تركيا بين أزماتها الداخلية والخارجية

السنةالثالثة عشر ـ العدد 146 ـ ( ربيع الثاني 1435 هـ) شباط ـ 2014 م)

بقلم: محمود إسماعيل

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

شهدت الدولة التركية في الأشهر القليلة الماضية تحولات وتطورات على المستويات السياسية والأمنية، يتصل بعضها بالشأن الداخلي وسياسة حكومة رجب طيب أردوغان، فيما بعضها الآخر يعود بشكل مباشر إلى الأزمة السورية وانعكاساتها على الداخل التركي، وذلك بموازاة التأزم اللافت في العلاقات التركية مع مصر، بعد إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي.

لقد حول هذا الواقع الدولة التركية من صفر مشاكل إلى بلد يتخبط بأحداث وأزمات عديدة.

يبدو أن الساحة التركية ستبقى عرضة للاهتزازت الأمنية والسياسية والتطورات المتأرجحة مع استمرار الأزمة السورية، فضلا عن الأزمات الداخلية التي تعصف بالبلاد، دون أن تلوح في الأفق بوادر حلحلة مرتقبة.

لقد ظهر الوجه الآخر للنظام التركي من خلال تعامل أردوغان مع الاحتجاجات الشعبية التركية، إذ إن تصريحاته أثناء تلك الفترة أكدت أنه لا يحترم آراء معارضيه، رغم أنه يواصل في الوقت نفسه إرشاد الأمة إلى كل شيء بدءا من النظام الغذائي واختيار الخبز الأسمر كونه الأفضل للصحة حتى تنظيم الأسرة، وأنه ينبغي ألا يتعدى عدد أطفال الأسرة الواحدة الثلاثة. إذا كان أردوغان قادرا على إسداء النصائح، فعليه أن يبدأ اليوم بالإصغاء بصورة أفضل لمطالب شعبه.

أين تركيا اليوم مما كانت تطمح إليه قبل عشر سنوات؟ عند التحدث عن القوة الناعمة، فإنما المقصود هو ديمقراطية النظام السياسي، ودولة القانون، ورفاهية الشعب، والتطور في السياسة الخارجية على قاعدة الحريات الفردية والعامة، وإمكان حل المشكلات الداخلية والخارجية، وبرامج المساعدات الإنسانية. لقد باتت هذه المطالب مستحيلة بعدما امتلأت السجون التركية بالصحافيين وانتهكت الحريات الفردية وعم الاضطراب بسبب سياسة خارجية مذهبية، حتى الثقة أصبحت مفقودة. تركيا بحاجة ملحة إلى لاعبين جدد على ساحتها السياسية لتحمل أعباء المسؤولية.

أين هي مسيرة الحل التي يتحدث عنها أردوغان؟ وهل لا يزال بإمكانه أن يخدع الشعب بخطاباته؟ ليست مصادفة أن تحدث مجزرة "روبوسكي" قبل  حوالي عامين والتي قتل فيها سلاح الجو ٣٥ قروياً كردياً أعزل من السلاح، وليست مصادفة أيضاً أن يقتل البوليس التركي قبل عدة أسابيع أكراداً مدنيين في "يوكسيك أوفا". إن هذه الحوادث جزء من سياسة قتل الأكراد التي ينتهجها حزب " العدالة والتنمية ". حتى اليوم، لم يحاسب أي شخص عن مجزرة " روبوسكي " ولم يقدم أردوغان حتى مجرد اعتذار عن تلك المجزرة، بل إنه كان قد دعا عام ٢٠٠٦ قوى الأمن إلى التعامل بالطريقة اللازمة مع الجميع حتى لو كانوا نساء وأطفالا.

إن حملة الاعتقالات التي طالت ٣٠ مسؤولاً مقرباً من أردوغان، على خلفية قضايا تتعلق بالفساد، هي تأكيد على الانقسامات داخل حزب "العدالة والتنمية" مع اقتراب الانتخابات المحلية والرئاسية. إن فتح الله غولان هو من يملك مفاتيح الشرطة ووزارة العدل، وغولان هو شيخ يقيم في الولايات المتحدة وقد ساعد على ترسيخ حزب " العدالة والتنمية " في تركيا، لكنه رأى في الفترة الأخيرة أن أردوغان ينتهج سياسة متشددة مخالفة لمبادئ الحزب المعتدلة.

الصراع على السلطة يهدد تركيا، فهناك صراع معقد ومبهم إلى حد بعيد على السلطة بين حزب أردوغان والحركة الإسلامية الذي يقودها فتح الله غولان. يشغل أتباع غولان مناصب مهمة في القضاء ومفاصل الدولة الأخرى التي من خلالها ساعدوا أردوغان من أجل التغلب على هيمنة الجيش، والآن يبدو أنهم يستهدفون بعض أقرب مساعدي أردوغان.

قضايا الفساد واستقالة وزراء

تعتبر استقالة وزراء من الحكومة التركية، على خلفية اتهامات بالفساد وتبييض الأموال من أبرز الأزمات السياسية التي واجهت رجب طيب أردوغان منذ توليه رئاسة الحكومة التركية عام ٢٠٠٢. إن الاستقالة من المنصب الوزاري لا تشكل بحد ذاتها سبباً مباشراً لأزمة سياسية كتلك التي تعيشها تركيا اليوم، إنما طبيعة العمل الحكومي تستدعي استقالة وزراء وتشكيلات حكومية جديدة لمراعاة ظروف طارئة. لكن ارتباط الاستقالات الأخيرة بملفات فساد وتبييض أموال يضفي على القضية أهمية خاصة.

إن فساد حزب "العدالة والتنمية" الذي يدّعي أنه قائم على تطبيق مبادئ الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد، هو ضربة مؤلمة لحزب روج له على أنه نموذج على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي يحتذى به في العالم العربي بشكل خاص.

تعيش تركيا حالة من التخبط السياسي جديرة بالبحث والدراسة، كونها نتيجة لعدة أسباب تراكمت عبر السنوات العشر الماضية، انطلاقا من الانقسام الداخلي والملف الكردي، امتدادا إلى مساهمتها في الحرب على سوريا، وصولا إلى سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر، والحكم على الجماعة باعتبارها إرهابية.

تتميز تركيا بتعدد التناقضات البنيوية وبحدة الانقسامات السياسية الداخلية التي انسحبت بآثارها على العلاقة بين جميع اللاعبين السياسيين في البلاد. فالتحالف السابق بين حزب "العدالة والتنمية"، وحركة فتح الله غولان عمّق هذه الانقسامات خصوصاً لجهة خلافهم مع الجيش. لم تتوقف الانقسامات عند هذه العلاقة، بل امتدت أيضاً لتتكرس بشكل أكثر حدة مع الأحزاب التركية المعارضة، وذلك بسبب فشل أردوغان في معالجة ملف الأكراد والدور السلبي في إدارة ملفات المنطقة، ولاسيما الحرب على سوريا.

يبدو أن الأزمة الحالية أتت لتأطير الانقسامات والصراعات الدائرة بين حلفاء الأمس أي غولان وأردوغان، وأن استخدام ملف الفساد القديم الجديد من قبل خصوم الداخل جاء لتحجيم أردوغان، خصوصاً أن الأرضية السياسية أصبحت جاهزة بعد تنامي حركة غولان وتزايد نفوذها وبعد انتفاضة (تقسيم). تساهم قضية الفساد، إذا، في إبراز لاعبين جدد في الساحة التركية، ولاسيما مع اقتراب الانتخابات المحلية والنيابية.

كل هذا في ظل رفض شعبي متزايد للسياسة التي انتهجتها حكومة أردوغان في إدارة الانكماش الاقتصادي الناجم عن سياسة ألف مشاكل وصفر صديق. إن اختيار أردوغان للسيناريو الأكثر تعقيدا في حل الأزمة وتقديمه تشكيلة حكومة جديدة هو دليل على تشبثه بالسلطة ورفضه الانصياع للأمر الواقع.

أردوغان ونظرية المؤامرة

إن لجوء أردوغان إلى نظرية خلق العدو واتهام الدول الأجنبية الحليفة بتنفيذ مؤامرة، الغرض منها الإطاحة به والنيل من مكانة تركيا العالمية السياسية والاقتصادية، جاء في هذه المرحلة كمحاولة من أردوغان لاستعادة زمام المبادرة من أجل توحيد الداخل والحصول على شرعية تحرره من القيود والضوابط بسبب وجود خطر خارجي. قد يفسر هذا الأمر الخلاف القائم بين أنقرة وواشنطن حول كيفية إدارة عدة ملفات في المنطقة، حيث كثرت التكهنات في الآونة الأخيرة التي تفيد عن رغبة الولايات المتحدة الأمريكية بإحداث تغيير في تركيا ينسجم مع التغيير الحاصل في إستراتيجية واشنطن في المنطقة.

إن التغيير الذي تهندسه واشنطن في تركيا قد يتشابه مع ذلك الذي حصل في قطر ناعماً ومسالماً، أي بموافقة كل من أردوغان وعبد الله غول على تبادل المناصب وتقاسم السلطة مع غولان الحليف الآخر لواشنطن. يدل هذا الأمر على أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تحقيق أهدافها في المنطقة بمعزل عن مصالح حلفائها. أما في الجهة المقابلة، فهناك حلف محور المقاومة وروسيا والصين، حيث يشترك جميع الأطراف في أخذ القرار بناء للشراكة القائمة على أسس واضحة.

إن الموقع الجغرافي لتركيا يجعلها في موقع الدولة المتأثرة مباشرة جراء الأحداث الجارية في المنطقة. لا يكتمل تحليل السياسة التركية الخارجية إذا لم يؤخذ بعين الاعتبار الدور التركي الأساسي في حلف الناتو، إذ تعتبر تركيا المنفذ الرئيسي لمخططات الناتو وإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الإسلامي وخاصة في الشرق الأوسط.

بناءً لما تقدم، إن الدور التركي في تمويل الإرهاب ودعم الحرب على سوريا وتمويل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، جاء وفقاًً لأجندة واضحة وتنفيذا للأهداف الأمريكية القائمة على تقسيم المنطقة وتأجيج الصراع الطائفي والمذهبي. لقد كان لفشل هذا المشروع نتائج مباشرة على قوة تأثير تركيا في الأحداث السياسية في الشرق الأوسط. فدعم أردوغان للجماعات الإرهابية والتدخل في سوريا كان بمثابة جلطة ما قبل الموت، إذ إنه فقد المصداقية أمام شعبه والتصق اسمه لدى شعوب العالم بالإرهاب، بحيث أصبحت المعادلة عند الأتراك هي: أردوغان حاكم متسلط فاشل وفاسد. إن ترابط العوامل الداخلية والخارجية جعل من تركيا دولة مريضة وأفقدها حضورها السياسي في المنطقة، فخسرت خلال سنتين أهم ما كانت قد حققته في السنوات العشر الماضية، من اقتصاد قوي ونموذجية سياسية.

في المحصلة، إن تعنت أردوغان في إدارته الأزمة قد يزيد في الطين بلة ويدخل البلاد في نفق مظلم. من الواضح أنه قد أصبح منفصلاً كلياً عن الواقع السياسي الداخلي لتركيا، فلم يقرأ بوضوح تغيير موازين القوى في المنطقة. إن تراكم الاضطرابات السياسية الداخلية والخارجية جعل أردوغان يخلط بين الواقع والخيال، الأمر الذي زاد من الهلوسات والأوهام. لقد بات تحقيق أحلام أردوغان مستحيلاً لاسيما بعد فشل المشروع الإمبريالي التقسيمي في سوريا وخروج مصر من مستنقع الإخوان المسلمين.

إن عودة الروح إلى الجسد العربي المتمثلة في معافاة سوريا واستعادة مصر لدورها الإقليمي تقطع الطريق على أي دور تركي مستقبلي في العالم العربي. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: هل فعلاً  انتهى أردوغان وأيامه أصبحت معدودة؟ سوف يكون العالم الجديد مليئاً بالمفاجآت الإقليمية، فالانتصارات السورية تقابلها انتكاسات تركية.

دور تركيا في الأزمة السورية

تركيا واحدة من أكثر الدول المعنية بالأزمة السورية، ليس فقط بسبب أن حدودها المشتركة مع سوريا تعد الأطول بين الدولتين، وكذلك لطبيعة التشابه والتشابك العرقي والطائفي في البلدين، وإنما أيضاً لأن دور تركيا في سوريا يعد اختباراً لمستقبل سياستها الإقليمية والخارجية.

لقد راهنت تركيا على المعارضة السورية، وبالتحديد حركة "الإخوان المسلمين" ودعمتها في مواجهة نظام الحكم، سواء من خلال استضافة أبرز رموزها أو عبر دعمها مادياً وعسكرياً، أو من خلال التحرك على الساحة الإقليمية والدولية لعزل النظام في دمشق، وكذلك الدعوة إلى إقامة منطقة حظر جوي في مناطق تمركز المعارضة، ثم التحول بعد ذلك للدعوة إلى تشكيل تحالف دولي لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد.

بيد أن هذه السياسة أدخلت تركيا في صراعات مع العديد من دول الجوار: سوريا والعراق وإيران، كما جاءت بارتدادات سلبية على الأمن التركي ذاته، مما دفع أنقرة إلى إعادة تدوير مواقفها وتغييرها وتعديل التوجهات والتصريحات نسبيا، وذلك في محاولة لتجاوز الصعوبات التي باتت تواجه علاقاتها مع بعض الفاعلين الإقليميين جراء الأزمة السورية وما يصاحبها من تطورات متلاحقة على مسرح العمليات الإقليمي.

لقد ارتبطت الأزمة السورية بفرص عديدة حاولت تركيا اقتناصها، تمثلت بسعي تركي لتصبح سوريا من دون الرئيس الأسد بحيث يمكن أن تصبح دولة حليفة تشكل شريكا استراتيجيا  محتملا لتركيا، وهو تطور من شأنه إعادة ترتيب المشهد الإقليمي برمته، لتغدو أنقرة بؤرته ومركزه الأساسي، فيما تصبح طهران، منافستها الإقليمية التاريخية، على هامش ذلك المشهد. إلا أنه، وعلى غير المتوقع، من قبل أنقرة، حملت رياح هذه الأزمة عواصف لم تسلم تركيا ذاتها من آثارها، لتدفع إلى إعادة صوغ مقاربتها حيال بعض أطراف هذه الأزمة بفعل عدد من الأسباب وأهمها :

١- إرهاب الداخل: ازداد المشهد التركي تعقيدا خلال الأشهر الأخيرة لنجاح العديد من الجماعات الإرهابية المتمركزة في بعض المدن السورية في اختراق الحدود التركية وتحويلها إلى بوابات عبور من سوريا وإليها، مما سبب مشكلات أمنية عديدة لأنقرة، كان من أبرز نتائجها العملية التي شهدتها مدينة الريحانية في ١١ مايو / أيار ٢٠١٣، والتي أسفرت عن مقتل نحو ٥٠ شخصا وإصابة ١٠٠ آخرين. وقد تبع هذه العملية العديد من المحاولات التي كشفتها الشرطة التركية، وكان من بينها العثور على سيارة مفخخة تحمل نحو ١٧٧ كلغ من المتفجرات في جنوب محافظة كيليس، وهي محافظة كانت قد شهدت عدة محاولات من قبل بعض التنظيمات للقيام بأعمال إرهابية ضد المنشآت والمصالح التركية. كما ضبطت أجهزة الأمن التركية حوالي ١٢٠٠ رأس حربي لصواريخ كانت معدة للتهريب إلى " جبهة النصرة "، وقد جرى توقيف ٩ أشخاص بينهم أتراك وسوريون متورطون في هذه العملية.

٢- الانقسام السياسي: لم يأت الموقف التركي من الأزمة السورية منفصلا عن بقية المواقف والرؤى التركية حيال العديد من الملفات الخارجية، والتي أوجدت حالة من الضعف التي باتت تهدد تماسك حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وذلك بسبب تباين الرؤى والتوجهات، ليس مع أحزاب المعارضة الرئيسية فحسب، وإنما داخل هذا الحزب نفسه، حيث هناك العديد من الشخصيات البارزة في داخله أصبحت تعارض قيادة أردوغان وإدارته لعلاقات تركيا الإقليمية، والتي أفضت إلى توتر علاقات أنقرة مع أغلب البلدان المجاورة لها، لاسيما وأن الأزمة السورية حولت تركيا من موقع الدولة الوسيط إلى موقع الدولة الطرف، كما أثار حساسيات قومية عربية حيال مواقف تركيا الإقليمية الأخرى. وقد بدا التأثير السلبي واضحا لهذه المواقف في التباين بين تصريحات أردوغان ونائبيه اللذين هما أقرب إلى الرؤى المعتدلة لرئيس الدولة عبد الله غول حيال ملفات الصراع الإقليمي.

٣- التطور الإقليمي المفاجئ: في ظل التحولات في العلاقة الإيرانية ـ الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة، وبالتحديد منذ انتخاب الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني، الذي اتخذ من الاعتدال والتدبر شعاراً أساسياً لسياسته، فكان هذا التطور بمثابة انعطافة طارئة أفضت إلى بدء جولات التفاوض المباشر للتوصل إلى تسوية الملفات العالقة بخصوص البرنامج النووي الإيراني. كما أن هذا التطور بات يلقي بتبعاته على مسار علاقات تركيا بالولايات المتحدة التي تشهد بالفعل حلقات من التوتر المكتوم، ذلك أن تركيا ذاتها كانت جزءاً مركزياً من عملية حصار إيران، من خلال نصب منظومة الدفاع الصاروخي على الأراضي التركية وبالقرب من الحدود الإيرانية، كما لا تغيب عن ملفات التوتر بين البلدين مسألة تأجيل الضربة العسكرية لسوريا وإعلان واشنطن أن الهدف من أي عمل عسكري هو استهداف القدرات العسكرية للرئيس الأسد وليس إسقاط نظام حكمه، الأمر الذي يتناقض مع الإستراتيجية التركية القائمة أساسا على العمل لإسقاط النظام القائم في دمشق.

٤- الدور الروسي في المنطقة: واحدة من المشكلات الإضافية التي نجمت عن الأزمة  السورية، هي إعادة إحياء الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط ، لاسيما بعد إستراتيجية الرئيس فلاديمير بوتين في تجنيب سوريا للضربة العسكرية من خلا ل صفقة الكيماوي، وهي الصفقة التي تعتبرها تركيا بمثابة إقرار بزيادة نفوذ موسكو في منطقة الشرق الأوسط وتراجع الدور الأمريكي، وهو الدور الذي اتسم بالتردد وعدم الحزم في الإقدام على أي عمل عسكري خشية أن يتحول إلى حرب إقليمية شاملة.

٥- انكسار تحالف تركيا مع دول الخليج: شهدت علاقات تركيا مع العديد من الدول الخارجية تطورات كبيرة على خلفية تباين المواقف حيال ثورة ٣٠ يونيو/حزيران في مصر، والتي أدت إلى إعادة اصطفاف إقليمي جعل أنقرة تبدو أقرب ما تكون إلى العداء مع مؤسسات الدولة المصرية، والتي تلقت بدورها مساندة ودعما غير مسبوق من قبل العديد من دول الخليج.

هل رُفع الغطاء الأمريكي عن أردوغان؟

هل اتخذ غولان موقفه التصادمي ضد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على خلفيات شخصية شَعر معها أنّ الأخير قد "انتفَخ" كثيراً، وأنه لم يعد ذلك السياسي المطيع لتوجيهاته؟ أم أن في الأمر ما هو أخطر من ذلك، حيث يعتقد البعض أنّ غولان ما كان ممكناً له أن يسرّب هذه المعلومات من دون إذن أمريكي، خصوصاً أنّ كثيراً منها قد مرّرته له دوائر استخبارية أمريكية؟.

ويستطرد الخبراء بالشؤون التركية في تساؤلاتهم: هل تريد واشنطن ومعها غولان أن تسقط حكومة أردوغان لأسباب متعددة، أهمّها رغبة الإدارة الأمريكية في إرضاء حليفها السعودي المنزعج أصلاً من "أخونة" أردوغان وطموحاته إلى أن يكون "خليفة المسلمين"؟

هنا، يظن البعض أنّ واشنطن المضطرة إلى عقد اتفاق جنيف النووي مع إيران لأنها لا تريد الحرب، وفق ما يحذّر الرئيس باراك أوباما دائماً معارضي هذا الاتفاق، لا بدّ لها من استرضاء الرياض الغاضبة على هذا الاتفاق الذي أُبرم من وراء ظهرها.

ومن هنا، يمكن أن يكون رأس أردوغان جائزة ترضية للرياض التي لا تخفي انزعاجها من دور "الإخوان المسلمين" في المنطقة، ومن دور أردوغان نفسه في حماية هؤلاء "الأخوان" والاعتماد عليهم ودعمهم، خصوصاً في مصر ضد حكم تعتبره الرياض حليفاً أساسياً لها.

ويعتقد الخبراء في الشؤون التركية أيضاً أنه قد يكون وراء هذا الغضب الأمريكي من أردوغان، انكشاف فضيحة "الذهب مقابل النفط" التي عقدها رئيس الوزراء التركي مع الحكومة الإيرانية في إطار مساعدتها على التفلّت من العقوبات الدولية المفروضة عليها.

فقد كشفت وسائل الإعلام التركية أن إيران وافقت مع تركيا على أن تُصدّر لها نفطاً مقابل تسديد ثمنه بالليرة التركية بما يخرج هذه العملية من أيّ رقابة أمريكية، سواء عبر المصارف، أو عبر استخدام الدولار لشراء النفط. وقد وافقت إيران أيضاً على أن تضع أنقرة رصيد شراء النفط الإيراني في حساب خاص بالليرة التركية، ثم يشتري الإيرانيون الذهب من تركيا بالليرة التركية، فيصبح في إمكانهم أن يستعيدوا نفطهم ذهباً يمكنهم بَيعه في الأسواق العالمية من دون أن يكون لواشنطن أو لمجلس الأمن الدولي أيّ قدرة على مراقبة هذه العمليات ومنعها.

وقد اعتبرت الإدارة الأمريكية أنّ الروح التجارية عند أردوغان قد غلبت التزاماته السياسية، فوجدت أنه لا بدّ من "تأديبه" عبر تفجير فضيحة في مستوى فضيحة الفساد التي انفجرت أخيراً. ولذلك، لا يستبعد كثيرون أن تكون هذه الفضيحة ومَن يقف وراءها بمثابة رفع الغطاء عن أردوغان، ما يتيح بالتالي لمعارضيه التحرّك في الشارع بعد أن انكشف فساد حكومته التي كانت تعتزّ بشفافيتها ونزاهتها وابتعادها عن ألاعيب الفساد التي طالما شوّهت السياسة التركية.

فهل تركيا والمنطقة أمام مشهد يخرج منه أردوغان ليتقدم رئيس الجمهورية الحالي عبد الله غول الذي التزم الصمت طوال السنوات الثلاث الماضية، وإذا تكلّم فبلغة مختلفة عن لغة أردوغان ووزير خارجيته احمد داود أوغلو؟ أم أننا أمام مشهد يخرج فيه حزب "العدالة والتنمية" من السلطة في تركيا ومن دون انقلاب هذه المرة؟

في هذا السياق، يلفت الخبراء بشؤون تركيا إلى أنّ الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية باتت على الأبواب، وأن تأثير غولان هو تأثير حاسم في سحب البساط من تحت أقدام حزب "العدالة والتنمية" عبر الإيعاز للملايين من أنصاره لكيلا ينتخبوا أردوغان وحزبه، وأن ينفتحوا على معارضيه من قوميين وعلمانيين ويساريين، ومن علويين وأكراد، فيدفع أردوغان ثمن سلسلة الأخطاء والخطايا التي وقع فيها، سواء إزاء الأحداث في سوريا، أو في مصر، أو في غيرهما.

على أنّ انكفاء إسلاميي تركيا عن الدور القيادي الذي يلعبونه اليوم فيه مصلحة لروسيا الشديدة الحذر من تعاطف الحكومة التركية مع المتمردين الإسلاميين في الشيشان والقوقاز وغيرهما. أمّا إدارة أوباما فهي أكثر خوفاً من انتشار هذه الظاهرة التي تُعتبر تركيا قاعدة رئيسية لها، وليس من قبيل المصادفات أبداً أن تدعو واشنطن كل الدول والجهات المعنية إلى أنّ التوقّف عن دعمها للمنظمات الإسلامية المتشددة، ولاسيما منها "جبهة النصرة" و"داعش" اللتان شكّلت حكومة أردوغان سنداً كبيراً لهما وممراً لرجالهما وسلاحهما.

فهل ستظهر انعكاسات هذه الفضيحة على مستوى السياسات التركية في المنطقة؟ وهل سيتراجع أردوغان عن سياسات بات ثمنها فادحاً على بلاده وحزبه؟. 

اعلى الصفحة