|
|||||
|
المترعون عشقاً بالحسين تبدو الذاكرةُ أكثرَ تحفّزاً واتّقاداً كلّما تداعتْ صورُ الماضي البعيدِ، وتَستَعِيدُ الذاكرةُ جزءاً من حيِّويتِها وهي تستعرضُ سيرةَ أبطالٍ قضَوا من أجلِ بقاءِ العقيدةِ وزوالِ الكفرِ والطغيان.. تستعيدُ الذاكرةُ بعضاً من تألُّقِها وهي تستقرئُ مساحاتٍ ضمَّتْ ملاعِبَ الطفولةِ والأهازيجِ الشعبيةِ التي غَفَتْ على أكتافِ هضابٍ لم تَعُدْ تُطيقُ غربةَ الساكنينَ عنوةً والغاصبينَ بفعلِ سطوةِ المستكبرين.. وسطوة الوافدين.. ويحدّثك اليوم طفلٌ شُقَّتْ براعِمُ براءتِهِ حديثاً كي يختِمَ شجونَهُ بتساؤلٍ يعذِّبُ الكبار: لماذا يحدُثُ كلُّ هذا؟!.. تتساقَطُ أثوابُ العقلاءِ أمامَ سؤالٍ بقيتْ إجاباتُهُ معلَّقةً على مِشْجَبِ الحَيْرَةِ وهي تراقِبُ صعودَ المستشهدين وتساقُط الغرباءِ الغاصبين للأرضِ والحقِّ. في أيامِ عاشوراء من كلِّ عامٍ وعلى امتدادِ القرونِ نعيدُ للذاكرةِ بعضَ حضورِها.. وندفَعُها نحوَ تلكَ الكُثبانِ التي بقيتَ معالِمُ مقامات الطهرِ فيها مناراتٍ للمتألقين عشقاً بالعقيدةِ وذوداً عن أصحابِ الحقِّ في قيادَتها ورعايتِها.. ونُعيدُ أيضاً اليومَ على الذاكرةِ بعضَ حضورِها وندفَعُها نحو هاتيكَ الهضابِ التي بقيتْ أهازيجُ الأجدادِ مسترخيةً فوقها، وهي تئنُّ من فَرْطِ اشتياقِها.. تنتصِبُ بعضُ وجوهِ الغُربَاءِ الذين أعملوا أظافِرَهُم في أعناقِ الطفولةِ، وكأنها تأبى إلا أن تحاوِرَ صَمْتَنا بكثيرٍ من القُبْحِ والإثارة. يأتي الردُّ بريئاً وفاعلاً بحجمِ أكفِّ الأطفالِ الذين تشبّثوا بالحَجَرِ كمركَبِ نجاةٍ أخيرٍ.. ينطلِقُ الحجرُ وهو يشقُّ حِجَابَ الصَّمْتِ المَقِيتِ.. تدورُ الأكفُّ باحثةً عن ذخيرةٍ إضافيةٍ تكون بديلاً عن الأسلحةِ المُهْمَلَةِ في زوايا الشُّحوبِ الرَّسميِّ الأبدي.. وتَرِدُ بعضُ الإجاباتِ المهتزّةِ على ضفافِ السؤالِ البِكْري "لماذا يحدُثُ كلُّ هذا..".. أولى تلك الإجاباتِ تَنْطِقُ بلغةٍ تخلو من طلاسِمِ السياسةِ وألاعيبِ الممكنِ والمُتاح، تقولُ تلك الإجابةُ: لكلِّ غالٍ ضريبَتُهُ الكبرى، والحريةُ تسمو فوق كلِّ غالي.. أمّا دفاترُ المثقفينَ وأوراقُ الشعراءِ فتقولُ شيئاً أكثرَ التصاقاً بالحُلُم، إنها تتحدَّثُ عن غابةٍ تجوسها الذئابُ.. وعلى أسنانِها بقيّةٌ من دماء الطفولةِ. ويدَّعي آخرون: لماذا هذه الاحتفالية العاشورائية في كلِّ عام؟؟! لقد مرَّت حقبةٌ من الزمانِ وانقضى عهدُ اللطم والبكاء.. ثم إن ما قامَ به الحسين عمليةٌ انتحاريةٌ أدَّتْ إلى قتلِهِ مع أهلِ بيتِهِ وأصحابِهِ فماذا كان يُضيرُهُ لو أنه ارتضى أن يُبايعَ في ذلكَ الزمان، ومن ثم يقوم بعملٍ سياسيٍّ يُعيدُ فيهِ زمامَ الحكم له ولإتباعِهِ.. فها هي رحلتُهُ انتهت وانقطعَ الحبلُ السريُّ الذي يصلهم بالحياة.. لكنَّ كفَّيْ العباسِ لا تزالانِ ترسمانِ أفقَ الحميَّةِ والاندفاعِ من أجلِ نُصرةِ الدين، وها دمُ الرضيعِ يُعيدُ تشكيلَ صورةِ الظالمينَ اليهود على مرِّ الزمانِ بقتلِهُمُ الأطفالَ الرُّضَّع.. وها هي سبايا الحسينِ ترسُفُ بقيدِ الجلادِ فلا يَمْنَعُ ذلكَ العقيلةَ من أن تَقِفَ بوجهِ الطاغيةِ لتقولَ لهُ ".. يا ابنَ الطلقاء..".. وها همُ الأصحابُ في جوقةٍ من الليوثِ تنتظرُ دورَها للالتحاقِ بركبِ النور الإلهي.. وما بينَ التاريخِ الحسيني الذي أججَ الروحَ القتاليةَ في سبيلِ الحقِ والعدلِ والإصلاحِ في أمور الأمةِ, وهذِهِ الاحتفاليةِ بالدَّمِ المقدَّسِ الذي يذودُ عن الأرضِ، وما بين طغيانِ يهودِ ذاكَ الزمان المتمثِّلِ بيزيدَ وجلاوزَتِه وعربدةِ الجبروتِ والطغيان اليهوديِّ في أرضِ المعراجِ.. ألفُ حكايةٍ وحكاية.. وكلُّها تحكي بدايةَ النهوضِ للمستضعفين بوجهِ المستكبرين، فلماذا إذن هذا التهالُكُ الذي أودى بأهلِ الكوفةِ إلى فلسفةِ هروبِهِم وتهالُكِهم على مقاعدِ الخنوعِ والهرب؟؟.. إنها ثقافةٌ لا يفقهُها الخانعون، نعم أيها السادةُ المتهالكون على مقاعدِ الهروب، إن رحيلَ الاستشهاديِّ الثاني وهو الإمامُ الحسين عليهِ السلام، إذ أن والدَهُ الإمام علي عليه السلام كان الاستشهاديَّ الأول عندما بات في فراش الرسولِ ليفديهِ ويفدي الرسالةَ الإلهية، إن رحيلَ الاستشهادي الإمام الحسين وأصحابِهِ الأبرار ليسَ نهايةً أبداً بل هو البدايةُ لبدايات التحدي للظلم.. هو المدرسةُ النبراسُ لكلِّ الأمم.. نعم أيها السادة المتهالكون على مقاعد الهروب، إن رحيل المتألقين عشقاً بالحسين ليس سوى نهايةٍ آنيّة للحظةٍ عابرة، وبدايةٍ ملحميةٍ لدماءٍ حسينيةٍ تسري في عروق القادمين من بعدهم.. تلك الدماءُ الدافئةُ سوف ترفعُ بعضَ الأكفِّ الصغيرةِ كي تلوِّحَ للطيورِ العائدةِ بعد حَلْقَةِ من الزمنِ القادم.. تلك الدماءُ العاشِقَةُ للفداءِ والإيثارِ سوف تسنِدُ بعضَ الزنودِ، وتمنحُها عزيمةً تمكِّنُها من التقاطِ الزيتونِ المتهاوي حبّاً وأملاً.. إذن.. لم يعدِ السؤالُ الطفوليُّ مبهماً أو محيِّراً، فالمقاومون المترعونَ عشقاً يجيبونَ عنه في كل يوم.. ومع كلِّ رجفةٍ تهزُّ تماسُكَ الغرباء.. إنهم يقدِّمونَ للمثقفينَ والسياسيينَ درساً "يصعب تعويضه" في حب الأرضِ واجتراحِ المعجزات.. مثلما فعَلَ المترعونَ عشقاً للحسين ولأبِ الحسين ولجدِّ الحسينِ.. حيثُ أثروا التاريخَ الثَّقافيَّ للأمم بكمٍّ هائلٍ ورصيدٍ يصْعُبُ تعدادُ إنجازاتهِ.. وقدَّموا للشعوبِ والأمم وللنخبةِ وللمثقفين والسياسيين دروساً عظيمةً في حبِّ الرسالةِ والحقِ والموتِ دونهما، ويكفي في ذلكَ أن يقولَ المهاتما غاندي بعد قرونٍ عدَّة على هذه الثورةِ الجليلةِ: "لقد تعلَّمتُ من الحسين كيف أكونُ مظلوماً فأنتصر.." نعم هذه هي الحقيقة الناصعة لما يجري اليوم على مهد الديانات السماويةِ.. هناك يفعلُ المتألقون عشقاً للأرضِ والعرضِ والدينِ والمقدَّسات فعلاً تأريخياً ثقافياً لن تنساهُ الشعوب, ومن أجلِهم غداً سوف تَثرى الساحاتُ الثقافيَّةُ بكمٍّ هائلٍ من الدراساتِ والتحليلاتِ والقصائدِ والكتاباتِ النثرية والفلسفية.. من أجلِ أولئك المقتولين عشقاً وكرامةً سوفَ تنبِضُ القلوبُ وتشدو أجملَ أنشوداتِها العذرية.. وعلى آثارِهِم ترتَسِمُ ضِحْكَاتُ الأطفالِ الذين لا بدَّ أن يستعيدوا شيئاً من براءتهم وملاعِبِهِم الأولى. بهم ومعهم تستمرُّ الحياةُ، وتعمُّ الأهازيجُ أركانَ الأرضِ التي لَفَظَتْ أشلاءَ الغرباءِ، وهي تمنحُ مزيداً من المساحاتِ المؤجَّلَةِ لأزهارٍ تفوحُ بعطرٍ سوف يذكِّرُنا دوماً بالراحلين عشقاً في سبيلِ الحسين.
|
||||