار في كيان العدو بضرورة الاستثمار في الفتنة المذهبية بين المسلمين لا تبقى أسيرة الطبقة السياسية أو النخبوية في كيان العدو وإنما تتحول إلى سياسيات إعلامية أيضاً تحاول التركيز على فكرة أساسية وهي تفسير كل ما يجري في العالم العربي والإسلامي ببعد مذهبي وأكثر ما يتجلى هذا الأمر في المقاربة الإعلامية الإسرائيلية لما يجري في سوريا حيث تغزو عبارات "السنة" والشيعة" و"المحور السني" مقابل "المحور الشيعي" كتابات كبار المحللين الإسرائيليين, وفي هذا الإطار نشير إلى عينة مما يكتب في الصحافة الإسرائيلية هذه الأيام.

فتحت عنوان: "بدأت حرب السوشي.. ولا ذنب لنا" يكتب د.رؤوبين باركو في صحيفة إسرائيل اليوم المحسوبة على رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو "أن الذي بدأ في سوريا الحريق الديني بين المعسكرين هو عمل رمزي دراماتيكي برز في شذوذه في نطاق الفظاعات والقتل الذي لا نهاية له الذي ينفذه النظام السوري العلوي وحلفاؤه الشيعة من إيران والعراق ولبنان" ويتابع الكاتب في السياق التحريضي نفسه ليقول "الحديث هنا هو عن دينين مختلفين عدوين بعضهما لبعض وذلك على الرغم من محاولات التقارب وحقيقة أنهما يقومان على رسالة محمد ومن هنا يبدأ كل شيء.. قبل رفع أعلام الشيعة على أنقاض المساجد السنية في سوريا كانت المواجهة الدامية بين حاكم سوريا العلوي وشعبه السني, كانت قد تحولت إلى مواجهة طائفية".

بدوره المعلق العسكري لصحيفة معاريف عمير ربابورت يبدو متفائلاً جداً بحرب "السوشي" التي من شأنها أن تُنسي العرب إسرائيل وتحت عنوان"العرب نسوا إسرائيل" يرى الكاتب أن الأمور تتغير وأن العرب "مشغولون بصراعاتهم وأن الحرب الكبرى تدور حالياً بشكل أو بآخر بين الشيعة بدعم روسي والسنة بدعم أمريكي" ويضيف الكاتب "الحرب الكبرى في العالم الإسلامي تصرف الأنظار عالمياً عن المسألة الإسرائيلية الفلسطينية التي تغدو هامشية.. فهل هذا جيد أم سيء لإسرائيل؟".

وفي دراسة معهد دراسات الأمن القومي نشرت في النشرة الدورية الصادرة عن المعهد "نظرة عليا" تحت عنوان "حرب أهلية بلا حسم" للباحث الإسرائيلي شلومو بروم تنضح هذه الدراسة باللغة التحريضية المذهبية ففي تحليله للواقع الذي حول ما يجري في سوريا إلى حرب أهلية كما يسميها يقول الباحث "إن المتمردين السوريين أدركوا فوراً أن إيران وحزب الله متصلان بالنظام السوري لأسباب إيديولوجية وللهوية الشيعية.. وبإزاء شبكة دعم النظام هذه عقد حلف بين مؤيدي المتمردين يشمل تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية والسنيين في لبنان والعراق". على أن أخطر ما في هذه الدراسة هو السيناريوهات التي وضعها الباحث لمآل الحرب في سوريا ومن بينها سيناريو "سايكس –بيكو" ومعناه العملي "أن تنحل سوريا إلى عدد من الدول الصغيرة هي: دولة علوية في محور دمشق- المنطقة الساحلية, دولة سنية في الشمال والجنوب والشرق, ودولة كردية في شمال شرق سوريا" وهذا السيناريو برأي الباحث يحقق المصلحة الإسرائيلية بشكل فعال جدا ففي "إطار سايكس- بيكو سينشأ واقع مريح لإسرائيل وسيكون في كل دولة صغيرة سلطة مركزية تستطيع إسرائيل أن تحصر سياساتها فيها,ومن جهة ثانية ستكون كل واحدة من هذه الدويلات ضعيفة ولن تستطيع أن تهدد إسرائيل بل يمكن لإسرائيل بناء علاقات طيبة بعدد منها".

الفتنة لضرب إيران

هذه الأفكار والتوصيات باتت حاضرة أيضاً في خطابات قادة العدو الذين يتحدثون "بجرأة" أكثر من أي زمن مضى عن ما ينتظرونه من عوائد سياسية للفتنة المذهبية وتحديداً في ما يتعلق بالموقف من الجمهورية الإسلامية في إيران. وفي هذا السياق قال رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو في تشرين الثاني 2013 لقناة "الدولية" الإسرائيلية إن "رؤوساء الدول العربية والشارع العربي يدركون أيضاً خطر الفكر الإيراني الشيعي عليهم.. وأعتقد أن هناك تغييراً بطريقة التفكير التقليدي لدى الدول العربية التي لطالما اعتبرت إسرائيل عدواً فهي تدرك اليوم أنها وإسرائيل على جبهة واحدة لتحدي هذا الفكر الفتاك" ويضيف نتنياهو: "أنا لا أتكلم فقط باسم إسرائيل وإنما باسم كثيرين آخرين لا يتحدثون ولكنهم يفكرون كما أقول.. فقد بات هناك لغة مشتركة بين إسرائيل والدول الخليجية في الموقف من إيران".

هذا ما تتوخاه إسرائيل من الفتنة

وبناء على ما تقدم يمكن القول إن "إسرائيل" ترى في الفتنة المذهبية أداة لتحقيق الأهداف التالية:

- إضعاف المحيط العربي والإسلامي لتبقى إسرائيل هي القوة الحقيقية المهيمنة في المنطقة.

- ضرب مشروع المقاومة من خلال إضعاف المحور الذي تنتمي إليه والذي وفر لها كل عوامل الدعم.

- محاصرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ترى فيها إسرائيل خطراً وجودياً عليها عبر تشويه صورتها وقولبتها في إطار طائفي

- تشتيت الرأي العام العربي والإسلامي وإلهاؤه بعيدا عن القضية الفلسطينية وما تعمل عليه السياسة الأمريكية والإسرائيلية من عملية تصفية ممنهجة لهذه القضية

- شرعنة الوجود الغاصب لفلسطين المحتلة من خلال السعي إلى عقد تحالفات مع عدد من دول المنطقة تحت عنوان العداء المشترك لإيران وضرب مصالحها ونفوذها الإقليمي.

- فتح آفاق التطبيع الاقتصادي مع دول المنطقة وفقاً لرؤية رئيس الكيان الغاصب شيمون بريز.

كخلاصة لما ذكر أعلاه يمكن القول إن الفتنة المذهبية بين المسلمين هي السيف الذي أمسكت وتمسك به قوى الاستعمار وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل للعبث بالمنطقة وتقسيمها إلى دويلات يسهل السيطرة عليها والإمساك بقرارها والاستفادة من ثرواتها المادية والبشرية والقضاء على منظومة القيم التي كرسها الإسلام وعلى رأسها الوحدة والتضامن في الجسد الإسلامي الواحد فهل يعي النافخون في أبواق الفتنة المذهبية اليوم أي أجندة يخدمون وأي أهداف يحققون؟.

اعلى الصفحة