|
|||||||
|
منذ الفتح الإسلامي لمدينة القدس، أيام الخليفة عمر بن الخطاب، تعاقب على حكم المدينة المقدسة التي كانت تسمّى "إيلياء" حينذاك، كل من الأمويين والعباسيين والطولونيين والإخشيديين والفاطميين والسلاجقة والمماليك، وانتهاء بالعثمانيين، قبل أن يحتلها، وبقية فلسطين البريطانيون الذين مهدوا التربة لإقامة دولة الصهاينة على مساحة أكبر بكثير مما جاء في قرار التقسيم (181) عام 1947، بما في ذلك القدس الغربية. واليوم، وبعد مضي 46 عاما على احتلال الشطر الشرقي من المدينة المقدسة، تحاول سلطات الاحتلال وضع اللمسات الأخيرة على إخراج القدس "الموحدة" التي تم توسيع حدودها، خلال العقود الماضية، أحد عشر ضعفا لمصلحة الاستيطان الصهيوني، من دائرة التداول بشكل كامل ونهائي، وتكريس عملية تهويدها "العملانية"، من خلال الاستيطان، وهدم الأحياء والاستيلاء على منازل وبيوت البلدة القديمة، والتضييق على السكان الفلسطينيين لدفعهم باتجاه الشمال والشرق، و"التشريعية" عبر القوانين العنصرية التي تتيح الزعم بأن المدينة المقدسة "الكاملة الموحدة" باتت، قولا وفعلا، العاصمة "الأبدية" لدولة إسرائيل. وقبل التعرض لآخر تجليات هذه السياسة الصهيونية الثابتة التي تتلفع، وكما كان الحال منذ اتفاق أوسلو 1993حتى اليوم، برداء المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، لا بد من التذكير بأن الخطط التهويدية الصهيونية للقدس الشرقية بدأت منذ اللحظة الأولى لاحتلالها في السابع من حزيران، يونيو عام 1967، حيث تم توسيع حدودها، وأزيل باب المغاربة بأكمله، فيما تم حلَ المجلس البلدي العربي واستبدل بآخر صهيوني، كما جرى تحويل بناء المحاكم إلى دار القضاء الإسرائيلي، ودار المحافظة إلى مقر لما يسمى وزارة العدل الإسرائيلية، فضلاً عن إلغاء الوجود القانوني لمحكمة القدس الشرعية. وتوَج ذلك كله بقرار الحكومة الإسرائيلية، في الفترة ذاتها، ضم القدس العربية وسريان القانون الإسرائيلي عليها، وبخاصة فيما يتعلق بالبناء والترخيص والصحة والتعليم والأطفال والعائلات والأوقاف والقضاء والبرق والبريد والهاتف والبنوك والضرائب، ما أثقل كاهل المواطن المقدسي الذي لم يمنح صفة "المواطن"، بأعباء إضافية يصعب احتمالها. عناوين تهويدية جديدة وطوال الفترة الممتدة بعد الاحتلال، خضعت القدس التي سنّت الكنيست الصهيونية في العام ١٩٨٠ قانوناً أساساً لضمها إلى الدولة العبرية واعتبارها عاصمة لها، لعملية استيطان وتهويد مبرمجة أفضت إلى الاستيلاء على معظم أنحاء المدينة وجوارها، ومصادرة أكثر من 60% من أراضي الضفة الغربية. وعلى الرغم من صعوبة الإحاطة بمختلف جوانب هذه العملية التي لم تتوقف حتى الآن، إلا أنه يمكن التوقف أمام ثلاثة عناوين "تهويدية" يجري العمل عليها في الآونة الأخيرة. الأول يتعلق بمشروع القانون المقدم للكنيست، والخاص بتقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين اليهود زمانياً ومكانياً، والثاني يخص مصادقة اللجنة الوزارية لما يسمى "شؤون التشريع الإسرائيلي" على اقتراح قانون "تحصين القدس" الذي يمنع الحكومة من إجراء مفاوضات مع أي جهة أجنبية حول تقسيم القدس، أو تسليم أجزاء منها، إلا بعد تصديق مسبق يحظى بتأييد 80 عضو كنيست. أما الثالث، فله علاقة بما شرَعه المستشار القانوني للحكومة الصهيونية يهودا فاينشتاين، قبل فترة، حول إمكانية استيلاء قوات الاحتلال على أملاك المقدسيين، من خلال منح صلاحيات لتنفيذ قانون "أملاك الغائبين" في القدس المحتلة، بدعوى الحفاظ على ما سمي "النسيج اليهودي" في أحياء المدينة. بخصوص العنوان الأول، ووفق وثيقة نشرتها "مؤسسة الأقصى للوقف والتراث"، فإن الجوهري في مخطط مشروع القانون الذي أعدَه نشطاء من "الليكود"، هو اعتبار كامل مساحة المسجد "مقدسا يهوديا"، والتحديد بأن الجامع القبلي المسقوف هو فقط المسجد الأقصى (وفيه وحده تؤدى الصلوات الإسلامية)، وأن خمس مساحة المسجد الأقصى البالغة 144 دونما هي مساحة للصلوات اليهودية، أحيانا فردية وأخرى جماعية. كما يشير المخطط إلى إمكانية زيادة الأوقات والمساحات التي يمكن تأدية الصلوات اليهودية خلالها، ويتيح لليهود إمكانية اقتحام الأقصى ودخوله من جميع الأبواب وفي جميع الأوقات، فضلا عن أنه يجعل من صلاحية المفوض تحديد أوقات ومساحات في المسجد الأقصى لدخول اليهود فقط، ما يعني أن ثمة سباقا صهيونيا مع الوقت والمستجدات المستجدات السياسية في المنطقة والعالم، لوضع اللبنات الأولى الملموسة، والمصادق عليها قانونا، لهدم المسجد الأقصى وإقامة "الهيكل المزعوم" الذي تعمل 12 منظمة صهيونية، وبدعم من حكومة نتانياهو، على تجسيده على أرض الواقع. أما بالنسبة للقرار المسمى "قانون تحصين القدس" الذي قدَمه يعقوب ليشمان من كتلة "يهدوت هتوراة" الحريدية، فإن مصادقة اللجنة الوزارية الإسرائيلية عليه تظهر، بشكل لا لبس فيه، حقيقة اتفاق الأحزاب الصهيونية على اعتبار القدس العاصمة الأبدية للكيان، وعدم القبول بأي تفاوض بشأن مستقبلها. إذ، وبالرغم من زعم نتانياهو عدم موافقته على القانون، إلا أن كتلته الوزارية، إضافة إلى ممثلي "البيت اليهودي" و"إسرائيل بيتنا"، أيدت اقتراح القانون. والأمر ذاته ينطبق على المعارضين من كتلتي "الحركة" التابعة للوزيرة تسيبي ليفني التي اعتبرت أن الاقتراح "غير صائب في الوقت الحالي" وكتلة "يوجد مستقبل" التي أوضح زعيمها يائير لبيد أنه لن يستأنف على قانون الحكومة. ويبقى تشريع الاستيلاء على أملاك المقدسيين من خلال قانون "أملاك الغائبين" الذي سُنّ في عام 1950 لإفساح المجال أمام استيلاء المحتلين على جميع أملاك اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة. حيث أن الجديد، هذه المرة، هو أن الأنظمة التي أقرّها المستشار القضائي لحكومة نتنياهو تنصّ على أنه لا يُعاد ملك لصاحبه الفلسطيني "الغائب"، "إذا كانت لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تقويمات أمنية سلبية تجاهه، أو لديه علاقة مع جهة معادية لإسرائيل. أما الملفت، فهو تزامن وضع هذه العناوين التهويدية الرئيسية على الطاولة مع إطلاق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو ووزير داخليته جدعون ساعر، سلسلة من مخططات البناء الاستيطاني في القدس المحتلة كان الأبرز فيها إقامة حديقة تلمودية على أراض فلسطينية بين الطور والعيساوية في القدس الشرقية تبلغ مساحتها 740 دونما، وذلك بهدف منع توسع البناء في الأحياء العربية في المنطقة، وإيداع مخطط لإقامة مركز سياحي وأثري مقابل مدخل قرية سلوان، في الموقع الذي يزعم أنه "مدينة داوود"، وجعل مخطط البناء في الحي الاستيطاني "رمات شلومو" (شمال القدس قرب شعفاط وبيت حنينا) المتضمن إقامة نحو 1500 وحدة سكنية، سارية المفعول، والبدء بإصدار تراخيص بناء وتوسيع أراض للمقاولين خلال بضعة شهور. استيطان مستعر وتجميد "احتيالي" غير أن كل ما سبق لا يغطي مختلف جوانب المشهد الاستيطاني، إذ، وعلى الرغم من اضطرار نتانياهو، وتحت وطأة ما يقال إنها أزمة دبلوماسية مع واشنطن بسبب اندفاع الأخيرة نحو التقارب مع إيران وسعيها إلى عقد مؤتمر "جنيف2"، إلى تجميد مشروع لبناء عشرين ألف وحدة استيطانية في الضفة الغربية أطلقه وزير الاستيطان اوري ارييل الذي ينتمي إلى حزب "البيت اليهودي" القومي الديني المدافع عن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، فإن سلطات الاحتلال ما زالت تغذ الخطى لتثبيت حقائق استيطانية جديدة على الأرض، حيث ذكر تقرير أصدرته حركة "السلام الآن" مؤخر، أنه، ومنذ الثامن من آذار/ مارس الماضي، وهو اليوم الذي شكل فيه نتانياهو حكومته الثانية، تم إصدار مناقصات لبناء 3472 وحدة استيطانية في المستوطنات ودفعت مخططات لبناء ما لا يقل عن 8943 وحدة استيطانية جديدة، فيما أكد خليل التفكجي الخبير في شؤون الاستيطان أن إسرائيل تنفذ مخططاً استيطانياً على ارض الواقع أقر عام 1979 ويقضي بإسكان مليون مستوطن بالضفة الغربية، وهو المخطط الذي يحمل اسم متتياهو دروبلس، رئيس دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية عام 1979، إضافة إلى مخطط آخر أقرَ عام 1994 ويقضي بالانتهاء من بناء 58 ألف وحدة استيطانية في القدس الشرقية بحلول عام 2020، وذلك بغض النظر عن مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، فيما أعلنت عضو الكنيست رئيسة كتلة حزب "البيت اليهودي" اييلت شاكيد أن حزبها "يعارض قيام دولة فلسطينية بين البحر والنهر". وأشار التفكجي إلى أن المستوطنين يقودون انتفاضة داخل الضفة الغربية ضد الفلسطينيين بالاعتداء على أراضيهم وحرق أشجارهم، ومنازلهم في بعض الأحيان، منوها إلى أن عدد المستوطنين قبل توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 كان 105 آلاف مستوطن، بينما أصبح عددهم الآن 380 ألفا بالضفة الغربية و 200 ألف في القدس. في موازاة ذلك، قررت الحكومة الإسرائيلية، الشروع ببناء جدار جديد على حدود غور الأردن. ليضاف إلى جدارين قيد البناء بين سيناء وإيلات، وعلى حدود الجولان، وذلك بعد اكتمال ما نسبته 90 في المائة من جدار الفصل العنصري الذي قطع الضفة الغربية وعزلها عن فلسطين التاريخية. أما الذريعة فهي ضمان ما يسمى "الأمن الإسرائيلي" الذي يقع دائما في قمة جدول الأولويات، رغم أن تقريرا نشره "المجلس الإسرائيلي للأمن والسلام" الذي يضم جنرالات احتياط وجنرالات متقاعدين، قبل أيام، بيَن وأوضح بشكل دقيق أن منطقة الأغوار غير ضرورية للأمن الإسرائيلي، ما يعني وجود أهداف أخرى لبناء الجدار الذي يمهَد الطريق لضم هذه المنطقة، لعل الأبرز فيها منع أي اتصال جغرافي بين الفلسطينيين والأردن، والتحكم بالمعادلة الديموغرافية الفلسطينية في المستقبل، ناهيك عن المكانة الاقتصادية للأغوار التي تعتبر خزان الأمن الغذائي الفلسطيني، كونها منطقة فريدة من نوعها على المستوى العالمي من زاوية درجة الحرارة الموسمية في الشتاء والربيع والخريف ما يتيح إنتاج الأصناف المبكّرة عالية القدرة التنافسية. وعليه، فإن إسرائيل تدرك هذا البعد الاقتصادي المباشر والبعيد، الراهن والاستراتيجي، في السيطرة والتحكم بالأغوار الفلسطينية، وهي على يقين بأن هذه المنطقة ستكون حاسمة في ميزان قدرات الدولة الفلسطينية المأمولة، وهي على قناعة راسخة كذلك بأن سيطرة الفلسطينيين على الأغوار ستحدّ بشكل كبير من الابتزاز السياسي الذي يمارس عليهم عَبر البوابة الاقتصادية. حراك ضد الاستيطان.. والمفاوضات على إيقاع ما تقدم، وتحت وطأة استقالة فريق التفاوض الفلسطيني من مهامه بعد أن وصل إلى الحائط المسدود حيال إمكانية وضع حد، ولو بشكل نسبي ومؤقت، وبعد تأكيد تقرير الأطباء السويسريين شبهة اغتيال إسرائيل للزعيم ياسر عرفات بمادتي البولونيوم 210 المشع، وهي الجريمة التي تضاف إلى مئات عمليات الاغتيال والقتل والمجازر المرتكبة ضد الفلسطينيين والعرب خلال العقود الطويلة الماضية، كان المنتظر من السلطة أن تبادر إلى إصدار بطاقة نعي للمفاوضات الكارثية مع إسرائيل التي بدأت جولتها الأولى في القدس المحتلة يوم 14/ 8 الماضي، بعد توقف استمر نحو ثلاث سنوات، غير أن ذلك لم يحدث، على الرغم من إدراك قيادة السلطة لتداعيات هذه المستجدات التي أضافت عناوين دسمة إلى سلسلة السخط والغضب الفلسطينية التي بدأت تفيض إلى الشوارع، وتتحول إلى فعاليات كفاحية ليس فقط ضد الاحتلال ومشاريع الاستيطان والتهويد والضم التي تجتاح معظم الأراضي الفلسطينية، وإنما كذلك ضد مهزلة المفاوضات التي تتيح للأمريكيين غطاء فلسطينيا لحراكها السياسي والدبلوماسي في المنطقة العربية التي تعيش مخاضاً تاريخياً من شأنه رسم الملامح الأساسية لشكل وطبيعة النظام العالمي الجديد، وتوفر للإسرائيليين، وكما يعترف رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي جنرال الاحتياط يعكوف عميدرور، مظلة لمواجهة الضغوط الدولية وجهود المقاطعة والعزل ضد الدولة العبرية، فضلاً عن استخدامها كأداة لمنع الفلسطينيين من التوجه إلى الهيئات الدولية للفوز بعضويتها، وتفعيل دورها ضد سياسات الاحتلال والقمع، وكبح إمكانيات مقاومة الاحتلال ونشوب انتفاضة جديدة. ما تطرحه السلطة الفلسطينية من حيثيات لتبرير مواصلتها التفاوض الذي لا يستند إلى أية مرجعيات، لا يقدم أي جديد مقنع للفلسطينيين، سواء تعلّق الأمر بادّعاء بالحرص على عدم تحمّل المسؤولية عن انهيار "العملية السياسية" وفتح الباب أمام "العنف"، أو الزعم بتلمّس "الجدية" في جهود رئيس الدبلوماسية الأمريكية جون كيري الذي اعتبر المستوطنات "غير شرعية"، وحذر إسرائيل من عودة الفلسطينيين إلى العنف واندلاع انتفاضة ثالثة، ومن العزلة على الصعيد الدولي، في حال عدم تحقيق السلام، قبل أن يعلن عن تقديم أمريكا مبلغ ٦٧ مليون دولار لدعم البنية التحتية الفلسطينية. إذ تؤشر الحقائق والمعطيات التي يعرفها الجميع إلى أن هدف السلطة الفعلي من الاسترخاء في مستنقع العملية التفاوضية، هو المحافظة على الدعم المالي لأجهزتها المختلفة، وارتفاع منسوب الخشية لدى قيادتها المتنفذة من اندلاع انتفاضة جديدة يمكن الالتفاف عليها من خلال إبقاء الفلسطينيين في حالة انتظار الآتي من الأحلام والأوهام. الوسيط الأمريكي وتهمة "النزاهة"! أما بخصوص الوسيط الأمريكي الذي ما زالت قيادة السلطة الفلسطينية تراهن على "نزاهته"، فإنه يدرك تماماً أن مفتاح ولوجه إلى كافة الملفات المفتوحة على مصراعيها في المنطقة العربية هو القضية الفلسطينية والصراع العربي- الصهيوني الذي ينبغي الإيحاء للشعوب العربية والإسلامية بأنه وضع على سكة المفاوضات، وأن ثمة رغبة أكيدة لدى الإدارة الأمريكية في تحقيق انجاز ما، تستطيع، بعد تضخيمه وتجميله إعلاميا، تقديمه إلى الداخل الأمريكي كاختراق هام للوضع القائم، وفي إبقاء الملف الفلسطيني بعيدا عن الأمم المتحدة وهيئاتها منعا لمكاسب دولية جديدة يمكن أن يحققها الفلسطينيون، وتجنبا لتكرار الموقف المحرج الذي وجدت نفسها معزولة فيه حين صوتت غالبية كبيرة من دول العالم لصالح فلسطين، ضد إرادة هذه الإدارة وتصويتها. غير أن الجوهري في مقترحات الوزير كيري الذي يحاول استنساخ دبلوماسية كيسنجر المكوكية قبل نحو أربعة عقود، ولكن مع فارق تراجع منسوب القدرة والتأثير الأمريكيين بعد حرب العراق التي تكبدت فيها الولايات المتحدة خسائر فادحة؛ بشرية تمثلت بحوالي ستة آلاف قتيل و40 ألف جريح، ومادية قُدّرت بحوالي 1,5 تريليون دولار أمريكي، وانعدام اليقين حيال مآل ما سمَي "الربيع العربي" الذي شرَع الأبواب على مختلف الاحتمالات، وصدَع متن وهوامش المخططات المرسومة والنظريات والأيديولوجيات لسنين، وربما لعقود مقبلة. الجوهري في هذه المقترحات التي تبذل جهود أمريكية ودولية وإقليمية لحفر أساساتها في المنطقة المحمولة على أجنحة الحرب السورية الداخلية والمتعددة الأطراف، والتوتر المسلح في كل من مصر والعراق لبنان، وحالة انعدام اليقين حيال المستقبل في الأردن، هو أنها تحاكي مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه رئيس الدولة العبرية الحالي المخضرم شمعون بيريس في بداية تسعينيات القرن الماضي، وتهدف لبناء سوق أردنية- فلسطينية- إسرائيلية مشتركة يمكن توسيعها نحو الدول العربية الأخرى، وإن كان ضجيج الطمع الإسرائيلي في الثروات العربية قد خفت بشكل واضح بعد الوقوف على عتبة إنتاج وتصدير أكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي المكتشف على سواحل فلسطين المحتلة في البحر المتوسط، واعتبار ذلك بمثابة الأساس الذي يمكن يبنى عليه الأمن والتسوية السياسية. أما المدخل فهو إغواء الفلسطينيين بتخفيض البطالة إلى نحو 8%، ورفع مستوى الإنتاج 50%، وزيادة رواتب العاملين بنسبة 40%، وتأمين أكثر من 100 ألف وظيفة خلال الأعوام الثلاثة المقبلة عبر بناء منازل فلسطينية جديدة، وذلك من خلال رزمة الأربعة مليارات دولار الموعودة، والتي تفيد التسريبات العبرية بأنه يمكن استثمار بعضها في إقامة مطار فلسطيني قرب أريحا، وإقامة مصنع بوتاس في منطقة "غالية" شمال البحر الميت التي يوجد فيها "كيبوتس" صهيوني! ويبدو أن ما يفقأ العين في هذه التوليفة الأمريكية التي تحاول استباق ما ترسمه خرائط الدم، وصراع القوى الدولية والإقليمية المحتدم في قلب الشرق الأوسط، والتي تقوم على أولوية الاقتصاد، وفصل الاتفاق بشأنه عن الأمن وعن عملية ترسيم الحدود، وفصل الأخيرين عن اتفاقات لاحقة حول اللاجئين والقدس والأمن والمياه، وغير ذلك العناوين الرئيسية، هي أنها شددت على استئناف المفاوضات "دون شروط مسبقة"، وامتناع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي عن أية تصريحات أو خطوات "استفزازية"، مع التشديد بأن كيري، ووفق ما جاء على لسانه، غير معني بأن يكون موضوع البناء في المستوطنات كشرط مسبق يمنع استئناف الاتصالات، بذريعة أن الاتفاق على الحدود والأمن سيحل موضوع المستوطنات، ما يعني أن جهود كيري، في هذا السياق، تتم بالتنسيق الكامل مع الإسرائيليين الذين يواصلون تنفيذ مخططات الاستيطان والتهويد للسيطرة على الأرض الفلسطينية، وتحويل مناطق الدولة الفلسطينية الافتراضية إلى مجرد "كانتونات" متناثرة لا رابط سياسيا أو جغرافيا بينها. "تنازلات" أحادية الجانب! في كل الأحوال، ما يتم تداوله راهناً هو أن وزير الخارجية الأمريكي بصدد تقديم خطة مشروع إطار للاتفاق المتعلق بالوضع الدائم بين إسرائيل والفلسطينيين في كانون الثاني/ يناير المقبل، وذلك على الرغم من إيضاحه بأن ليس لدى بلاده الرغبة في فرض السلام على الطرفين اللذين ينبغي يقدّما "تنازلات حقيقية"، وإنما دور الإدارة الأمريكية هو أن تساعد في التوصل إلى حل، وهو ما يمكن ترجمته، استناداً إلى المعطيات على الأرض وموازين القوى وأطروحات الطرفين والتجربة التاريخية، ناهيك عن حرص واشنطن على امتصاص غضب حكومة نتنياهو الشديد من قرب التوصل إلى اتفاق إيراني مع الدول الست الكبرى بشأن برنامج طهران النووي وتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، بأن التنازلات المطلوبة ستكون من الجانب الفلسطيني فقط، بدليل حرص الأمريكيين الذين سبق وأن تبنَوا جملة من المواقف الإسرائيلية المعهودة، من نمط ضم الكتل الاستيطانية، وتبادل أراض بنسبة 8%، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وترتيبات أمنية تضمن بقاء الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، ما يعني تواجدا إسرائيليا على الحدود مع الأردن، فضلاً عن حرص واشنطن على إدخال لجنة "المتابعة العربية" في أجواء العملية التفاوضية للضغط على الفلسطينيين للقبول بحلول انتقالية أو نهائية هدفها القضية الفلسطينية، وعدم ربطها بين الخلاف مع إسرائيل والتزامها المطلق بأمنها، وترجمة ذلك بإبرام صفقة معها تتضمن تقديم ست طائرات متقدمة من نوع "اوسيري - ف ٢٢" قبل أي بلد آخر حليف، بل قبل بعض احتياجات الجيش الأمريكي، وكذلك صفقة طائرات F35 بعيدة المدى يمكن أن تصل إيران. ويبقى أن كل ما سبق ليس أكثر من إطار للصورة التي ترسمها إسرائيل على الأرض، وفي جلسات التفاوض التي بلغت 18، وأنفقت حوالي 60 ساعة تفاوض في ثلاثة أشهر، دون تحقيق أية نتيجة. ولو دققنا بما جرى في هذه الجلسات، فسنجد أن هوة كبرى ما زالت تفصل ما بين مواقف الجانبين، ليس فقط حيال قضايا الحل النهائي التي يردد المفاوض الفلسطيني بأنه مصرَ على وضعها على الطاولة، في مقابل رفض الإسرائيليين أي حديث عن القدس التي يرى أنها باتت خارج إطار التداول، أو عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتمسكهم بضرورة اعتراف الفلسطينيين (والعرب) بيهودية دولة إسرائيل، وإنما أيضا في العناوين الأخرى، وبالأخص العنوان المتعلق بالحدود، حيث يقترح الفلسطينيون أن يجري ترسيم الحدود مع إسرائيل على أساس حدود العام 1967، مع تبادلات أرضية لا تتعدى الـ 9.1٪ (أي حوالي ١٠٠ كم)، أما اقتراح الجانب الإسرائيلي فهو أن يكون مسار "الجدار العازل" هو مسار الترسيم، ما يعني، حسب نتنياهو، ضم ٩٪ من الضفة الغربية (حوالي ٤٥٠كم٢) إضافة إلى وضع خاص لثلاث مستوطنات خارج الجدار، وهي: بيت إيل، بساغوت في محافظة رام الله، ومستوطنة نوكاديم جنوب بيت لحم. كاتب فلسطيني(*) |
||||||