|
|||||
|
القمع ُوإلغاءُ الآخر في: "حكايتي مع صدام"
كتاب "حكايتي مع صدام" لمؤلفه الدكتور طالب البغدادي والصادر عن دار الورّاق للنشر ينطوي على حياة ومعاناة واستبداد شخصيات عرفها وتعرّفها. أحبته وآذته وكتم فيوض حريته. البغدادي يسرد عن وضع زمنيّ كانت حياةُ العراقي ارخصَ من رزمة حطب. وذا الزمنُ لم يُفرّق بين ناس وناس، كلهم في نظره رعاعٌ بدءاً من أستاذ الجامعة حتى باعة الخردة والجوّالين. حزنٌ وقتامة من مبتدأ الكتاب حتى ختامه. وإذ يصرخ البغدادي ويُصرّحُ عن معاناته فهو يُعبّرُ عن وجع العراقيين كافة. فلنظام صدام ثوابتٌ قامعة كما لو أنّها مُدوناتٌ من السماء لا تقبل النقاش والنقد والاعتراض، وهي من قبيل الترهات. كان القائد في حالات لاصحوية يُعبّرُ عن هلوسات تخطر بباله فيرميها إلى الساحة لتكون بديهيات موازين مُنزّلة. ليس من حق أحد نقدها أو تأويلها.. كانت عباراتٍ رجراجةً مفذلكة من غير تمحيص أو دراسة. مَنْ بوسعه أن يُناقش أو يؤول أو يُفسّر؟.. وكأنها آيات بينات لا تقبل نقاشاً!!. بيد أن ثابتاً آخر في حيز المعرفية يُثير سؤالات داخل أروقة المعاهد والجامعات، يطرحها الطلبة على أساتذتهم. وعلى الأستاذ أن يجيب.. والجوابُ ينبغي أن يكون مُنزّهاً عن الخطأ، لكن البغدادي مضتْ به معرفيتُه كأستاذ خارج بديهية الشعار الذي هو من وحي القائد. فتلقته السنة كتّاب التقارير وضخمتها ولاكتها وعجنتها وشوهتها حتى وصلت الأجهزة المخابراتية. فأُخرج من قاعة الدرس وأوثق وسيق به إلى جبهة مجهولة لا يعرفها حتى الشيطان. فسقط تحت وابل الضرب والإهانة والسؤال. التهمة جاهزة.. لا غبار عليها.. هي من ديباجة عيون السلطة المبثوثة في أروقة المعاهد والجامعات. لكن المُثير في هذا الكتاب كثرة الأسماء من جلادين ومضطهدين، ووجوه التقاها من دون أن يعرفها. ثم تنوّعت المعتقلات وألوانُ التعذيب والمحاكمات الجزافية.. وأبرياء راحوا ضحية التقارير الملفقة.. ولا أظن أن أحداً مثل البغدادي فصّل في تسليط الضوء على جلادي السلطة الذين كانوا أدوات القمع، وكم ضحية أزهقوا روحها بدم بارد، حتى بات القتل والقمع والإهانات صفات لبسوها وصارت شيئاً يجري في عروقهم. كان البغدادي من خلال صلابته ومعرفيته وتجربته يمرّ وقتها في مدّ وجزر.. واستطاع أن يسجل اعتم فترة من حكم ومسيرة البعث. لكني أتساءل : أين صار الذين كانوا أدوات القمع والشراسة الذين جرى القتلُ على أيديهم، قتلوا آلافاً من الأبرياء وما زالوا يعيشون هنا وهناك. كيف يواجهون الناس وعائلاتهم وضمائرهم صباحاً ومساء؟ وعلى الرغم من كون البغدادي عاش وعانى كلّ هذه العذابات فلم يَبنْ عن انتمائه الفكري. فإذا كان البغدادي قد غاص في قيعان دهاليز النظام السابق القمعية وأبان ألوان العذاب وأشكال وأسماء الضحايا. فإنه يظلّ يتفرد عن سواه ممن غاصوا في الموضوع ذاته. أولئك زحمتْ كتاباتُهم بهوامش سياسية حزبية وشخصية. بيد أن البغدادي سجّل أيام اعتقاله بإيقاع أكاديمي رصين، حتى أن القارئ لن يستطيع معرفة هويته السياسية. الكتابُ ـ على الرغم من قصره ـ متنٌ رصين أمين لجولة عذاب وقمع عاشها د. طالب البغدادي معاناةً وكبتاً وظلماً أحاق به. لكن بوسعنا أن نستذكر من مجمل أطروحات الكتاب أموراً: - خلو أطروحته من الانفعال والعشوائية.. واعتماده الرؤية العيانية والحساسية الجسدية التي هي مثار التعبير والإبانة وسبر غور الحقيقة. - تنوّع أشكال التعذيب من سجن وآخر، وحين ييأسُ الجلاد من أخذ الاعتراف يقوم بتصفية السجين. - المصادفةُ وحدَها أنقذت البغدادي من الموت.. وربّما لعب ذكاؤه الأكاديمي دوره في ذلك. - كان صدام حسين قد جنّد أفراد عائلته في مهمات مخابراتية حسّاسة خشية خيانة الغرباء في تحقيق مآربه. - اعتماده على الشقاوات وفاقدي الضمائر من حثالات المجتمع في الأعمال المخابراتية والتعذيب. - كمون بعض أوكار المعتقلات والتعذيب في إحياء سكنية كي لا تسترعي الانتباه. - ثقة البغدادي بنفسه وعشيرته من أفراد العائلة والأصدقاء.. فمنهم ومن ذاته كان يستمد العناد والصلابة. - ترى لو كتب جميع مَنْ تعرضوا للتعذيب وكل الذين فقدوا أرواحهم انطباعاتهم فبمَ كانوا يُتحفوننا من الأوجاع والمآسي؟. أظنّ أن الحكاية التي قصّها علينا البغدادي في حاجة إلى مراجعة نقدية جادة من قبل الدارسين ممن عايشوا تلك الحقبة أكثر من هذا الانطباع السريع عنها، وقد تكون لهم رؤى أخرى تثري متن كتابه أو تقف بحياد إزاء ما تراكم فيها من أسرار وخفايا.
|
||||