محنة العلماء على أيد الحكام والدهماء

السنة الثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: الشيخ مصطفى ملص

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

المحن والابتلاءات إحدى وسائل تثبيت الإيمان في صدور الرجال وقد حدثنا القرآن عن الابتلاءات لتمحيص الإيمان، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(آل عمران: من الآية 179).

وقال أيضاً: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾(آل عمران: من الآية 154). وقال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(*) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(العنكبوت 2-3). أما الحديث النبوي الشريف فقد قال(ص): "أشد الناس بلاءً النبيون ثم الأمثل فالأمثل".

فالمحن إذن هي إحدى وسائل تمحيص الإيمان وتحديد قدرة المؤمن على الصبر في مواجهة الشدائد والصعاب، لذلك عندما نستعرض تاريخ الأئمة والعلماء نجد مصاديق هذه الآيات في علماء تعرضوا لأشد أنواع الابتلاء حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الموت في غياهب السجون، أو الموت قتلاً من قبل أهل الطغيان والفساد.

فأئمة المذاهب الأربعة لاقى كل واحد منهم التعذيب والتنكيل على أيدي أصحاب السلطة، فقد سجن أبو حنيفة لرفضه تولي القضاء أيام بني العباس، وامتحن الإمام أحمد ابن حنبل في قضية القول بخلق القرآن التي قال بها المعتزلة. وتعرض الإمام الشافعي لغضب أهل السلطة بدعوى حبه لأهل البيت.

ولم يكن وضع الإمام مالك بن أنس بأفضل من سواه، ولاقى الإمام النسائي صاحب الحديث حتفه على يد الدهماء في الشام لوضعه كتاباً جمع فيه الأحاديث النبوية في مناقب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أما الإمام البخاري فقد امتحن أيضاً في قضية القول بخلق القرآن وممن ذكر أنهم تعرضوا للمحن علماء مثل ابن عربي وابن تيمية، ولا بد من ذكر سعيد بن جبير ومحنته مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وفي زمننا الحاضر تعرض كثير من العلماء إلى الاتهام بالردة أو الزندقة مثل المفتي حسن خالد، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ومحمد باقر الصدر، ومحمد صادق الصدر، والسيدة بنت الهدى، وكم من علماء ماتوا في سجون الظالمين دون أن يعرف حالهم أو ينتشر ذكرهم، ولو شئنا لهم إحصاءً في كل بلاد المسلمين لما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

ومما يلاحظ من النماذج التي أوردناها على سبيل المثال أن هؤلاء العلماء لم تكن معاناتهم على أيدي الكفار والمشركين، بل كانت على أيدي الحكام من المسلمين أو بتسليط الدهماء والغوغاء والجهلة عليهم وهكذا يتبين لنا أن تاريخ أمتنا مع العلماء والدعاة ليس هو التاريخ الذي يمكن لنا معه أن نتباهى بممارسات حكامنا تجاه علماء الأمة، بل هو تاريخ اعتبر فيه العالم الذي لا ينسجم مع خط السلطان محل تهمة ومعاناة، وكانت تهمة الزندقة أقرب سبيل إلى حبل المشنقة.

ولكن إذا كان تاريخ الحكام مدعاة للخزي والعار, فإن تاريخ العلماء كان تاريخاً مشرفاً إذ تحمل العلماء والدعاة الأذى والسجن ورفض بعضهم قولة الباطل أن يقولوا بها ولو أدى الأمر إلى قتلهم، وذلك لشعورهم بعظم مسؤولية العالم الذي ينحرف بانحرافه خلق كثير، فكان يتحمل العذاب والتنكيل من أجل أن تسلم عقائد المسلمين من التحريف والتشويه.

ربما كانت السلطة في السابق في يد شخص واحد يسمى الأمير أو الحاكم أو السلطان، وكان من بيده السلطة يتصرف دون حسيبٍ أو رقيب بل كان الحاكم هو القاضي والجلاد وكان هو الخصم والحكم وربما جمع حوله من فقهاء السلطان من يسوغون له فعله ويغطون جريمته بفتاوى مزيفة جاهزة وتحت الطلب.

أما في عصرنا الراهن فالوضع مختلف فهناك مؤسسات الدولة التي تقع تحت الرقابة الدائمة سواءٌ كانت منتخبة أو معينة ، وهناك الدساتير المكتوبة التي تحدد السلطات والصلاحيات والمؤسسات والوسائل والسبل التي ينبغي إتباعها عند كل حالة. وبالإضافة إلى الرقابة القانونية والدستورية والقضائية فهناك الرقابة الإعلامية حيث تؤدي وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية دوراً بارزاً في فضح الممارسات غير القانونية وغير الدستورية للسلطات السياسية والعسكرية والقضائية في الدولة مع الأخذ بالاعتبار أيضاً الدور السلبي لوسائل الإعلام الموجهة التي قد تبرر المخالفات القانونية والدستورية للسلطات الحاكمة، إلا أن هذا الدور لا يمكن أن يشكل غطاءً لدور وسائل الإعلام الأخرى في كشف الحقائق، كما أن هناك الهيئات الرقابية الأهلية والدولية التي تقوم أيضاً بدور هام في كشف ممارسات السلطات مثل مجالس حقوق الإنسان، والمنظمات الإقليمية المتخصصة. بحيث لم يعد بإمكان السلطة في أي مكان في العالم أن تخفي ممارساتها لوقتٍ طويل، وهناك المحاكم الدولية الجنائية ومحكمة العدل الدولية وغيرها من الهيئات المتخصصة في ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية أو ضد الأفراد إذا كانت لها أوصاف محددة، إذن في ظل هذا الواقع الدولي القانوني والرقابي وفي ظل المجالس الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان لم يعد بالإمكان إخفاء الممارسات غير القانونية وغير الدستورية للسلطات الحاكمة، وبالتالي أصبح الحاكم مقيداً بعدد من القيود القانونية والدستورية والرقابية المحلية وبقيود أخرى ودولية وإقليمية، ولكن مع كل تلك القيود فإن الأنظمة السياسية تظل تجدد المبررات السياسية والقانونية لضرب خصومها وإعاقة حركتهم، بل وزجهم في المعتقلات والسجون عبر سن بعض القوانين التي تجرم بعض الأفعال التي تشكل جزءاً من الحريات العامة وحقوق الإنسان. وعلى كل حال لا يعدم الطغيان وسيلة ولا سبيلاً لفرض واقعه على الناس، ولن يعدم الناس طريقة لمواجهة الطغاة.

ورد عن النبي(ص): "إن المرء ليكتب عند الله جباراً وليس تحت يده إلا أهل بيته" فليس شرطاً ليكون المرء جباراً أن يكون متصرفاً بالجيوش والسلاح أو متسلطاً على الأموال والأرزاق، بل يكفيه أن يمارس جبروت نفسه على من هو أضعف منه أو أقل حيلة ومقدرة ولو كان ذلك في أسرته الصغيرة، وبعض الناس يكونون من الهوان بمكان على الناس بل وفي أنفسهم ثم تسنح لهم أو لأحدهم فرصة السخرية أو الاستهزاء أو الاستخفاف بعالم أو داعية أو إلحاق الأذى بهما أو بسواهما من أصحاب الحق أو الفضيلة، فيكون هذا المعتدي رغم هوانه الذي هو فيه عند الله بمنزلة فرعون ونمرود وهامان وأبي جهل وأبي لهب، طغياناً وكفراً وعناداً.

كما هو معروف في مجتمعاتنا الشرقية منذ القدم فإن صاحب السلطة يحتاج دائماً إلى سلطة أخلاقية معنوية تكون إلى جانب سلطته المادية، من أجل تبرير ممارساته، وإظهار انسجامه مع قيم المجتمع، وغالباً ما يلعب رجل الدين هذا الدور ويطلق عليه عالم السلطان، ويتبادل الطرفان المنفعة ويحمي كل منهما الآخر. وفي مقابل هذا الحلف الدنيوي الدنيء، تنشأ خصومة ونزاع بين صاحب السلطة وبين نمط آخر من العلماء يمكن أن نسميهم العلماء الربانيين.

وهم العلماء الذين يستقيمون على أمر الله ويرفضون أن يضعوا أنفسهم في خدمة السلطان ومشاريعه وأهدافه. هذه الخصومة ينتج عنها حتماً صراع، إذ أن كل طرف من طرفي الصراع يطمح إلى النصر والتأثير على الآخر، فصاحب السلطة يريد إخضاع العالم الرباني كي لا يكون حجر عثرة في طريقه، والعالم الرباني يريد أن ينقل الظالم صاحب السلطة من دائرة المعصية إلى دائرة طاعة الله عز وجل ولكن، بدون شك، الظالم لا يقبل بهذه المعادلة لأنه يريد الدنيا.

وثبت عبر التاريخ أن العلماء كانوا ضحية بطش السلطان، فهو بما يمتلكه من قدرات وبما يتمتع به من سيطرة على سفهاء الناس ورعاعهم، فإنه غالباً ما يوجه هؤلاء ليمارسوا سفههم على أهل العلم ويطلقون الأقاويل الكاذبة والإشاعات الباطلة بحقهم ثم قد يتطور الأمر إلى أبعد من ذلك إلى الإهانة المباشرة وإلى الضرب والشتم وإلحاق الأذى. ويغذي هذه الممارسات التنافس بين أهل العلم على المكانة والحظوة وهذا كما هو معلوم آفة العلم وأهله، فلولا وجود من يبيع دينه بدنياه من أهل العلم لما تمكن الظالم من إيذاء العالم.

وهكذا ندرك أن ما تعرض له عدد كبير من العلماء في لبنان ومنهم سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني ليس خارجاً عن سياق الصراع الممتد عبر التاريخ.

شهدت الساحة السنية في لبنان حركة اعتداءات على عدد كبير من العلماء والأئمة وخطباء المساجد، وسبب هذه الحركة أن هؤلاء العلماء والأئمة والخطباء كانوا من المؤيدين لخط المقاومة ضد العدو الصهيوني ومعادين للمشاريع الأمريكية ولسياسات الحكام العرب المنقادين للسياسة الأمريكية.

ولما كانت دار الفتوى ومفتو المناطق ورؤساء دوائر الأوقاف في حينها من المواليين لتيار المستقبل فقد نفذوا ما طلبه منهم تيار المستقبل.

فتم فصل المشايخ عمن أعمالهم ووظائفهم وتم منعهم من الخطابة في المساجد التابعة للأوقاف الإسلامية. ولا يخفى على الناس أن أحد الأجهزة الأمنية المعروفة كان يقف وراء الحملة على العلماء المعارضين لتيار المستقبل.

إن هذا السلوك من قبل جهة سياسية تطمع في مصادرة قرار الطائفة السنية، وإلغاء كل من لا يسير في ركبها ويكون رهن الإشارة. لم يكن وليد لحظة معينة ولا ردة فعل على حدث معين، بل هو نهج سياسي سار عليه 14 آذار.

استغلت جماعة المستقبل مظلومية ودماء الرئيس الحريري وانطلقوا بأقصى سرعتهم في مصادرة الساحة السنية ووضع اليد على الساحة العلمائية التي خضع قسم كبير منها للإدارة المستقبلية لاعتبارات كثيرة منها مراعاة غرائز الشارع التي أحكم المستقبليون السيطرة عليه.

ولما كانت دار الفتوى محسوبة على تيار المستقبل وهو أمرٌ ما كان ينبغي للدار أن تقع فيه، فقد اعتقد رئيس التيار أن هذه الدار ستقف الموقف الذي يمليه عليها من تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، وهو نزع الشرعية السنية عن الرئيس المكلف عبر دعوته إلى الاعتذار، ولكن سماحة المفتي رفض السير في هذه الخطة وهنا انكسرت جرة العلاقة بين الطرفين وبدأت الحرب الهادفة إلى تدفيع المفتي ثمن هذا التمرد.

وهكذا بدأت الحرب ضد سماحة مفتي الجمهورية، فتم تلفيق ما يسمى "الملف المالي" وأخذوا يهددونه به صباح مساء من أجل دفعه

إما إلى الخضوع وإما إلى الاستقالة، واستمر التلويح به دون القيام بأي خطوة جدية مما يدل على أنه ملف لا قيمة له.

وجاءت معركة تعديل المرسوم 18/55 الخاص بتنظيم دار الفتوى ومؤسساتها، وهذا التعديل الذي أطلق عليه اسم إصلاح دار الفتوى، والذي يهدف في حقيقته إلى نزع صلاحيات مفتي الجمهورية وتحويله إلى مفتي صُوَري لا يمتلك أية صلاحيات فعلية ووضع تلك الصلاحيات بيد المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الذي يمكن للسياسيين التحكم به بشتى الطرق والضغوط، لاسيما وأن انتخاب أعضاء المجلس يتحكم به السياسيون، بالإضافة إلى أن عدداً  من أعضاء المجلس الطبيعيين هم رؤساء الحكومة الحالي والسابقين.

أدى رفض مفتي الجمهورية التمديد للمجلس الشرعي المنتهية ولايته إلى فقدان تيار المستقبل لأعصابه، لاسيما أن المفتي استطاع إجراء انتخابات انتهت بانتخاب مجلس جديد بدأ بممارسة مهامه، ما جعل المجلس السابق الذي مدد لنفسه خلافاً للقانون مجرد مغامرة سياسية ساقطة حتماً.

قام خصوم المفتي بالتحريض عليه واتهامه بأنه أصبح رهن قرار النظام السوري وحزب الله وأنه انتقل إلى جهة الثامن من آذار واستغل أنصار التيار مشاركة المفتي في الصلاة على جنازة إحدى ضحايا التفجير الذي أودى بالوزير محمد بهاء شطح في جامع الخاشقجي، فحاصروه داخل المسجد وهتفوا ضده بهتافات مسيئة ومنعوه من الخروج من المسجد لمدة ساعتين من الزمن، وقد شارك في هذا التصرف الأرعن مجموعة من الشباب المحسوبين على أحد الجماعات الإسلامية السياسية المتحالفة مع تيار المستقبل.

وانتهت الحادثة بتدخل قوى الأمن التي عملت على إخراج سماحته بواسطة أحد آلياتها العسكرية.

لقد سجل تيار المستقبل أسوء ممارسة بحق العلم والعلماء وبحق الجهاز الديني بشكل عام بتعرضه لسماحة مفتي الجمهورية ومحاولة إهانته والاعتداء عليه، وسيبقى هذا التصرف وصمة عار في جبين من قام به غير عابئ بهيبة المقام الذي تعرض له، وهذه سنة سيكون عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وفي الختام فإن جهاد العلماء هو قول كلمة الحق وأفضل جهاد العالم أن يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر.

فهل ستفلح التصرفات الرعناء في ثني العلماء عن قول كلمة الحق، بالتأكيد  لن يفلحوا، وإن الله يدافع عن الذين آمنوا. 

اعلى الصفحة