تصدع بنيان حكم أردوغان 

السنة الثالثة عشر ـ العدد 145 ـ ( ربيع أول 1435 هـ) كانون ثاني ـ يناير ـ 2014 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لم تحل الإنجازات الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة قبل أكثر من عقد من الزمن دون ظهور تصدعات كبيرة في بنيان حكمه إلى درجة أن هذه التصدعات باتت تهدد مستقبل تجربته السياسية التي وصفت بالاعتدال والقدرة على تقديم نموذج إسلامي يحقق التوافق بين العلمانية والإسلام والاقتصاد.

ومع هذه التصدعات بدأت ثمة مؤشرات تظهر تراجع فرص استمرار حكم حزب العدالة والتنمية في السلطة على النحو السابق، كما بدأت فرص وصول رجب طيب أردوغان إلى القصر الرئاسي في تشانقاي تتراجع خاصة بعد فشل اللجنة البرلمانية التي شكلها  في إعداد دستور جديد للبلاد بصلاحيات رئاسية قوية كما كان يخطط أردوغان، كل ذلك وسط تأزم السياسة الإقليمية لتركيا بعد أن تدخلت تركيا في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة ولاسيما سوريا ومصر والعراق، وبسبب هذا التدخل باتت تركيا في عزلة إقليمية وتعاني من تداعيات داخلية متفاقمة، من شأنهما التأثير في مستقبل حزب العدالة والتنمية على أبواب استحقاق الانتخابات المحلية والرئاسية خلال هذا العام ومن ثم البرلمانية في العام المقبل.

تصدعات في البنيان

قام حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا على جملة من النظريات التي من شأنها أن تحقق له السيطرة الكاملة على الحياة السياسة في البلاد، فكان له ذلك، إذ خلال سنوات قليلة سيطر الحزب على الرئاسات الثلاثة (البرلمان - الحكومة – الجمهورية) كما حاول بشكل تدريجي تغير بنية المؤسسات التركية بما في ذلك الجيش الذي يعد من أقدم وأهم المؤسسات التركية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، وبفضل إستراتيجيته التي حولت خطواته تكتيكية إلى إستراتيجية سياسية بعيدة المدى لجهة تغير البنيان الداخلي التركي نجح الحزب في وضع كافة المؤسسات الأمنية والقانونية والتعليمية والاقتصادية في خدمة إيديولوجيته التي جمعت بين الإسلام السياسي والعثمانية الجديدة والبراغماتية السياسية، معتمدا في ذلك على البعد الغربي وتحديدا الأمريكي في علاقة تركيا الوظيفية بالغرب. اليوم، من يمعن في هذا البنيان لا بد أن يقف عند جملة تصدعات أصابته وباتت تهدده بالانهيار، ولعل من أهم هذه التصدعات:

الأول: انكشاف حقيقة السياسة المذهبية التي اتبعتها حكومة حزب العدالة والتنمية، سواء في الداخل أو تجاه دول المنطقة وشعوبها، وهو ما أصاب سياسة حزب العدالة والتنمية بضربة قاتلة، خصوصاً لجهة الحديث عن النموذج الذي حقق التوافق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، ليظهر الحزب وكأنه تعبير عن حالة مذهبية طائفية، قسمت المجتمع التركي في الداخل من جهة، ومن جهة ثانية عمقت من الصراع السني – الشيعي في المنطقة من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا.

الثاني: على خلفية البعد السابق، كشفت الأزمة المصرية حقيقة كون حزب العدالة والتنمية يمثل الفرع التركي للإخوان المسلمين في العالم، وعلاقة هذا الحزب بحركات وجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي على شكل تحالف في مواجهة القوى والحركات السياسية الأخرى في العالم العربي، وقد أدى هذا الانكشاف إلى انهيار مصداقية السياسة التركية تجاه العالم العربي ولاسيما تلك الشعارات التي رفعها أردوغان بخصوص القضية الفلسطينية، وبسبب كل ذلك برزت تركيا وكأنها طرف في الأزمات الداخلية للعديد من الدول العربية وفي صدام مع مكونات لا تتفق وإيديولوجية الإسلام السياسي لحزب العدالة والتنمية التي سعت لإيصال حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة.

الثالث: الأزمة السورية التي كشفت حقيقة الطموحات التركية العثمانية تجاه المنطقة العربية ومحاولة استعادة منطق الهيمنة والسيطرة وفقا للظروف الجديدة، وقد أدى وصول السياسة التركية تجاه الأزمة السورية إلى طريق مسدود إلى جملة من التصدعات التي ستؤثر بشكل كبير على البنيان التركي الداخلي كونها تمس الجغرافية التركية وما على هذه الجغرافية من بنى اجتماعية وثقافية واقتصادية، فثمة كيانات سياسية باتت قائمة على الحدود التركية السورية، سواء فيما يتعلق بالحالة الكردية التي بات توحي بإمكانية إقامة إقليم كردي في شمال شرق سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، أو الحالة العلوية التي تطورت كثيرا في الداخل التركي على خلفية إقصاء هذه الطائفة وتجاهل حقوقها الثقافية والدينية تاريخيا، أو حتى على مستوى إقامة إمارات إسلامية من قبل تنظيمات داعش والنصرة وحاشا والتي بات تصاعد نفوذها في المناطق الحدودية يهدد تركيا نفسها، حيث من البديهي أن يكون لهذه الحالات والكيانات والإمارات تداعيات مستقبلية على تركيا في المرحلة المقبلة. واللافت هنا تلك التقارير التي تتحدث عن مساعدة الحكومة التركية للمجموعات المسلحة من أجل إسقاط النظام السوري على الرغم من كل التحذيرات التي نبهت من خطر هذه الجماعات على تركيا مستقبلا.

الرابع: انتفاضة شباب تقسيم التي تحولت إلى حركة تطالب بالحرية والديمقراطية في وجه الحكم الشمولي لأردوغان، وعلى الرغم من أن هذه الحركة هدأت في الميدان بعد استخدام القوة ضدها ومحاولات الالتفاف عليها من قبل أردوغان وزج أعداد كبيرة من الناشطين في السجن إلا أن هذه الحركة نجحت في أن تتحول إلى جبهة مناهضة وشاملة ضد حكم أردوغان ومحاولاته في فرض إيديولوجية حزبه على المجتمع والدولة التركيين، وقد أدى بروز هذه الحركة إلى كسر حاجز الخوف في المجتمع التركي لجهة المطالبة بالتغير السياسي في البلاد والحد من سطوة حكم حزب العدالة والتنمية.

الخامس: على خلفية العوامل السابقة، بدأنا نشهد في الفترة الأخيرة تصدعات وخلافات بين الأقطاب التاريخيين لحزب العدالة والتنمية نفسه، إذ اليوم ثمة خلافات تظهر إلى العلن بين الحين والأخر بين أردوغان والرئيس عبد الله غل على خلفية كيفية ترتيب البيت التركي في المستقبل والتنافس غير المعلن بينهما على الولاية الرئاسية المقبلة من جهة، ومن جهة ثانية بين أردوغان والرجل القوي في حزبه ونائبه في رئاسة الحكومة أي بولنت أرينج على خلفية كيفية فهم وترجمة تصريحات أردوغان وأوامره بشأن العديد من القضايا الداخلية ولاسيما فيما يتعلق بالسلوكيات داخل المجتمع التركي، وعلى خلفية ما سبق بدأنا نشهد اليوم استقالات من قبل قيادات عليا في الحزب بينهم نواب في البرلمان، كل ذلك وسط زيادة في وتيرة الانتقادات لسياسة الحزب وتورطه في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة واتهام الجميع لأردوغان بالتسلط والهيمنة والاحتكار وسط قصص عن فساد مالي وسياسي بدأت تظهر إلى العلن في محيط الدائرة الضيقة المحيطة به.

باختصار شديد، من الواضح أن البنيان السياسي الذي أوصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وانطلق منه في بناء مشروعه السلطوي في الداخل ومن ثم الإقليمي بدأ يتصدع في كل الاتجاهات، ويوماً بعد أخر تظهر مؤشرات تؤكد فقدان تجربة حكم حزب العدالة والتنمية لعناصر القوة التي أوصلته إلى سدة الحكم ومكنته من تشيد تجربته السياسية.

سقوط تحالف أردوغان – غولن

 من المعروف أن الأب الروحي للجماعة النورسية (نسبة إلى بديع الزمان الشيخ سعيد النورسي) فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة قسراً منذ 15 عاماً والمعروف بخوجا الأفندي يملك مئات الشركات والمدارس الخاصة والعديد من المؤسسات الإعلامية والصحية في تركيا والخارج، ومنذ قدوم حزب العدالة والتنمية إلى الحكم شكل تحالف غير معلن بينه  وأردوغان، وطوال السنوات الماضية شكل الرجل غطاءً مالياً وإعلامياً وشعبياً وانتخابياً لأردوغان قبل أن يصطدم الرجلان ويلجأ أردوغان إلى إقصاء رجالات غولن من مؤسسات الدولة ولاسيما في صفوف المؤسسة الأمنية وقوات الشرطة والقضاء والتعليم، حيث كشفت الوثائق التي نشرتها صحيفة (طرف) الليبرالية أن حكومة أردوغان تعاونت مع المؤسسة العسكرية في عام 2004 لتصفية حركة غولن تحت شعار الحرب على الجماعات الدينية المتشددة فيما من المعروف أن حركة غولن تعد حركة إسلامية خدماتية تصر على ابتعادها عن السياسة، علماً أن الحركة تتمتع بشعبية كبيرة ولها العديد من المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والصحية المنتشرة في مختلف مناطق البلاد، وعليه يقول البعض إنها تشكل القوة الثالثة في البلاد، أي بعد حزب العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية. والسؤال الذي يطرحه الجميع هنا، لماذا سقط التحالف بين الجانبين ؟ ثمة من يرى أن حركة غولن باتت على قناعة عميقة بأن أردوغان لم يكن وفياً للتحالف الذي نشـأ بين الجانبين، بدليل انه بدأ منذ عام 2004 بالتعاون مع المؤسسة العسكرية في القضاء على الحركة تحت عناوين الحفاظ على العلمانية ومواجهة الحركات الدينية المتشددة، وفي السنوات الأخيرة دخلت الحركة في خلافات شديدة مع أردوغان على خلفية طريقة تعاطيه مع الأحداث التركية الداخلية، ولاسيما قضية استخدام العنف ضد شباب انتفاضة تقسيم في اسطنبول، وكذلك محاولة التدخل في بنية المؤسسات التركية والمناهج التعليمية للمدارس انطلاقا من حسابات خاصة تتعلق بسياسة وإيديولوجية حزب العدالة والتنمية، كما أن قضية المفاوضات التي جرت في أوسلو بين رئيس الاستخبارات العامة التركية حقي فيدان وحزب العمال الكردستاني في أوسلو عمقت من الخلافات بين الرجلين حيث قيل ان الحركة سربت بالصوت محاضر إحدى الجلسات ومن ثم حركت دعوى قضائية ضد فيدان لمحاكمته أمام القضاء قبل أن يتدخل أردوغان شخصيا ويمنع المحاكمة ويحض رئيس استخباراته قضائيا ويلجأ إلى إقصاء رجالات غولن من المؤسسات القضائية التركية وهو ما أدى إلى خروج الخلافات بين الجانبين إلى العلن. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف سيؤثر سقوط تحالف أردوغان – غولن على مستقبل حزب العدالة والتنمية على أبواب الانتخابات المحلية في آذار المقبل ومن ثم الرئاسية في أب وهي المرة الأولى التي سيكون فيها التصويت بشكل مباشر من قبل الشعب ومن ثم الانتخابات البرلمانية في العام المقبل؟.

في الواقع على الرغم من عدم وجود إحصاء دقيق عن عدد أفراد الجماعة النورسية وحجمها الانتخابي في تركيا  إلا أن التقديرات التي تنشرها الصحف التركية تقدر نسبتها ما بين 4% إلى 6% في عموم البلاد، وهي نسبة كبيرة من شأنها فقدان حزب العدالة والتنمية الغالبية التي يتمتع بها في البرلمان في حال قررت الحركة عدم التصويت له في هذه الانتخابات، وهو الأمر الذي سيؤثر في حظوظ الحزب بمواصلة الحكم منفرداً في المرحلة المقبلة، وإذا ما صحت هذه التوقعات فإن المشهد السياسي التركي قد يتغير خصوصاً في ظل التقارير التي تشير إلى تزايد نفوذ الحركة مقابل تراجع نفوذ حزب العدالة والتنمية.

وأمام هذا الواقع أو الامتحان الجديد لحزب العدالة والتنمية، ثمة من يرى أن أردوغان يحاول الإمساك بخيوط اللعبة الداخلية في معركة الانتخابات حتى لو كان الثمن الدخول في مواجهة حاسمة مع حركة غولن عبر التحالف مع حزب السلام الديمقراطي الكردي الذي له 36 نائباً في البرلمان وذلك من خلال تفعيل مسار السلام مع حزب العمال الكردستاني في المرحلة المقبلة، علماً أن مثل هذا المسار سيدخله في مواجهة مع الحركة القومية المتطرفة بزعامة دولت بهجلي، وهي حركة ترفض أي اعتراف بالقضية الكردية في تركيا على الرغم من أن علاقات تركيا مع إقليم كردستان العراق وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة إلى درجة أنها باتت تهدد العلاقة بين أنقرة وبغداد بعد أن وقعت أنقرة اتفاقيات مع أربيل لنقل النفط والغاز من إقليم كردستان العراق إلى تركيا على الرغم من اعتراض بغداد على ذلك باعتبار أن مثل هذه الاتفاقيات توقع بين الدول وهي من الأمور السيادية.  في الواقع، بغض النظر عن مآل التحالف التاريخي بين أردوغان - غولن من الواضح أن أردوغان بدأ يفقد الخزان الشعبي الذي مد حزبه طوال الفترة الماضية بالأصوات الانتخابية، خاصة أن ما ينطبق على حركة غولن ينطبق أيضاً على العديد من الأوساط الإسلامية والطرق الأخرى  ولاسيما تلك التي تمثل الطرق الدينية مثل النقشبندية والبكتاشية التي كانت لها دوراً كبيراً في دعم الصندوق الانتخابي لصالح أردوغان خلال الانتخابات الماضية بوصفه يمثل الرجل الذي يقود تجربة إسلامية مميزة تحقق النموذج الإسلامي الذي يضم كافة التيارات الإسلامية وليست إيديولوجية محددة، فصلا انه النموذج المقبول في الداخل والمنشود في الخارج.

غروب شمس أردوغان

يعرف الجميع أن أردوغان كان يخطط طوال المرحلة الماضية للوصول  إلى سدة رئاسة الجمهورية من خلال إقرار دستور جديد للبلاد لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإذا لم يتمكن من ذلك فمن خلال البقاء في منصب رئيس الوزراء عن طريق الانتخابات البرلمانية في العام المقبل، لكن الذي جرى جعل الوصول إلى الهدفين صعباً جداً، إذ باتت الطرق القانونية والدستورية المعمولة بها حالياً مسدودة في وجه طموحاته سواء فيما يتعلق بالوصول إلى منصب رئاسة الجمهورية أو البقاء في منصبه الحالي.

فاللجنة البرلمانية التي شكلت بأمر من أردوغان لوضع دستور جديد بصلاحيات رئاسية قوية على غرار النموذجين الأمريكي والفرنسي أعلنت فشلها ومن ثم حلت اللجنة نفسها لاحقاً، كما أن القانون الداخلي لحزب العدالة والتنمية يمنع أي قيادي من تشغيل منصبه لأكثر من ثلاث دورات متتالية، ومن المعروف أن أردوغان شغل منصبه الحالي لثلاث دورات متتالية وهو ما يعني وفق اللوائح الداخلية للحزب انه لن يستطيع شغل هذا المنصب مرة أخرى.

إلى جانب هذا العامل الداخلي فان التداعيات الإقليمية لسياسة أردوغان التي قامت على ركوب موجة ما سمي بالربيع العربي أفقدته مصداقيته السياسية، وباتت هذه التداعيات تشكل تحدياً خطيراً أمام أردوغان وطموحاته الإقليمية المعروفة بالعثمانية الجديدة، فالمشروع التركي الإقليمي تعرض لضربة قاتلة في مصر بعد سقوط حكم محمد مرسي ومن خلفه مشروع حركات الأخوان المسلمين في المنطقة، كما أن سياسته تجاه الأزمة السورية والتي انطلقت على أساس أن مسألة سقوط النظام السوري هي مسألة وقت، وعلى هذا الأساس دعمت تركيا المجموعات المسلحة بما في ذلك تلك المرتبطة بالقاعدة ... هذه السياسة وصلت إلى طريق مسدود وبدأت تنعكس سلبا على تركيا أمنا واقتصادا وسياسة في الداخل، فضلاً عن أن سياسته هذه السياسة أدت إلى دخول العلاقات التركية بكل من العراق وإيران وروسيا إلى مرحلة من السلبية تتراوح بين الفتور والتوتر بعد أن كانت مرشحة لنوع من التكامل عندما انتهجت تركيا في بداية حكم حزب العدالة والتنمية سياسة صفر المشكلات، ولعل ما ضاعف من معاناة هذه السياسة وتحدياتها هو خيبة تركيا من الموقف الغربي وتحديداً الأمريكي بعد أن انقلبت تركيا على نظرية صفر المشكلات واتجهت إلى القيام بدور وظيفي في الإستراتيجية الغربية ضد دول المنطقة، لتكتشف أنقرة لاحقاً أن لواشنطن حسابات ومصالح مختلفة بل وربما متناقضة ولا تتوافق مع مصالح تركيا ورؤيتها تجاه الشرق الأوسط ولاسيما الأزمة السورية، بل وصل الأمر بأن علاقة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الأمريكي باراك أوباما وصلت إلى أزمة غير معلنة من قبل  الجانبين، فبعد الاتصالات المستمرة وشبه اليومية بين الرجلين بشأن الأزمة السورية خلال الفترة الماضية تقول التقارير إن هذه الاتصالات انقطعت منذ أكثر من ستة أشهر، وان أمريكا التي دعمت في البداية وصول حركات الأخوان إلى السلطة في الدول العربية غيرت موقفها لاحقا وتحديدا بعد سقوط حكم الأخوان المسلمين في مصر، ومقابل هذا الفتور غير المعلن في علاقة أردوغان أوباما ثمة توجه أمريكي إلى تحسين العلاقة مع زعيم المعارضة التركية أي رئيس حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو حيث وجهت واشنطن دعوة رسمية له لزيارتها، وهو ما يعني في معايير السياسة الأمريكية الكثير لجهة العلاقات والتحالفات.

وعلى خلفية هذه التطورات والمتغيرات والتقلبات التي لا تصب في صالح أردوغان بدت شخصية الأخير في الكثير من المحطات وكأنها شخصية عصبية ومزاجية ومتناقضة بل وحتى مهزوزة، خاصة وان علاقاته مع أقرب حلفائه في المنطقة وأقصد هنا دول الخليج أي السعودية والإمارات والكويت (ما عدا قطر) تعرضت لأزمة حقيقية على خلفية اختلاف الموقف من ما جرى في مصر والموقف العام من مشروع الأخوان المسلمين في المنطقة حيث قامت معظم الدول السابقة بتجميد معظم  استثماراتها في تركيا والتي تبلغ قرابة عشرين مليار دولار، وقد وضع كل ما سبق السياسة الإقليمية التركية في مآزق كبيرة عناوينها العزلة والفتور والصدام مع الجوار الجغرافي والعواصم الإقليمية في المنطقة. ولعل ما يفاقم من انعكاسات هذه السياسة الإقليمية الخائبة على الداخل التركي هو جملة سلوكيات حكومة أردوغان في التعاطي مع قضايا الحريات في تركيا، إذ تشير تقارير المنظمات الدولية المعنية بالحريات أن تركيا تراجعت في من المركز 99  في عام 2002 إلى المركز 154  خلال العام 2013 بالنسبة إلى حرية التعبير عن الرأي طبقا لتقرير مراسلون بلا حدود، كما أن التقرير الأوروبي السنوي بشأن حرية الصحفيين الذي صدر في حزيران/يونيو الماضي يقول إن تركيا تحولت إلى أكبر سجن للصحفيين، إذ أنها تسجن حالياً 69 صحفياً، فضلاً عن هذا فإن التقارير تشير إلى أنها تعتقل قرابة ثمانية آلاف كردي بينهم نواب في البرلمان التركي بتهم لها علاقة بالدفاع عن الحقوق القومية الكردية، كما أن عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني تتعثر، فوق هذا فإن علاقات أردوغان مع المؤسسة العسكرية يشوبها الكثير من التوتر والصدام بعد أن لجأت حكومته إلى وضع عشرات من الضباط الكبار في السجون بتهم تتراوح بين التورط في التحضير لانقلاب عسكري ضد حكمه ودعم الإرهاب، فيما تقول العديد من الأوساط التركية أن ذلك يدخل في إطار تصفية الحسابات السياسية والصراع مع المؤسسة العسكرية على دورها في البلاد والسعي إلى تغير بنية الجيش من خلال وضع ضباط مقربين من حزب العدالة والتنمية في سدة قيادة المؤسسة العسكرية التركية. يضاف إلى كل ما سبق ثمة من يرى ان أردوغان تحول من زعيم إسلامي معتدل إلى سلطان عثماني يتحدث بلغة الباب العالي، إذ يقول المحلل السياسي التركي ألتر توران من جامعة بلجي في اسطنبول: (منذ توليه الحكم تحول رئيس الوزراء تدريجيا من ممارسة سياسة براغماتية للسلطة إلى مواقف إيديولوجية، ومن العمل الجماعي إلى قرارات فردية، ومن الديمقراطية إلى التسلط، ومن سياسات مدروسة إلى أخرى ارتجالية) وعلى غراره يرى نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض فاروق لوغوغلو أن (الاستياء الناجم عن سياسة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان يتزايد في داخل البلاد وخارجها، وان الديمقراطية والحريات في تركيا باتت مهددة، وان ثمن هذه السياسة هي ان تركيا أصبحت مهمشة على الساحة الدولية والإقليمية ومقسمة في الداخل).

في الواقع، مجمل ما سبق يشير إلى حجم التصدعات في بنية حكم حزب العدالة والتنمية، وإلى نقاط الخلل الكبيرة في المشروع الإقليمي التركي، وانعكاس كل ذلك على تجربته في الحكم بالداخل، ومن الواضح أن معظم الأصابع تشير إلى مسوؤلية أو الدور الأكبر لأردوغان في كل ذلك، في وقت ترى الأوساط التركية أن نتائج كل ما سبق ستنعكس سلبا على مستقبل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة فضلاً عن المصير السياسي لأردوغان نفسه بعد أن سدت الطرق القانونية أمامه في تحقيق طموحاته في البقاء في سدة المشهد السياسي الحزبي والسياسي حتى عام 2024 كما خطط، ولعل غيابه عن هذه المناصب يرشح حزب العدالة والتنمية للدخول في مرحلة جديدة بغياب معظم قادته المؤسسين بعد أن شغل هؤلاء مناصبهم لثلاث دورات متتالية، وهو ما يجعل من مستقبل الحزب محفوفا بالمخاطر وأمام مفترق الطرق.        

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*) 

 

اعلى الصفحة