|
|||||||
|
ليس غريباً على دولة حديثة العهد كجنوب السودان أن تشهد صراعا سياسيا ينزلق بها إلى درك التقاتل والاحتراب بين ألوان طيفها السياسي والحزبي والقبلي ,لكن الخطير في المشهد المتفجر في هذه الدولة الوليدة أنه أعاد إلى الأذهان صور أطول حرب أهلية عاشتها القارة السمراء في السودان بين شماله وجنوبه. ويمكن القول إن دولة "جنوب السودان" التي انفصلت عن السودان الكبير بعد صراع دموي طويل,تحمل في داخلها كل عوامل التفجير الذاتي من التركيبة الاجتماعية القبلية والصراع على السلطة إلى الرؤى السياسية المختلفة لإدارة الدولة والوضع الاقتصادي المزري فيها هذا فضلا عن الدور السياسي المنتظر لهذه الدولة من منظور الدول التي دعمت انشقاقها. التاريخ والتأسيس وقبل الحديث عن طبيعة الصراع الذي تشهده دولة جنوب السودان منذ نهاية العام الماضي لابد من التعريف بالدولة التي حملت رقم 194 في الأمم المتحدة.فقد أعلن عن تأسيسها بتاريخ 9 من تموز عام 2011 على ضوء نتائج استفتاء شعبي جرى في أوساط سكان الجنوب في إطار ما عرف بحق تقرير المصير فرض على حكومة الخرطوم بعد ضغط أممي على الرئيس السوداني عمر البشير. تتربع دولة جنوب السودان على مساحة تزيد عن 600,000 كلم مربع وتتخذ من مدينة "جوبا" عاصمة لها وتتوزع فيها ثروات نفطية ومائية وأراض زراعية شاسعة. ويقدر عدد سكانها بنحو عشرة ملايين نسمة يدين السواد الأعظم منهم بالديانة المسيحية ويتوزعون على ثلاث كتل إثنية رئيسية تتفرع منها مجموعة من القبائل والعشائر وهي الشكل التالي: 1- النِّيليون (نسبة إلى نهر النيل): ويشكلون نحو 65% من مجموع السكان وينقسمون إلى 3 قبائل رئيسية هي: - الدينكا: وهي كبرى القبائل وتضم نحو 40%من عدد السكان وتتوزع بدورها على 12 عشيرة واليها ينتمي رئيس الدولة الحالي سيلفا كير ميارديت - النوير: ثاني أكبر القبائل وتشكل نحو 20% من السكان واليها ينتمي نائب الرئيس وخصمه رياك مشار - الشيلك: ونسبتها 5% من تعداد سكان الجنوب ومن ابرز وجوها السياسية وزير الخارجية السابق لام أكول والامين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان باجان أموم 2- "النيليون الحاميون": ويتميز المتحدرون من هذه المجموعة بلون بشرة أقل سمرة من المجموعات الأخرى, وتنقسم هذه المجموعة أيضا إلى قبائل شتى أبرزها الباري والمنداري 3- المجموعة السودانية: ومن ابرز قبائلها الزاندي ثالث أكبر مجموعة قبلية في البلاد والمورو والمادي. الانفصال فكرة انفصال الجنوب السوداني عن الشمال لم تكن حديثة العهد بل تعود إلى الاستعمار البريطاني الذي جثم طويلاً على صدر أكبر دولة عربية (والعاشرة عالمياً مع مساحة 2.5 مليون كلم مربع) حيث قامت السياسات الاستعمارية على تظهير الاختلافات الإثنية واللغوية والعرقية بين الشمال والجنوب ويذكر في هذا الإطار أن السكرتير الإداري للاستعمار البريطاني في السودان"هارول ماكميا" أصدر سلسلة إجراءات ساهمت في وضع اللبنة الأولى في مشروع التقسيم ومنها على سبيل المثال إلغاء تدريس اللغة العربية في الجنوب, ترحيل المسلمين من الجنوب إلى الشمال نقل الموظفين الشماليين من العمل في الجنوب إلى الشمال منع اللباس العربي في الجنوب,وقد أدى ذلك كله إلى تحرك الجنوب نحو الانفصال عبر المطالبة بنظام خاص داخل الدولة السودانية الموحدة والأخذ بنظام الفدرالية وكان أول تمرد عسكري جنوبي يصب في مصلحة الانفصال قبيل استقلال السودان عن بريطانيا وتحديداً في آب من العام 1955 ليغرق السودان بعدها في نزاع مسلح استمر 21 سنة ذهب ضحيته نحو مليوني شخص فضلاً نزوح أربعة ملايين آخرين وخراب كبير في أجزاء واسعة في رقعة الحرب الجغرافية. ولوضع حد للحرب بذلت الكثير من الجهود الدولية وتم توقيع ستة اتفاقيات بين الشمال والجنوب كان أبرزها اتفاقية السلام الشامل المعروفة باتفاقية "نيفاشا" في العام 2005 والتي توافق في إطارها طرفا النزاع على حسم مصير الجنوب من خلال استفتاء أهله حول الانفصال وهذا ما حدث بالفعل في 9 تموز 2011. بداية الأحداث هذه الخلفية التاريخية لنشأة دولة جنوب السودان يستفاد منها اليوم في فهم ما يجري من صراع سياسي على السلطة والذي بدأ وفقا للرواية الحكومية بمحاولة مجموعة من قوات الحرس الجمهوري المسماة "تايجر" السيطرة على مستودع للذخيرة تابع لقيادة الجيش في العاصمة "جوبا" الأمر الذي أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة في محيط مقر وزارة الدفاع بين الحرس الجمهوري وقوة الجيش الموكلة بحماية المستودع, بعد هذه الاشتباكات خرج رئيس الدولة "سيلفا كير ميارديت" ليعلن أن ما جرى لم يكن سوى محاولة انقلاب قادها نائبه السابق "رياك مشار" وليتخذ على ضوء هذا الاتهام مجموعة من القرارات ذات الطابع العسكري الأمني والسياسي لضبط الأوضاع في البلاد وكان من بين القرارات التي اتخذها, إلى نشر الجيش في العاصمة, اعتقال 11 من الشخصيات السياسية البارزة في الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يتزعمها وأبرزها الأمين العام للحركة "باجان أموم" "وربيكا جارانغ" زوجة مؤسس الحركة و"لام أكول" وزير الخارجية السابق. ما بين الرئيس ونائبه الرواية الانقلابية لرئيس جنوب السودان سرعان ما نفاها "مشار" متهماً كير بتدبيرها "في سياق محاولته إكمال احتكاره للسلطة", وهذه الجملة الأخيرة توضح البعد المركزي للأحداث وهو الصراع على السلطة ويبرز فيه بشكل أساسي كل من الرئيس ونائبه المقال المختلفين اختلافاً جوهريا في الخلفية الفكرية والثقافية والقبلية ورؤية إدارة الدولة. سيلفا كير شخصية عسكرية بكل ما للكلمة من معنى تربى في ساحات القتال وأصبح قائداً عسكرياً وميدانياً معروفاً بصرامته وقلة صبره ومعالجته الخلافات مع الآخرين بقوة الحسم. ارتبط اسمه بمؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان جون جارنغ لكنه انشق عنه مطلع التسعينيات والتحق بزعيم حركة "تحرير جنوب السودان" آنذاك رياك مشار قبل أن ينجح جارنغ في تفكيك الحركة واستعادة ابرز رموزها وعلى رأسهم كير ومشار. بعد وفاة جارنغ ورث كير مناصبه كافة فتولى قيادة الحركة وأصبح النائب الأول للرئيس السوداني عمر البشير ورئيس حكومة جنوب السودان(وفق مقتضيات اتفاقية نيفاشا) وبعد الانفصال عن السودان تولى رئاسة البلاد وعيّن مشار في منصب نائب رئيس الدولة ونائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل أن يقيله من المنصب الأول في تموز من العام الماضي. أما رياك مشار فمعروف عنه أنه شخصية أكاديمية علمية ذات علاقات خارجية واسعة وفرتها له دراسته العلمية في الخارج فهو حاصل على شهادة الدكتوراه من بريطانيا في التخطيط الاستراتيجي. سيرته الذاتية توحي ببراغماتية عالية فقد اختلف مع جون جارنغ على إدارة الصراع مع الشمال أيام الحرب الأهلية وكانت له رؤية انفصالية دفعته كما ذكرنا إلى تأليف" حركة تحرير جنوب السودان" لكن ذلك لم يمنع الرجل من التعاون مع حكومة الخرطوم وتوقيع اتفاق معها في العام 1997 تم بموجبه تعيينه مساعدا للرئيس عمر البشير ومسؤولاً عن إقليم جنوب السودان قبل أن يعود مجدداً إلى صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان في مطلع العام 2002 ويعين في منصب النائب الثاني لزعيم الحركة. انطلاقاً من هذه الاختلافات الجوهرية بين الرجلين كان من الطبيعي أن تنشأ خلافات بينهما على خلفية إدارة الدولة ظهرت إلى العلن في كثير من المحطات, وفي حين يرى مشار أنه الأقدر على إدارة البلاد يتهمه كير بأنه يتعمد إفشال تجربته في الحكم, وعليه كان القرار لدى مشار بالترشح إلى انتخابات الرئاسة في العام 2015 وطالب كير بالتنحي فرد الأخير بإقالته من منصبه كنائب للرئيس وقام أيضاً بحل الحكومة ومؤسسات الحركة الشعبية في تموز الماضي الأمر الذي رأى فيه مشار انقلاباً دستورياً نجح على أثره في بلورة حلف سياسي عابر للقبائل جمع فيه كل خصوم "كير" ودعا إلى التظاهر في 14 كانون الأول الماضي ضد ما سماه محاولات الرئيس لصناعة ديكتاتورية, وفي اليوم التالي للدعوة اجتمع مجلس التحرير القومي للحركة والذي يضم 161 عضواً ولوح بعزل كير ما لم يتراجع عن قراراته وتحديداً تلك الخاصة بحل مؤسسات الحركة الشعبية لتحرير السودان .وقبل يوم واحد من اندلاع الأحداث الدموية اجتمع مجلس التحرير الوطني وحضره رموز النزاع وخلال الاجتماع رفض "كير" مصافحة "مشار" و"غارنغ" و"أموم" وشن هجوماً عنيفاً على خصومه الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأمور فخرج "مشار" ومؤيدوه من الاجتماع لتبدأ المناوشات العسكرية وتظهر رواية الانقلاب العسكري. الموقف الدولي مع اندلاع شرارة الأحداث الدموية في جوبا أبدت الدول الإقليمية والدولية قلقها مما يجري وصدرت العديد من التحذيرات من مغبة تحول الصراع إلى صراع قبلي طائفي قد تصل تداعياته إلى دول الجوار, وبهذه الخلفية تحرك مجلس الأمن وأصدر إعلاناً غير ملزم يدعو كلا من "كير"و"مشار" إلى تحمل مسؤوليتهما ووقف الأعمال الحربية والبدء الفوري بالحوار,مع إدانة أعمال العنف التي تستهدف المدنيين وبعض المجموعات الإثنية, ودعم مهمة بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان وزيادة عديد قوات حفظ السلام العاملة هناك. حكومة الخرطوم الأكثر تأثراً بأزمة جنوب السودان أبدت قدرا من الحياد مع إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع طرفي النزاع, فهي وإن كانت لا ترغب في رؤية دولة قوية على حدودها الجنوبية إلا أنها لا ترغب بنفس القدر في تحمل أعباء الأزمة سواء على المستوى الإنساني مع موجات النازحين من جحيم الحرب أو على المستوى الاقتصادي في حال تعطل حركة تصدير النفط الجنوبي عبر أراضيها ما يحرمها من رسوم التصدير. الموقف الأمريكي الولايات المتحدة الأمريكية بدورها لم تكتف بالإدانة أو الدعوة إلى وقف العنف بل أرسلت مبعوثاً خاصاً ليواكب الجهود المبذولة لمحاصرة النار الملتهبة في الدولة التي كان لواشنطن ولإدارة الرئيس باراك أوباما على وجه التحديد(وللكيان الصهيوني الذي كان أول من اعترف بجنوب السودان وسارع إلى إنشاء علاقات دبلوماسية معها) دوراً أساسياً في ولادتها, وهذا ما يفسر سر الاهتمام الأمريكي برأي صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر بتاريخ 1-1-2014 حيث قالت: "منذ عامين مثلت دولة جنوب السودان الوليدة نجاحا نادرا للسياسة الخارجية للرئيس أوباما,بعد أن قرر أن يتصدر القيادة في حل الأزمة حينذاك.. فعندما تعرّض الاتفاق الذي يمهد لانفصال جنوب السودان للتهديد بالفشل عين أوباما اثنين من مبعوثيه الخاصين, وحضر بنفسه اجتماعات الأمم المتحدة حول السودان وأرسل وزير خارجيته جون كيري لوضع خارطة طريق مفصلة لقادة السودان وكانت النتيجة أن شهد العام 2011 ميلاد دولة جديدة يعيش فيها نحو ثمانية ملايين شخص" ووفقا للصحيفة الأمريكية فإن هذا الانجاز "معرّض في الوقت الحالي لخطر الانهيار بفضل السلوك البائس الذي يقوم به زعماء جنوب السودان...فبدلا من استخدام النفط لبناء واحدة من أكثر دول العالم تطورا سمح رئيس جنوب السودان بالفساد وتورط في حروب مع السودان بشأن أراض متنازع عليها,كما دخل في عداء مع نائبه رياك مشار واتهمه بتدبير محاولة انقلاب". أفق حل الصراع الوساطات السياسية الإقليمية والدولية لم تنجح حتى تاريخ كتابة هذه السطور في الوصول إلى حل يرضي أطراف النزاع على الرغم من الخسائر البشرية الفادحة, لكن الحديث يدور عن قرب الوصول إلى تفاهم حول وثيقة وقف الأعمال العدائية التي طرحها وسطاء الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا(إيغاد) وتضم وفقاً لصحيفة الحياة(بتاريخ 20-1-2014) أربع نقاط هي: الوقف الفوري للنار والحملات الإعلامية والتصريحات الدعائية, السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى ضحايا النزاع, إطلاق المعتقلين, وانسحاب القوات الأجنبية من جنوب السودان(في إشارة إلى الجيش الأوغندي وحركات التمرد في دارفور). هل تنجح هذه الوساطة أم لا؟.. سؤال ستجيب عنه التطورات في القادم من الأيام ولكن بمعزل عن ذلك كله يبقى أن أزمة جنوب السودان تؤكد حقيقة واحدة هي أن التقسيم ليس بالضرورة حلاً قابلاً للحياة لتحسين وضع الأقليات الدينية أو العرقية بل قد يكون وصفة سحرية لإضعاف الذات وتدمير قواها. |
||||||