|
|||||||
|
ربما بات مشروعاً التقدير بأن النقاط الوازنة والحاسمة التي سجلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد الغرب في أوكرانيا، وعدم التفاته إلى الضجيج الصاخب والتحذيرات التي أطلقتها العواصم المختلفة على ضفتي الأطلسي، تدشن، بشكل حاسم ونهائي، بزوغ فجر العالم الجديد المتعدد الأقطاب الذي تؤشر مقدماته على أن الولايات المتحدة، والغرب الواهن عموماً، لم تعد تملك القدرة على استخدام القوة المُكْلِفة والمشكوك بنجاعتها، وعلى إيقاف تقدّم المشروع الروسي- الحلم: إنشاء "اتحاد أوراسي" متين اقتصادياً، ومتفوق في الطاقة والأمن.. يفترض أن يضمّ إلى جانب روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا كلاً من أرمينيا وقيرغيزستان و.. أوكرانيا، والذي اتفق على توقيع أولى معاهدات توسّعه ربيع هذا العام (أي في الأسابيع والأشهر المقبلة) على أن يطلق رسميا في اليوم الأول من عام 2015، ما يضطر هذا الغرب، وفق المحللين المقربين من موسكو، إلى خلق الفوضى وتنفيذ الانقلابات، واستخدام المتطرفين اليمينيين والكتل الشعبوية، لتقويض سيادة الدول، وفرض حكومات عميلة له. مصالح وخرائط.. وأحلام متناقضة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية التي ظهَرها تراجع الرئيس المعزول فيكتور يانوكوفيتش عن توقيع اتفاقية الشراكة مع الأوروبيين، والذي فجَر احتجاجات ضده قادها المتطرفون القوميون الأوكرانيون في أواخر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، كان واضحا مستوى الابتزاز والانتهازية الذي يسم السياسة الأمريكية، واستعداد واشنطن الدائم للمقايضة، وصرف الفواتير في ملفات أخرى، والتضحية بمصالح من تسميهم واشنطن "الأصدقاء"، دون أن يترك ذلك كبير أثر على القواسم المشتركة ما بين الأمريكيين والأوروبيين حيال وضع حد لحلم الرئيس الروسي بإعادة إحياء الاتحاد السوفييتي، وتهيئة التربة المناسبة أمام انطلاق قطار المشروع الطموح المسمى "الشراكة الشرقية" الذي أطلقته دول الاتحاد الأوروبي في العاصمة التشيكية براغ في العام 2009، وفحواه تمدّد الاتحاد باتجاه بيلاروسيا، أذربيجان، أرمينيا، مولدافيا، جورجيا وأوكرانيا، وإدماج هذه الدول في المشروع الأوروبي، وربطها به اقتصادياً وسياسياً، ناهيك عن محاولة البحث عن اتفاقيات جديدة للتجارة الحرة تساهم في تعافي دول القارة العجوز من أزماتها المالية. ويظهر التدقيق في خريطة الدول الست التي يعمل الأوروبيون على التمدد نحوها مدى الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة التي تشكل الفضاء الحيوي لروسيا الاتحادية، اقتصاديا وعسكريا، فضلا عن أنها المدخل الأساسي للاتحاد الأوروبي نحو هذه البقعة الجغرافية التي تسمى "قلب العالم، كون "من يحكم شرق أوروبا يهيمن على منطقة القلب، ومن يحكم منطقة القلب(روسيا)، يسيطر على الجزيرة العالمية (أوراسيا)، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم كله"، حسب وصف مؤسس علم الجيوبوليتيك السير البريطاني هارولد ماكيندر، ما يفسر مدى ارتباط المصالح الحيوية الروسية بهذه الدول التي تتشارك نصفها حدودا جغرافية مع إيران، والباقي مع تركيا. ولأن أوكرانيا، وكما يقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ليست مجرد جار لروسيا، بل هي جزء أساسي من معادلات السياسة الروسية. ولا يمكن لروسيا بوتين أن تغض النظر أو تترك الاتحاد الأوروبي، يلعب في حديقته الخلفية، وعلى الغرب ومعه الأوكرانيون القوميون أن يعوا جيداً، أن مصير أوكرانيا هو أن تكون جسراً للتواصل بين الغرب وروسيا. وليس موقعاً للتجاذب والاستقطاب، كان لا بد من مراكمة الدب الروسي للأوراق الرابحة في جولة صراعه الحالية ضد الغرب في أوكرانيا، وفي مواجهة ما يعتبره الروس، حكومة غير شرعية في كييف تتألف من مجموعات يمينية متطرفة غير منتخبة ولا تمثّل غالبية الشعب، ومعادية لروسيا، ولا تملك أي مشروع اقتصادي أو سياسي مستقبلي تدير على أساسه البلاد. وكان الأبرز، في الإجراءات المتسارعة التي بدأت بحراك عسكري روسي في شبه جزيرة القرم حمل رسالة مفادها أن أمن البحر الأسود "خط أحمر"، وأن لا شيء يمكن أن يقف في وجه الحلم الروسي التاريخي بالسيطرة على موطئ قدم للوصول إلى "المياه الدافئة" في البحر المتوسط، عبر مضيق الدردنيل والبوسفور التركي، هو تصويت برلمان القرم بالإجماع على الانضمام لروسيا، والذي أعقبه استفتاء شعبي عام في شبه الجزيرة قرَر، من خلاله، 93% من أبناء هذه المنطقة الإستراتيجية التي كانت روسيَة قبل أن يقدمها الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف هدية لأوكرانيا السوفييتية عام 1954، الانفصال عن أوكرانيا، وتقديم طلب بالعودة إلى الحضن الروسي، وإعلان القرم "دولة مستقلة تحظى بسيادة مع نظام جمهوري للحكم"، وهو ما اعترفت به موسكو على الفور، ما يمهد لضمها إلى الاتحاد الروسي. الأوراق الروسية الرابحة ولعل من المهم الإشارة، في هذا المضمار، إلى أن الأبرز في الأوراق الروسية الرابحة، وبصرف النظر عن المعطيات التاريخية والجغرافية والاقتصادية والعسكرية التي تصب في مصلحة موسكو، يتلخص بالتالي: الاستناد إلى موارد طبيعية هائلة، وقدرات علمية وتقنية وصناعية وفضائية وعسكرية وثقافية؛ التحالف مع قوى اقتصادية وسياسية وثقافية وعسكرية هائلة، كالصين ودول "البريكس" التي تقدم رؤية شاملة للعالم أساسها مبادئ الشرعية الدولية والسلام والدبلوماسية؛ القدرة على قلب المعادلة في العديد من الملفات الدولية والإقليمية، من نمط ملف إيران النووي الذي تستطيع موسكو تجميد عضويتها في فريق 5 + 1، والشروع، تالياً، بتفكيك كامل للحصار عن طهران من خلال تعاون اقتصادي ودفاعي ثنائي، فضلا عن أن الوقائع على الأرض تفيد بأنه، وفي مقابل عزف الحملات السياسية والإعلامية الغربية على وتر "الحرب الأهلية" والتهويل بــ "التقسيم" وبـ "خرق بوتين للقوانين الدولية" و"اعتدائه على سيادة أوكرانيا"، كانت القوات المسلحة الروسية تثبت انتشارها في عدد من المواقع الإستراتيجية في شبه جزيرة القرم، مانحة زخما إضافيا لأسطولها البحري الذي يرابط في ميناء "سيفاستوبول"، والذي يعتبر الأكبر في منظومتها البحرية، كونه يضم 300 سفينة روسية من مختلف الأحجام، ويعمل في إطاره أكثر من 26 ألف جندي روسي من القوات البحرية والجوية. في كل الأحوال، وعلى الرغم من أن استفتاء القرم حفّز مواطني الأقاليم الشرقية الغنية في أوكرانيا (المعروفة باسم روسيا الصغيرة)، للسير على ذات الطرق الذي سلكه نظراؤهم في القرم والانشقاق عن المناطق الغربية الأوكرانية، وهو ما بدأت مقدماته في مدينة خاركوف التي طالب تجمع شعبي عُقد في ساحتها الرئيسية، بإجراء استفتاء لمنح المقاطعة وضعا فدراليا مع أوكرانيا. واتخاذ قرار من ثلاثة بنود هي، السلطة لشعب خاركوف، وإعادة السيطرة على كل الأجهزة الأمنية والجيش والمؤسسات الاقتصادية، إضافة إلى الطلب من روسيا إبلاغ العالم كله قرار إجراء الاستفتاء في خاركوف، إلا أنه (الاستفتاء) في المقابل، أشعل ضوءاً أحمر أمام العديد من الأوساط السياسية والإعلامية النافذة في واشنطن والاتحاد الأوروبي وتل أبيب، والتي تجزم بأن هزيمة واشنطن في هذه الجولة من شأنها تشجيع الروس على رفع منسوب دعمهم لكل من سوريا وإيران والعراق وكوريا الشمالية، فضلاً عن تدميرها ما تبقَى من ثقة الحلفاء بقدرة الولايات المتحدة على مساندتهم أو الأخذ بيدهم في خضم العواصف العاتية التي تجتاح خريطة العالم القديم في مختلف أنحاء العالم. وعليه، وبعد استخدام موسكو حق النقض (الفيتو) لوقف مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، يقضي ببطلان نتائج الاستفتاء بشأن انضمام شبه جزيرة القرم الأوكرانية لروسيا، قدمته الولايات المتحدة الأمريكية، تعالت الأصوات الغربية الداعية إلى معاقبة موسكو، وإجبارها على "دفع الثمن"، من خلال منح مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وبصورة سريعة وقبل فوات أوان الردع، وفق ما دعا السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام ونيوت غينغريتش، في مقال نشرته شبكة "CNN" الأمريكية، وإصدار أمر تنفيذي لتصدير الغاز الطبيعي الأمريكي إلى 20 دولة، وفي مقدمها الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز الطبيعي الروسي، وعدم تكرار سيناريو العجز الذي ظهر عندما "احتلت روسيا دولة جورجيا في العام 2008، وعندما تخطى النظام السوري "الخط الأحمر" الذي وضعة أوباما حول استخدام الأسلحة الكيماوية"، وفق ما يزعم الكاتبان. ولكن، هل أن مسألة الأزمة الأوكرانية واستفتاء القرم هما ملفا الخلاف الوحيدان ما بين أمريكا والغرب وبين روسيا؟ وهل بإمكان عواصم الغرب على ضفتي الأطلسي فرض عقوبات جدية يمكن لها إيذاء موسكو، وإجبارها على الرضوخ؟ ثم، أي حق لواشنطن في اتهام روسيا بشن "عدوان إمبريالي" على أوكرانيا، في الوقت الذي تنشر فيه الولايات المتحدّة قواها العسكريّة في قواعد مُقامة على أكثر من 135 دولة في العالم (هذا من دون الانتشار السرّي للقوّات الخاصّة مثل الصومال واليمن وغيرهما)، وتقوم بالعدوان على أية دولة في العالم لمجرد أنها تريد ذلك، فيما سمحت فرنسا لنفسها بالتمسك جزر القمر لأن استفتاء جرى في السبعينات، من القرن الماضي، أظهر أن واحدة من الجزر تفضل البقاء تابعة لفرنسا، علماً أنه لا روابط تاريخية أو ثقافية بين الجانبين، ناهيك بالبعد الجغرافي بينهما. وكذلك فعلت بريطانيا حيال جزر الفوكلاند، الملاصقة للأرجنتين، والمختلف على السيادة عليها منذ قرون، وذلك في مقابل حقيقة أن شبه جزيرة القرم روسية الجغرافيا والثقافة والتاريخ، وموقف روسيا من تداعيات الأزمة الأوكرانية على هذه الجزيرة يقوم على احترامها لإرادة مواطنيها الذين يشكل الروس أغلبية عظمى منهم. الغرب.. وحالة الإنكار! ما يمكن قوله، هو أن جوهر الأزمة الحقيقي ما بين الغرب وروسيا يتجاوز الأزمة الراهنة المتعلقة بأوكرانيا وشبه جزيرة القرم، والتي لم تكن سوى الفتيل الذي أشعل النار. فالغرب الذي تجاهل مصالح روسيا، لم يستطع، حتى الآن، الاعتراف بالتغيرات البنيوية الوازنة والتحولات الإستراتيجية التي وضعت سليلة الاتحاد السوفييتي في صف الأقوياء، وفتحت الأبواب واسعة أمام إعادة تشكيل خريطة الأقطاب الدولية، وما زال يصر على توسيع حلف الناتو باتجاه الشرق، وإدارة الظهر لمعادلة الأمن في أوروبا التي كانت ترتكز بصورة أساسية على اتفاقيتين هما اتفاقية الأسلحة التقليدية في أوروبا بين حلفي الناتو ووارسو واتفاقية عام 1972 للحد من الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. ودليل ذلك هو أن هذا الولايات المتحدة التي كانت تحيل نصبها الدرع الصاروخية في شرف أوروبا إلى ما تسميه "التهديد الإيراني"، لا تزال مصرة على المضي في هذا المشروع على الرغم من التوصل إلى اتفاق مرحلي مع طهران من شأنه إزالة كل المخاوف الغربية المزعومة من القوة العسكرية الإيرانية، ما يؤكد مشروعية المخاوف الروسية من هذا المشروع، واستهدافه قوة ردعها النووية التي ما زالت حتى اللحظة القوة الوحيدة التي تحول دون تحقيق واشنطن حلمها التربع على عرش السيادة الدولية في كل شيء وبلا منازع. وعلى الرغم من أن موسكو حرصت، طوال السنوات الماضية، على اعتماد الحوار كخيار وحيد لإيجاد مخرج من هذا الوضع الذي يهدد الأمن والاستقرار الدوليين ، وذلك من خلال تعديل اتفاقية الأسلحة التقليدية في أوروبا، واقتراح إقامة منظومة درع صاروخية مشتركة، وعقدت مئات جلسات المباحثات مع زعماء الغرب لإزالة العقبات والعراقيل من طريق تطوير العلاقات الثنائية مع واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي، إلا أن كل ذلك اصطدم بعنجهية الأمريكيين وحلفائهم الذين أظهروا عدائية واضحة نحو روسيا في كافة الملفات. وحتى في الحالة الأوكرانية، فقد رفض الغرب، منذ عدة أشهر، تقديم أية مساعدة لكييف قبل توقيع اتفاقية الشراكة، والقيام بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، وهو ما دفع الرئيس الأوكراني المعزول يانوكوفيتش إلى التوجه نحو روسيا. إلا أن أوروبا والولايات المتحدة سارعتا، بعد ذلك، إلى الإعلان عن التحضير لـ"خطة إنقاذ" مالية كبيرة تركز على الحاجات الطارئة في المدى القصير، أي تجنب إفلاس البلاد التي تعاني عجزا كبيرا في موازنتها مع ديون هائلة، مع تقديم بعض المساعدات العاجلة التي لا تلامس الحد الأدنى من احتياجات أوكرانيا التي بات يحلَق شبح الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة في أجوائها، ولاسيما بعد إعلان رئيس الحكومة الانتقالية أرسيني ياتسينيوك، أن بلاده على وشك الإفلاس، وأن الخزينة العامة فارغة، فيما وصل سقف الدين العام إلى 75 مليار دولار. أما بخصوص قضية العقوبات التي اقتصرت، حتى الآن، على توقيع الرئيس أوباما أمرا تنفيذيا بفرض عقوبات ضد شخصيات في روسيا وأوكرانية، والتلويح بمزيد من هذه العقوبات. وقيام الأوروبيين بإجراءات شبيهة، فينبغي التذكير بأن روسيا التي تملك إمكانات مالية كبيرة، وصندوقها الاحتياطي يحتوي على أكثر من600 مليار دولار، ووضعها الاقتصادي بحالة نهوض وتقدم، تمد الاتحاد الأوروبي بـ31% من وارداته من الغاز؛ و27% من البترول؛ و24% من الفحم؛ و30% من اليورانيوم، أضف إلى أن روسيا ثالث أهم مزود كهرباء لأوروبا. كما إن الاتحاد الأوروبي يمثل سوقا استهلاكية لـ 88% من الصادرات الروسية للبترول، و70ى رغم أن % من صادرات الغاز، و50% من الفحم. وعلى رغم أن لواشنطن باع طويل في قضية العزل عن الاقتصادات الصناعية الكبرى ونادي الدول الثماني، ناهيك عن تجميد الأرصدة والأصول، ووقف التعاون العسكري والاستخباري. غير أن هذا التأثير الأمريكي يبقى مقيداً بأغلال حاجة واشنطن الماسَة للحفاظ على استثماراتها في روسيا، وعدم قدرتها تعويضها في أي بلد في العالم، فضلاً عن أنّ روسيا مكتتبة بسندات الخزينة الأمريكية بنو 120 مليار دولار بإمكانها إذا عرضت بيع هذه السندات في السوق أن تدفع النظام المالي الأمريكي إلى الانهيار وإلى نهاية سيطرة أمريكا على النظام المالي الدولي، كما قال مستشار الرئيس الروسي سيرغي غلازييف. كما أن هذا التأثير، ووفق ما يؤكد السيناتور كريس مورفي، مسؤول لجنة العلاقات الأوروبية في مجلس الشيوخ الأمريكي، يبقى محدوداً ما لم يستكمل بتطويق أوروبي للروس، وهو أمر صعب التحقق في ظل تباين وتنوع مصالح الدول الأوروبية، حيث أن ألمانيا، التي تنشط لتسويق نفسها كوسيط يسهّل نزع فتيل الأزمة. تستورد أكثر من ثلث حاجتها من الغاز والنفط من روسيا، وأي تدهور في العلاقات يلامس العقوبات الدولية على موسكو من شأنه أن يضرب عصبا حيويا في الاقتصاد الألماني، كما أن دول أوروبا الشرقيةً التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي تمثل مراكز إنتاج رديفة للسلع الألمانية وأسواقاً واسعة لتصريفها في الوقت عينه، فيما يختلف الأمر مع دول أوروبية أخرى، فبريطانيا، على سبيل المثال، لديها اعتبارات سياسة مختلفة، على خلفية ارتفاع حجم الأموال الروسية السائلة والثابتة فيها، حيث تشير بعض التقديرات إلى تجاوز قيمة المشتريات العقارية من قبل رجال أعمال روس الخمسمائة مليون جنيه إسترليني. في المحصلة، وعلى الرغم من كل الضجيج الغربي المزنر بالمطامح والتطلعات، ثمة واقع ملموس يفيد بأن الدول الغربية غير قادرة على فرض عقوبات اقتصادية فعّالة من شأنها إيذاء دول هذا الغرب، قبل روسيا، ناهيك عن تقديمها المساعدة لأوكرانيا التي تعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة، وهي بحاجة إلى دعم اقتصادي ومالي عاجل جداً، وإلا واجهت الإفلاس، لاسيما وأن هذه الدول تعاني من العجز المالي، والعديد منها غارق في الديون، منها من أفلس (اليونان)، ومنها ما هو يواجه خطر الإفلاس (اسبانيا وايرلندا وإيطاليا)، وبالتالي إذا ما كانت هناك أموال لدى الدول المقتدرة مالياً، مثل ألمانيا، فستكون لدعم هذه الدول، وليس لأوكرانيا، لا بل أن موسكو هي التي يمكنها شن هجوم مضاد وتفعيل أوراق ضغط إضافية، في هذا المضمار. وكانت مقدمات هذا التطور قد بدأت بالتزامن مع المعلومات المتعلقة بـ"خطة الإنقاذ" الغربية لأوكرانيا التي تمرّر 80% من تجارتها إلى روسيا وعبرها، حين تحرك عملاق الغاز الروسي "غازبروم" وأدلى بتصريحات للصحافة الروسية حول تأخر كييف في تسديد ديونها المستحقة، قبل أن ينشر بيانا يعلن فيه أن الديون الأوكرانية المستحقة وصلت إلى 3.35 مليارات دولار. وقد اشتكت الشركة الروسية من أن نظيرتها الأوكرانية "نفتو غاز"، تخلفت في مواعيد إيفاء الديون، التي سبق وتم تأجيلها مرارا. وهو ما يمكَن من إعادة إنتاج سيناريو يقود في النهاية إلى قطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، وهو ما حصل في مرات عدة سابقا. ما بين الخيارات.. والسيناريوهات ويبقى احتمال لجوء الغرب إلى الخيار العسكري، سواء من خلال التدخل المباشر، أو عبر تقديم دعم جدّي للجيش الأوكراني يمكنه المس بالقدرات الروسية. وهذا الخيار، ووفق كل المعطيات والمؤشرات لا يملك أي حظوظ في الترجمة أو التحقق على أرض الواقع، فمن جهة كل الظروف العسكرية لمصلحة روسيا التي توجد قواتها في البحر الأسود وجزيرة القرم بموجب اتفاقيات، ولها حدود طويلة مع أوكرانيا، وتستطيع خلال وقت قصير السيطرة على المناطق الشرقية والجنوبية، حيث تملك تأييداً كبيراً لدى السكان. ومن جهة ثانية، لا يملك الغرب القدرة المالية للإنفاق على حرب مكلفة الموازين فيها ليست لمصلحته، وهو قرر الانكفاء عن شن الحروب البرية، بعد هزيمته في العراق، وفشله في أفغانستان، والأعباء المالية الضخمة التي تكبدتها أمريكا وحلفائها نتيجة لهذه الحروب، والتي دفعت واشنطن إلى اعتماد إجراءات تقشفية خفضت بموجبها عديد حجم الجيش الأمريكي إلى ما بين 440000 و450000 من العدد الحالي (520000)، وهذا يُعدّ أصغر حجم للجيش منذ 1940. وسيمس هذا التخفيض كل عناصر كل قوى القوّات المُسلّحة من دون استثناء، ناهيك عن قرارها بتخفيض الميزانيّة العسكريّة بنحو 500 مليار دولار في مدة عشر سنوات. في الاستخلاص، ما يجري اليوم في أوكرانيا يعيد إنتاج، وبشكل أكثر حدَة، نموذج جورجيا الذي ظهَر واقع عجز دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة عن نجدة حليفها الجورجي، عندما اجتاحت القوات الروسية إقليمي أوسيتيا وأبخازيا اللذين تقطنهما غالبية من المواطنين الروس، إثر محاولات الغرب لتشجيع الحكومة الجورجية على الانضمام إلى حلف شماليّ الأطلسي لمحاصرة روسيا من خاصرتها الجنوبية القوقازية. وهذا الغرب بات يدرك اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أن خياراته تجاه روسيا محدودة، رغم تلويحه بالعقوبات المؤلمة، ذلك أن دول الاتحاد الأوروبي معنية إلى حد كبير بالحفاظ على أعلى مستويات ممكنة من الأمن والاستقرار على البر الأوروبي، والتصعيد تجاه روسيا يتعارض مع هذه الرؤية. أما واشنطن، فهي مربكة لأنها لم تتوقع هذا التحول السريع في السياسة الخارجية الروسية من الدفاع إلى الهجوم، فضلا عن أنها لم تدرك اكتشاف روسيا عجز ديناصورات الإمبريالية المتهالكة عن التصدي، العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، وبالتالي، فهي لم تعد مهتمة كثيراً بالتفاهمات المحتملة، ولديها الآن مصلحة، في هذه اللحظة التاريخية الاستثنائية، بتسخين الملفات من إيران إلى سوريا إلى كوريا إلى الحرب على الإرهاب إلى الغاز إلى الدولار، الذي قرر الروس البدء بخفض التعاملات التجارية به، وسوى ذلك من الملفات التي تضمن تأكيد الحضور العالمي للاتحاد الروسي، وهو ما يضبط السيناريوهات المحتملة بالتالي: إدراك دول الغرب عجزها، والقبول بتسوية للأزمة على قاعدة الرضوخ لشروط موسكو بتحييد أوكرانيا؛ أن يرفض الغرب مثل هذه التسوية، ويواصل دعم المتطرفين النازيين الأوكرانيين الذين سيندفعون لتنفيذ اعتداءات على المواطنين الروس، ما يستجلب تدخلاً لحمايتهم، تفضي إلى السيطرة على المناطق الشرقية والجنوبية، إلى جانب شبه جزيرة القرم، وتقوم روسيا عندها بالتفاوض مع الغرب من موقع أقوى وتفرض شروطها لحل الأزمة؛ اكتفاء روسيا باستنفار قواتها للتدخل، وسيطرتها على القرم، واستخدام سلاح الاقتصاد والغاز للإخلال بموازين القوى في أوكرانيا لمصلحة حل الأزمة وفق وجهة نظرها. كاتب فلسطيني(*)
|
||||||