|
|||||||
|
يكثر الحديث في هذه الأيام عن ضرورة المراجعة النقدية وأهمية العمل على إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني, فقراءة الواقع تحتم علينا أن نقف أمام التطورات والأحداث المتواصلة، وخصوصاً أن التعويل على الإدارة الأمريكية لم يعد يجدي نفعا بسبب انحيازها المطلق إلى جانب الكيان الصهيوني الذي يمارس الوقائع على الأرض من استيطان وتهويد للمقدسات وقتل ممنهج بدم بارد. ولهذا فإن الخروج من مأزق المفاوضات هو الأساس الذي يجب إتّباعه لمواجهة التحديات من خلال وحدة وطنية، برؤية سياسية موحدة ورسم إستراتيجية وطنية تكون المقاومة بكل أشكالها المحور الأساسي لها. فالمتغيرات الإستراتيجية في المنطقة، ورياح التغيير التي ستطال المنطقة والقضية الفلسطينية بشكل أساسي، من خلال التفاهمات الروسية- الأمريكية والاتفاق على عقد مؤتمر جنيف(2) بشأن القضية السورية،وكذلك الاتفاق الإيراني الدولي حول البرنامج النووي، هذه المتغيرات التي تجري في ظل التوازنات والمعادلات المتغيرة في العالم والتي ليست في صالح الغطرسة الاستعمارية الأميركية التي انقضى عهدها، كل ذلك يستوجب ضرورة العمل على إطلاق خطة سياسية فلسطينية موحدة تؤدي إلى توفير ركيزة تنظيمية وطنية لتطوير الهبات الجماهيرية المتلاحقة إلى انتفاضة شعبية متصلة ومتصاعدة تستطيع، فيما تستطيع، مع تفعيل العامل العربي- الإسلامي الرسمي والشعبي، وهذا يتطلب إنهاء الانقسام الكارثي والعمل على وحدة الموقف الفلسطيني وتفعيل الحراك الدبلوماسي بالتوجه للانضمام إلى الهيئات والوكالات الدولية بما فيها محكمة الجنايات والعدل الدولية وتطوير المقاومة الوطنية بكافة أشكالها والاستفادة من التحولات الكبيرة الجارية في المنطقة والعالم. تشظي الحالة السياسية مما لا شك فيه أن حالة التشرذم السياسي، والتجزئة الجغرافية الاستعمارية، تخدمان إستراتيجياً الكيان الصهيوني للسيطرة على مناحي حياة الفلسطينيين كافة في فلسطين التاريخية. ومن الجدير ذكره هنا أن النخب السياسية الفلسطينية قد ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر وبقصر نظر مخيف، في تشظي الحالة السياسية التي قادتها حتى بداية التسعينيات؛ منظمة التحرير الفلسطينية، فأدت إلى تشظّي الحالة الوطنية إلى حقول محلية (الضفة وغزة وفي الشتات ومناطق 48 وغيرها) ولم يتوقف التفتيت عند هذا الحد, بل تم شقّ السلطة الفلسطينية إلى سلطتين كلاهما تحت الاحتلال والحصار، وللأسف الشديد لا تزال النخب السياسية تعطل تحت ذرائع واهية أسباب إعادة بناء المشروع الوطني، متمثلاً في جانب مهم في إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير على أسس ديمقراطية تلمّ شمل تجمعات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وبمشاركة ممثلين (منتخبين حيث أمكن) عن التنظيمات والأحزاب السياسية والاتحادات والحركات الاجتماعية التي لها حضور في هذه التجمعات. والكل يقول اليوم إن النخب السياسة باتت عبئاً على الشعب الفلسطيني، وأصبح كل من "الكيانين" السياسيين القابعين تحت سطوة الاحتلال والتبعية الاقتصادية لإسرائيل والاعتماد الكبير على المنح المالية، عقبة في وجه نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية، ولم يعد هناك من أسباب تبرر استمرار حالة الانقسام بعد كل ما تركته ولم يعد هناك من أسباب تبرر استمرار حالة الانقسام بعد كل ما تركته من تشويه وإرباك في قضية الشعب الفلسطيني على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولم يعد التباين في المواقف السياسية مقنعاً كمبرر لمواصلة الانقسام، إذ من الطبيعي أن تتعايش الآراء والمواقف المتباينة في أطر وطنية موحدة، كما لم يعد واضحاً تماماً مكامن التباين في إستراتيجيا القوى الفلسطينية في مواجهة مشروع الدولة الاستعمارية الاستيطانية بعد أن سيطر المستوطنون على مركزها الإيديولوجي والسياسي. لقد قادت إستراتيجيا الطرفين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية إلى طريق مسدود تماماً: فطريق المفاوضات مغلق منذ سنة 2010 بعد أن اتضح أن إسرائيل أرادته لتقطيع الوقت، وغطاءً لمواصلة مشروعها الاستيطاني ومحاصرة الفلسطينيين في "معازل" ("بانتوستانات") محاطة بالمستعمرات وجدران الفصل العنصري والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية. كما أن إستراتيجيا المقاومة التي رفُعت في مواجهة إستراتيجيا المفاوضات جُمّدت بعد اتفاق "التهدئة" مع إسرائيل في إثر عدوانها الأخير على غزة. علاوة على ذلك تجذّرت بنى السلطة "العميقة" في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وأضحت نخبة صغيرة في المنطقتين تهيمن على هذه البنى من خلال سيطرتها على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وتحكمها بمصادر الريع الرئيسية، وباتت كلتاهما كابحاً لنمو حركات اجتماعية تتبنى إستراتيجيا مواجهة غير منغلقة على محليتها، ولا أسيرة للجغرافيا السياسية المفروضة من الكيان الصهيوني: تجزئة الضفة الغربية إلى مناطق (أ، ب، ج)، تشييد جدار الفصل العنصري؛ عزل الضفة عن غزة، وعزل كل منهما عن القدس؛ عزل المناطق المحتلة منذ سنة 1967 عن تلك التي احتلت في سنة 1948، وليس لأي منهما توجّه إلى اعتماد سياسات للانفكاك من التبعية الاقتصادية لإسرائيل، ولتنمية اقتصاد إنتاجي موجّه لتلبية حاجات المواطن الفلسطيني. لقد وصلت النخب السياسية لدرجة أنه بات خارج اهتمامها إدارة حوارات وطنية لصوغ إستراتيجيا مقاومة لإسرائيل كدولة مستعمرة استيطانية، ولمواجهة ضغوط الإدارة الأمريكية، ومن اللافت أن النخب السياسية لم تر أن من واجبها إعلان رفضها تبنّي الرئيس الأمريكي إسرائيل كدولة يهودية وما يترتب على ذلك من تنكّر لحق العودة، وتسويقه كامل الرواية الصهيونية بأساطيرها وخرافتها، أي اعتبار اليهودية قومية والصهيونية ممثلاً لليهود جميعاً ومساواتها باليهودية، وهو ما فبركته الحركة الصهيونية لتسويغ مشروعها الاستعماري الاستيطاني. ولتطهير فلسطين عرقياً من شعبها، أخرج الرئيس الأمريكي الشعب الفلسطيني من التاريخ والجغرافيا من دون أن تتولى "القيادات" الفلسطينية الموجودة انتقاد ذلك، ومن دون احتجاجها على تعهده المفتوح و"الأبدي" بحسب تعبيره، بدعم الكيان الاستعماري وهو يشيّد نظاماً عنصرياً في فلسطين. وهكذا فإن أوباما أراد من الفلسطينيين العودة إلى المفاوضات الثنائية وفق الشروط الإسرائيلية، وأراد من الرئيس الفلسطيني أن يمتنع من استخدام مكانة فلسطين الجديدة في الأمم المتحدة للانضمام إلى اتفاقيات ومؤسسات تساند مناهضة الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري ونهب التراث الفلسطيني المادي والثقافي، ولا يريد أوباما أن تنضم فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية وملاحقتها إسرائيل على جرائمها، وتخشى أمريكا وإسرائيل من أن يستفيد الفلسطينيون من تجربة جنوب إفريقيا في تشكيل لجنة فلسطينية دائمة في الأمم المتحدة لمناهضة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. إن المشكلة هي استمرار تعويل النخب الفلسطينية على الولايات المتحدة على الرغم من العقود الطويلة من التجربة المريرة معها، وهذا التعويل هو الذي يفسر الامتناع حتى اللحظة من استخدام الصفة الجديدة لفلسطين للاشتباك مع سياسات الدولة المستعمرة، ولمقارعة الإدارة الأمريكية بدلاً من منحها الوقت لفرض العودة إلى المفاوضات الثنائية، على الرغم من إدراك الجميع أن حل الدولتين بات وهماً. كذلك فإن الإدارة الأمريكية لم تحصر تحركها في مجال استئناف المفاوضات الثنائية، بل باشرت ضغوطها لتعديل ما يسمى بـ"مبادرة السلام العربية" كي تقترب من الصيغة التي تُرضي إسرائيل، وظهر هذا من خلال موافقة وفد وزراء خارجية لجنة المتابعة العربية (برئاسة دولة قطر) خلال لقائه وزير الخارجية الأمريكية في واشنطن في نهاية نيسان/ إبريل الماضي، على مبدأ تبادل أراض بين الكيان الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، ولا يبدو أن هذا هو التعديل الوحيد الذي تريده واشنطن لمبادرة السلام العربية، فهي ترغب في أن تباشر الدول العربية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل قبل توصّل الأخيرة إلى اتفاق مع الفلسطينيين، وقبل أن تنسحب من بقية الأراضي العربية التي احتلتها في سنة 1967، كما تسعى واشنطن لأن تتجاهل المبادرة الحق التاريخي في عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. المراجعة النقدية الشاملة يبدو أن الأهمية تزداد يوماً بعد آخر لإجراء المراجعة النقدية الجادة لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية على امتداد أكثر من قرن، وذلك للبحث في الأسباب الذاتية والموضوعية عن الإخفاقات المتكررة في مواجهة المشروع الصّهيوني ومنع تقدمه، رغم عدالة القضية وجسامة التضحيات التي قدمها ولازال الشعب الفلسطيني. ولمراجعة مماثلة لتجربة الحركة الصهيونية، للوقوف، أيضاً، على أسباب نجاحاتها المتواصلة في تحقيق وتقدم المشروع الصّهيوني، رغم أنه معاكس لاتجاه حركة المنطق والتاريخ. لقد باتت هذه المراجعة الشاملة ضروريّة، قبل أيِّ طرحٍ جادٍّ لتجديد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ومن دونها يتعذر كُليّا بلورة مشروعٍ وطنيٍّ فلسطينيٍّ تحرّريٍّ قابل للإنجاز بالسرعة والكلفة المعقولة. ومع أنَّ ذلك يجب ألا يدفعنا إلى تأجيل تصويب الانحرافات في المسار الفلسطيني إلى حين إنجاز عملية المراجعة، فإنّه ينبغي التنبّه إلى مخاطر الانزلاق في المحظورات؛ إذا واصلنا العمل دون برنامج تحرري إنسانيٍّ نهضوي عصريٍّ، يشكل بوصلة توجِّه النضال الوطني الفلسطيني. وعليه، يجب التّفريق بين العمل الاستراتيجيّ، وبين العمل السياسيّ؛ لأنّ الخلط يضرّ بكليهما، وهو ما يُؤْخذ على الوثيقة موضع المناقشة. فالعمل الهادف إلى إعادة صياغة المشروع التّحرري الفلسطيني، مهمّة إستراتيجيّة تنجزها نخب ثوريّة، من غير السِّياسيّين المنشغلين بالهمّ اليومي، تستعين بفريق وطنيٍّ من المُفكِّرين، وذوي الخبرات السّياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والعسكريّة، وبعدد من مراكز الأبحاث الجادة المتخصصة، ويتفرغون لإنجاز عملية المراجعة النقدية الشاملة، لاستخلاص النتائج وتوظيفها في بناء مرتكزات الرؤية الجديدة، وفي تحديد عناصر برنامجٍ نهضويّ تحرريّ إنسانيّ عصريّ شامل، مؤهّل لهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري، المعاكس لاتجاه حركة التاريخ. أما التّأثير الفاعل في الوضع السياسيّ القائم، عبر الانغماس العمليّ في تكوين الوقائع، فهو عمل سياسيّ حيويّ، ينطلق من بحث الممكن تحقيقه للنّهوض بالأداء لجني المكاسب الوطنية و تقليص الخسائر. وعليه، نعتقد بضرورة المراجعة النقدية الشاملة، لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، كوثيقة سياسية تتضمن رؤية استراتيجية متكاملة، تهدف إلى الإصلاح بتقليص الضرر وتحسين الأداء الوطني، لأهمية ذلك في عدم إضافة مزيد من العراقيل والعقبات أمام إنجاز المشروع التحرّري الفلسطيني. صحيح أن المصالحة عمل إيجابي ومهم؛ لكنها لن تؤدي إلى تغيير المسار المسؤول عن الإخفاق العام في إنجاز المشروع التحرري، والناجم أساسا عن الانحراف عن مواجهة الصهيونية لهزيمتها، وتوجه فصائل العمل الفلسطيني كافة، إلى مقارعة الصهيونية لمساومتها، والوصول إلى حلول وسطى معها. كما أن إعادة بناء مؤسسات منظمة التّحرير الفلسطينية، يبقى قاصراً في غياب مشروع وطني نهضوي تحرّريٍّ يُفترض بالمنظمة قيادة إنجازه. فالمنظمة أداة وآليّة مؤسسية، تعتمد بنيتها وهياكلها على المهام المناطة بها لإنجازها. دون أن يعني ذلك، عدم إمكانيّة إصلاح المنظمة وتطوير أجهزتها والقضاء على ترهّلها وتحسين أدائها في خدمة الشّعب الفلسطيني، والحفاظ عليها كصرح وطني جامع.أما إعادة بناء المنظمة الهادف إلى تأهيلها لإنجاز المشروع التحرري، فسيبقى متعذّراً في غيابه. وعند الحديث عن ضرورة المراجعة النقدية الشاملة لا بد لنا من وضع ملاحظة تتعلق ببعض المصطلحات الإشكالية الواردة، التي قد تقودنا إلى نفق مجهول: فالحديث مثلاً عن "إعادة بناء التمثيل الوطني الفلسطيني" ينطوي على خطورة بالغة، في ظلّ الافتقار إلى المشروع الوطني النهضوي التحرري الجامع، وغياب البدائل المؤهّلة، وقد يعيدنا إلى مرحلة التّيه وتفكك الكيانيّة الفلسطينية، في هذه المرحلة المفصليّة التي يُعاد فيها تشكيل المنطقة. كما أن اختزال الديمقراطية بالانتخابات، في ظلِّ الواقع الفلسطيني المُقيّد، قد لا يكون الصيغة المُثلى لإفراز قيادةٍ وطنيّةٍ مؤهّلةٍ لهزيمة المشروع الصهيوني. كذلك فأن الحديث عن "رفض المحاصصة الفصائلية"، في المنظمة والسّلطة، غير مُجدٍ، بغياب صيغٍ تنظيميّةٍ أرقى للعمل الوطني، دون الاستهانة بمخاطر المنهج الإقصائي والهيمنة الفصائلية. تجليات الوطنية الفلسطينية شهد العامان الأخيران تسارعاً في وتيرة وتنوع الفاعليات الموقعية الموجهة ضد سياسات الكيان الصهيوني، الأمر الذي جعل البعض يستشعر رياح انتفاضة ثالثة مقبلة، وقد يكون التفسير في تسارع الحراكات الموقعية، هو حالة الاستنفار للوطنية الفلسطينية التي ولدها مشهد تفتت الحقل الوطني وتهافت السلطة في كل من رام الله وغزة, والأحداث التي تشهدها المنطقة، والوطنية الفلسطينية ليست فكرة عن أحاسيس رومانسية، وإنما هي نتاج تواصل النكبة الفلسطينية، وتواصل فصول الرواية الفلسطينية التاريخية داخل فلسطين المحتلة وفي الشتات، ولا شك في أن فضلاً أساسياً في إرسائها وتنميتها يعود إلى التنظيمات والأحزاب الفلسطينية التي نشطت بين صفوف تجمعات الشعب الفلسطيني خلال العقود الخمسة الماضية، وإلى التجربة المعاشة لهذه التجمعات تحت الاحتلال وفي الشتات، ويبدو أن هيمنة الحراكات الموقعية وافتقارها إلى شعار موحد سببه حاجة الوطنية الفلسطينية إلى إطار تنظيمي جامع، وإلى قيادة وطنية تستند إلى تسوية تاريخية أو وثيقة وفاق وطني بين التيارات السياسية الرئيسية (التيار الوطني الليبرالي، التيار الإسلامي، التيار اليساري الديمقراطي)، وإلى مشروع سياسي يقود نشاطاتها ويكمل بين أطرافها ويخرجها من سطوة المحلية والجغرافيا السياسية. ونحن نشهد حالة التحفز الوطني هذه في فاعليات متنوعة يجمع بينها مضمونها الوطني، وقد شارك في هذه الفاعليات مجموعات شبابية وغير شبابية، وبرز معظمها بعد انغلاق الأفق السياسي أمام المفاوضات واتضاح حدود المقاومة المسلحة (التي تعتمد على فئة متدربة من المقاتلين وتستثني أغلبية الشعب من المشاركة)، وبعد تمأسس الانقسام الداخلي وشيوع استخدام القمع ضد المعارضة السياسية في الضفة والقطاع، وشهدت مدن الضفة الغربية وغزة حراكات شبابية رفعت شعارات تدرجت في مضمونها السياسي من مطلب إنهاء الانقسام، إلى إنهاء الاحتلال، إلى إلغاء اتفاق أوسلو، إلى انتخابي مجلس وطني جديد، لكنها بقيت حراكات نخبوية إذ لم تنجح في التحول إلى حراكات شعبية، وجزء من ذلك يعود إلى أسباب تتعلق بالشرط الفلسطيني وجغرافيته السياسية، بينما يعود جزء آخر إلى واقع التنظيمات السياسية، وإلى تعثر الانتفاضات العربية في التقدم نحو إنجاز الأهداف التي رفعتها (الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية). كما استمرت التظاهرات الأسبوعية المنتظمة الموقعية (في بلعين، والنبي صالح، وغيرهما) وبمشاركة أجانب وإسرائيليين متضامنين ضد الجدار وهدم البيوت والاستيطان (الذي تضاعف في سنة 2012 مرات أكثر مما كان عليه في سنة 2011)، وتضامناً مع الأسرى، كما شهد العام الماضي تظاهرات ضد سياسات حكومة سلام فياض الاقتصادية وارتفاع معدلات غلاء المعيشة، تطوّر بعضها للمطالبة باتخاذ سياسات تُخرج الضفة والقطاع من واقع التبعية للاحتلال. بعض الحراكات والفاعليات الشبابية داخل فلسطين وخارجها قدم نفسه كحركات تغيير جذري للواقع، فبعضها ربط الاحتجاج على السياسات الاقتصادية الاجتماعية لحكومة سلام فياض بالدعوة إلى معالجة الأزمة المالية ـ الاقتصادية من خلال التحرر من قيود اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس، بينما ربط بعض الحراكات الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مشكلة أزمة السكن بسياسة التمييز العنصري، وشهد أيار/ مايو 2011 تحركات شبابية أساساً ربطت ذكرى النكبة بحق العودة من خلال محاولات اجتياز حدود فلسطين المحتلة انطلاقاً من لبنان وسورية والأردن، وفي نيسان/ إبريل الماضي تمكنت مجموعة من الشباب الفلسطينيين والعرب "الهاكرز" من اختراق عدد غير قليل من المواقع الإلكترونية الإسرائيلية الحكومية والأمنية والمصرفية، وعرض قضايا الأسرى الفلسطينيين وجرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني على الرأي العام العالمي، وينظم شهرياً عدد غير قليل من المؤتمرات والندوات وجلسات الحوار على جانبي الخط الأخضر وفي مدن الشتات، وبعضها بمشاركة تجمعات فلسطينية عدة، وهي تتناول مناقشة سبل تجاوز المأزق الوطني، وهذا فضلاً عما ينشر في الصحافة المحلية والبرامج التلفزيونية. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى ما يُنجز في مختلف الحقول الثقافية (الرواية، الشعر، السينما، المسرح، الصورة الفوتوغرافية، الفيديو، الفن التشكيلي، الموسيقى، الرقص الشعبي والمعاصر... الخ) من توثيق لجوانب متنوعة من الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال وفي الشتات، ومن تجديد وإثراء للرواية التاريخية الفلسطينية، كما تقدم الفاعليات السياسية والفكرية والثقافية والإلكترونية والحركات الاجتماعية (على غرار حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها) التي تقيمها التجمعات الفلسطينية المتعددة، المناهضة لسياسة الدولة المستعمرة، وجهاً مغايراً للوجه الذي تطل به النخب السياسية على الجمهور الفلسطيني المغترب عن هذه النخب وما تمثله. إن كثيراً من الفاعليات المناهضة لإسرائيل وسياستها يحاصر السمة الموقعية وجغرافيتها السياسية (المتولدة عن الحالة الاستعمارية الاستيطانية)، لكن من الواضح أن هذه الفاعليات تعبر عن حيوية الوطنية الفلسطينية، كما كانت حال المواجهات التي تفجرت بين جموع الأسرى الغاضبين وشرطة المعتقلات الإسرائيلية فور انتشار نبأ استشهاد الأسير ميسرة أبو حمدية في الثاني من نيسان/ إبريل الماضي، والتي بفضلها تحولت الإضرابات الفردية عن الطعام إلى قضية وطنية، والوطنية الفلسطينية هي محرك حملة التضامن مع الأسير سامي العيساوي الذي حوّل تجويع جسده إلى أداة لمحاكمة العنصرية الإسرائيلية. لقد عادت الحركة الوطنية الأسيرة التي كانت المبادرة إلى طرح مشاريع إنهاء الانقسام، لتحتل موقعها المتقدم في إذكاء روح المقاومة والوحدة في مواجهة المشروع الصهيوني، وإعادة التأكيد والإصرار على أن صراع الشعب الفلسطيني هو صراع من أجل الحرية. وتتمظهر الوطنية في ابتداعها أشكالاً جديدة من المواجهة مع الدولة المستعمرة كما حدث في تشييد قرى فلسطينية في مناطق (ج) تحدياً للمحتل ورفضاً لسيطرته بقوة السلاح على الأرض الفلسطينية، ومن هنا إطلاق تسميات ذات مضامين وطنية وثقافية على هذه المواقع (مثل "باب الشمس"، "باب الكرامة"، أحفاد يونس") والوطنية هي محرك التحدي لنظام التمييز العنصري من خلال إقامة زواج رمزي بين فتاة فلسطينية من فلسطينيي الـ"48" وشاب فلسطيني على الجانب الآخر تحت اسم "حب في زمن الأبارتهيد" لتعرية قوانين إسرائيل العنصرية التي تمنع أفراد العائلة الفلسطينية الواحدة من الالتقاء تحت سقف واحد لأن كليهما فلسطيني، لكن أحدهما من الأرض المحتلة منذ سنة 1967 والآخر من الأرض التي احتلت في سنة 1948. والوطنية هي التي تفسر مشاركة الآلاف من فلسطينيين 1948 في أواسط نيسان/ إبريل الماضي في مسيرة العودة إلى إحدى القرى المهجرة (قرية خبيزة) في قضاء حيفا؛ بتنظيم من "جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين"، وبالتعاون مع "لجنة المتابعة العليا لشؤون عرب 48"، تزامناً مع احتفالات الدولة المستعمرة بما تسميه "يوم الاستقلال"، وهو يوم نكبة الشعب الفلسطيني، وقد رُفعت في أثناء تلك المسيرة الأعلام الفلسطينية وأسماء القرى المهجرة والمدمرة، وباتت هذه المسيرات تقليداً سنوياً (كما هو في إحياء يوم الأرض) يتم تحت شعار "يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا". والوطنية الفلسطينية هي الحافز الرئيسي للحشد الجماهيري اللافت للانتباه الذي خرج في أوائل هذا العام في قطاع غزة احتفالاً بانطلاقة الثورة الفلسطينية بعد أن ضاقت الناس ذرعاً بتجاهل قيادتي "فتح وحماس" لما يتعرض له المصير الوطني من مخاطر بسبب حالة الانقسام التي قرضتها الحركتان على الشعب الفلسطيني، ولما يجري من تحريف لتاريخه واستهتار بمصيره. لذلك كله نقول: ليس أمام التيار الوطني الليبرالي (ممثلاً بحركة "فتح") وتيار الإسلام السياسي (ممثلاً بحركة "حماس") وبمشاركة من تيار اليسار الديمقراطي (وهو الأضعف)، سوى إنجاز تسوية تاريخية أو ميثاق وطني يقوم على العزم المشترك على تجديد بنية الحركة الوطنية وبرنامجها على أسس ديمقراطية تشرك جميع التجمعات والقوى السياسية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية في التمثيل وصوغ القرار الوطني وفي النضال الوطني، وكذلك على إعادة بناء منظمة التحرير كحركة تحرر وطني على أسس ديمقراطية تمثيلية تعيد إلى المقاومة مفهومها كفعل شمولي لا يستقيم من دون إشراك الفئات الأوسع من الشعب (داخل فلسطين وخارجها)، وكمضمون يتسع لتنوع الأدوات والأشكال وفق ما يمليه الظرف والشرط الموضوعيين، وفاق يتبنى إستراتيجياً لا تتردد في استخدام جميع الوسائل (بما في ذلك مكانة فلسطين الدولية الجديدة) لعزل إسرائيل دولياً ومطاردتها قضائياً على جرائمها العنصرية والاستعمارية والعسكرية والأمنية في المنابر والمحافل الحقوقية والإعلامية والدبلوماسية الدولية، وفاق يتولى توليد حركات مساندة وتضامن عربية ودولية مع أهداف الشعب الفلسطيني التحريرية بعدما غيّب اتفاق أوسلو والانقسام وضوح هذه الأهداف. إن الحركة الوطنية الفلسطينية بحاجة إلى وفاق يوقف التعامل مع قضية الشعب الفلسطيني بالمفرّق: فصل قضية القدس عن الاستيطان وهذه عن السيطرة على الحدود، والسيطرة على الحدود بمعزل عن حق العودة، وحق العودة بمعزل عن حقوق الأقلية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وهذه بمعزل عن إنهاء الحصار عن قطاع غزة، وهذه وتلك عن الحقوق المدنية للفلسطينيين في مخيمات الشتات. لن يفهمنا العالم إن لم نرفع شعار التحرر من السيطرة الاستعمارية الاستيطانية داخل فلسطين التاريخية وخارجها، ونكرس حق شعبها في العودة، وفاق يصحح العلاقة مع العالم العربي كعلاقة أساساً مع القوى الحية في العالم العربي، ويوسع التضامن الدولي مع القوى التي تساند نضال الشعوب من أجل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، باعتبار أن هذا هو جوهر نضال الشعب الفلسطيني. المهم في الأمر أنه على مدى أربعة عقود من التجربة الفلسطينية كانت الظروف تزداد سوءاً، والتحولات التي شهدتها المنطقة جعلت الظروف التي نعيشها اليوم لا تشبه تلك التي كنا نعيشها سابقاً. ولطالما كانت المخاطر التي تعرض الفلسطينيون لها مخاطر مستمرة، وهذا التراكم من المخاطر والشروط التي تزداد رداءة، عمل في كثير من المراحل على حجب قضايا فلسطينية رئيسية، كما أدى هذا التراكم في نهاية المطاف إلى حجب الأساس المكون للقضية الفلسطينية، عنينا اغتصاب فلسطين، وتحول اللاجئون ضحايا الكارثة التي حلت بفلسطين، من أساس للصراع إلى عارض من عوارضه. إلا أنه ورغم الأخطاء الكثيرة التي ارتكبت على المسار الطويل للتجربة الفلسطينية سواء في لبنان أو الأردن، أو في إدارة الانتفاضتين الأولى والثانية، فإن المشروع الوطني الفلسطيني، ممثلاً بالوطن المعنوي الذي مثلته منظمة التحرير الفلسطينية، بقي الأداة التوحيدية للفلسطينيين ومشروعهم. ولم تكن القراءة التي تمت للاتفاقات الفلسطينية، بأنها فككت المشروع الوطني الفلسطيني وحكمت أفق الحل بما آلت إليه التجربة الفلسطينية، وليس بما بدأت به، قراءة خاطئة. وبذلك فإن أفق الحل محكوم بالأرض الفلسطينية التي عرفت باسم الضفة الغربية وقطاع غزة. ولا ينطبق هذا على جغرافيا الحل، بل ينطبق أيضاً على الجغرافيا البشرية للشعب الفلسطيني. في مثل هذه الظروف وفي ظل المخاطر المتزايدة، نحتاج إلى مراجعة نقدية من دونها لا يمكن تجاوز الواقع المزري الذي نعيشه فلسطينياً. مراجعة تؤسس لمشروع وطني فلسطيني جديد.. |
||||||