|
|||||||
|
يعترف خبير إستراتيجي أمريكي بأن ما حدث في الدول العربية تحت مسمى "الربيع العربي" بدأ بمشروع وثائق ويكيليكس الذي انطلق من البيت الأبيض، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة وقعت في مأزق كبير، لأن كل دول العالم تسعى للتخلص من السيطرة الإمبريالية الأمريكية. جاء ذلك في العرض الذي قدمه الإعلامي المصري محمد موسى في برنامج "خط أحمر" بالتلفزيون المصري. ويضيف الخبير الإستراتيجي أن دول الشرق الأوسط اتجهت إلى دول أخرى خارج الإمبريالية الأمريكية مثل الصين وإيران وروسيا وغيرها، لافتاً إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات قالت: إذا لم تطعنا دول الشرق الأوسط فسوف ندمرها. وكشف الخبير الأمريكي، أن كل أحداث القلاقل في دول الشرق الأوسط والدول العربية هي من فعل تلك المخططات، موضحاً أنها مشاريع لزعزعة الاستقرار وليست ثورات. وتابع قائلاً: الحكومة الأمريكية بكل مغامراتها الإمبريالية والحروب البغيضة في أفغانستان والعراق وباكستان، فهم يستخدمون القاعدة كبديل للتواجد البرى هناك، والتي أصبحت القوات البرية للمشروع الأمريكي الإمبريالي والتي قد تتحول ضد أمريكا، لافتاً إلى أن أعضاء القاعدة يعيشون في "بركة" تحتوى على المتطرفين والمختلين والمجرمين والمرتزقة والعملاء المزدوجين، وهو ما يضر بالولايات المتحدة على المدى الطويل. انسحاب أمريكي تدريجي يقول الكاتب الإسرائيلي آري شبيط في مقال له في صحيفة هآرتس بتاريخ 7\2\2014: "يختلف الجناح الغربي من البيت الأبيض، في عهد أوباما، عن كل جناح غربي سبقه، فهو مليء بالشباب والنساء والسود وذوي الأصول الاسبانية والمثليين، ولا يكاد يوجد رجل ابيض كبير السن. ولا يكاد يوجد أشخاص يجسدون صور القوة القديمة. وتروي امرأتان تتحدثان بينهما بلغة الإشارات القصة كلها: فالإدارة الحالية هي إدارة أقليات ومبعوثي الآخرين وليبراليين يلتزمون بالمساواة والحرية والعدل الاجتماعي. إن أمريكا الثانية التي كانت هنا قبل خمس سنوات أصبحت أمريكا الأولى". هكذا يبدو أشخاص مثل نتنياهو كالديناصورات، ويبدو إسرائيليون مثل أوري اريئيل مثل الغيلان. فلم تعد توجد نقطة تماس شعوري ولا نقطة تماس قيمي بين الحزب الحاكم الإسرائيلي والحزب الحاكم الأمريكي، ومنظومة العلاقات بين الاثنين هي مواجهة قوية مُرة قد تكون آثارها كارثية. وقد وضع على الطاولة مسارَيْ تصادم هما إيران وفلسطين. ففي الموضوع الإيراني: هل ستستعمل إسرائيل مجلس النواب كي تفرض على الرئيس أهدافها في التفاوض مع الجمهورية الإيرانية؟ قد تكون إسرائيل قادرة على فعل ذلك؛ فما زال مجلس الشيوخ ومجلس النواب مصغيين جدا للكلام الذي يقوله رئيس وزراء إسرائيل. لكن إذا انتصر نتنياهو حقاً على أوباما في الحرب على تل الكابتول فإن هذا الانتصار قد يكون انتصاراً مؤلماً. فالجمهور الأمريكي المتعب المبغض للعنف قد ينشئ عداوة للحليفة الصغيرة البعيدة التي تجره إلى مواجهة عسكرية غير مفهومة قبل الأوان. وقد يفجر الإيرانيون من جهتهم مسيرة جنيف ويلقون التهمة على إسرائيل. وحينما ينتقض الحلف الغربي وينهار نظام العقوبات، حيث سيُرى نتنياهو أنه هو الذي أحدث الأزمة. وبدل أن يحاصر المجتمع الدولي والأمة الأمريكية الجمهورية الإسلامية قد يحاصران الكيان الصهيوني. وفي الموضوع الفلسطيني: هل تبرهن إسرائيل آخر الأمر على أنها تجابه الاحتلال أم تُرى بصورة قاطعة أنها تؤبد الاحتلال؟ إن استمرار الاحتلال ليس خياراً عند الشباب والنساء والسود وذوي الأصول الاسبانية والمثليين في الجناح الغربي. والاستيطان عند الأمريكيين الجدد هو منديل أحمر. وما عاد يمكن الاستمرار في المؤامرة المشتركة وفي جر القدمين وفي كسب الوقت. إن إسرائيل على بعد لمسة عن الإقصاء الدولي وإدارة أمريكا المتقدمة ظهرها لها. ولا يهم هل ذلك عدل أم لا، ولا يهم هل هو صحيح أم لا، فهذه هي الحال. فإذا استقر رأي قطار إسرائيل على السير في السكة التي تفضي به إلى صدام وجها لوجه مع "أمترك" فانه سيجلب على نفسه حادثة نتائجها معلومة مسبقا. ليس للكيان الإسرائيلي كنز سياسي أمني أو انجاز سياسي وجودي أكبر من علاقاتها بالولايات المتحدة. وليس لإسرائيل مصلحة وجودية حيوية أكبر من تأمين هذه العلاقات وحفظها وتعزيزها. وفي نطاق "العلاقات المميزة" كان الكثير من المنازعات والاحتكاكات في بين إسرائيل والولايات المتحدة منذ 1948، وكانت مواجهات حقيقية وشخصية ووهمية خدمت قضية محددة أو هدفا لحظيا، وكانت احتكاكات على الجوهر والمضمون ومشاجرات صغيرة على صورة وأسلوب وكراهية شخصية بين أشخاص. ويقول الصهاينة إنه انصرف الكثير من العداوة إلى وزراء خارجية الولايات المتحدة. حيث يعتبرون أن وليام روجرز باع إسرائيل بخطة روجرز في بداية سبعينيات القرن الماضي. ويقولون إن هنري كيسنجر كان يهوديا غارقا في كراهية الذات. ويأخذون على جورج شولتس اعترافه بمنظمة التحرير الفلسطينية. ويصنفون جيمس بيكر بأنه كان من أكبر كارهي إسرائيل في التاريخ. ويزعمون أن وورن كريستوفر عرض أمن إسرائيل للخطر. ويدعون أنه كان لهيلاري كلينتون حساب شخصي مع نتنياهو (أشد من مجرد عداء لإسرائيل). وأخيراً يصورون جون كيري بأنه من مضطهدي اليهود. كما يتحدث الإسرائيليون في أحيان متقاربة جداً عن أزمة "لم يسبق لها مثيل" وقطيعة "لم نر مثلها"، ويكون التقدير في أكثر الحالات مبالغاً فيه ويكون العنوان الصحفي مفرط المبالغة. لكن فيما يتعلق بالهجوم الشخصي على وزير الخارجية الأمريكي، لم يحدث مثل هذا الشيء من قبل في الحقيقة لا في إيقاعه ولا قوته ولا فظاظته ولا سفوره ولا بشعوره بالمرارة والحقد، ولا في سعة الهجوم وعدم المنطق وعدم الأساس فيه في الأصل. إن الحكومة الإسرائيلية تُصادم علناً ووجهاً لوجه وزير خارجية الولايات المتحدة لا بتسريبات أنباء ولا بأحاديث مستورة ولا بإهانة صغيرة أو انتقاد جوهري. وكل شيء شخصي: فـ"كيري يعمل في غير مصلحة إسرائيل ويبحث عن الشر لها ويعرضها للخطر ويهددها بالقطيعة والانتفاضة والعزلة..". فوزير الحرب الصهيوني بوغي يعلون نعت كيري بأنه مسيحاني وموسوس من المراد أن يحصل على جائزة نوبل كي يدعنا وشأننا. وهاجم وزير الشؤون الإستراتيجية والعلاقات الدولية يوفال شتاينيتس كيري الذي يُلصق مسدساً بصدغ إسرائيل. وقال وزير الشؤون الاقتصادية نفتالي بينيت مقولة تاريخية وهي أنه لم يتخل قط شعب عن مصالحه الحيوية لأسباب اقتصادية. وانتقد رئيس الوزراء كيري لأسلوبه. واتهمه بعضهم بلغة معادية للسامية بعد أن تحدث في مؤتمر الأمن في ميونيخ عن خطر القطيعة، والعقوبات وعزلة إسرائيل. إن المواجهة الحالية بادي الرأي قد تصل بمخطط كيري وهو ورقة مباديء سياسية لا تختلف عن مخطط كلينتون الذي نشر في كانون الثاني 2001 على إثر مؤتمر كامب ديفيد في تموز 2000، أو التفاوض الذي جرى بين أيهود أولمرت وأبو مازن في 2008. والمواجهة في واقع الأمر هي بسبب شيء أكبر، فقد أخذت تنشأ بين إسرائيل والولايات المتحدة تغايُر مصالح في الشرق الأوسط يعبر عنه في جزء منه انسحاب أمريكي تدريجي من المنطقة، وهو انسحاب تعبر إسرائيل في مواجهته عن خشية من الهجران. تنسحب الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط لثلاثة أسباب واتجاهات: الأول، استقلال الطاقة: فلن تحتاج الولايات المتحدة في 2016 2017 ولن تستهلك نفطا مصدره الشرق الأوسط. فهي ستصبح أكبر منتجة للنفط في العالم، أكبر من روسيا والسعودية. وهي أكبر مستهلكة للنفط في العالم لكن كل نقص أو زيادة في الطلب ستلبيهما كندا والمكسيك. أو بعبارة أخرى إن المقولة القديمة التي تقول إن الولايات المتحدة لها مصلحة في أن تزود بالنفط من الشرق الأوسط بصورة منتظمة لم يعد لها صلة بالواقع. والسبب الثاني: أن الولايات المتحدة مجروحة ونازفة بسبب تدخلات في الشرق الأوسط: في العراق وأفغانستان وإسرائيل الفلسطينيين ومصر. وقد ضاقت الولايات المتحدة ذرعاً بذلك وهي متعبة ولا ترى مصالح حيوية تُمتحن أو على خطر أو ينبغي إحرازها في المنطقة. هذا إلى أن النظر في الشرق الأوسط في 2014 يُبين أن القوى الثلاث القوية المهيمنة من جهة القوة في المنطقة ليست عربية، وهي إسرائيل وتركيا وإيران. ولهذا حدثت صحوة من الاشتغال بالعالم العربي. ولوحظ هذا التوجه جيداً في السياسة الأمريكية الموجهة نحو مصر وليبيا وسوريا، فالذي يرى في إسرائيل والسعودية ترددا وعدم زعامة كان في واقع الأمر انعكاساً لسياسة خارجية جديدة. والسبب الثالث هو أن مركز الانتباه والمصالح الأمريكية نُقل إلى الشرق الأقصى. فقد أصبحت الصين وشبه الجزيرة الكورية، وتايوان وجنوب شرق آسيا هي العقد التالي للسياسة الخارجية الأمريكية. ولهذا لم تعد الحليفة التالية للولايات المتحدة هي إسرائيل بل ولا بريطانيا بل استراليا، واليابان بقدر ما. ليس هذا مساراً سريعاً ولا يلاحظ التغيير في مدة قصيرة. فالمشايعة الأمريكية لإسرائيل واسعة عميقة لكن تجري عليها تغييرات لأن أمريكا تجري عليها تغييرات سكانية وثقافية وتصورية. وفيها زعزعة وفيها صدوع. فالحكمة السياسية والتاريخية تكون بالاعتراف بوجود المسار ومحاولة تبطئته بقدر المستطاع. بيد أن نتنياهو ويعلون وشتاينيتس وشركاءهم يفعلون عكس ذلك تماماً، فهم يُسرعون المسار. حينما قال يعلون في ميونيخ: "إذا لم توجد تسوية فسنسوي أمورنا" لا يعبر فقط عن عدم إحكام، وعن مقولة لا بأس لا تقلقوا، باللغة الإسرائيلية. بل يقول للأمريكيين: لا تجهدوا أنفسكم، فلا حاجة لذلك لأنكم تشوشون علينا. وحينما تقول إسرائيل "لن نُمكن إيران من أن تصبح دولة ذرية" تعفي الولايات المتحدة من التزامها ألا تُمكن من ذلك. وحينما يتهم وزراء كيري بسياسة تخالف المصلحة الإسرائيلية فإنهم يجعلون مصالح الدولتين تتضارب ويُسوغون للولايات المتحدة في واقع الأمر ألا تتدخل. فشل الإستراتيجية الأمريكية أمام نمو المخاوف الأمريكية والإقليمية من نفوذ "القاعدة" في سورية، وأيضاً تشنج العلاقة الروسية - الأمريكية، أطلقت واشنطن مراجعة لخياراتها في سورية وفشل محادثات جنيف في تحقيق اختراق دبلوماسي، قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يوم الجمعة 14\2\2014، إن الرئيس باراك أوباما طلب بحث خيارات جديدة للسياسات الأمريكية في سورية لكن لم يطرح أيا منها عليه بعد. وقال كيري للصحفيين "أوباما قلق بسبب تدهور الوضع في سورية وكذلك نظرا لأن محادثات جنيف2 لم تؤد إلى بحث تشكيل هيئة حكم إنتقالي كما كان مقررا"، وأضاف "وكنتيجة لذلك فقد طلب منا أن نفكر في خيارات عدة قد توجد وقد لا توجد". وتؤكد مصادر موثوقة لـوسائل الإعلام، أن هناك إدراكاً ضمنياً بفشل الإستراتيجية الأمريكية الحالية، وتنامي حجم الأزمة في سورية داخلياً وإقليمياً. وتشير إلى أنه من وجهة نظر الإدارة "ليست هناك خيارات جيّدة اليوم لسورية بالنسبة للولايات المتحدة... واللائحة تراوح اليوم بين احتواء ما هو سيئ وتفادي السيناريوهات الكارثية". وتشير المصادر الموثوقة إلى أن المعطيات الحالية من جنيف والمخاوف الميدانية المتمثلة بما تحقق مؤخراً للجيش السوري النظامي فرضت المراجعة الجديدة. وتقول إن "الإدارة بدأت إرسال أسلحة خفيفة للمعارضة المعتدلة وتدرس خطوات دبلوماسية لزيادة الضغط على روسيا وإيران". وتؤكد المصادر أن "واشنطن ترى بوضوح تصعيداً إيرانياً في المنطقة بغض النظر عن المفاوضات النووية (الجارية معها). كما أن واشنطن خاب أملها من اللاعب الروسي، ومن هنا فإنها تعيد النظر في خياراتها في سورية". ويعتبر كيري من أبرز المحبّذين لهذه المراجعة، وهو كان أكد خلال زيارته الأخيرة للصين أن أوباما "طلب منا جميعاً أن نفكّر في خيارات عدة قد توجد وقد لا توجد. الرد على السؤال: هل هي قُدمت. لا لم تُقدّم. لكن عملية التقويم بالضرورة - ونظراً إلى الظروف - جارية في الوقت الراهن". وتقر الولايات المتحدة بأن سياستها في سورية لا تحقق نجاحاً في الوصول إلى مرحلة انتقالية. وتؤكد المصادر الموثوقة اقتناع الإدارة بأن ليس هناك من حلول عسكرية في نهاية المطاف وأن أي تدخل خارجي يشارك فيه الجيش الأمريكي "بات متأخراً". إلى ذلك قال المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني في واشنطن إن أوباما يتوقع أن يجري فريقه للأمن القومي بشكل مستمر إعادة تقييم للخيارات السياسية بشأن سورية وقضايا أخرى. وأضاف كارني "إن الوزير كيري كان يؤكد وضعا قائما بشكل دائم وهو أن الرئيس ينظر دائما في الخيارات بشأن أمور سياسية مثل سورية" وتابع قائلا "هذا أمر لا يحدث لمرة واحدة، هذه ليست مراجعة جديدة." من جهته قال الأميرال جون كيربي المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إن البيت الأبيض "مهتم بالتوصل إلى خيارات أخرى للمضي قدما بشأن سورية". وأضاف أن سفن وطائرات الولايات المتحدة لا تزال في البحر المتوسط وإنها متاحة للرئيس إذا احتاج للخيار العسكري لكن المراجعة الحالية هي مجرد نظرة شاملة للقضية من جانب أجهزة حكومية مختلفة. وكان أوباما قال في مؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولوند في واشنطن يوم الثلاثاء 11\2\2014 في معرض حديثه عن الوضع في سورية "لا أحد ينكر أن هناك قدرا كبيرا من الإحباط". إعادة ترتيب الأولويات يعتبر كثير من الخبراء والمحللين أن أمريكا في حالة انحدار نسبي، لكن هذا لا يعود إلى صعود الصين والهند والبرازيل وبقية سرب النمور، بل إلى أوضاع الولايات المتحدة الداخلية، على الصعيدين السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي. فآسيا الصاعدة لا تزال في حاجة إلى سنوات عدة كي تصل إلى موازنة القوة الأمريكية عسكرياً واقتصاديا. وكما هو معروف فانحدار قوة عظمى لا يُؤدّي بالضرورة إلى زوالها من الوجود، إلا إذا ما برزت قوة أو قوى أخرى قادرة على الحلول مكانها، وهذا ما لا يبدو حالياً في أي أفق قريب أو على الأقل خلال عقدين أو ثلاثة عقود من الآن. هذا التمييز بين التراجع والانسحاب ضروري كي لا يقع المرء في استنتاجات متسرّعة. صحيح، كما يقول الباحث مايكل هدسون، إن العالم يشهد تحولات ضخمة في موازين القوى بسبب صعود القوى الكبرى الآسيوية الثلاث (الصين والهند واليابان) معاً للمرة الأولى في التاريخ، إلا أن الصحيح أيضاً، أن أيّاً منها أو حتى كلها مجتمعة، لا تطمح ولا هي قادرة على الحلول مكان الزعامة الأمريكية في العالم في المرحلة الراهنة. الآن، وطالما أن الصورة على هذا النحو، كيف يُمكن تفسير ما نرى من انحسار أمريكي حقيقي وكبير في الشرق الأوسط، تجلى بأوضح صورة في تراجع الرئيس أوباما عن حماية خطوطه الحمر في سوريا وخطوطه الزرق "الديمقراطية" في مصر وتونس وحتى في منطقة الخليج، ثم عن خطوطه البيضاء (السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين)؟ أليس كل ذلك دليلاً على الانحدار التاريخي الأمريكي؟ الجواب: كلا! أو ليس بعد على الأقل. فالتراجع ( Retrenchment) أو تقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، ناجم عن جملة عوامل تتعلق كلها بقيام إدارة أوباما منذ سنوات خمس بإعادة رسم الأولويات الأمريكية في العالم، وليس بالتخلي عن زعامة هذا العالم، لا بل إن الهدف هو تعزيز وتقوية هذه الزعامة. لقد وصل أوباما إلى الحكم وهو على قناعة بأن حربي العراق وأفغانستان منعتا الولايات المتحدة من تركيز الموارد في آسيا، التي تعتبر منطقة مركزية للمصالح الإستراتيجية والاقتصادية الأمريكية، وهذا دفعه إلى إعادة ترتيب أولويات الولايات المتحدة والاعتراف بالحقائق الجيو- سياسية المتغيرة للقرن الحادي والعشرين. هذا التوجه الجديد لا يقتصر على الجوانب العسكرية، بل يطال أيضاً المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية وتعزيز العلاقات مع الحلفاء التقليديين وبناء علاقات أعمق مع القوى الصاعدة، بما في ذلك الصين، وتنويع المواقع العسكرية للولايات المتحدة. كما أنه (أي التوجه) يهدف إلى التركيز على الأهمية الجيو- سياسية لمنطقة المحيط الهندي، بوصفه الطريق الرئيسي للتجارة العالمية. وقد دعمت واشنطن تطور علاقات أكثر وثوقاً بين الهند وبلدان جنوب ووسط آسيا. كذلك في حقبة التقشف المالي الذي تمر بها الولايات المتحدة، سيتطلب التركيز على منطقة آسيا - الباسيفيك خفض الالتزامات الأمريكية في باقي مناطق العالم، وأيضاً على الطلب من حلفائها وشركائها في هذه المنطقة تحمُّل مسؤوليات إضافية. وهكذا يتعيّن على جيوش دول مثل أستراليا واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايلاند، أن تساهم بشكل أكبر في الأمن الإقليمي على مستويات متوافقة مع إمكاناتها. ما سبق ذكره عبارة عن أسس وقواعد الإستدارة شرقاً نحو آسيا التي بدأت إدارة أوباما بتطبيقها، وهي تتكوّن، كما هو واضح، من عنصرين اثنين: العمل على إصلاح وتصحيح مسار الاقتصاد الأمريكي في الداخل، وتقليص النفقات والأعباء والالتزامات الأمريكية في الخارج، وهذا يشي بأننا نقف بالفعل أمام مرحلة جديدة في التوجهات الخارجية الأمريكية، قوامها الضبط الاقتصادي "القومي" في الداخل وخفض الالتزامات (والحروب) الأمريكية في الخارج وإعادة تركيب نظام العولمة الأمريكي، بما يخدم هدفين في آن معاً: احتواء صعود الصين ومواصلة ترسيخ الزعامة الأمريكية على العالم. ونسأل: ما تأثيرات سياسة "الاستدارة" الأمريكية نحو آسيا على توجّهات واشنطن في الشرق الأوسط؟ الواقع، أن الولايات المتحدة تعتبر أصلاً أن منح الأولوية في سياستها الخارجية لمنطقة آسيا -الباسيفيك، فرض عليها سحب كل قواتها من العراق وأفغانستان وإغلاق ملف الحرب فيهما، التي استنزفت الخزينة الأمريكية بمبلغ تجاوز التريليوني دولار. وبالطبع، حين تقرر واشنطن الانسحاب من هاتين الحربين ونقل الموارد منهما إلى منطقة الباسيفيك، فلا يتوقع أحدٌ منها أن تنغمس في وقت قريب في حروب أو نزاعات أخرى في الشرق الأوسط، إلا إذا ما تطلّب الأمن القومي ذلك أو تعرَّض وجود إسرائيل أو المصالح النفطية إلى تهديد جدي. وهذا بالتحديد على أي حال، ما فعلته إدارة أوباما خلال السنتين الماضيتين. بعد العراق وأفغانستان، يفعل باراك أوباما تماماً ما فعله ريتشارد نيكسون بعد فيتنام، حين عمد هذا الأخير إلى تقليص الالتزامات الأمنية - العسكرية الأمريكية المباشرة في العديد من بقاع العالم و"لزّمها" إلى قوى إقليمية مُوالية للولايات المتحدة، شاه إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط، والبرازيل في أمريكا اللاتينية وتركيا في البلقان وآسيا الوسطى وحلف الأطلسي في أوروبا وجنوب إفريقيا والمغرب في القارة السمراء. والآن، يُتوقع أن يفعل أوباما الأمر نفسه في الشرق الأوسط، الذي كان محور الاهتمامات المركزية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة في عام 1991. فهو سيعتمد أكثر فأكثر على تركيا في منطقتي الشرق الإسلامي (الدول العربية ودول آسيا الوسطى)؛ وسيكون مهتماً أكثر من أي وقت مضى بدمج إسرائيل في المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية من خلال دفعها إلى التحالف مع الدول العربية و(مجدداً) مع تركيا؛ وسيُواصل العمل على "تفليس" إيران وتجويعها بهدف دفعها في نهاية المطاف إلى الجثو على ركبتيها أو التعرُّض إلى الانفجار من داخلها، في حال لم تتوصل المفاوضات الراهنة معها إلى "صفقة كبرى" جديدة. وكل ذلك، بهدف تقليص الأعباء الأمريكية في هذه المنطقة ونقل الموارد الضخمة التي خُصّصت لها في السابق إلى منطقة آسيا - الباسيفيك وإلى الداخل الأمريكي. بالطبع، هذا لا يعني أن أمريكا ستُدير الظهر للشرق الأوسط. فطالما أن هناك قطرة نفط واحدة هناك، ستبقى هذه المنطقة كأمن قومي أمريكي على رأس أولويات الولايات المتحدة، بسبب الدور الكبير للنفط في تحديد من سيكون الأقدر على الإمساك بقارة أوراسيا من عنقها (خصوصا أن من يُمسك بهذه القارة يحكم العالم). وبالمثل، طالما أن إسرائيل باقية على خريطة الشرق الأوسط، فستكون أي إدارة أمريكية مُلزمة بالاهتمام بهذه المنطقة لاعتبارات محلية أمريكية وإستراتيجية عامة وأمنية. المثير والجديد في موضوع مكانة أمريكا الدولية أنه أصبح إحدى القضايا التي يهتم بها الرأي العام. تكمن أهمية هذا التطور في أن قطاعاً كبيراً من الرأي العام الأمريكي، بعد قرون من اعتناق الحلم الأمريكي كعقيدة وأسلوب حياة، ينضم الآن بتدرج محسوس إلى المشككين في ديمومة هذا الحلم أو إمكانية تحققه في المستقبل، إذ يشير أحد استقصاءات الرأي الأخيرة إلى أن الشعب الأمريكي يعترف الآن بأن الصين يمكن أن تصبح بعد سنوات قليلة الدولة الأعظم في العالم، لتحل محل الولايات المتحدة. هكذا أعرب 36% من عينة الاستقصاء، بينما أعرب 42% عن أن أمريكا ما زالت القوة الأعظم. قد لا يرى الكثيرون خارج الولايات المتحدة المغزى الكبير لهذا التحول في نظرة الشعب الأمريكي لمكانة وطنه في العالم كما يراها ويعبر عنها محللون وقادة رأي لهم مكانتهم في المجتمع الأمريكي. لاحظت مثلاً وبانتباه شديد كيف أن كاتباً أمريكياً كبيراً وقديراً مثل فريد زكريا، يكتب الآن عن "عصر ما بعد أمريكا"، بعد أن كان حتى عام 2004 يكتب عن "أمريكا القطب الأوحد". بل إن كاتباً آخر مثل نيال فيرغسون، المعروف بإيمانه العميق بالرأسمالية الأمريكية وقدراتها الخارقة يكتب عن أمريكا "الدولة العظمى المتقاعدة"، وإن كان يعتقد أن الرئيس باراك أوباما مسؤول شخصياً عن هذا التراجع في مكانة أمريكا الدولية. أثار انتباهي أيضاً أنه صار يستخدم عبارات تحمل معنى أن التاريخ قد يسجل المرحلة القادمة في تطور العالم تحت عنوان "القرن الصيني". في الوقت نفسه يستبعد فيرغسون أن يكون وراء "التراجع" الأمريكي فساد الأسواق المالية والمصارف الأمريكية أو نقص في روح العمل والإنتاج والإبداع، أو نهاية ما يسمى "الجيل الأعظم"، ويقصد به جيل الحلم الأمريكي وظهور جيل جديد واقعي النظرة والتطلعات، إنما يعود التراجع في رأيه إلى حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن العالم الخارجي ينهض. أمريكا تنمو ولكن الآخرين نهضوا وها هم ينتجون ويبدعون. كثيرون في أمريكا وخارجها يعتقدون أن الكونغرس مسؤول عن تراجع مكانة أمريكا بسبب الفوضى الناشئة عن تدخلات جماعات الضغط والمصالح وتداخلات أنشطتها، وبسبب تدهور كفاءة أعضائه شيوخاً كانوا أم نواباً. يعتقدون، وبينهم خبراء وباحثون متخصصون في الشأن الداخلي الأمريكي، أن نخبة الساحل الشرقي، وهو الاسم الذي يطلق عادة على قادة الثقافة والسياسة والفكر والمال في الولايات المتحدة، دخلت مرحلة انحدار على المستويات كافة، الأمر الذي يثير مقارنة عفوية بمثيلاتها من النخب في الدول العربية، وبعضها يتحمل مسؤولية النكسات المتتالية لكثير من ممارسات النهوض الثوري وجهود التغيير في عدد متزايد من الدول العربية. يضيف هؤلاء عنصراً يعتقدون أنه لعب دوراً في التعجيل بتدهور مكانة أمريكا الدولية، وهو أداء مؤسسة الرئاسة في عهد أوباما. يلفت النظر أن المذكرات التي نشرها روبرت غيتس وزير الدفاع السابق في كتابه بعنوان "الواجب" جاءت لتؤكد اتهام مؤسسة الرئاسة بالمسؤولية عن انحدار المكانة الأمريكية في المجتمع الدولي. يميل مفكرون ومعلقون آخرون إلى أن الانحدار الأمريكي في الساحة الدولية، إنما هو قبل أي اعتبار آخر انعكاس مباشر لتآكل البنية التحتية للمجتمع الأمريكي. من هؤلاء توماس فريدمان كبير معلقي صحيفة "نيويورك تايمز" الذي يدعو معهم إلى التجديد وممارسة الإبداع وبناء هياكل تحتية جديدة في كل القطاعات ومواقع الإنتاج وتطوير طرق ووسائل المواصلات وتنويع مصادر الطاقة. بمعنى آخر، يدعون إلى تقوية أمريكا في الداخل لتقوى في الخارج وتعود نموذجاً يحتذى. |
||||||