مقاطعة الكيان الصهيوني بين الواقع والطموح

السنة الثالثة عشر ـ العدد 149 ـ (رجب 1435 هـ) أيار ـ 2014 م)

بقلم: عدنان عدوان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت العبريّة في عددها الصادر يوم3/2/2014النقاب عن أنّ خسائر الدولة العبريّة في حال اشتداد المقاطعة لها، وخاصة لنحو 70 مصنعاً في المستوطنات والمزارعين من مستوطنات غور الأردن، قد تصل إلى 20 مليار دولار وفصل 10 آلاف عامل من العمل في الفترة القريبة المقبلة.

جدير بالذكر أنّ هذا التقدير جاء على خلفية إعلان الإتحاد الأوروبي مؤخراً عن مقاطعته للمستوطنات في الضفة الغربية المحتلّة وعدم تمويل مؤسسات إسرائيلية لديها علاقات مع المستوطنات.

تاريخ المقاطعة

في العام 1922 كانت اللجنة العربية التنفيذية للبرلمان السوري - الفلسطيني نادت بمقاطعة التجار الصهاينة اليهود، وكررت نداءها سنة 1934، ونفذها اتحاد العمال العرب، وفي عام 1936، طالبت "الهيئة القيادية الفلسطينية العربية العليا" التي تقود الثورة الفلسطينية وحركة الإضراب والعصيان المدني الفلسطيني، بمقاطعة أخرى وهددت غير الملتزمين بها بالعنف، ولكن هذه المقاطعة لم تنجح كما ينبغي، بسبب التغلغل الصهيوني في المجتمع الفلسطيني آنذاك من خلال المحاميين والأطباء والمستشفيات، وفي محاولة لعزل اليهود اقتصادياً، أعلن مجلس جامعة الدول العربية في 2 كانون أول/ ديسمبر من عام 1945: "مقاطعة رسمية للبضائع اليهودية، وطالب كل المؤسسات والمنظمات والتجار والأفراد العرب برفض التعامل بالبضائع الصهيونية أو توزيعها أو استهلاكها"  والمقاطعة التي فرضتها جامعة الدول العربية شملت ثلاثة مستويات: المقاطعة من الدرجة الأولى ولا تزال مطبقة في عدد من الدول العربية، تشمل البضائع والخدمات المصدرة من الكيان الصهيوني. والمقاطعة من الدرجة الثانية، تشمل الشركات غير العربية التي تتعامل مع الكيان الصهيوني. والمقاطعة من الدرجة الثالثة، وتشمل الشركات التي تشحن بضائعها من خلال المنافذ الصهيونية.

وهددت المقاطعة العربية من الدرجة الثانية الشركات غير العربية بـعدم الاستثمار في الكيان الصهيوني، أو بناء المصانع، أو منح الامتيازات، أو أي نوع من أنواع التعاون غير التجاري، وإلا فإن الشركات غير الملتزمة بتعليمات المقاطعة ستوضع في القائمة السوداء، وأن أي منتجات لفنانين أجانب، صناع السينما أو الموسيقيين يتم مقاطعتها إذا تم اعتبارها قريبة من العدو الصهيوني، وترفض عدد من الدول العربية والإسلامية دخول أي شخص حاملا لجواز الكيان الصهيوني، أو أي ختم للتأشيرة، أو دخول أو خروج لدولة الكيان، وتمنع دخول أي شخص يحمل جوازه ختم لدولة أخرى، يشير إلى دخوله الكيان الصهيوني، ومن الصعب التحديد بدقة حجم التأثير الاقتصادي للمقاطعة على الكيان الصهيوني، خصوصاً أن الاقتصاد الصهيوني، وبسبب الدعم الغربي له، كان قويا منذ عام 1948، وحقق ناتج محلي إجمالي أعلى من كل الدولة العربية مجتمعة، باستثناء الدول العربية النفطية، وعلى الرغم من ذلك فقد آذت المقاطعة الكيان الصهيوني بشكل واضح، وتؤكد الغرفة التجارية الصهيونية: (أن صادرات الدولة العبرية أقل بـ 10% مما هو مفترض أن تكون عليه دون المقاطعة)، وبسبب المقاطعة العربية فإن بعض البضائع العالمية الشهيرة مثل بيبسي، ماكدونالدز ومعظم السيارات اليابانية لم تكن موجودة في الكيان الصهيوني، إلا بعد ضعف المقاطعة في نهاية الثمانينيات، وبنفس الوقت قاطعت الدول العربية الشركات التي تبيع منتجاتها في الدولة العبرية مثل مشروب كوكا كولا الأمريكي، وعلى الرغم من أن المقاطعة العربية رسمياً ما زالت قائمة حتى اللحظة، إلا أن الكثير من البضائع والمنتجات الصهيونية تصل إلى العديد من الدول العربية، حيث كان ـ في السابق ـ يتم إرسالها إلى بلد ثالث، وإعادة شحنها إلى الدول العربية، وخصوصاً عبر جزيرة قبرص، والتي كانت تعتبر أبرز محطة من محطات إعادة الشحن، ولكن وعقب توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني سنة 1977، ومعاهدة أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني سنة 1993، ومعاهدة وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني سنة 1994، ثم افتتاح سفارات صهيونية في القاهرة وعمان، وتبادل التمثيل العربي/ الصهيوني بين عدة دول عربية والكيان الصهيوني منها قطر، المغرب، موريتانيا، تونس، عُمان، بالإضافة إلى حكومة كردستان العراق، فإن البضائع الصهيونية أصبحت تغزو أسواق هذه الدول مباشرة، وغيرها من الأسواق العربية، وتكونت كيانات تجارية وصناعية عربية/ صهيونية، للترويج للبضائع والمنتجات الصهيونية في الدول العربية التي مازالت المقاطعة سارية فيها رسميا، حيث يتم تغيير بلد المنشأ من الكيان الصهيوني الى اسم تلك الدولة العربية التي تقوم بإعادة التصدير، بينما انتقلت العديد من المصانع، أو أقامات لها فروعا وخطوط إنتاج للعمل في الأردن وغيرها، نظراً لرخص الأيدي العاملة العربية، وتدني تكلفة الإنتاج، وتسهيلات الاستثمار، ولتسهيل تصدير المنتجات الصهيونية، على اعتبار أنها منتجات أردنية أو عربية.

وخلال عقد السبعينيات قامت (اللجنة الأمريكية اليهودية/الأيباك) بمحاولات عديدة لإصدار تشريع من الكونغرس الأمريكي ضد المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، ووقع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر تشريعا سنة 1977، يفرض (غرامات مالية ضخمة على الشركات الأمريكية التي تتعاون مع المقاطعة العربية)، ورغم ذلك فإن شركات أمريكية (مثل ماكدونالدز) فضلت دفع الغرامة على خسارة تواجدها وعملها في المنطقة العربية، وكانت مصر أول الدول العربية التي ألغت المقاطعة ( رسميا ) مع الكيان الصهيوني عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1977، تبعتها الأردن عام 1995، والسلطة الوطنية الفلسطينية بدءاً من 1995، وتخلت الدول الخليجية عام 1994 عن المقاطعة بدرجتيها الثانية والثالثة، والآن معظم الدول العربية ــ ما عدا سوريا ولبنان ــ لا تطبق المقاطعة بدرجتيها الثانية والثالثة، مع أن مشروب كوكا كولا بات موجودا منذ عدة سنوات في سوريا، وتواجدت الشركات العالمية مثل ماكدونالدز، تويوتا ونيستيله، منذ منتصف التسعينات في الكيان الصهيوني، بينما تستمر إيران في تطبيق المقاطعة بكافة أشكالها،وقد تجددت المطالبات الفلسطينية والعربية لتفعيل المقاطعة، إثر تفجر انتفاضة الأقصى بتاريخ 28/9/2000، وعقد اجتماع لمجلس المقاطعة، ولكنه انتهى بلا نتائج، وسنة 2005أعلنت البحرين انسحابها التام من المقاطعة، كثمن مقدم منها لـ: (تسهيل الموافقة على اتفاقيات التجارة الحرة بين البحرين وأمريكا)، رغم الانتقادات الشعبية الشديدة،مما حذا بالبرلمان البحريني للتصويت ضد القرار في شهر أكتوبر / تشرين أول من العام نفسه، وإعتباره قراراً غير ملزم، وأعلنت أيضا السعودية نهاية مقاطعتها للبضائع والخدمات الصهيونية، تلبية لـ: (شروط الإنضمام لـمنظمة التجارة العالمية، التي يُمنع فيها مقاطعة دولة لتجارة الأخرى من أعضاء المنظمة)، ثم عادت السعودية صيف 2006، لتعلن عدم إنهاء المقاطعة، و عقد مؤتمر دام 4 أيام في دمشق لمكتب المقاطعة خلال الفترة من 13ــ 16 آيار / مايو 2006، نتج عنه تصريح لأحد المسئولين عن ملف المقاطعة قال فيه: (إن معظم الدول العربية تتهرب من المقاطعة، وبالأخص دول الخليج والسعودية، والمقاطعة تراجعت كثيراً، واقتربت من الانهيار، ويجب أن لا نكذب على بعضنا البعض، لأن المقاطعة شبه مشلولة)، ومازالت العديد من الدول والمنظمات العربية تطبق بعض جوانب المقاطعة، بما في ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة وموانئ دبي العالمية وكذلك سلطنة عُمان، وكانت اليابان الدولة الصناعية الأكثر مساهمة بالمقاطعة، وبقيت علاقاتها مع الكيان الصهيوني محدودة حتى منتصف التسعينات، ونتيجة لتنامي أشكال المقاطعة العالمية مؤخرا ضد الكيان الصهيوني، في ظل استمرار الاستيطان، والمراوغة الصهيونية في ملف المفاوضات الفلسطينية/ الإسرائيلية، للإفلات من الموافقة على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية، فقد تبنى رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو موقف وزير خارجيته اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان بــ: (عدم الاستخفاف بحملة المقاطعة الأوروبية الاقتصادية، وعدم الهلع)، ووافق على اقتراح وزير الشؤون الإستراتيجية الصهيوني يوفال شتاينتس: (تخصيص مبلغ نحو 30 مليون دولار) للقيام بحملة دعائية مضادة ومناهضة للشركات الأوروبية والأمريكية التي تعلن المقاطعة)، وترأس نتنياهو جلسة حكومية خاصة مساء الأحد 9/2/2014 بحضور ليبرمان وشتاينتس ووزير الاقتصاد نفتالي بينيت: لـ:(معالجة سبل مواجهة ظاهرة المقاطعة الاقتصادية التي تتسع رقعتها في أوروبا مؤخراً)، خصوصاً في أعقاب تحذير وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قادة العدو، من أنه: (في حال فشل المفاوضات مع الفلسطينيين قد تتسع ظاهرة المقاطعة ضد الدولة العبرية، على نحو يضر باستقرارها الاقتصادي).

المقاطعة وتأثيرها على الكيان

بتاريخ 24\2\2014، انطلق "أسبوع مقاومة الأبارتهايد الإسرائيلي" الذي نظمه طلاب جامعيون وناشطون في 200 مدينة حول العالم منها مدن في الولايات المتحدة وبريطانيا. حيث سعى الأسبوع إلى تشريب العالم ثقافة مجابهة إسرائيل باعتبارها نظام فصل عنصرياً، ودعم حركة مقاطعة إسرائيل في العالم. وظّف نشطاء المقاطعة الإعلام في خدمة هذا الأسبوع، منتجين مقاطع فيديو تفضح السياسة الإجرامية التي ينتهجها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. على وقع أغنية "منتصب القامة" لمرسيل خليفة، حرّر أهالي قطاع غزة المحاصر الكلام المحبوس داخلهم عبر مقطع فيديو حمل عنوان "رسالة من غزة". نقلت الرسالة أصواتاً طفوليّة يحظر الاحتلال عليها التنقل بحرية في أراضي فلسطين المحتلة والعودة إلى مسقط رأس أجدادها، على شاكلة "أنا لاجئ من زرنوقة ولا أستطيع العودة إليها كون أمي غير يهودية".

فيما كشف أستاذ جامعي عن عجزه عن استكمال مشواره العلمي، نظراً إلى حجزه في غزة وعدم قدرته على اجتياز حدودها لنيل درجةٍ عليا. وعلى الرغم من شحّ الإمكانات، تمكّن نشطاء المقاطعة من تخطّي الحدود للترويج لـ "أسبوع مقاومة الأبارتهايد" الذي أقيم للمرة الأولى في تورنتو الكندية عام 2005. خاطب الفلسطينيون العالم بلغته، معتمدين على خطاب حقوقي تخيّم عليه مفردات وقيم العدالة والمساواة والحرية المفقودة عند العدو. في حديث مع "الأخبار"، تؤكد آية بشير إحدى القائمات على "أسبوع مقاومة الأبارتهايد"، حدوث قفزة نوعية في اهتمام الإعلام بفضح ممارسات الاحتلال العنصرية. وبحسب بشير، فإنّ القائمين على الأسبوع يعيرون اهتماماً كبيراً للفلسطيني البسيط المبتعد عن الفضاء الإلكتروني، ما دفعهم إلى الاعتماد على الإذاعات المحليّة كإذاعة "الشعب" في غزة بهدف فتح عينيّ المواطن البسيط على فعاليات الأسبوع في قطاع غزة والضفة الغربية.

واستعرض القائمون على الأسبوع تجارب دولية من التضامن الدولي مع الفلسطينيين كالتجربة النرويجية والإيطالية والاسكتلندية. كما بثّوا كلمة مسجلة لأحمد كاثرادا، رفيق المناضل الراحل نيسلون مانديلا، من أجل المقاربة بين نموذجي "الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا وإسرائيل، إضافة إلى عرض فيلم "خارطة الطريق إلى الأبارتهايد"، وعمل موسيقي جمع بين من عانوا من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وبين من يرزحون تحت نظام مشابه حتى اللحظة.

وفعلاً قضّ هذا الأسبوع مضجع الاحتلال الذي رصد حوالي 30 مليون دولار أمريكي لتنفيذ حملة إعلامية مضادة تقضي على النجاح الذي حقّقه نشطاء المقاطعة في الإعلام. في غمرة النجاحات التي حققتها حملة مقاطعة إسرائيل، يستوقف الفلسطينيين سؤال: متى سترصد الميزانية ولو حتى المتواضعة لتحفيز الإعلام على صدّ الحملات المضادة من العدو الإسرائيلي؟.

وخلال العام الحالي، سحب صندوق التقاعد الهولندي أمواله من 5 مصارف إسرائيلية بسبب تورطها في خرق القانون الدولي الإنساني. كما أن المغني النرويجي الشهير "مودي" استجاب لنداء نشطاء المقاطعة من غزة، لاغياً حفلته في تل أبيب. الخسارة لم تتوقف عند هذا الحد. واجهت شركة "G4s" المتورطة في تزويد سجون الاحتلال وحواجزه ومستوطناته بمعدات أمنية، انتقاداً دولياً متزايداً، وخسرت عقوداً بملايين الدولارات في دول الاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا. كما أنّ مصارف أوروبية كثيرة سحبت استثماراتها من شركتي "فوليا" و"صودا ستريم" المتورطتين في التطبيع مع الاحتلال.

المقاطعة الأكاديمية والثقافية

في عام 2004، انطلقت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل في رام الله، بمبادرة من مثقّفين وأكاديميين فلسطينيين بهدف الالتحاق بحركة المقاطعة العالمية الناشئة. وارتكزت الحملة على الدعوة عام 2002 إلى مقاطعة اقتصادية وثقافيّة وأكاديميّة وإلى بيان أصدره أكاديميّون ومثقّفون فلسطينيون في الأراضي المحتلّة والشتات حثّوا فيه على مقاطعة المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) 2003. وفي تموز 2004، أصدرت الحملة بياناً ضمّ مبادئها وتوجّه إلى أكاديميّي المجتمع الدولي يدعوهم إلى مقاطعة شاملة ومستديمة للمؤسسات الأكاديمية والثقافية الإسرائيلية حتى تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقيّة، ونزع مستوطناتها في تلك الأراضي والانصياع إلى قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين وتفكيك نظام الأبارتهايد.

ونشطت "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" على جبهات عدّة، وقد أحرزت تقدّماً لافتاً منذ انطلاقتها عام 2004 وتضامنت مع ندائها جمعيّات عالميّة عدّة في 9 تموز 2005، أيْ في الذكرى السنوية الأولى لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بإدانة الجدار الاستعماري بل الاحتلال الإسرائيلي برمّته، وَقّع أكثر من 170 اتحاداً ومنظمة فلسطينية في فلسطين التاريخية والشتات (على رأسها الهيئة التنسيقية للقوى الوطنية والإسلامية التي تشمل أهمّ القوى السياسية على الساحة الفلسطينية)، نداءً تاريخيّاً يدعو إلى مقاومة مدنيّة عالمية ضدّ إسرائيل، عن طريق مقاطعتها وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها ـ وهو ما اصطُلح على اختصاره بالأحرف الإنكليزية BDS ـ حتى تنصاع انصياعاً كاملاً إلى القانون الدولي والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وتحديداً حتى تنهي أشكالَ اضطهادها الثلاثي لشعب فلسطين، عبر إنهاء احتلالها واستعمارها لكل الأراضي العربية، تفكيك الجدار والاعتراف بالحقّ الأساسي في المساواة الكاملة لمواطنيها الفلسطينيين، بحقوقهم الفردية والجماعية والاعتراف بحقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم بموجب قرار اﻷمم المتحدة رقم 194.

وكانت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل قد أطلقتْ نداءها إلى المقاطعة قبل لاهاي بأشهر قليلة، عام 2004، بتنسيق وثيق مع اللجنة البريطانية من أجل الجامعات في فلسطين (BRICUP). وهذا ما أطلق سلسلةَ مبادرات مؤيدة للمقاطعة الأكاديمية من النقابات الأكاديمية الرئيسة في بريطانيا، تُوّجت أخيراً بتبنّي اتّحاد الجامعات والكلّيات (UCU) ـ وهو أكبرُ نقابة أساتذة جامعات هناك ـ قراراتٍ تدعم، ولو بشكل غير مباشر، مسيرةَ المقاطعة الأكاديمية التدريجية لإسرائيل.

كما انضمّت أكبرُ نقابتيْ عمّال في بريطانيا، واتّحاد الصحافيين البريطانيين إلى المقاطعة، وكذلك اتّحادُ نقابات العمّال في جنوب أفريقيا (COSATU)، ونقابات عدّة مهمة في كندا، وأخرى في أيرلندا واسكتلندا وغيرها. وأيد كل من مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس جنوب أفريقيا، وكنيسة إنكلترا، وغيرها، سحب الاستثمارات من الشركات الداعمة للاحتلال الإسرائيلي.

أما على الصعيد الثقافي، فقد انضمّ عشراتُ الكتّاب والفنّانين والمثقّفين المرموقين إلى المقاطعة الثقافية لإسرائيل، ما أثار ضجّةً عالميةً لم تهدأ بعد. وفي تحدٍّ مباشر لاحتفالات إسرائيل بـ"الذكرى الستين" لتأسيسها ـ على أنقاض الشعب الفلسطيني ـ ناشدت الحملةُ وقطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمع الفلسطيني المجتمعَ المدني الدولي، مقاطعةَ هذه الاحتفالات. كما اتّبعت الحملةُ أسلوبَ الرسائل المفتوحة لدعوة الفنّانين والكتّاب المرموقين، كلاًّ على حدة، إلى عدم المشاركة في الاحتفالات. وقد أسهم هذا التكتيك، إضافة إلى جهود حلفاء الحملة عالمياً، في إقناع المغنّي الشهير بونو ومغنية البوب الإيسلندية بيورك، وفرقة "رولينغ ستونز، ومغني الراب العالمي سنوب دوغ، والمخرج الفرنسي المعروف جان- لوك غودار، والكاتب الأمريكي راسِل بانكس، وغيرهم"، بعدم التواطؤ مع جرائم إسرائيل بالمشاركة في احتفالات تهدف إلى التغطية على احتلالها وأشكال اضطهادها الأخرى.

أمام هذه التطوّرات المهمّة، توجّه مناضلون من جنوب أفريقيا إلى الناشطين في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل قائلين: "إنكم تبلون بلاءً أفضلَ منّا بكثير! فها هو العالم يبدأ بالاستجابة لنداء المقاطعة الذي أطلقتموه بعد بضع سنين فحسب. أما نحن، فقد أطلقنا أوّل نداءاتنا لمقاطعة نظام الأبارتهايد جنوب أفريقيا في خمسينيات القرن الماضي، ولم يبدأ المجتمعُ المدني الدولي باتّخاذ أيّ خطوات فعّالة في هذا المضمار إلا في الثمانينيات"!.

محاولة لإلغاء العقل

يتساءل أحد الباحثين قائلاً: هل نحن وهم "جيران", كما يردد البعض؟ أم أنهم يشكلون مجتمع استعمار استيطاني يمارس التفرقة العنصرية والتطهير العرقي الممنهج, فيما نحن مضطهَدون نمثل الطرف المستَعمَر الذي يحق له المقاومة؟! الجيران عادة ما يكونون متساوين في الحقوق و الواجبات, يحترمون حقوق الجيرة. فهل هذا ينطبق على طبيعة العلاقة بين الإسرائيليين المحتلين لفلسطين والفلسطينيين الذين يعانون من اضطهاد مركب يمارسه "الجار" الإسرائيلي من منطلقات أيديولوجية مغرقة في عنصريتها؟

وهل كان المستوطن الأبيض في جنوب أفريقيا إبان نظام التفرقة العنصرية يمارس "حق الجيرة" مع السكان السود الأفارقة؟ والعنصري الأبيض في الجنوب الأمريكي يبدي "كرماً" مع جاره من أصول أفريقية, العبد سابقاً؟

في مشهد إرهابي انتشر قبل بضعة أشهر شريط فيديو يظهر بعض الجنود الإسرائيليين يرقصون وهم محمولين, بأسلحتهم, على أكتاف بعض الشباب الفلسطيني في حفل زفاف أقيم في مدينة الخليل المحتلة.

الجميع يبدو فرحاً! وقبل فترة انتشر تقرير مصور على القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي لمجموعة من رجال الأعمال من غزة في اجتماع مع عميد من الجيش الإسرائيلي لتنسيق دخول بضائع واسمنت. لغاية هنا و الأمر "طبيعي" لأننا مضطرون للتعامل مع الاحتلال الذي لا زال يدير حياتنا اليومية من تسجيل المواليد إلى السماح بإدخال الدواء و الطعام و تحديد عدد السعرات الحرارية التي نستطيع تناولها يوميا.

إلا أن الأحضان والقبلات التي تبادلها العميد "الودود", الذي يلبس زياً عسكرياً, مع بعض الحاضرين, بالإضافة لابتسامات المجاملة المبالغ فيها, والإصرار على أننا "جيران" و يجب أن "نتعلم كيف نتعايش سويا", و"أن ننسى الماضي و نفكر بالمستقبل" تثير العديد من الأسئلة المفرطة في صعوبتها على الرغم من أن هذين المثالين كفيلان بتحريك مشاعر جياشة من الألم الشديد!.

هل تم إلغاء جزء من العقل الفلسطيني؟ وهل لذلك علاقة باتفاقيات أوسلو التطبيعية؟ ما الذي جعل مجموعة من الشباب الفلسطيني تقتنع بأن الرقص مع جندي مدجج بالسلاح فعلٌ جديرٌ بالتقدير؟ و رجل يرى أن القبلات مع عميد ببزة عسكرية فعل له "بعدٌ إنساني؟!" والسؤال الأصعب, كيف وصل البعض منا إلى درجة أن يعد الاحتلال والأبارتهيد والتطهير العرقي من أعمال "الجيرة؟" وهل يمكن فصل ذلك عن المناخات التي بثها اتفاق أوسلو المشؤوم؟.

في جمهورية جنوب أفريقيا العنصرية قام السيد الأبيض بتقديم ما اعتبره "تنازلات كريمة" حين قام بالسماح بإقامة معازل عرقية على 12% من ارض جنوب أفريقيا ليعيش عليها السكان الأفارقة بعد السماح لمن عدهم رؤساء بالتوسط عنده لتحسين معيشة السكان-العبيد. وكان أولئك القادة يشعرون بالفخر لخدمتهم السيد الأبيض, بل يستميتون للحصول على رضاه. والتجربة نفسها تكررت في الهند والعديد من الدول التي عانت ويلات الاستعمار, بالذات الاستيطاني منه.

ولكن التماهي مع السيد والعمل الحثيث للحصول على رضاه يأخذان أشكالاً مختلفة, وكثيراً ما يكون هناك حالة من الإنكار المصحوبة أحيانا بمحاولات حثيثة لإبراز الجانب "الإنساني" في العلاقة بين "الطرفين-الجارين!"و لكن أصعب حالات التماهي هي عندما يشعر العبد أنه أصبح "حراً" وبناءا على ذلك يقوم بإتباع أساليب قمعية ضد باقي العبيد شبيهة بتلك التي استخدمها السيد. كل ذلك يأتي نتيجة استهداف عقل العبد بهدف تطويعه بالكامل. و تم ابتداع مصطلح "زنجي المنزل" و/أو "العم توم" ليعبر عن هذه الحالة.

إذاً هي حالة اشتباك متواصل مع أشكال الاضطهاد المتعددة التي تمارسها إسرائيل, وأخطرها معركة تشكيل الوعي الفلسطيني كمشروع تحرري لا يرى في تحسين شروط الاضطهاد والقمع أي شكل من أشكال الحرية, مشروع مقاوم يعد تحرير العقل مقدمة ضرورية لتحرير الأرض والإنسان, يرى في المساواة الكاملة بين بني البشر نقيضاً لما يمثله المشروع الصهيوني, كما كان نقيضاً لنظام التفرقة العنصرية الأبيض في جنوب أفريقيا.

أما في الحالة الفلسطينية فإن أي مراجعة نقدية جادة, وهذا شرط أساسي من شروط التحرر, ترى أن المناخ الذي خلقته اتفاقيات أوسلو التطبيعية, حسب تعريف التطبيع الذي وافقت عليه كل القوى السياسية الفاعلة والغالبية الساحقة من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني, قد قلب المعادلة من حالة اشتباك بين مضطهِد مستعمِر مستوطن إسرائيلي ومضطَهَد محتل فلسطيني إلى وضع بين "طرفين متساويين" يتصارعان على أراضٍ "متنازع عليها", و أن "الحوار" و "المفاوضات" من خلال وسيط أمريكي ستؤدي إلى "حل عادل". وأن على"الطرفين" "محاربة الإرهاب" للوصول إلى "سلام" يضمن "أمن إسرائيل". وبالتالي فإن على الطرف الفلسطيني "كسر الحواجز النفسية" و نزع "الحقد" الذي يزرعه من خلال تربية ومناهج تعليم "حاقدة" و"معادية للسامية!" والوقع الآن يشير إلى أن ما أوصلتنا إليه 21 سنة من المفاوضات بين طرفين غير متساويين هو الوضع التالي: إما قبول خطة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري, وهذا انتحار جماعي وتصفية بالضربة القاضية للقضية الفلسطينية برمتها من خلال الطلب من الطرف الفلسطيني (العبد) الاعتراف "بشرعية" نظام العبودية بالكامل, من احتلال وأبارتهيد واستيطان ويهودية إسرائيل, مقابل معزل عرقي منقوص السيادة ـ وكل المعازل بطبيعتها كذلك ـ على أجزاء من الضفة الغربية, أو عدم قبول الخطة ما سيؤدي إلى لوم الضحية, كالعادة, و بالتالي تعرضنا لهجمة شرسة مخيفة ستكون من أسوأ ما تعرضنا له تتخطى حسابات السعرات الحرارية التي سيُسمح لنا بتناولها يومياً!.

لذلك تأتي الأهمية القصوى لعملية تحرير العقل الفلسطيني. وهذا هو بالضبط ما تسعى له حملة المقاطعة بشكل عام, والحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل بشكل خاص, مواصلة ما بدأه ادوارد سعيد ومحمود درويش وغسان كنفاني وناجي العلي, وقبلهم العديد من المفكرين, في أعمال أدبية ونقدية تخطت القيود الأيديولوجية المحدودة, ومن حيث كونها امتدادا للنضال التحرري والكفاح الشعبي الذي مارسه الشعب الفلسطيني على مدار القرن المنصرم, ومن الدروس النضالية للشعوب التي عانت من أشكال مشابهة من القمع والأبارتهيد/الاستعباد. وهنا لا بد من الإشارة إلى الانجازات غير المسبوقة للحملة التي تعبر عن العقل الفلسطيني الحر الذي يقود المقاطعة الدولية بأساليب فعالة حققت اختراقات و قفزات فاجأت إسرائيل, وحتى أمريكا, وطبعاَ الداعين "للجيرة الحسنة". قبل عامين فقط كان انتقاد إسرائيل في الولايات المتحدة نوعاَ من المحرمات التي لا يمكن لمسها, والآن تتبنى خمس جمعيات أكاديمية أمريكية نداء المقاطعة, ناهيك عن حملات عدم الاستثمار التي يقودها طلاب جامعات ضد العديد من الشركات الإسرائيلية.  

اعلى الصفحة